سيد شعراء الحب العذري الشريف الرضي

الشيخ: علي الطنطاوي

سيد شعراء الحب العذري .....الشريف الرضي   ،،،جزء من مقالة أصدقائي للشيخ النابغة علي الطنطاوي ،،،في كتابه رجال من التاريخ ،، أحببت أن أنقلها اليكم مع الاختصار قدر الإمكان

يقول االمقال ،،:هذا فصل في الحب ، فلا تقولوا يا عجبا!! شيخ وقاض ويتكلم في الحب..وما الأدب كله وما الشعر إن لم يكن كلاما في الحب ..ومن حرم على المشايخ القول في الحب ، وهم كانوا الأئمة في كل شيء 

وكان من كبارهم ثلاثة ألفوا فيه كتبا لم يؤلف مثلها ، علموا فيه الناس أفانين الهوى ، ولقنوا أصول العشق كبار العاشقين وهم ابن القيم وابن حزم وابن داود ثلاثة من جبال العلم وأعلام الإسلام...

ومن كبار الفقهاء من كان من شعراء الغزل الكبار ، ولقد جمعت مرة في الرسالة طرائف من غزل الفقهاء يؤمن من يؤمها أن من علمائنا من كانو هم أرباب الظرف وكانوا هم أصحاب القلوب ...

ومالي أذهب في الاحتجاج بعيد المذاهب وهذا الشاعر  كان من أئمة الدين و من قضاة المظالم و نقيب الأشراف بالإصافة إلى أنه تولى إمامة الحج وكان مع ذلك شاعرا بل اعظم الحب العذري في أدب العرب بل سأقولها ولا أبالي .

..كان أعظم شاعر في الدنيا

..هتف للجمال وغنى للحب وصور نوازع النفس وصبوات العقل ولغات الهوى ولذات الوصال ولقد قرأت أكثر اشعار لامارتين وموسه وبيرون وغوته فما وجدت فيهم من قال في هذه المعاني أدق ولا أرق ولا احلى ولا أشرف مما قال شاعرنا....

وما أنكر عليه أهل زمانه ما تنكرونه اليوم ، ما أنكروا عليه وأنه قرأ قصائد الجمال في وجوه الحسان  وقال فيها  الحجازيات والتي لو ترجمها إلى الفرنسية أو الإنجليزية ،لفتنت الفرنسين والانجليز أضعاف ما فتنهم شعر الخيام ....وأين الخيام من الشريف....؟

وأنا أعجب والله كيف استطاع أن يصرح بما لو لمح إليه شيخ من مشايخ هذه الايام لما تركوه يستطيع المشي في الأسواق 

، ولكنهم علموا انه ما كان عاشقا شاعرا بل كان شاعرا عاشقا .

يعشق العشق ويحب الحب  وما هذه المواطن التي يرددها الشريف إلا حجب يخفي وراءها نوازع قلبه الهائم ومطارح حبه التائه ..

لم تكن هذه المواطن أكثر من صحاري مقفرات ، ولكن لمسة من يد الشاعر العبقري تجعل الصحاري جنات وارفات الظل فاتنات المسارب هادرات السواقي وتحيلها عالما مسحورا كأنه جنة عبقر التي يتحدث عنها العرب.

وأنت تحس لهذه الأسماء برجفة في قلبك وبوثبة في خيالك  وأنت تسمع أسماء تلك الفلوات :البان والعلم ، والخيف ومن وسلع والمصلى حيث يهتف بها الشريف...

.من معيد أيام سلع على ما كان منها ؟؟وأين أيام سلع!!! .

أيها الرائح المجد تحمل ... حاجة للمتيم المشتاق

أقر عني السلام أهل المصلى ... فبلاغ السلام بعض التلاقي

وإذا ما مررت بالخيف فاشهد ... أن قلبي غلت به بالأشواق

وأنا لا أتحدث عن الرجل الرجل و إنما أتحدث عن الشاعر والشعراء خالدون(خلود الذكر في الدنيا والخلود الحق إنما يكون في نعيم الجنة أو عذاب النار) وسأعود بكم ما استطعت إلى جوه وأدخل بكم إلى عالمه 

فإن للشعراء عوالم لا يحيط بها الناس عالم لا تعرفون عنه إلا هذه الومضات التي تلمحونها عندما تسمعون الأغنية الحالمة في الليل . 

أو تفتحون في سجف الذكريات كوة على الماضي المنسي أو تستغرقون في ذكر الله في هدءات الاسحار وتلك وحدها أنس النفس المؤمنة وراح الروح..

عالم كل ما فيه غريب لا يشبه دنيا الناس .....هذا هو عالم الشريف الرضي....

إن كنتم تسمعون بآذانكم فأهل هذا العالم يسمعون بأفواههم فإن ناجاها لم يضع فمه على أذنها....بل فاه على فيها..

عندي رسائل شوق لست أذكرها........لولا الرقيب لقد بلغتها فاك

وإذا أبصرتم بالعيون أبصروا هم بالآذان....

فاتني أن أرى الديار بطرفي ..........فلعلي أرى الديار بسمعي

وإذا كان الناس عندكم هم وحدهم الذين يروون الأحاديث بالكلمات والحروف فإن ..النفس يتحدث فهل تفهمون لغة الأنفاس...

