وقفة نقدية مع وجهة نظر الدكتور محمد سبيلا في تيار الفكر الحداثي و تيار الفكر الإسلامي

استوقفني مقال نشره موقع هسبريس  وهو عبارة عن حوار أجراه هذا الموقع مع الدكتور محمد سبيلا ، وقد شد انتباهي شطر من عنوان المقال وهو "  مفكرون إسلاميون مجترون " فتتبعت في هذا الحوار أثر هذه العبارة المتضمنة لنقد المفكرين الإسلاميين أو ما يمكن اعتباره استخفافا بهم لأن  لفظة اجترار في الفكر منقصة  ومذمة عندما  تستعمل عند البعض ، فوجدت أن الرجل ينتصر لما سماه البنية الفكرية الحداثية التي تقوم على النقد والتساؤل ومراجعة الفرضيات، بينما ينتقد ما سماه مجال الفكر الإسلامي والذي وصفه بأنه ما زال  يخضع لنسقيات وتصورات يرثها جيل عن جيل . ومقابل اعتبار من سماهم كبار الحداثيين أمثال الجابري والعروي وأركون وأبو زيد ...  أن لهم اختراقات حقيقية يرى أن مجال الفكر الإسلامي لا زال يخضع للتكرار والترديد والاجترار، ولم يمثل لهذا المجال بأسماء كما فعل بالنسبة للفكر الحداثي ، ولا ندري هل هو استخفاف منه بالمفكرين الإسلاميين أم هو تجنب لذكر اسمائهم ؟ ويضيف قائلا : " إلى حدود الساعة ليس هناك اختراقات وتنظيرات فكرية كبرى عند الإسلاميين لأن التنظيرات الفكرية الكبرى تتطلب أولا الإلمام بمعطيات العلوم الإنسانية الكونية الحديثة  وعدم حظرها واعتبارها غزوا فكريا وثقافيا " ويفهم من كلامه أن الاحتكاك بمعطيات العلوم الإنسانية الكونية حكر على المفكرين الحداثيين ،وأن المفكرين الإسلاميين يحظرون الاحتكاك بها باعتبارها غزوا فكريا وثقافيا ، وفي هذا بخس للمفكرين الإسلاميين . وقسّم سبيلا الحداثة التي يتبناها ويدافع عنها إلى حداثة تقنية ، وحداثة تنظيمية ، وحداثة فكرية ، ويرى أن المقاومة التي كانت في بداية التعامل مع الحداثة التقنية والتنظيمية قد زالت بعد مرحلة الصدمة التي مر بها المغاربة بسبب هذه الحداثة التي جلبها الاحتلال الفرنسي والذي يعده مظهرا من مظاهر هذه الحداثة . ويقول بالحرف : " إذا كانت الحداثة بكل مستوياتها تحدث صدمة فيها انبهار وتخوّف، فهذه الصدمة تتزايد من مستوى إلى آخر وأخص بالذكر المستوى التنظيمي حيث إن مجموعة من الفقهاء اعتبروا الديمقراطية كفرا، وأنه لدينا دستور ولسنا بحاجة  إليها، وأن الدستور بدعة ، وما إلى ذلك ، وهذه كلها مقاومات  يبديها مجتمع تقليدي تجاه مستويات من التفاعل مع الحداثة الكونية ، وبالتالي كلما ارتفعت مستويات الحداثة كانت المقاومات أكبر وأضخم " ويستبق الدكتور سبيلا الرد عليه بخصوص فكرة مقاومة الحداثة لدى المفكرين الإٌسلاميين بالقول : " لكن للتقليد أيضا آلياته وأشكال مقاومته ، ولا يسلم بسهولة ، فهو يقاوم الحداثة ، لكنه في مستويات معينة  يحاول استلهامها واستعمالها ، وأحيانا يتخذ التقليد صبغة حديثة ليستمر في الحياة بينما الحداثة تريد أن تستعمل التقليد لتخترقه "  وإذا كانت  بداية الحداثة عند سبيلا مرتبطة بفترة زمنية هي القرن الخامس عشر في حيز هو القارة الأوروبية ،حيث حدث تطور نوعي على المستوى التقني والتنظيمي كما سماهما ، فإنه لا نهاية لهذه الحداثة على هذين المستويين لأن الحياة ماضية نحو التطور باستمرار ، وهذا يعني أنها كانت كذلك قبل القرن الخامس عشر، وقبل القارة الأوروبية لأنه إذا كان كل تغيير يطرأ على هذه الحياة يعتبر حداثة، فالحداثة ظاهرة إنسانية لازمت الحياة البشرية عبر تاريخها القديم. فلقد ظلت الحياة العربية في شبه الجزيرة مستقرة وثابتة على نمط من العيش ماديا وتنظيميا وفكريا  حسب تقسيم سبيلا فترة زمنية معتبرة ، فلما وقع الاختراق الإسلامي بتعبير سبيلا أيضا تغيرت الحياة الجاهلية من نمط إلى آخر ، وظلت الحياة  بعد ذلك تتغير ماديا وتنظيميا عصرا بعد آخر لكن في ظل عقيدة الإسلام التي جاءت بها رسالة السماء لتغطي  فكريا كل العصور إلى نهاية العالم على اختلاف ما يقع في تلك العصور من تطورات مادية وتنظيمية . ولا يستطيع أحد أن ينكر ما طرأ ماديا وتنظيميا على  عصر بني أمية بعد