تحليل طبي نفسي ونقد أدبي لقصص مجموعة "أوان الرحيل" للدكتور علي القاسمي (2)

حسين سرمك حسن:

قارب الموت والظمأ العظيم

(2) "علاج ضيق الصدور .. زيارة القبور"

تحليل قصّة "البحث عن قبر الشاعر البياتي"

clip_image002_c0155.jpg

 

clip_image003_f8296.jpg

(أرضٌ تدور في الفراغ ودمٌ يُراقْ                       

وَيحْي على العراق

تحت سماء صيفه الحمراء

من قبل ألفِ سنةٍ يرتفع البكاء

حزنًا على شهيد كربلاء

ولم يزل على الفرات دمُه المُراق

يصبغ وجهَ الماء والنخيل في المساء

آهٍ ..  جناحي كسرتهُ الريحْ

من قاع نهر الموت ، يا مليكتي ، أصيحْ

من ظلمة الضريحْ

أمدُّ للنهر يدي ، فَتُمسك السرابْ

يدي على التراب

يا عالمًا يحكمه الذئابْ

ليس لنا فيه سوى حقّ عبور هذه الجسور

نأتي ونمضي حاملين الفقر للقبور)

"عبد الوهاب البياتي"  في قصيدة "الموت في غرناطة"

                                      

"البحث عن قبر الشاعر البياتي" هو النصّ الأوّل في هذه المجموعة "أوان الرحيل" ؛ نصٌ وصفه القاص بأنه "ما يُشبه المقدّمة ، ما يُشبه القصّة" ، ولم يصفه بأنّه قصّة قصيرة ، لأسباب سنتناولها لاحقاً ، ويستهله القاسمي بالشكل الآتي :

(في أوائل شهر تشرين الثاني / أكتوبر ، سافرتُ من مقر عملي في المغرب إلى سورية للمشاركة في مؤتمر مجمع اللغة العربيّة في دمشق وتقديم دراسة تتناول بنوك المصطلحات المفهوميّة وبنوك المصطلحات اللفظية والمفاضلة بينهما . كان المؤتمر سيبدأ يوم الأحد ، ولكنّي وصلتُ قبل يومين بسبب مواعيد الرحلات الجوّية .

وعلِمَ أحد أشقائي الأصغر منّي سنّاً بسفرتي هذه ، فاستقلّ حافلة من بغداد إلى دمشق ليراني بعد أكثر من ثلاثين عاماً من الفراق . جاءني إلى الفندق ضحى يوم الجمعة ، وبعد سلام وعناق وحديث طويل عن الأهل والأصحاب ، سألني وقد رآني أتهيّا للخروج :

-أين ستأخذني ؟

قلتُ : "سنذهبُ إلى ضريح الشيخ محي الدين بن عربي للبحث عن قبر المرحوم عبد الوهاب البياتي ، لأتلو الفاتحة على روحه. " ) (ص 241) .

وقد نقلتُ هذه السطور العشرة التي قد يعتقد السيّد القاريء بأنها طويلة نسبيّاً ، لأنني أعتقد أن الاستهلال لكي يكون "ثُريّا" مضافة – ومن جديد أنا لا أتفق مع الأطروحة البنيوية التقليدية حول قيمة الاستهلال بعيداً عن "الصورة الكلّية الجشطلت  Gestalt" ، فقد يعتقد قارىء ما أنّ قصّة "المئذنة" مثلاً للقاص "محمّد خضيّر" تعني ، من العنوان ، أن لها جانباً دينيّاً في حين أنّها تتحدّث عن مومس متزوّجة تحنّ إلى مبغاها القديم - يجب أن يتضمن إحالة إلى الثيمة المركزية في النصّ القصصي أو الروائي ، والإحالة في هذا النصّ هي البحث عن قبر الشاعر العراقي الراحل عبد الوهاب البياتي الذي يعتقد الراوي – والكثير من قصص القاسمي تُحكى بصوت الضمير المتكلّم – أنّه دُفن قريباً من ضريح الشيخ المتصوّف محي الدين بن عربي (الإمام الأكبر وسلطان العارفين كما يُلقّب) ، مدفوعاً بما يردّده النقّاد بعد وفاة البياتي (من أنّه وُلد بالقرب من صوفيّ – الشيخ عبد القادر الجيلاني – ودُفن بالقرب من صوفيّ - الشيخ ابن عربي - ) (ص 241) .

