بلقيس، وجدليات التاريخ والدين والشعر

د. ياسر عبد الحسيب رضوان

لقد كانت بلقيس من أوفر النساء العربيات حظًّا في احتفال العرب وغيرهم بالحديث عنها أحاديث مالت إلى الأسطرة التاريخية التي جعلت من هذه الشخصية العربية التاريخية أسطورة في كل صغيرة وكبيرة من تفاصيل حياتها بدءًا من الأصل النشوئي لها ما بين الإنسي والجني والمختلط منهما ، وهذا الأخير هو المشهور الشائع من أخبارها ، ولعل هذا الأصل النشوئي المختلط قد تسرب إلى كتب المؤرخين والمفسرين بواسطة أهل الكتاب وإسرائيلياتهم التي دخلت كتب التاريخ والتفسير ، بيد أن المتأمل في القرآن الكريم وهو النص الديني الثابت الصحيح يجد أن القرآن الكريم قد أعطى صورة طيبة لهذه المرأة حتى وهي على شركها وعبادتها الشمس من دون الله تعالى ، وهي الصورة التي تهيء ذهن المتلقي إلى سرعة استجابتها لدعوة نبي الله سليمان والدخول معه في دينه هي وقومها ، ونحن هنا سوف نعرض للرؤية التاريخية والدينية ـ القرآن الكريم والتفسير ـ لأصل بلقيس ، ثم نعرض الصورة التي رسمها الشعر وكيف تأثر بها الشعراء الذين وردت بلقيس في أشعارهم 0

الرؤية التاريخية :

إن أقدم من ذكر قصة بلقيس من المؤرخين هو وهب بن منبه [ ت 114هـ ] حيث نسب بلقيس إلى تزاوج إنسي هو الملك الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بجنية هي رواحة بنت سكن وهو أحد ملوك الجن ، وكان تزويجه إياها جائزة له على مساعدته الشجاع الأبيض وسقايته إياه في صراعه مع الشجاع الأسود - عبد للأبيض - وكلاهما من الجن ، وكان الشجاع الأبيض ابن ملك الجن وشقيق الزوجة الجنية رواحة بنت سكن ([1]) وهذا الأصل الجني الإنسي لبلقيس نجده في كتاب وصايا الملوك وأبناء الملوك من ولد قحطان بن هود ، وهو الكتاب المنسوب إلى دعبل بن علي الخزاعي [ ت 220هـ ] الشاعر العباسي المشهور ، وإن اختلفت قصة الزواج وكيفية حدوثها عما ورد في التيجان لوهب بن منبه ، فقد أورد دعبل قصة الصراع بين ذئب وغزالة ، وهو الصراع الذي دفع الهدهاد وهو في رحلة صيده إلى إنقاذ الغزالة من الذئب ، وكان الزواج بها بعدما عرف حقيقتها الجنية مكافأة له ([2]) وفي المحبر لمحمد ابن حبيب[ت 245هـ ] نجد الإشارة إلى أن يلقمة وهي بلقيس بنت اليشرح بن ذي جدن بن يشرح بن الحارث أمها هي رواحة بنت السكين ملك الجن ([3]) 0

ورغم أن ابن قتيبة [ ت 276هـ ] قد أكد على أن بلقيس هي صاحبة نبي الله سليمان عليه السلام في حديث سورة النمل ، إلا أنه ينقل عن الآخرين قولهم بصيغة المبني للمجهول عن هداد بن شرحبيل : " ويُقال إنه نكح امرأة من الجن فولدت له بلقيس " ([4]) وهذا العزو المجهول للقصة المتفق عليها من حيث الأصل الإنس / جني لبلقيس نجده عند المسعودي [ت346ه] الذي يذكر الخبر الظريف حول ولادة بلقيس حيث تصور أبوها الهدهاد في بعض قنصه صراعًا بين حيتين بيضاء وسوداء فأمر بقتل الحية السوداء ، ثم يظهر له شيخ وشاب من الجن ، ويخبره الشيخ الجني خبر الحيتين ويزوجه ابنته ([5]) أما الثعلبي [ ت 427ه ] فقد ذكر أن أم بلقيس كانت من الجن ، ولم يذكر في قصة زواجه بهذه الجنية سوى ما كان من فخره بملكه وأن ملك الأرض ليسوا بالمكافئين له ؛ لعظم ملكه ، فزوجوه بهذه المرأة من الجن التي لم تلد إلا بلعمة التي تسمى بلقيس ، ويحاول الثعلبي أن يوثق صدق كلامه بذكر حديث نبوي أخبر به ابن ميمون بإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كان أحد أبويْ بلقيس جنيًّا " ([6]) وقد أكد ذلك في تفسيره الكشف والبيان بذكر سلسلة الرواة الذين رووا هذا الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ([7]) وهو حديث ضعيف سوف نشير إليه عند حديثنا عمن رفضوا أن تكون أم بلقيس جنية 0 

وقد ترجم ابن عساكر [ ت 571ه ] لبلقيس في تاريخه ترجمة طويلة بدأها بذكر الاختلاف في نسبها ، وذكر ملكها وزواج سليمان منها ومهرها الذي مهرها به وهو ملك بعلبك ، ثم ذكر حديث أن أحد أبويها كان من الجن ، وذكر قول الحسن لما سئل عنها وقيل إن أمها من الجن ، فقال لا يتوالدون ، وذكر قول قتادة في أن أحد أبويها من الجن وأن حافر قدمها كحافر الدابة ، ثم ذكر أن اسم أبيها ذو رُعين الذي كان مغرمًا بالصيد ، وأنه خرج في رحلة صيد وانقطع عن عساكره حتى وجد خيمة بها شيخ طلب منه السقيا ، فأمر الشيخ ابنته حسنه بسقايته ، وكانت من الجمال الآسر بحيث طلب ذو رُعين الزواج بها من أبيها الذي تحفظ في القبول بسبب كونها من الجن ، ولكن الملك الإنسي أصر على أنه كفؤٌ كريم لها لما يملك من البلاد والعباد ، فوافقت الجنية المرأة على شرط أل يسألها عن فعل تفعله ، وقبل الشرط ، وكان الدخول بها ، وحدوث أمور عجيبة مثل ولادتها ولدًا ذكرًا و زوجها لم يرزق بابن من قبل ، ولكنها ذبحته ، ولما حملت مرة أخرى مانت أنثى فأبقت عليها مما دفعه للسؤال عما حدث وكان سؤاله علامة فراق زوجته الجنية له ([8]) وهو كلام تسيطر عليه نزعة خيالية خالصة أو أسطورية واضحة نجح ابن عساكر في توظيف كلام السابقين عليه حول قصة الزواج بين والد بلقيس وأمها 0 

كذلك ذهب نشوان الحميري [ ت 573ه ] إلى أن أم بلقيس من الجن ، وأن قصة زواجه بأمها هي القصة نفسها التي أوردها دعبل الخزاعي في وصايا الملوك وأبناء الملوك وهي قصة محاصرة الذئب للغزالة التي يتضح فيما بعد أنها من الجن ، وأنها هي رواحة بنت السكن ملك الجن الذي يزوجها لهذا الملك الإنسي الذي أنقذها ([9]) أما ابن الأثير الجزري [ 630ه ] فقد ذكر في قصة بلقيس حكايا شبيهة بما ورد عند ابن عساكر ، وقد رفض بن الأثير ذلك كله وال عنه : إنه حديث خرافة ولا أصل له ولا حقيقة ، ثم ذكر ابن الأثير قصة بناء الصرح وعرَّج على ما دار بين الشياطين حول زواجه بها وما عساه ينتج عنه من ولد يُسخرون له ولا يتحللون منه ، فكان أن حاولوا تشويه صورة بلقيس لسليمان حتى لا يتزوجها ولم يعلق ابن الأثير على ذلك ، كما أنه ذكر زواج سليمان بها ولم يعلق عليه ([10])