خذي حديثك عن نفْسي من النَفَسِ...وجْد المشوق المعنيّ غير ملتبس

فماذا قال النفس ؟  قال :     الماء في ناظري والنار في كبدي .....إن شئت فاغترفي أو شئت فاقتبسي

والعين والقلب عندكم أعضاء في الجسم !!أما نحن ..نحن الأدباء فإن عندنا في العيون علما مستقلا أُلفت فيه كتب كبار ،أما قرأتم كتابي(سحر الفتون في سر العيون )الذي أنوي أن أؤلفه يوما .

وإذا كانت قلوب الأطباء ما فيها إلا دم احمر كدم الخروف فإن قلوب الشعراء العشاق فيها الماضي والحاضر وفيها الزمان والمكان وفيها الذكر والآمال وفيها من العجائب والأسرار مالا يستطيع الأطباء أن يصلوا إلى علمه 

وهي بعد أحياء مستقلة لا أعضاء ، العين لها وحدها حياة والقلب له وحده حياة وقد تفرح العين والقلب متألم :

تلذ عيني وقلبي منك في ألم ....فالقلب في مأتم والعين في عُرُسُ

وللعين دائرة استعلامات تتجسس لها على القلب فتهتك ستره وتذيع سره والشاعر حائر بينهما، متعجب منهما:

هامت بك الهين لم تتبع سواك هوى .... من علم العين أن القلب يهواك؟

والعين تبصر من الحجاز من في العراق وترمي بسهام فتونها من ذي سلم فتصيب من في بغداد..لا تمنعها شوامخ الجبال ولا شواسع البيد...

سهم أصاب وراميه بذي سلم ....من في العراق لقد أبعدت مرماك!

والعين تحصي عدد شهدائها وتسجل أسماء من تصيبهم سهامها وتقرأه على الشاعر من وراء صاحبتها ، فيشهد جناية العين ويقرر براءة الحبيبة لأنها لا تدري ما جنت عيناها..

كأن طرفك يوم الجزع يخبرنا....بما طوى عنك من أسماء قتلاك.

ولا تعجبوا من نطق العين فإن العين تحدث الأحاديث الطوال فهي تأمر وتنهى ، وتعد وتؤمل ، لكنها لا تفي ولا تصدق منها المواعيد

وعد لعينيك عندي ما وفيت به .....يا طول ما كذبت عيني عيناك

والقلب يتلفت ، نعم يتلفت فلا تصدقوا أخبار العواذل من الأطباء الذين يرجفون بأنه ليس إلا عضلة ملساء....

ولقد مررت على ديارهم ......وطلولها بيد البلى نهب

فوقفت حتى لج من لغب....نضوى ولج بعذلي الركب

وتلفتت عيني فمذ خفيت ...عني الطلول تلفت القلب..

يتلفت ليرى المنازل وأهلها ثم يبعد الركب فلا يرى إلا هياكلها ثم يبعد الركب أكثر فلا يرى إلا دخانها ثم ترمي بالركب المرامي فلا يرى شيئا .........عندئذ يبصرها القلب بعينه التي لا يحجبها النأي ولا الليل ولا المنام...

تلفتُّ حتى لم يبد من بلادكم ...دخان ولا من نارهن وقود

وإن التفات القلب من بعد طرفه....طوال الليالي نحوكم ليزيد

والهوى يتجسم له إنسانا فينصحه ألا يفارق أحبابه...

ولما تدانى البين قال لي الهوى.....رويدا، وقال القلب :أين تريد؟

أتطمع أن تسلو على البعد والنوى....وأنت على قرب المزار عميد؟

والدموع في عالم الشاعر ليس ماء تسفحه العين ، بل رسائل إلى الحبية والموزع لها هو الزفير...

ولقد بعثت من الدموع إليكم ......برسائل ومن الزفير بحادي

وكانت تهب نسائم الصبا ، فتخاط أنفاسه فيستروح بها روح الأحبة ، فماذا يصنع وقد انقطع فلم تهب رياح؟؟

خذي نَفَسي يا ريح من جانب الحمى ...فلاقي بها ليلا نسيم ربى نجد

فإن بذك الحي إلفا عهدته......والرغم مني أن يطول به عهدي

ولكن الريح....ويح الريح ليست دائما معه، إنها عليه مع العذال تغار إن رأت به نعمة الوصال حتى تحاول أن تفرق بينه وبينها ، فهي تشد الفضول من أطراف ثيابها والشوارد من خصلات شعرها..

تقولون ومتى علمت الريح بساعات الوصال؟؟؟   إن لها يا سادتي جاسوسا من بني عمها هو الطيب الذي يفوح من اعطاف الحبيبة

وأمست الريح كالغيرى تجاذبنا .......على الكثيب فضول الريط واللمم

يشي بنا الطيب أحيانا وآونة ...........يضيؤنا البرق مجتازا على إضم

ويطلع الصبح وهما غافلان عن الدنيا وما فيها وهل يرى المحبون في الوجود شيئا ، حتى يتكلم العصفور....

وأكتم الصبح عنها وهي غافلة ........ حتى تكلم عصفور على عَلَم

وبعد فهذا مجلس الشاعر الذي كان إماما في العلم وفي المنصب ، وإماما في الحب والغرام....شرب الكأس وترك للشعراء الثمالة ..

وسوم: العدد 710