وتأتي ملاحظة الشقيق الأصغر :

(ألمْ نشبع من القبور والمقابر في العراق ؟! )

لتؤكّد تلك السمة السيكولوجية المازوخية الراسخة في الشخصية العراقيّة ، والتي ترى منذ أيام الأجداد السومريين "أنّ علاج ضيق الصدور هو زيارة القبور" ! ، والتي يعتبرها الراوي "قدراً" ، وهي كذلك ، بالمعاني النفسية العميقة التي تتأصّل في تربة بنية هذه الشخصيّة . وقد تبادر إلى ذهن الراوي – وهو سلوك حقّ – أنّ أخاه كان يرغب في اصطحابه إلى مطعمٍ فاخر في أحد المصايف الجبليّة الرائعة . وكون تلك السمة "قدراً" وفق رؤيا الراوي ، فإنّ قدريّتها تعكس شدّة تحكّمها في رسم الملامح السلوكيّة في الموقف من القضيّة الكبرى ، بل أمّ القضايا في الحياة ، وهو : الموت ، الحيّ الذي لا يموت ، سواءً على الصعيد الفردي أو الجمعي ، وفي مقدّمة تلك الملامح الحاكمة هو : الشعور بالذنب – Guilt Feeling ، الذي يركب الإنسان العراقي منذ فجر خليقته ، خصوصاً أنّه الإنسان الوحيد الذي خُلق - اسطورياً حسب قصّة الخليقة البابلية - من طين ودم بخلاف العالمين في كل أرجاء المعمورة الذين خُلقوا من طين وماء ، والأغرب أن الأسطورة السومرية تقول أنّه خُلق من " دمّ " فقط ، وفي الحالتين أُخذ الدم من إله "مذنِب" – الإله المتمرّد " كنغو " المتحالف مع الإلهة "تعامة" - قُطعت شرايينه بأمر الإله الأعظم  " مردوخ " ـــــ المُنتصر الذي مُنح أكثر من خمسين اسماً من الأسماء الحُسنى-. وبعد أن سأل الراوي القيّمَ على ضريح الشيخ ابن عربي عن قبر البياتي ، وأجابه :

-" لا يوجد أي قبر بجوار الضريح ، ما عدا قبر الأمير عبد القادر الجزائري وقد استعادته الدولة الجزائرية بعد الإستقلال " (ص 242) .

تساءل الراوي في نفسه :

(ومتى يستعيد العراق رُفات البياتي والجواهري ورُفات مئات من نوابغه الأحياء والأموات؟)

وبعد أن يخبره القيّم بأن البياتي مدفون في مقبرة الإمام زين العابدين بحي الشورى في جبل قاسيون ، يقرّر – هو وأخوه – أن يسيرا على أقدامهما إكراماً للبياتي كما يقول ، ولا تعكس الرغبة هذه أكثر من تمظهر مراوغ لسمة الشعور بالندم التي لا تُفسّر بيسر ، والتي تتحكّم بسلوكنا كعراقيين ، ممزوجة بالقلق من الموت ومن فنائنا الشخصي المقرّر . لم يعلما أن المقبرة في اتجاه قمّة الجبل ، فصار عليهما التسلّق صاعدين ، ليصلا ، وقد بدا عليهما الإجهاد الكبير .

ولكن حتى في مقبرة الإمام زين العابدين لم يكن قبر البياتي موجوداً .. فقد دُفن في مُلحقها كما قال لهم مُحافظ المقبرة الذي احتفى بهما كشقيقين من العراق ، وأرسل ابنه ليدلّهما على ملحق المقبرة حيث قبر البياتي الرابض على يسار المدخل تظلّله شجرة صفصاف وارفة "ينبعث منها نوح حمامة محزونة" (ص 242) .