وقد نقل ابن كثير [ ت774ه ] عن الثعلبي ما ذكره من أن أم بلقيس كانت جنية ؛ لأن أباها قد رفض الزواج من أهل اليمن ؛ لأنه لم يجد من بينهم كفؤًا له ليتزوج من أهله ، ومن ثمة كان زواجه من الجنّ وذكر الحديث الذي نُسبت روايته إلى أبي هريرة من أن أحد أبويْ بلقيس كان جنيا ، وعلق عليه ابن كثير بأنه حديث غريب وفي سنده ضعف ([11]) كما أشار إلى قصة بناء الصرح ، ونسب رغبة الجن في تنفير سليمان من الزواج بها إلى القائل المجهول بأنها شعراء وأن حافر قدمها كحافر الدابة ، وعلق ابن كثير على ذلك بأنه ضعيف ([12]) 0

وإذا كان من ذكرنا موقفهم من المؤرخين السابقين قد أشار إلى أصل بلقيس الجني ، وأنها نتاج تزاوج الإنسي بالجني ، ونقلنا الرواية المجهولة القائل لابن قتيبة وعدم تعليقه عليها ، وكذا موقف المسعودي الذي نقل كلام الإخباريين دون التعليق عليه ، فإن ثمة مؤرخين وعلماء قد ذكروا هذا الأصل الإنس جني لبلقيس رافضين إياه ، كالجاحظ أبي غثمان عمرو بن بحر بن محبوب [ ت 255ه ] الذي يقول : " زعموا أن أمها جنية ، وأن أباها إنسي ، غير أن تلك الجنية ولدت إنسية خالصة صرفًا بحتًا ليس فيها شوب ، ولا نزعها عرق ، ولا جذبها شبه ، وأنها كانت كإحدى نساء الملوك ، فأحسب أن التناكح يكون بين الجن والإنس ، من أين أوجبوا التلاقح " ([13]) ولعل آية سورة الإسراء التي يقول منها ربنا تبارك وتعالى : ﴿ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ ﴾ أن تكون السبب في هذا الخلط الظاهر عند المؤرخين ، وغيرهم إلى جانب الإسرائيليات التي لجأ إليها بعض المؤرخين وبعض المفسرين ، علة أننا نميل إلى رأي من ذهب في تفسير مشاركة الشياطين للإنس في الأموال والأولاد بأنها تلك التي لا يتم فيها ذكر الله تعالى 0

الرؤية الدينية

1ـ الرؤية  القرآنية :

عندما ننظر في حديث القرآن الكريم عن بلقيس ، نجده أولاً لم يُسمها ، وإنما عبر عنها في قول الهدهد بأنها ﴿ امْرَأَةً تَمْلِكُهُم وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ وهذا نص صريح الدلالة على ما كانت الملكة تتمتع به من الثراء والزينة والعظمة والفخامة ، ولا شك أن عظمة العرش وهو سرير المُلْك تستدعي عظمة المَلِك ، تلك العظمة التي لم تمنعها من مشورة ملئها في أمر رسالة سليمان عليه السلام ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونَ ﴾ وهي ذات حكمة وفطنة أو ذكاء ودهاء ، وذلك ما يبدو من قولها الذي حكاه القرآن الكريم ﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ وتلك الحكمة تستدعي حُسن التصرف في مواجهة الخطر القادم ، ومحاولة درئه دون أدنى خسائر لها ولقومها ؛ ولذلك كان التفكير في هدية ترسلها إلى سليمان لتنظر رد فعله ﴿ وَإِنِّ مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ ويرتبط بالذكاء سرعة البديهة التي بدت في إجابتها على السؤال الذي وُجِّهَ لها : ﴿ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ؟ قَالتْ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾ وإذا كان الذكاء في طريقة الإجابة ، فإنه يبدو أنها قد افتقرت إلى دقة التركيز من عجيب ما رأت في الصرح وصنعته حتى إنه حسبته ماءً ومن ثمة كشفت عن ساقيها ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا ﴾ ويرتبط بذلك فيئتها إلى الحق واعترافها بالخطأ وظلم النفس ، ثم سرعة إسلامها ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾  0

ومن الحق القول إن هذه هي الصورة التي رسمها القرآن الكريم لبلقيس بعيدًا من رؤى المفسرين والمؤرخين الذين تركوا العنان لخيالاتهم متأثرين بما نُقل من الإسرائيليات التي بثها أحبار اليهود بين العرب إذ كانوا مختلطين بهم ، رغم أن العهد القديم كتاب اليهود المقدس لم يعبر عن بلقيس إلا بكونها ملكة سبأ ، فلم يذكر اسمها ، بل قصّ قصة زيارتها لسليمان في أورشليم بعدما سمعت من التجار عن حكمته ، وأبنيته وعظمتها وفخامتها وطعامه وطبيعته ، وأنها أعطته من الهدايا الشيء الكثير من الذهب والطيب والحجارة الكريمة ، وأعطاها هو كل مشتهاها ، بل إن أهل الحبشة قد زعموا أنهم من نسل ملكة سبأ التي طلبت من سليمان أن يتزوجها ، لإاجابها إلى طلبها وأنجبت منه ولدًا اسمه منلك ([14]) وهي قصص أو أساطير ـ كما يبدو ـ اختلقها اليهود وضمنوها كتبهم ، وهي مخالفة تمام المخالفة للوصف القرآني لملكة سبأ ، ومن الغريب أن التوراة لم تذكر لبلقيس هذه الصفات التي تناولها القُصَّاص والإخباريون ، وهذا ما يجعل من حديث القرآن عنها حديثًا موضوعيًّا ؛ إذ لم يعلُ بها إلى مصاف الأساطير والخرافات ، بل وصفها امرأة من البشر لها من صفات النساء المحمودة ما لها ، كما أظهر لها بعض الصفات السلبية ، وهو ما يشير إلى أنها امرأة بشرية شأنها شأن النساء جميعهن 0

2ـ رؤية المفسرين :

إننا نجد من المفسرين للقرآن الكريم مَن ذهب إلى القول بالأصل الجني لبلقيس كالإمام مجاهد بن جبر [ ت 102ه ] الذي قال في سياق حديثه عن الصرح الذي أمر نبي الله سليمان عليه السلام بلقيس بدخوله : " وكانت بلقيس هلباء شعراء ، قدمها حافر حمار ، وأمها جنية " ([15]) والإمام مجاهد ينتمي إلى مدرسة التفسير بمكة وهي المدرسة القائمة على ابن عباس رضي الله عنهما ، وقد تتلمذ له الإمام مجاهد وعرض عليه القرآن أكثر من مرة ، ولم يؤخذ على تفسيره سوى مطعنٍ واحد ، وهو أنه كان يسأل أهل الكتاب ، وإن صدق ذلك فإنه لم يتخط " حدود ما يجوز له في ذلك ، لا سيما وهو تلميذ حبر الأمة ابن عباس الذي شدد النكير على من يأخذ من أهل الكتاب ويصدقهم فيما يقولونه مما يدخل تحت حدود النهي الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ([16]) 0