عصر الخلافة الراشدة ، ولا ما طرأ على عصر بني العباس بعد عصر بني أمية وهكذا إلى عصرنا الحالي  . ولقد كان ما يطرأ على الحياة ماديا وتنظيميا من عصر إلى آخر حداثة بمفهوم سبيلا . ولم يعترض الفكر الإسلامي أبدا على ما يطرأ على الحياة في المجتمع الإسلامي ماديا وتنظيميا ،ولذلك وجد  عند المسلمين علم الفقه وهو علم يعالج كل طارىء على هذه الحياة  ماديا وتنظيميا وحتى فكريا . ولئن وجد من المسلمين  كما قال سبيلا من اعتبر الديمقراطية كفرا والبرلمان بدعة على حد قوله ، وهو قول لا يمكن أن يصدر إلا عن أناس بسطاء، فإنه لا يمكن أن تصدر مثل هذه الأحكام عن مفكرين إسلاميين على اطلاع واسع بطبيعة كل وافد على المجتمع الإسلامي من الغرب على وجه التحديد ، وعلى علم بكيفية التعامل معه في ظل عقيدة سماوية عالمية لا يمكن أن يتجاوز عالميتها عصر من العصور . وإذا كان لا يوجد أحد اليوم  يحرّم الأنترنيت والفيسبوك كما قال سبيلا بل الجميع يتهافت على التقنية ، فلأن التطور المادي والتنظيمي من المسلمات التي لا خلاف فيها ولا اعتراض عليها  بين الناس جميعا بما فيهم المسلمون  بل الاعتراض يكون على ما يسميه سبيلا الحداثة الفكرية أو الثقافية التي تطرح نفسها بديلا عن دين سماوي جعل للعالمين إلى نهاية العالم .وإذا كان للحداثة الفكرية الغربية  ما يبرر وجودها بسبب ما اعترى الدين المسيحي  من تحريف حيث تم الخلط فيه بين ما هو سماوي وما هو وضعي، فبدا الوضعي متهافتا بعد تطور الحياة الغربية ، ويعكس ذهنية أصحابه  في عصرهم ، وهي ذهنية أصبحت متجاوزة فيما تلاها من عصور ، فإن الأمر مختلف بالنسبة لرسالة الإسلام السماوية التي سلمت من التحريف ومن خلط الوضعي بالسماوي . ويريد الحداثيون عندنا إسقاط  حالة المسيحية المحرفة على الإسلام لتبرير ما يسميه سبيلا الاختراق الحداثي للإسلام . ويشكك الحداثيون في  صدق تعامل الإسلاميين مع مظاهر الحداثة المادية أو التقنية والتنظيمية ذلك أنه عندما قبلت الأحزاب والتنظيمات ذات التوجهات الإسلامية اللعبة الديمقراطية والمشاركة السياسية واجهتها المؤامرات من أجل إقصائها من الحياة السياسية بشكل أو بآخر ، ففي الجزائر ومصر استعملت القوة العسكرية لمنع الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية ، وحزب الحرية والعدالة المصري من قيادة البلدين على أساس اللعبة الديمقراطية التي لم يحرّمها لا الإسلاميون الجزائريون ولا الإسلاميون المصريون كما زعم سبيلا . أما في تونس والمغرب فقد استعملت المراوغة الانتخابية لقطع الطريق على حزب النهضة التونسي وحزب العدالة والتنمية المغربي مع أنهما شاركا في اللعبة الديمقراطية ولا يعتبرانها كفرا أو بدعة . وتحرج التجربة السياسية التركية الحداثيين حيث يتعامل حزب العدالة والتنمية التركي مع مظاهر الحداثة المادية أو التقنية والتنظيمية وفي وسط علماني دون أن يحول توجهه الإسلامي دون ذلك ، وهو ما يسفه الزعم الحداثي بأن الفكر الإسلامي  يرفض الحداثة المادية والتنظيمية . ومما يحرج أيضا الحداثيين أن رعايا  كثر في المجتمعات الغربية الحداثية خصوصا من النخب المثقفة يعتنقون الإسلام دون أن يكون ذلك سببا في جمودهم أو اجترارهم على حد زعم سبيلا وهو يتحدث  عن المفكرين الإسلاميين . وأخيرا إن الخلل في الفكر الحداثي هو تعامله مع خبر السماء الإلهي كتعامله مع خبر الأرض البشري ، فإذا كان هذا الأخير قابلا للاختراق بالمفهوم الحداثي ، فإن الأول يستعصي على الاختراق لأنه صمم ليغطي كل ما بقي من مراحل عمر البشرية قبل أن ترحل عن هذا العالم إلى عالم آخر لا يؤمن به الحداثيون ، وإن تظاهر بعضهم بذلك لأن الحداثة لها أيضا آليتها وأشكال مقاومتها للدين  ولا تسلم بسهولة ، لكنها في مستويات معينة تحاول استلهامه واستعماله ،وأحيانا تتخذ الحداثة صبغة دينية  لتستمر في الحياة ، بينما الدين والإسلام تحديدا  يريد استعمال الحداثة ليخترقها  تماما كما تريد هي اختراقه حسب تعبير سبيلا .

وسوم: العدد 706