نوح مُسقَطٌ من أعماق روحٍ مكلومة ، ينبعث منها أنينٌ راكمه التاريخ ، وضاعفته الخسارات الجسيمة على مستوى الفرد والجماعة ، وهذه خسارة جارحة جديدة تحز روح الراوي وهو يقرأ شاهدة قبر البياتي :

(قبر المرحوم الشاعر عبد الوهاب البياتي ، تولّد العراق 1926 ، تُوفّيَ 21 ربيع آخر 1420 الموافق 3 آب 1999) (ص 243) ..

فيعلّق في داخله بأسىً موجع :

(بعد كلّ تلك الآلاف المؤلّفة من العبارات الشعرية الأخّاذة التي أبدعها البياتي وأغنى بها اللغة العربية لفظاً ونحواً ودلالة ، كُتبت على قبره عبارة واحدة فقط ، مُبتسرة ركيكة التركيب !) (ص 243) .

وهي مفارقة متوقّعة حين يُقذَف الإنسان خارج رحمه الأمومي الحاني / وطنه ، بلا رحمة ، وتنقلب معادلة "العودة إلى الرحم" بالموت لتصبح رجاءً مستحيلاً ، ويغدو مصدر تهديدٍ مُخيف ، وقوةَ نبذٍ طاردة ترميه في أحضان أرحام بديلة لا يمكن أن تتمتع بدفء وحنوّ الرحم الأمومي الأصلي .

كان البياتي ، في حياته المتغرّبة في إسبانيا ، يأتي لزيارة الراوي – كما يقول الأخير – ليرى ملامح الوجوه العربيّة وليسمع اللغة العربية في الطُرُقات ـ وليتناهى الأذان من المنائر إلى أذنيه ، وليشاهد المنازل والبنايات المشيّدة بالعمارة والريازة العربيّتين ، ويروّي عينيه بالأزياء العربية التي يرتديها الناس (ص 243) .

فما الذي يقوم به الراوي الآن وهو يحضر – كمختصّ بعلم المصطلح – مؤتمراً في دمشق ؟

إنّه نسخة أخرى لغربة فاجعة اشد مضاءً وتمزيقاً .. ثلاثين عاماً .. نعم .. ثلاثين عاماً أمضاها في غربة مديدة (أطول من غربة البياتي) ، وعليه لن تكون مهمّته الأولى البحث عن مطعم سياحي أو مرفق ترفيهي كما كان يأمل أخوه ، بل "زيارة القبور" لعلاج ضيق صدره ! ثلاثون عاماً هي شكل من اشكال الموت ، والحكمة القديمة تقول "إن الرحيل يعني قليلاً من الموت" ، فكيف برحيلٍ ينهش من روح الإنسان عمراً بمقدار ثلاثة عقود ، وليرى أخاه في منفى عربيّ آخر وليس في مدينته الأم : بغداد ؟! .

كان في الثمانينيات – وفي الفعل العميق نفسيّاً – يقوم بدور مقابل للذي كان يقوم به البياتي وهو في إسبانيا . كان يغتنم الفرص المتاحة خلال رحلات عمله ليتوقّف في عمّان ليوم أو يومين ليستمتع بلقاء البياتي . كان كثيراً ما يسأله عن تأويل بعض أشعاره ، ولكنّه لم يكن يجرؤ على أن يستفسر منه عن تأويل مقطع ورد في ديوانه المعروف "قصائد حبّ على بوابات العالم السبع" يقول فيه :

(عدتُ إلى دمشق بعد الموت

أحملُ قاسيون

أعيدهُ إليها

مقبّلاً يديها

فهذه الأرضُ التي تحدّها السماء والصحراء

والبحر والسماء

طاردني أمواتها وأغلقوا عليّ باب القبر)

وكان تردّد الراوي في سؤال الشاعر - مبدع القصيدة - مُبرّراً ، فهو مقطع مُستفزّ لأنه يشبه النبوءة بمكان موته ودفنه (ص 243) . هذا المقطع "الأسود" هو الذي قفز إلى ذهن الراوي في آخر زيارة له إلى عمّان حينما قصد شقّة البياتي ، واخبره البوّاب أنّ البياتي انتقل إلى دمشق قبل أيام للإقامة فيها :

(تبادر إلى فكري ذلك المقطع الشعري الرهيب ، وتصاعد وجيب قلبي ، وتوجّستُ في نفسي خيفةً . وبعد أشهر قليلة رحل عنّا البياتي إلى الأبد) (ص 244) .