أما الإمام قتادة بن دعامة السدوسي [ ت 117ه ] فقد رُوي عنه في قول الله تعالى على لسان هدهد سليمان عليه السلام : ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ﴾[ النمل 23 ] أنه قال : " بلغني أنها امرأة تسمى بلقيس ، أحسبه قال ابنة شراحيل أحد أبويها من الجن ، مؤخر إحدى قدميها كحافر الدابة ، وكانت في بيت مملكة " ([17]) وقد كان قتادة من أتباع مدرسة التفسير بالعراق القائمة على الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ، وقد شهد لقتادة أقرانه بقوة حافظته وسعة اطلاعه في الشعر العربي ، وكان بصيرًا بأيام العرب عالمًا بأنسابهم ومتضلعًا في اللغة العربية ، ومن ثمة كانت شهرته في التفسير ، ورغم أنه قد نُسب إليه الخوض في مسائل القضاء والقدر ، إلا أن أصحاب الصحاح كانوا يخرِّجون ويحتجُّون بروايته ؛ فقد كان ثقة مأمونًا حُجَّةً في الحديث ([18]) وربما كانت هذه الصفات التي جمعها قتادة رحمه الله مما يعطي كلامه عن بلقيس مصداقية خاصة إذا كان كلامه وهو العالم بأيام العرب وأنسابهم متفقًا مع كلام الإمام مجاهد بن جبر رحمه الله 0   

وهذا الخبر نفسه الذي رُوي عن قتادة حول بلقيس وأصلها الجني ووصفها نجده نصًّا عند الإمام عبد الرزاق الصنعاني [ ت 211ه ] في تفسيره دون أن يزيد عليه أو ينقص منه أو يعلق عليه بالقبول أو الرفض ([19]) أما الإمام مقاتل بن سليمان [ ت 150ه ] وقد كان صاحب أقدم تفسير كامل للقرآن الكريم وصل إلينا ، وهو تفسير جامع بين النقل والعقل أو الرواية والدراية كما يقول محقق تفسيره  فقد مقاتل قال : والمرأة اسمها بلقيس بنت أبي سرح ، وهي من الإنس ، وأمها من الجن واسمها فازمة بنت الصخر " ([20]) وهو كما واضح يؤكد على أن أمها من الجن ، وإن جاء باسم جديد لها هو فازمة كما خالف في اسم أبيها معاصره الإمام قتادة الذي رأى أن اسمه شراحيل ، وكلاهما كان معاصرًا لوهب بن منبه صاحب كتاب التيجان  0

وقد ذكرنا من قبل موقف الثعلبي في تفسير الكشف والبيان ، وهو موقفه نفسه في كتابه عرائس المجالس ، وينقل الماوردي [ ت 450ه ] عن زهير بن محمد الحافظ المحدث [ ت 162ه ] أن بلقيس هي بنت شرحبيل بن مالك بن الديان وأمها فارعة الجنية ([21]) صحيح أن اسم الأم مختلف عما سبقه بيد أنه لم يختلف عنهم في كونها من الجن ، وقد أشار الزمخشري [ ت 538ه ] إلى الأصل الجني لبلقيس بنسبته إلى القائل المجهول فقال الزمخشري بعدما ذكر القصر الذي أمر سليمان ببنائه في طريق بلقيس قبل دخولها الصرح : " وزعموا أن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي إليه بأسرارهم ؛ لأنها كانت بنت جنية ، وقيل : خافوا أن يولد له منها ولد تجتمع له فطنة الجن والإنس ؛ فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد وأفظع ، فقالوا له : إن في عقلها شيئًا ، وهي شعراء الساقين ، ورجلها كحافر الحمار ، فاختبر عقلها بتنكير العرش " ([22])  0

وما ذكره الزمخشري هنا على لسان المجهول مما يقترب بصورة أو بأخرى مما ذكره الإمام السدي [ 128ه ] في تفسيره عن سر بناء الصرح على الهيئة التي أرادها سليمان عليه السلام وهو أن سليمان " كان قد نُعت له خَلقها ، فأحب أن ينظر إلى ساقيها ، فقيل لها : ادخلي الصرح ، فلما رأته ظنت أنه ماء ، فكشفت عن ساقيها ، فنظر إليهما وعليهما شعر كثير ، فوقعت من عينيه وكرهها ، فقالت له الشياطين : نحن نصنع لها شيئًا يذهب به فصنعوا له نورة من أصداف ، فذهب الشعر ونكحها سليمان عليه السلام " ([23]) 0

وكلام السدي هنا فيه ملاحيظ متعددة ، أولها : أن فيه انتقاصًا من أخلاق نبوة سليمان عليه السلام عندما ينسب إليه رغبته في اختلاس النظر إلى ساقيْ المرأة ، وهو افتراء على أخلاق نبوة من اصطفاهم الله تعالى ليبلغوا عنه رسالاته إلى أهل الأرض ؛ لأنه إنما صنع الصرح ليختبر عقلها وذكاءها ، وثانيها أن السدي لم يشر إلى الأصل الجني لأم بلقيس ، وإن اتفق في الوصف الشائع عنها بأنها شعراء الساقين ، وثالثها الدور الإيجابي للشياطين في اختراع ما يزيل شعر ساقيها ؛ لتتغير من ثمة نظرة سليمان إليها بالزواج منها ، وقد رأينا في رواية الزمخشري موقفًا مناقضًا من الشياطين الذين كرهوا أن يتزوجها سليمان عليه السلام ، وكلا الموقفين لا يتناسب ومقام نبوة سليمان عليه السلام ، وحفظ الله تعالى له من أن تعبث به الشياطين أو تكيد له 0  

بيد أننا نرى هذه الرواية بدلالتها عند عددٍ من العلماء المسلمين ، فالزجاج [ ت 311ه ] يشير إلى السبب من وراء بناء الصرح ، وهو عيب الجن ساقيْ بلقيس ورجليها اللتين تشبهان حافر الحمار ، دون أن يذكر الأصل الجني لبلقيس ([24]) والإمام الطبري [ 310ه ] لم يذهب إلى القول بأصلها الجني ، وإنما أثبت ـ على عادته ـ الروايات التي قيلت في الأمر ومنها ما ورد عن وهب بن منبه من أن علة بناء الصرح كانت لاختبار عقلها ، وما ورد عن محمد بن كعب القرظي من أن العلة تكمن فيما قالته الجن في شأن ساق بلقيس وأمها الجنية ، فكان بناء الصرح لينظر إلى حقيقة ساقيها ، بيد أن الإمام الطبري قد علق على الروايتين بقوله : " وجائز عندي أن يكون سليمان أمر باتخاذ الصرح للأمرين : الذي قاله وهب ، والذي قاله محمد بن كعب القرظي ، ليختبر عقلها ، وينظر إلى ساقها وقدمها ، ليعرف صحة ما قيل له " ([25]) ثم ذكر الطبري ما رُوي عن الإمام مجاهد بن جبر من كون بلقيس هلباء شعراء وأمها جنية ، وكذلك قول قتادة من حديث نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن أحد أبويْ بلقيس كان جنيًّا ، وهو حديث موضوع ولا أصل له كما ذهب غير واحد من أهل العلم ، بل هو حديث منكر ؛ لأن فيه سعيد بن بشير الذي أجمع أهل العلم بالحديث على ضعفه ([26]) ومن ثمة فلا يُعول على مثل هذا الكلام وجعله حُجة على الأصل الجني لبلقيس ، فقد ذهب البعض إلى جواز أصلها الجني دون أن ينسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله ، وذلك فيما بعد 0 

وقد ذكر السمرقندي أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم [ 375ه ] قول مقاتل عن بلقيس بأن أمها جنية ([27]) ويبدو أنه يميل إلى هذا الرأي ؛ لأنه يُعلِّلُ أمر سليمان عليه السلام لها بدخول الصرح بقوله : " وذلك لأنها لما أقبلت قالت الجن : لقد لقينا من سليمان ما لقينا من التعب ، فلو اجتمع سليمان وهذه وما عندها من العلم لهلكنا ، وخشوا أن يتزوجها ، ويكون بينهما ولد فيرث الملك ، فيبقون في ذلك العناء إلى الأبد ، فأرادوا أن يُبغِّضوها إلى سليمان فقالوا : إن رجليها شعراوان " ([28]) فهو ينسب التعليل هنا إلى نفسه ، ولا يلجأ إلى نسبته لغيره مثلما فعل في الموضع نفسه عندما أشار إلى قول بعضهم عن الزواج بين الإنس والجن : " هذا لا يصح ؛ لأن الجن ليسوا من جنس الآدميين فلا يكون بينهما شهوة ونسل " ([29]) 0 