وأن " يستشرف " الشاعر موته أمرٌ ليس بالغريب ابداً ، فهناك الكثيرون من المبدعين – وخصوصاً من الشعراء – من رسم صورة موته – زماناً ومكاناً – بصورة تقريبية في معظم الأحيان ، أو دقيقة جدا في أحايين قليلة ، فقد كتب السيّاب ، وهو في مرحلة الدراسة الثانوية ، عن أحلامٍ تراوده وهو يموت غريباً ، مثلما كتب قصائد عن أنّه سيموت دون أن يرى الفجر . كذلك فعل مايكوفسكي الذي قال في آخر قصيدة له إنّه سيضع في نهاية سطر حياته نقطة على شكل طلقة .. وغيرهما كثيرون .

ولكن بقدر تعلّق الأمر بنصّ علي القاسمي هذا الذي بين أيدينا ، يهمّني القول بأنّ الراوي كان يبحث عن قبر البياتي مدفوعاً بانهمامه بمصيره الشخصي .. بغربته التي تمثّل تمظهراً للموت البطيء الصبور ، وبمكان دفنه الذي سيكون "غريباً" أيضاً . فإذا كان البياتي قد استشرف موته ودفنه في دمشق ، فإن الراوي الذي مازالت ابواب غربته مشرعة على المجهول منذ أكثر من ثلاثين عاماً ، يقف الآن أمام أنموذج مصيره خصوصاً أنّه متعلّق بشخص الشاعر الراحل وبشعره . ولولا هواجس الفناء الضاغطة ، و "قلق الموت – Death Anxiety" الحارق الذي يقضّ مضجعه لكان قد وسّع الرؤية في النظر إلى مقطع القصيدة المذكور ، ولم يأخذه محدّداً بمصير شاعره الأثير . فهذا المقطع هو جزء من قصيدة للبياتي من ديوانه المذكور "قصائد حبّ على بوابات العالم السبع" عنوانها "عين الشمس أو تحوّلات محي الدين بن عربي في ترجمان الاشواق" ، وهي القصيدة الأولى في الديوان والتي "يتماهى" فيها البياتي مع صوفيّه الأعظم المفضّل "محي الدين بن عربي" في تغزّله المميت بحبيبته "عين الشمس" أو "النظام" كما تُلقّب ، وهي الفتاة التي أحبّها وجعل من الأشياء والصور مسارح تنجلي فيها صفات الحق وأسماؤه ، ثم عاد فجعل من "النظام" عيناً لتلك الصفات والأسماء ، فكلّ صفة وجودية ندركها في الأشياء ، إنّما هي تجلٍّ خاص من تجليّات هذه الفتاة . وقد كتب من أجلها ديوان شعره "ترجمان الأشواق" (3) . وفي هذا المقطع ، وهو الثامن والأخير من القصيدة ، يُكمل البياتي النصّ بصورة أكثر تفاؤلاً بعد نبوءة الموت تلك فيقول :

(وأغلقوا عليّ باب القبر

وحاصروا دمشق (...)

لكنّني أفلتُّ من حصارهم وعدتْ

أحمل قاسيون

تفّاحةً أقضمها

وصورةً اضمّها

تحت قميص الصوف

من يوقف النزيف؟

و كل ما نُحبّه يرحلُ أو يموت

يا سفنَ الصمتِ و يا دفاترَ الماء و قبضَ الريح

موعدنا : ولادةٌ أخرى وعصرٌ قادم جديد

يسقط عن وجهي وعن وجهك فيه الظل والقناع

وتسقط الأسوار) (4)

إنّ هذه "الإلتقاطة" التي قام بها ذهن الراوي من القصيدة ، تكشف دور العوامل "الذاتية" في فهم وتأويل النصوص المطروحة ، والكيفية التي "تؤطّر" بها مخاوفنا الدفينة سبل إدراكاتنا وانتباهات بصيرتنا عبر بصرنا المغيّب الباحث عبثاً عن الخلاص . هذا البحث الدائب اللائب الذي جعل البياتي "ينبعث" من خلال عودة ابن عربي الذي تماهى معه بقوّة ، هو الذي جعل الراوي يتماهى مع البياتي في غربته وفي موته بعيداً عن وطنه ، شاعراً بأنّ نهايته لن تكون أفضل من مصير شاعره ، (فهو من نوابغه الأحياء) الذين سوف يُتركون لنهش مخالب الغربة وضياعات المنافي .

ولو عدتَ إلى تأمّل التساؤل الأوّل الذي أطلقه الراوي حين أخبره قيّم ضريح الشيخ ابن عربي عن أنّ قبر الأمير عبد القادر الجزائري قد استعادته الدولة الجزائرية بعد الإستقلال (ص 242) :

(فتساءلتُ في نفسي : ومتى يستعيد العراق رفات البياتي والجواهري ورُفات مئاتٍ من نوابغه الأحياء والأموات ؟)

فسنجد تناقضاً في التوصيف حيث لا يوجد "رُفات" للأحياء بل للأموات فحسب ، (الرُّفَاتُ : الحُطَامُ والفُتَاتُ من كلِّ ما تكَسَّرَ وانْدَقَّ . وفي التنزيل العزيز : الإسراء آية 49 ( وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) ، وهذه الغلطة التي يُمكن أن تُبرّر بكونها كناية عن حال المنفيين كأحياء أموات ، تعبّر في واقعها النفسي عن حرقة ونقمة مُفرطة يرزح الراوي تحت مطارقها من صورة مستقبله القاتم (وهو من النوابغ كما أخبرنا عبر انشغالات الدراسة التي سوف يقدّمها في المؤتمر .. كما أنّه يغني بدوره اللغة العربية لفظاً ونحواً ودلالة ، وقد تُكتب على شاهدة قبره عبارة مبتسرة وركيكة) الذي تجسّم الآن أمام عينيه في مصير صديقه الشاعر البياتي (ميتةً ودفناً) . فحتى مكان ضريح البياتي ، وهو شاعر نابغة بلا جدال ، لم يكن معروفاً بدقّة في مقبرة الغربة ، واضطر إلى أن يتنقّل بين ثلاث مقابر . ولعلّ آخر ذكرى للقاء جمع الراوي بالبياتي وهو يمرّ بعمّان عائداً من باكستان ، والذي قدّم إليه فيه مجموعة من المطبوعات عن الشعر الباكستاني المُعاصر كان قد طلبها الشاعر ، يتكرّر بروحه الآن . فقد تصفّح الشاعر الكتب ثم توقّف عند أحدها حيث تغيّرت ملامح صوته ، وتجمّعت الدموع في عينيه لأن صاحب الكتاب كان معه في المنافي سابقاً . نحنُ نرى مصائرنا الفاجعة في مصائر الآخرين ، ونبكيهم – استباقياً إذا جاز الوصف – لأننا في الحقيقة نبكي على أنفسنا بتخيّل نهاياتنا المماثلة . ولكن كوننا مبدعين كتّاباً مثل علي القاسمي ، تتيح لنا مواهبنا الإبداعية "تصعيد" مخاوفنا وصبّها في حكايا للتفريج والتفريغ ، وهذا من أعظم ما تقدّمه القصّة للإنسان المقهور المأزوم . وليس ببعيد أن تختلط دموع بعض القرّاء بدموع الراوي ووجوم شقيقه الصامت وهما يغادران المقبرة بعد أن عثرا على قبر الشاعر البياتي (وأعتقد أنّ عنوان القصة كان سيكون أكثر بلاغة في التعبير والتاثير والمراوغة لو كان "العثور على قبر الشاعر البياتي" :

(تذكّرتُ هذا وأشياء كثيرة أخرى . تذكّرتُ غربة البياتي ، وتذكّرتُ غربة الشيخ محي الدين بن عربي الذي لم تُطالب الأندلس باستعادة رفاته ، وتذكّرتُ غربة العراقيين في بلادهم ، وتذكّرتُ غربتي ، وبدون أن أدري ترقرقتْ دمعةٌ في عيني ، وعندها استدرتُ خارجاً من المقبرة ، صامتاً واجماً ، وأخي يتبعني من غير أن يتكلّم) (ص 244) .