والبلاغي الشهير الإمام عبد القاهر الجرجاني [ ت 471ه ] قد ذكر في تفسيره كراهية الجن زواج نبي الله سليمان ببلقيس ؛ لأن أمها جنية ، وقد خافوا أن تفضح أسرارهم له مما دفعهم إلى الزعم بأن الجنية إذا تزوجت بالإنس وولدت كان حافرُ مولودها حافرَ حمار ، وهو ما دفع سليمان إلى بناء الصرح لرؤية حقيقة قدمها ، ولما لم يجدها كما ذكر الجن اعتذروا إليه وأقروا بكذبهم ([30]) وكذلك الإمام السمعاني [ ت489ه ] يروي قول قتادة في أن أحد أبويها كان جنيًّا ([31]) كما يذكر قول الزجاج في علة بناء سليمان للصرح ذاكرًا صدق الجن في زعمهم ، وتحايل سليمان على إزالة الشعر بما اخترعه له الجن مما سبق أن أشرنا إليه ([32])  0

أما أبو بكر ابن العربي [ ت 543ه ] فقد ذكر في سياق حديثه عن قول الله تعالى على لسان الهدهد : ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ [ النمل 23] " قال علماؤنا : هي بلقيس بن شرحبيل ملكة سبأ ، وأمها جنية بنت أربعين ملكًا ، وهذا أمر تُنكره المُلحِدة ، ويقولون : إن الجن لا يأكلون ولا يلدون ـ وكذبوا لعنهم الله أجمعين 0 ذلك صحيح ونكاحهم مع الإنس جائز عقلاً ، فإن صحَّ نقلاً فبها ونعمتْ ، وإلا بقينا على أصل الجواز العقلي " ([33]) ولعله بهذا يكون أول من رجّح الأصل الجني لبلقيس ، بل لعله غالى في رأيه عندما وصف المنكرين بأنهم ملاحدة ، ومع إيماننا بأن الجن يأكلون ويتناسلون ، وربما كان التزاوج بين الجن والإنس مما لا ينكره العقل ، إلا أننا نتحرج كثيرًا في شأن النسل الذي يمكن أن ينتج عن هذا التراوج بسبب اختلاف الطبيعة الخِلقية بين الجن والإنس  0

ونقل ابن الجوزي [ ت 597ه ] عن قتادة قوله : " كان عرشها من ذهب قوائمه من جوهر مكلل باللؤلؤ ، وكان أحد أبويها من الجن ، وكان مؤخر أحد قدميها مثل حافر الدابة " ([34]) أما الفخر الرازي [ ت 604ه ] فقد ذكر ما قيل في أصل بلقيس على طريقة الزعم والقول المجهول القائل دون أن يذكر رأيه هو في كل ذلك ([35]) أما الإمام القرطبي [ ت671ه ] فقد ذكر أن بلقيس ملكة سبأ كان أحد أبويها من الجن وذلك في سياق حديثه عن تفسير قول الله عز وجلّ : ﴿ وَشَارِكْهُم فِي الأَمْوالِ والأَوْلاَدِ [ الإسراء 64] ([36]) ثم عاد ذاكرًا بلسان المجهول أن أحد أبويها كان من الجن ، وعقب على ذلك مباشرة برأي ابن العربي في أحكام القرآن ([37]) وهو الذي ذكرناه من قبل ، وقمنا بالتعليق عليه ، ويبدو أن القرطبي قد مال إلى القول بنكاح الإنس الجن أو الجن الإنس وما ينتج عنه من النسل 0

وعلى هذا النحو من التضارب في الرأي بين المفسرين في الأصل الجني لبلقيس نجدنا مرتكنين إلى رأي الكثرة من هؤلاء المفسرين في رفض الفكرة من أساسها رغم وجاهة رأي من أثبتوها ، ومع ذلك فإننا نميل إلى الرأي المُنْكِرِ ؛ وذلك لعدم وجود نصوص دينية صريحة وصحيحة حولها ، والحديث الذي ذكره قتادة قد حكمنا عليه بأنه حديث منكر ؛ لوجود واحد من رواته وهو سعيد بن بشير الذي عدَّه علماء الحديث والجرح والتعديل من الضعفاء والمدلسين ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى نحن لا ننكر العلاقة بين الجن والإنس وموضوع التزاوج على التفصيل الذي ذكرناه من قبل 0

الرؤية الشعرية :

لم يكن الشعراء العرب ببعيدين من الرؤى السابقة جميعها ؛ ذلك أن التراث التاريخي والديني من القرآن الكريم وأقوال المفسرين ، والعهد القديم قد كانت جميعها في متناول الشعراء الذين استدعوا شخصية بلقيس في أشعارهم ، ومن ثمة كانت المحاور الدلالية التي وُظِّفَتْ فِيها شخصية بلقيس هي المحاور الدلالية نفسها في تلك المصادر جميعها ، ويمكننا رصد هذه المحاور الدلالية فيما يلي :

الغزل :

لعل أبا نواس الحسن بن هانئ الشاعر العباسي الشهير [ ت 199ه ] أبرز شاعر عباسي وردت بلقيس في شعره بصورة أكبر من غيره من الشعراء العباسيين ، وقد كان مشهورًا بشعره في الخمر حتى كان رائدًا فيه ، كما اشتُهر بالتغزل بالغلمان ، وكثيرًا ما يجتمع الأمران في شعره : الخمر والغزل من ذلك قوله [ بسيط ] ([38]) :

فالخمر عندما تصفو في إنائها تخرج حمراء فتذهب عن شاربها الهم والبؤس ، وهو يشاركها هذا الغلام الأبيض الخدين المعتدل الذي يشبه في بهجته وزينته بلقيس الرامزة للجمال ، وربما كان هذا الواضح الخدين قينة من قيان الحانة الكرخية التي قال فيها هذه الأبيات ، وجاء تذكير ضمير الغياب على عادة الشعراء المتغزلين 0 

وإذا كان متغزلاً بالغلمان في سياقات الخمر والمرأة ، فإنه يتغزل في الخمر كذلك ، فتبدو كامرأة بلغت من الجمال الغاية ، يقول [ منسرح ] ([39]) :

فالخمر تختال تيهًا عليهم بمنظرها الأنيق وزهوها الشبيه بزهو بلقيس ، ومن ثمة تبدو صورة بلقيس في خمرية النواسي مزهوة بنفسها ، ولمَ لاَ تُزهى بنفسها ؟! وقد كانت رمزًا من رموز الجمال البشري ، ذلك الجمال الذي آتاه الله تعالى نبيه يوسف عليه السلام ، فتمثل بها الشعراء ، كما تمثلوا بالدمية وخط التمثال أو المثال ، يقول أبو نواس [ طويل ] ([40]) :

فقد وضع أبو نواس في هذه الحوارية ثلاثة من النماذج العلى للجمال البشري : أولها يوسف عليه السلام ، وثانيها بلقيس ، وثالثها خط المثال الذي يشير ذلك الموروث الذي توارثه الشعراء منذ الجاهلية لوصف جمال المرأة ، أو لبلوغها الغاية في الجمال أو المثال أو التمثال أو الدمية كما كان الشعراء يسمونها ، وهو وصف ذو مرجعية دينية ، مرتبطة " بالدين القديم ، إذ كانت هذه الدمى والتماثيل تقدم قرابين ونذورًا في معابد الشمس الأم " ([41]) ولعل أبا نواس لم يبعد عن هذه المرجعية الدينية لرقة في دينه ، وهو ما تظهره المصاحبات السردية للأبيات السابقة ([42])  0 