ولم أفهم الكيفيّة التي تُطالب بها الأندلس باستعادة رفاة الشيخ إبن عربي إلّا على اساس أنّها نتاج ربكة الحماسة الإنفعاليّة التي اجتاحت الراوي ، وهو يقف أمام الموت متصوّراً مصيره الشخصي المُضيّع المحتوم .  

ذكرى مهمّة :

يمكن أن نعتبر نصّ القاسمي هذا "فضيحة" مضافة لبعض الكتّاب العراقيين الذين كانوا يدّعون أنّهم زاروا قبر البياتي خلال زياراتهم لدمشق ، وداهمتهم مشاعر عارمة وهم يقفون أمام قبره بجوار ضريح الشيخ ابن عربي !! كنتُ في عام 2011 في دمشق ، واتصل بي الصحفي الأستاذ "زيد الحلّي" عارضاً عليّ زيارة قبر الشاعر البياتي قائلاً إنّه – وحسب ما قرأه في بعض مقالات كتاب عراقيين – في مزار ابن عربي . ذهبنا – بنفس طريقة الراوي في قصة القاسمي – وفوجئنا بموقع القبر ! ليست الدولة وحدها التي تهمل رفات النوابغ . هذا أمرٌ صار مفروغاً منه ، فهي القطّة التي تأكل ابناءها . لكنّ الأمرّ هو أن يستكثر الأخوة الأعداء حتى زيارة قبور زملائهم المبدعين الغرباء !! فيزعمون أنهم وقفوا بخشوع أمام قبر البياتي الذي بجوار ضريح إبن عربي !!   

نصّ الدكتور علي القاسمي الذي تم تحليله من مجموعته "أوان الرحيل":

في أوائل شهر تشرين الثاني/ أكتوبر، سافرتُ من مقرّ عملي في المغرب إلى سورية للمشاركة في مؤتمر مجمع اللغة العربيّة في دمشق وتقديم دراسة تتناول بنوك المصطلحات المفهوميّة وبنوك المصطلحات اللفظيّة والمفاضلة بينهما. كان المؤتمر سيبدأ يوم الأحد، ولكنَّني وصلتُ قبل يومَيْن بسبب مواعيد الرحلات الجويّة.

وعلِم أحد أشقائي الأصغر منّي سنًّا بسفرتي هذه، فاستقلَّ حافلةً من بغداد إلى دمشق ليراني بعد أكثر من ثلاثين عامًا من الفراق. جاءني إلى الفندق ضحى يوم الجمعة، وبعد سلام وعناق وحديث طويل عن الأهل والأصحاب، سألني وقد رآني أتهيّئ للخروج؟

ـ أين ستأخذني؟

قلتُ: "سنذهب إلى ضريح الشيخ محي الدين بن عربي للبحث عن قبر المرحوم عبد الوهاب البياتي، لأتلو الفاتحة على روحه." ( وكنتُ قد قرأتُ ما ردّده النقّادُ بعد وفاة البياتي من أنّه وُلِد بالقرب من صوفيٍّ ـ الشيخ عبد القادر الجيلاني ـ ودُفِن بالقرب من صوفيٍّ ـ الشيخ ابن عربي ـ ).

قال أخي مازحًا: " ألَمْ نشبع من القبور والمقابر في العراق؟"

قلتُ : " هذا قَدَرُنا." ( وتبادر إلى ذهني أنّه كان يرغب في اصطحابه إلى مطعمٍ فاخرٍ في أحد المصايف الجبليّة الرائعة.)

بعد أن أدّينا صلاة الجمعة في مسجد الشيخ محي الدين بن عربي، اهتديتُ إلى القَيِّم على ضريح الشيخ، وسألتُه عن قبر البياتي الذي كنتُ أظنّه بجوار الضريح أو في فناء المسجد. فقال القيِّم:

ـ " لا يوجد أيُّ قبر بجوار الضريح، ما عدا قبر الأمير عبد القادر الجزائريّ وقد استعادته الدولة الجزائريّة بعد الاستقلال." (فتساءلتُ في نفسي: ومتى يستعيد العراق رفات البياتي والجواهري ورُفاتِ مئاتٍ من نوابغه الأحياء والأموات؟)

وتابع القيِّم جوابه قائلاً: " إنّ البياتي مدفون في مقبرة الإمام زين العابدين بحيّ الشورى في جبل قاسيون."

شكرتُه وخرجتُ وأخي، وفضّلتُ أن لا نستقلَّ السيّارة التي وضعها مجمع اللغة العربيّة تحت تصرُّفي، بل نسير على الأقدام إكرامًا للبياتي، ولم أعلم أنّ المقبرة في اتّجاه قمة الجبل، وكان علينا التسلُّق صاعدين، فما وصلنا إلا والإجهاد بادٍ علينا.

ولجتُ مقبرة الإمام زين العابدين واتجهتُ إلى بنايةٍ بين القبور خمّنتُ أنّها مقرّ محافظ المقبرة. فعلاً، وجدتُ جماعة يتناولون طعام الغداء على بساطٍ على الأرض، فسلّمتُ عليهم، فعرفنا المحافظ من لهجتي التي لم يندثر لحنها بعد خمسةٍ وثلاثين عامًا على فراق العراق، فنهض مرحِّبًا وخارقاً قاعدة ( لا قيام على طعام )، وهو يقول بإصرار:

ـ " الإخوة من العراق، أرجوكم تفضّلوا تغدّوا معنا."

وعندما شكرتُه معتذِرًا، وبيَّنتُ له قصدي، قال:

ـ " نعم، لا، قبر المرحوم البياتي ليس في هذه المقبرة، وإنَّما في مُلحَقها وهو ليس بعيدًا من هنا. وقد اختارت وزارة الثقافة السوريّة ذلك المكان له، بناء على وصيته. وسيرافقكم ولدي ليدلّكم عليه."

فنهض أحدهم من المائدة، وتناول مفتاحًا من على الجدار، وقادنا إلى نهاية الشارع، ثم فتح قفلَ بوابةٍ حديديّةٍ ودخلنا. وأشار بيده إلى قبر عند يسار المدخل مباشرة، تظلِّله أغصان شجرة صفصاف وارفة ينبعث منها نوح حمامة محزونة. ويربض القبر وحيدًا على ربوةٍ صغيرةٍ تطلُّ على بقية القبور وعلى سفح جبل قاسيون حيث تلوح معالمُ ضريح الشيخ محي الدين بن عربي، وأحياء كثيرة من مدينة دمشق، ومئاتٌ من منائر المساجد ونواقيس الكنائس المشرعة إلى السماء ذات الزرقة الصافية اللامتناهية. للقبر شاهدٌ مرتفعٌ نوعًا ما كُتب عليه : " قبر المرحوم الشاعر عبد الوهاب البياتي، تولّد العراق 1926، توفي 21 ربيع آخر 1420 الموافق 3 آب 1999"  ( بعد كلّ تلك الآلاف المؤلَّفة من العبارات الشعريّة الأخّاذة التي أبدعها البياتي وأغنى بها اللغة العربيّة لفظًا ونحوًا ودلالةً، كُتِبتْ على قبره عبارةٌ واحدةٌ فقط، مبتسرة ركيكة التركيب!)