ومثلما تغزل أبو نواسٍ في الخمر نجد ابن الرومي هو الآخر يتغزل فيها مستدعيًا التشبيه ببلقيس فيقول [ كامل ] ([43]) :

وجلوة بلقيس هو ظهورها في الحلى الحسناء ، وهي الصورة التي تكون عليها خمر ابن الرومي عندما تبدو فوق عرش مملكتها وهي الزجاج ، وإذا كانت الخمر على هذه الصورة الجمالية التي استدعت تشبيهها ببلقيس ، فإن ابن الرومي يستدعي موقف سليمان من النظر إلى بلقيس لينفي مثله عن صاعد وابنه أبي عيسى في نظرتهما إلى داليته في مدحهما ويقول في مطلعها [ طويل ]  :

أَبَيْنَ ضُلُوعِي جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ        عَلَى مَا مَضَى أَمْ حَسْرَةٌ تَتَجَدَّدُ

تلك الدالية التي يبكيها ابن الرومي في هجائه لصاعد وابنه ، وكأنه يندم على أن قالها في مدحه لهما ، يقول ابن الرومي [ خفيف ] ([44]) : 

فهو يهجوهما بقصر النظر وسوء الفهم ؛ إذ لم ينظرا إلى مدحيته لهما نظرة التقديس والاحترام والإجلال كنظرة سليمان عليه السلام إلى بلقيس ، ولكنهما نظرا إليها نظرة مغايرة لنظرة سليمان ، ومن ثمة فهما لم يصبوَا إليها ، وهنا يستعين بالاستعارة عن القصيدة الدالية ببلقيس ، فداليته في جمالها وشهرتها تشبه بلقيس ؛ لذا حذف المشبه واكتفى بالمسبه به للدلالة على الجمال والذيوع 0                

ويستدعي أبو تمام في مدحيته لأبي المغيث موسى بن إبراهيم شخصية بلقيس من خلال اسم العلم كآلية من آليات استدعاء الشخصيات التراثية خاصة إذا كان هذا العلم مصحوبًا بما يرتبط به هو دون غيره من الأشباه والنظائر ، فعرش بلقيس اتخذ من الشهرة ما جعله مرتبطًا بها وحدها ، وهي مرتبطة به ، يقول أبو تمام [ كامل ] ([45]) :

فقد استدعى الشاعر من دوال الجمال الأنثوي النعومة ـ رود ـ والصون والعفة ـ خُرّد ـ والوضاءة ـ بدور وشموس ، وحمرة الخدود ـ شقائق ـ وسحر العيون الشبيه بسحر الخمر عقول شاربيها، حداثة السنِّ ، أقول تم استدعاء هذه الدوال الجمالية ؛ ليجعل من هذه الجارية لميس جميلة الجميلات حتى كأنها بلقيس التي أوتيت من كل شيء ، ولكنه لا يرى لها عرشًا ، ليتناص مع القرآن الكريم في قوله تعالى على لسان الهدهد : ﴿ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْئٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ وهو تناص يجعل من تلك الجارية بلقيس ، ولعل حالته تلك تشبه حالة بلقيس وقد سئلت عن العرش فقالت : ﴿ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾ 0

كما يستدعي أبو الشيص الخزاعي شخصية بلقيس في تغزله بالغلام الذي يقوم بصب الخمر وتقديمها للندمان فيقول [ كامل ]  ([46]) :

وإذا كان استدعاء كسرى للدلالة على أصل هذا الساقي ، فإن استدعاء بلقيس إشارة إلى ما يسمه من الجمال ، فهو أحور والحور هو البياض الشديد الذي يستدعي بدور الحور العين وما ارتبط بهن من الجمال ، أو ربما استدعى الحور بياض العين وشدة سواد الحدقة ، وهو من الأوصاف الجمالية للمرأة خاصة 0

ويقول بهاء الدين أبو الحسن المعروف بابن الساعاتي عن فتاته من قصيدة يمدح فيها فلك الدين سليمان شقيق الملك العادل [ طويل ] ([47]) :

فهو هنا يستدعي بلقيس ويريد بها فتاته التي يشبهها ببلقيس في جمالها ، ويستدعي في نهاية العجز سليمان وذلك في سياق التورية ؛ لأن سليمان المراد به هنا الممدوح ، وليس سليمان النبي عليه السلام بقرينة بلقيس ، بيد أن ذكر العلَمين هنا استدعاء للقصة القرآنية ، واستيحاء دلالاتها المرتبطة بالشخصيتين الرئيستين فيها  0

وجاء في ديوان أبي نواس للشاعر إسماعيل القراطيسي في سياقات المجون والخلاعة المرتبطة بأجواء الغزل اللاهي قوله [ هزج ] ([48]) :

والتغزل هنا بالغلمان على عادة أبي نواس وغيره من الشعراء العباسيين ، كما كان تغزله بهذه التي هيأها عمرو وقد أتت من أرض بلقيس مستدعية ما يصحبها من الجمال المقترن بشخصية بلقيس كما كان هذا الغلام الأمرد  0  

وإذا كان الحضور السابق لبلقيس في سياق الغزل بالمرأة أو الغلمان أو الخمر من خلال ما ارتبط ببلقيس من الجمال ، فإننا نجد لها حضورًا جماليًّا في سياق مغاير للغزل وهو سياق الهجاء الذي يستدعي فيه ابن الرومي جمال بلقيس في سياق السخر والاستهزاء بالمرأة التي يهجوها وهذه المرأة هي كنيزة وهي قينة من اللواتي عرفهن فيقول [ خفيف ] ([49]) :

فهذه المرأة التي تتناغى في وعودها كنهيق الحمار عندما يناغيه جحش وغناؤها رديء قد فازت ـ على سبيل السخر ـ بالجمال والحسن لو أنها كانت تملك عرشًا كعرش بلقيس  0

الوصف :

هذا الجمال الذي تم فيه استدعاء بلقيس للدلالة عليه باعتبارها مثالاً للجمال الأنثوي نجده عند البحتري في مدح المتوكل ووصف البركة التي أمر بها حيث يقول [ بسيط ] ([50]) :

فقد بلغت البركة من جمال المنظر وبهائه بسبب دقة الصنع ومهارته أنها الأولى والبحر يليها مرتبة سامقة ، وكأن نهر دجلة يغار منها فينافسها في حسنها ويباهيها ، ويستفهم متعجبًا من أن نهر دجلة لم ير الخليفة المتوكل حامي الإسلام وهو يحميها ويحفظها من العيب ، لقد بلغت من المهارة والإتقان حتى كأن جنَّ نبي الله سليمان عليه السلام هم الذين تولوا إبداعها بهذه الصورة البالغة الإتقان حتى كأن بلقيس لو مرت بها لحسبتها صرح سليمان لشدة مماثلتها شبهها به  0

ونلحظ هنا التناص القرآني ليس في استدعاء بلقيس وحدها ، وإنما في استدعاء الصرح ، وما استدعاه من سؤالها عن عرشها لتقول كأنه هو ، وقد كان هو عرشها على الحقيقة ، بيد أنها لما رأت العرش وقالت قولتها ظانة أن الجن قد صنعوه ، خال عليها أمر الصرح وحسبته اللجة ، وكان ما كان من كشف ساقيها ، ثم اطلاعها على حقيقة الأمر 0 

ويصف الشاعر العباسي الحسين بن الضحاك الملقب بالخليع [ ت 250ه ] برجًا للخليفة المتوكل ، فيقول [ بسيط ] ([51]) :