وقفتُ مُطرِقًا، ورفعتُ يديّ لأقرأ الفاتحة، ولكنّ ذهني حلّق بعيداً في فضاء حزين من الذكريات، عندما كان البياتي يقيم في مدريد بإسبانيا، وكان يأتيني إلى المغرب في بعض المناسبات الثقافيّة، وأحياناً بلا مناسبة. وكنتُ أعلم أنّه كان يأتي إلى المغرب ليرى ملامح الوجوه العربيّة وليسمع اللغة العربيّة في الطرقات، وليتناهى الأذان من المنائر إلى أذنيه، وليشاهد المنازل والبنايات المشيّدة بالعمارة والريازة العربيّتين، ويروّي عينيه بالأزياء العربيّة التي يرتديها الناس؛ وبعبارة أخرى كان الشاعر بحاجة لرؤية جمهور قرّائه العرب وهم في بيئتهم العربيّة ليتمكّن من قول الشعر باللغة العربيّة.

وعندما انتقل البياتي إلى عمّان في الثمانينيّات، كنتُ أغتنم رحلات عملي إلى الدول الآسيويّة، للتوقّف في عمّان وتمضية يومٍ أو يومَيْن قبل تغيير الطائرة، من أجل أن أستمتع بلقاء البياتي. كنتُ كثيرًا ما أسأله عن تأويل بعض أشعاره، ولكنَّني لم أجرؤ على استفساره عن مقطع ورد في ديوانه " قصائد حب على بوابات العالم السبع "، أحسستُ أنَّه يتنبأ فيه بمكان موته ودفنه، وهو:

" عدتُ إلى دمشقَ بعدَ الموت/ أحملُ قاسيون/ أعيدهُ إليها/ مُقبّلاً يدَيها/ فهذهِ الأرضُ التي تحدُّها السماءُ والصحراء/ والبحرُ والسماء/ طاردني أمواتها وأغلقوا عليَّ بابَ القبر. "

تذكّرتُ في وقفتي الصامتة تلك كيف أنّه ذات مرَّة ـ وكنتُ في طريقي إلى باكستان ـ طلب إلي ّ أن أجلب له بعض كتب الشعر الباكستانيّ المعاصر المُترجَم إلى الإنكليزيّة ليطّلع على توجُّهاته. وعندما سألني وزير التربية الباكستانيّ الدكتور محمد سيد في آخر المقابلة ما إذا كنتُ بحاجة إلى أيّة خدمة شخصيّة، أخبرتُه عن رغبة البياتي، فقال بتواضع:

ـ " إنّني متخصِّص في التكنولوجيا، ولا أعرف كثيرًا عن الشعر، ولكنّني سأخبر عددًا من شعراء باكستان اللامعين بطلبك، وسأدعوهم من جميع المقاطعات لتناول العشاء معنا في آخر ليلة من زيارتك."

وعندما نزلتُ في طريق عودتي بعمّان، وقدّمتُ ما حملتُه من مطبوعات إلى البياتي، تصفَّحها ثمَّ توقَّف عند أحدها، ورأيتُ ملامح وجهه تتغيَّر، ثمَّ شاهدتُ الدموع تتجمَّع في عينيْه مثل غيوم تسوقها الريح. سألتُه عن السبب، فقال: إنّها قصائد الشاعر المرحوم أنصاري الذي كان زميلي في المنفى بموسكو.

تذكّرتُ كيف توقفتُ ذات مرة في عمّان، وأنا في طريقي إلى إندونيسيا، وعندما قصدتُ شقَّة البياتي، أخبرني البوّاب أنّ البياتي انتقل إلى دمشق قبل أيام للإقامة فيها. فتبادر إلى فكري ذلك المقطع الشعريّ الرهيب، وتصاعد وجيب قلبي، وتوجّستُ في نفسي خيفة. وبعد أشهر قليلة رحل عنا البياتي إلى الأبد.

تذكّرتُ هذا وأشياءَ كثيرةً أُخرى. تذكّرتُ غربة البياتي، وتذكّرتُ غربة الشيخ محي الدين بن عربي الذي لم تطالب الأندلس باستعادة رفاته، وتذكرتُ غربة العراقيِّين في بلادهم، وتذكّرتُ غربتي، وبدون أن أدري ترقرقتْ دمعةٌ في عيني، وعندها استدرتُ خارجًا من المقبرة صامتًا واجمًا، وأخي يتبعني من غير أن يتكلَّم.

وسوم: العدد 714