والشاعر هنا إنما يتناص والنصوص التاريخية التي وصفت عرش بلقيس المرصع بالجواهر والذهب والدُّرِّ والزبرجد والياقوت ، وهذه الحلى كلها لا ترتفع بعرش بلقيس لكي يقارب أو يداني هذا البرج في بهجته وزينته ؛ فقد جاوز الأمد في الحُسْن  0

  ومما قاله أبو الحسن الشمشاطي صاحب كتاب الأنوار ومحاسن الأشعار ، وهو من شعراء القرن الرابع الهجري في بيت بناه الأمير [ بسيط ] ([52]) :

فقد قدم الشاعر للبيت صورة من الجمال والإتقان ومهارة الصنع بحيث نستشفها من الأوصاف التي أعطاها للأمير صاحب البيت ، فهو ذو همة وصاحب علم وفكر وعقل وهندسة ، وهي الأوصاف التي جعلت من مواد بناء البيت صورة من صاحبه حيث المجد والجود والفضل والشرف ، وعند اجتماع هذه الأوصاف المادية والمعنوية في صاحب البيت يكون بيته أكثر شبهًا بصرح بلقيس التي كشفت عن ساقيها ظانة أنه ماء ، ونلاحظ استخدام الشاعر دالة التشبيه كأنه بدلالتها على قوة الشبه بين البيت والصرح ، وهو ما التبس على بلقيس أمرها عندما شاهدت العرش لتقول كأنه هو 0 

وهذا أمير الشعراء أحمد شوقي يشبه ـ في أندلسيته النونية ـ الشمسَ ببلقيس وهو يتذكر عهد صباه بمصر فيقول [ بسيط ] ([53]) :

ويبدو من الأبيات قدرة الشاعر على توظيف الألوان في البيت الأخير للدلالة على التشابه بين الشمس المزهوة المعجبة بنفسها ساعة الأصيل حين يبدو شعاعها كالذهب الخالص ـ العقيان ـ لتكون في هذه الحالة من التبختر والزينة شبيهة ببلقيس وهي متبخترة تجر ثوبها اليماني الموشى بكل ألوان الزينة ، على أن استدعاء الشمس ، وتشبيهها ببلقيس هنا إنما هو استدعاء للعلاقة الوثقى بينهما ، وذلك في التعبير القرآني ، فقد كانت بلقيس قومها يسجدون للشمس ، كما أخبر الهدهد نبي الله سليمان عليه السلام ، ولعل هذا الاستدعاء من بين ما كان يملكه شوقي من حس تاريخي ، وبعد ديني ، لا يستطيع المتلقي من خلاله أن يطرح فكرة التقديس والعبودية التي لقيتها الشمس عند العرب القدامى ، ومن ثمة فقد حظيت بلقيس بمثل تلك المكانة  0

ونجده في سينيته التي يعارض فيها البحتري يصف الجزيرة وجمالها وجمال موقعها وحدائقها وطيورها الغناء مستدعيًا المثال الأشهر للمشابهة هنا وهو بلقيس فيقول [ خفيف ] ([54]) :

حيث يرى الجزيرة شجرة ملتفة الأغصان تزينها الطيور الغَنَّاءُ فتبدو وكأنها بلقيس في خمائل قصرها العالي وفية ليست بالصاحب الضعيف أو الدنيء الذي لا خير فيه ، وذاك وصف الجزيرة التي يكفيها أن تكون عروس النيل ، فهو لم يغرم أو يُجن بعرس قبلها 0 

وعندما يتحدث شوقي عن فرنسا وتقدمها العلمي بمناسبة قدوم الطيارين الفرنسيين فدرين ويونيه طائرين بطائرتهما من باريس إلى القاهرة ، يستدعي لهذا الحدث قصة الريح التي ارتبطت بما سخره الله تعالى لسليمان من قوى الطبيعة فيقول ([55]) :

        بيد أننا نلحظ أن استدعاء شوقي للريح هنا وربطها ببلقيس لم يكن ليتساوق والنص القرآني المثبت لتسخير الريح لسليمان عليه السلام ، وهو قول الله تعالى : ﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيثُ أَصَابَ ﴾[ سورة ص 36 ] إذ جعلها شوقي مسخرة ـ أمَة ـ لبلقيس ، وهذا التوظيف مخالف للنص القرآني وللقِصص التي ارتبطت بسليمان وبلقيس ، ومن ثمة يمكن القول إن التناص هنا تناص دلالي بين سياق قصيدة شوقي حيث الطائرة القادمة من باريس وكأنما تدفعها الرياح في زمن كان العالم حديث عهدٍ بالطائرات ، وتسخير الرياح لسليمان عليه السلام وليس لبلقيس  0  

وعندما يتحدث شوقي عن النيل في قصيدته " أيها النيل " نجده يستدعي بلقيس في سياق ربما أُوخِذَ عليه شوقي الذي يقول [ كامل ] ([56]) :

لقد اشتهرت بلقيس في كتب التاريخ وبعض التفاسير ـ على ما مرّ ـ باقتنائها الذهب والجواهر واللآلئ وغيرها من ألوان الزينة والحلي بيد أنها قد بُهرت بما بشاطِئَيِ النيل من الحلى فقد أخذت تقبس منها وتسرق ، والوصف بالسرقة للملكة بلقيس على ما كانت عليه فيه تجنٍّ واضح من الشاعر الذي يبدو أن القافية هي التي اضطرته إلى مثل هذا التعبير المجافي لسياقات الملوك العظام من أمثال بلقيس 0

لقد تم استدعاء بلقيس في النماذج السابقة إما لارتباطها بالجمال الأنثوي الذي رأيناه في سياقات الغزل ، وإما لارتباط موضوع الأبيات بما اقترن ببلقيس في قصتها من دوالّ كالصرح والقصر ، أو ارتبط بها بطريق غير مباشر كالريح التي ارتبطت بلسيمان عليه السلام ، وهو يستدعي بلقيس ، على أن هذا الاستدعاء لا يقف عند سياقات الغزل والوصف وحدهما ، وإنما قد يرتبط بسياقات أخرى ، من ذلك قول السري الرفاء في سياقات المزاح [ منسرح ] ([57]) :

فقد شبه سرعة مجيء إدريس للشاعر بهذا العاصي بسرعة آصف بن برخيا الذي حمل عرش بلقيس إلى سليمان عليه السلام ، ولم يحمل آصف العرش ، وإنما دعا دعوة فأجابه الله تعالى بأن حملت الملائكة عرش بلقيس إلى سليمان عليه السلام ، فلم يوظف الشاعر بلقيس هنا إلا لاستدعاء قصة العرش وسرعة المجيء به ليكون ذلك مشبَّهًا به لسرعة مجيء إدريس بالعاصي هذا ، ورغم مباشرة الاستدعاء أو التناص مع دلالة الآية الكريمة من سورة النمل ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ فإن المتلقي يستطيع استكناه الدلالات المرتبطة بالنص القرآني الكريم ، وقول الشاعر ، بحيث لا نغمط الشاعر القيمة الفنية للاستدعاء حتى وإن كان في سياقات المزاح التي ربما ألقت بظلالها الدلالية المتناقضة مع سطح النص  0

ومن مثل هذا التناص أو الاستدعاء المباشر في دلالته السطحية ما نراه في تلك الأبيات الثلاثة التي تنازعها أبو نواس وعلي بن الجهم وأبو الشيص الخزاعي [ بسيط ] ([58]) :

وقد نقلنا الرواية المثبتة هنا من من ديوان أبي نواس كما أشرنا في الهامش ، والذي ينسبها لأبي نواس يذكر أن مسلمًا ابن الوليد ـ صريع الغواني ـ لقي رسول أبي نواس بهذه الأبيات إلى عنان ، فأخذ منه الرسالة ومزقها ، ونسبها الجاحظ في حيوانه لأبي الشيص ، وجعلها في وصف الهدهد ([59]) وكذلك صاحب الحماسة البصرية ([60]) أما شارح المختار من شعر بشار ، فقد نسبها لأبي الشيص الخزاعي وجعلها في الاستكتام مستغربًا ذلك من أبي الشيص ([61]) ويبدو أن استكتام السر هو الدلالة التي ارتبطت بالهدهد الذي يُسمَّى " طير فيروز " في الفارسية وهو عندهم يسمى فيروز مُرْغ ، ومعناه بالعربية طير الظفر تيمُّنًا به ([62]) لما يرتبط به من الدلالات المثيولوجية كالتعرف على المسافات عندما ينقر الأرض فيعرف مسافة ما بينه وبين الماء ، ودلالته المستقاة من النص القرآني الذي يتناص معه في البيت الأخير ، وهي دلالة التوصيل ، حيث قام بدور ساعي البريد عندما حمل رسالة سليمان عليه السلام إلى بلقيس ، بعدما أخبره بسرها وقومها ليبرر غيابه عن موقعه عندما تفقد الطير 0

ولعل وظيفة التوصيل أو ساعي البريد مما يعضد دلالة الاستكتام عند صاحب شرح المختار من شعر بشار ؛ لأن من الصفات القارَّة في ساعي البريد الأمانة وحفظ الأسرار أو كتمانها ، وهو ما ارتآه فيه الشاعر الناصح لمحبوبته بألاَّ تأمن على سرها وسره سوى نفسها ونفسه ، أو الرسائل المطوية التي لا يفتضها سواهما ، وغير طير فيروز وهو الهدهد على ما أشرنا  0

ولم يكن الشغر الصوفي ببعيد من استدعاء شخصية بلقيس وتوظيفها في سياقات شعرية تغلب عليه الرمزية الصوفية بدلالاتها التي لا تنفصل من المعتقد الصوفي في الطبيعة والكون والإله والأعمال البشرية وغير ذلك مما ارتبط بتصور خاص للصوفية ، من ذلك ما نجده عند الشيخ الإمام محيي الدين بن عربي الصوفي الأشهر ، إذ يستدعي شخصية بلقيس لتكون في موقع المشبه به في سياقات التشابه الجمالي الذي لا يقف عند حد البدن ، والنظرة البشرية بقيودها الجسدية ، وإنما هي النظرة إلى الأعمال البشرية باطنها وظاهرها ، فيقول [ بسيط ] ([63]) :

فقد جعل الأعمال الظاهرة والباطنة أحبته وشبهها بالطواويس لجمالهنا ولاختلاف ألوانهن وحُسنهن ، وجعلها فاتكة الألحاظ من الجمال والحسن حتى أشبهت بلقيس مستدعيًا بها الحكمة التي ملكت على العبد ذاته " فقتلته عن مشاهدة ذاته ، وحكمت عليه ، فإذا رأيتها حسبتها فوق سرير الدرّ ، يشير إلى ما تجلى لجبريل والنبي عليهما الصلاة والسلام في بعض إسراءاته في رفرف الدر والياقوت عند سماء الدنيا فغشي على جبريل وحده لعلمه بمن تجلى له في ذلك الرفرف الدري وسماها بلقيس لتولدها بين العلم والعمل ، فالعمل كثيف والعلم لطيف كما كانت بلقيس متولدة بين الجن والإنس ، فإن أمها من الإنس وأباها من الجن ، ولو كان أبوها من الإنس وأمها من الجن لكانت ولادتها عندهم وكانت تغلب عليها الروحانية ، ولهذا ظهرت بلقيس عندنا " ([64]) وهو ما حكاه عن غيره بلفظ المجهول في الفتوحات المكية في سيلق حديثه عن الولي المتولد بين الروح والبشر الذي يحفظ الله به عالم البرزخ ، فيجعل من هذا النوع بلقيس ؛ لأنها مركبة من حنسين مختلفين : الجن والإنس ([65])

ولم يقنع باستدعاء بلقيس في هذا السياق الجمالي للأعمال الباطنة والظاهرة ، وإنما راح يرشح هذه الصورة باستدعاء الصرح الذي أمر سليمان ببنائه ، ونسبه للزجاج لأنه صرح ممرد من قوارير ، إذا ما مشت عليه بلقيس ، فإنما يرى المرء شمسًا على الفلك في أعلى عليين حيث نبي الله إدريس عليه السلام الذي رفعه الله تعالى مكانًا عليًّا حيث مقام الرفعة والعلو ، في استدعاء دلالي لنص الآية الكريمة ﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَنًا عَلِيًّا ﴾ [ مريم 57] ، ومن ثمة لم يكن التناص هنا قانعًا باستدعاء بلقيس ، وإنما هو يمتد ليشمل الأصداء الدلالية التي يستدعيها العلم بلقيس ، كما يستدعي في ذاكرة المتلقي فكرة الأصل النشوئي لبلقيس حتى نجدنا أمام رأي جديد يخالف ما شاع ـ بالخطأِ على نحو ما ذكرنا ـ من أباها إنسيٌّ وأمها جنية ، وهو ما رفضناه بما قدمنا له من أدلة توقفنا بها عند حدود النص القرآني الكريم ، مبتعدين من تهويمات المفسرين وخيالات المتخيلين 0

وإذا ما تركنا الشعر القديم والحديث في توظيفهما المباشر لبلقيس وسياقات مجيئها في أشعارهم التي تحدثنا عنها فيما سبق ، وانتقلنا إلى الشعر المعاصر ، فإننا سوف نجد حضورًا واضحًا لبلقيس عند بعض الشعراء المعاصرين الذين ربما كان أفقهم أوسع وتوظيفهم لها أقرب لمفهومات التناص في الفكر النقدي المعاصر ، ولعل مرثية نزار قباني لزوجته بلقيس الراوي التي قضت نحبها إثر الانفجار الهائل في السفارة العراقية ببيروت في الخامس عشر من ديسمبر 1981م ، أقول لعل هذه المرثية المطولة قد جعلت من بلقيس التراثية أيقونة شعرية لبلقيس المعاصرة ، هذه التي ملكت على زوجها الشاعر المكلوم كل جراحه وآلامه ، فكانت مرثيتها من أشهر مراثي الزوجات في الشعر العربي جميعه قام الشاعر بتكرار اسمها اثنتين وخمسين مرة لتؤنسه وتلهمه ، وتحضره ولا تغيبه ، ويتعطر فمه بذكرها مسترجعًا شريط حياتهما معًا ، ومستعيدًا مكانتها ليس عنده وحده ، وإنما عند الجماهير التي صارت فيما بينهم مليكتهم المحببة التي يدمجها في بلقيس التراثية من خلال مملكتها فيقول ([66]) :

بلقيس 00

أيتها الشهيدة 00 والقصيدة 00

والمطهرة النقية 00

سبأ تفتش عن مليكتها

فردي للجماهير التحية 00

فاستدعاء سبأ ومليكتها والتحية المتبادلة بين الملكة والجماهير وهو ما يدل على مكانة الملكة بين جماهير شعبها ، إنما هو تناص دلالي ودلالة الآية الكريمة : ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾ [ النمل 32 ] هذا مع بلقيس التراثية ، أما بلقيس المعاصرة ، فيبدو أنها كانت ذات مكانة كبيرة عند الناس جميعهم ، وإلا لما استدعى نزار هذا المشهد الملكي لبقيس التراثية في سياق مرثيته لزوجته 0

وإذا كان نزار قباني قد رثى معشوقته الزوجة بلقيس ، فإن عبد الله البردوني يتغزل في معشوقته اليمن التي يدعوها أرض بلقيس ، ويجعلها عنوانًا لديوانه الأول ، وهو عنوان أولى قصائده التي يفتتحها به ويختمها ، فهو يقول في أولها [ بسيط ] ([67]) :

حيث ينسب إليها فضلها عليه وعلى شعره وألحانه وأنغامه وأغانيه ، فهي فاتنته ومنها الفتون والعشق والسهر ، ويختمها بقوله [ 1/ 58 ] :

بل هي بلقيس نفسها ، وهي أم الحضارات بماضيها الزاهي ، وحاضرها الذي يقوم فيه أبناؤها ببناء الوطن الممجد فوق مأرب الخالدة ، وبناء آلاف الصروح المرمرية ، يقول [ كامل ] ([68]) :

وَإذا كان في بيته الأول ينادي بلقيس ـ اليمن ـ متغاضيَا عن دالة النداء ؛ ليكون الاسم المحبب أو شيء يلفظه فمه في دلالة واضحة على العشق المتأصل في الذات ، فإن استدعاء بلقيس في سياق الاستعارة التصريحية عن اليمن ، إنما هو استدعاء لكل الدوال المعظمة لليمن مثلما كانت دالة على عظمة بلقيس ، ومن ثمة كان النداء التالي لها بأنها أم الحضارة وأصلها دافعًا ليقول لها بيته الأخير الذي يستمد من أصالة حضارتها بناء وطن على هامة مأرب ، ليستدعي بهذه الأخيرة سد مأرب ودلالته على الحضارة الزاهية وعظمتها ، ويستدعي من بلقيس وقصتها مع نبي الله سليمان عليه السلام الصرح الذي خانت براعة صنعه ودقة صوغه عقلية بلقيس عن إدراك الفرق ما بينه وبين الماء ، حتى كشفت عن ساقيها عندما حسبته لجة 0   

كما يسميها أم بلقيس التي يغني لعينيها بهذا الديوان الذي عنون له بهذا العنوان الدالّ " لعينيْ أمّ بلقيس " على تملكها إياه بالكُليَّة حتى إنه ليقول لها [ مجزوء الوافر ] ([69]) :

فهو من أجل عينيها يقدم لها كل فتوحاته وراياته وأنقاضه وأجنحته وأقماره ووداعه وأشواقه ، بل هي لا تفارق مخيلته في تشريقه وتغريبه ؛ لأن إليها تنتهي روحه ومنها بداياته ونهاياته 0         

ويستدعي محمود درويش بلقيس من خلال أرضها : أرض بلقيس ، ولكنه يسلط الدلالة على الهدهد المرتبط ببلقيس فيقول :

هو القلب ضَلّ قليلاً وعاد ، سألتُ الحبيبةَ في أيّ قلبٍ

أُصِبْتُ ؟ فمالت عليه وغطت سؤالي بدمعتها 0 أيها القلب 00

يا أيها القلب كيف كذبتَ عليّ وأوقعتني عن صهيلي ؟

لدينا كثير من الوقت يا قلب فاصمدْ

ليأتيك من أرض بلقيس هدهدْ

بعثنا الرسائل

قطعت ثلاثين بحرًا وستين ساحل

وما زال في العمر وقت لنشرد  ([70])

إن هذا القلب الضالّ العائد بعد ضلالته ليكذب على صاحبه ويوقعه عن صهيله ، ورغم ذلك فهو يرأف بهذا القلب وينصحه بالصمود ليأتيه الفرج من أرض بلقيس حيث الهدهد رمز البشارة التي ارتبطت به في المخزون الجمعي ، عندما يبشر بوجود المياه ، أو البشارة التي ارتبطت به في المخزون الديني ، من حيث البشارة بدخول بلقيس وقومها في ديانة سليمان عليه السلام ، بل وزواجه بها في بعض الروايات ، ومن ثمة فالبشارة التي يحملها النص الشعري متضمنة في الرد على الرسائل التي بعثها الشاعر المؤمل فيما تبقى من العمر ليشرد هو وقلبه 0

ولعلنا بعد هذا التجادل الرؤيوي بين التاريخ والدين والشعر حول شخصية بلقيس نستطيع أن ندرك كيف تجاورت الرؤى بحيث وجدنا التاريخ يهوم بتهويمات يسمها الخيال بميسمه ، بحيث يبدي بلقيس على أنها نتاج زواج الإنسي بالجني ، لتجمع بين صفات الجنسين من حيث الجمال والذكاء والحكمة والحنكة والعظمة ، وهذه الأربعة الأخيرة كانت مستنبطة من النص القرآني ، وكانت الرؤية الشعرية مزيجًا من هذه الرؤى الدينية والتاريخية ، وقد اختلفت التوظيف الفني لها ما بين العمق والسطحية أو المباشرة  0 

دكتور ياسر عبد الحسيب عبد السلام يوسف رضوان      

[1] - وهب بن منبه : كتاب التيجان في ملوك حمير – ص 144-146- ط2/ 1979م – مركز الدراسات والأبحاث اليمنية – صنعاء  0

[2] - دعبل بن علي : وصايا الملوك وأبناء الملوك من ولد قحطان بن هود – ص 84- 85 – تحقيق د/ نزار أباظة – ط1/ 1997م – دار البشائر – دمشق ، دار صادر – بيروت  0

[3] - محمد بن حبيب : المحبر برواية السكري – تصحيح د/ إيلزة ليختن شتيتر ص 367- دار الآفاق – بيروت  0 

[4] - ابن قتيبة : المعارف – تحقيق وتقديم د/ ثروت عكاشة ص628- ط4/ 1981م – دار المعارف  0

[5] - المسعودي : مروج الذهب ومعادن الجوهر – تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد 2/75 – ط5/ 1973م- دار الفكر  0

[6] - الثعلبي : عرائس المجالس ص 328- طبع المطبع الحيدري بالهند – بمبيْ 1295ه  0

[7] - الثعلبي : تفسير الكشف والبيان – تحقيق الإمام محمد بن عاشور 7/ 202- ط1/ 2002م – دار إحياء التراث العربي – بيروت 0

[8] - ابن عساكر : تاريخ مدينة دمشق – تحقيق محب الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمروي 69/ 69- 70 – ط1/ 1998م- دار الفكر – بيروت 0

[9] - الحميري : خلاصة السيرة الجامعة لعجائب أخبار الملوك التبابعة – تحقيق علي بن إسماعيل المؤيد ود/ إسماعيل بن أحمد الجرافي ص74- ط2/ 1978م – دار العودة – بيروت 0

[10] - ابن الأثير : الكامل في التاريخ – تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي 1/176- 181- ط1/ 1987م – دار الكتب العلمية 0

[11] - ابن كثير : البداية والنهاية – تحقيق د/ عبد الله بن عبد المحسن التركي 2/ 330-331-  ط1/ 1997م- هجر – القاهرة

[12] - السابق ص 336  0

[13] - الجاحظ : رسائل الجاحظ – تحقيق وشرح عبد السلام هارون – 2/ 371- مكتبة الخانجي – القاهرة  0

[14] - سِفر الملوك الأول – الإصحاح العاشر الآيات 1-13- كنيسة السيدة العذراء بالفجالة  0

[15] - الإمام مجاهد بن جبر : تفسيره – تحقيق د/ محمد عبد السلام أبو النيل ص 519- ط1/ 1989م – دار الفكر الإسلامي – القاهرة 0

[16] - د/ محمد حسين الذهبي : التفسير والمفسرون 1/ 105- دار إحياء التراث العربي – بيروت  0

[17] - عزيز عبد الرحمن عبد الأحد : الإمام قتادة بن دعامة السدوسي ومروياته في كتب التفسير من أول سورة الإسراء إلى نهاية سورة فاطر – جمع ودراسة وتخريج 2/ 507- 508- رسالة ماجستير – كلية الدعوة وأصول الدين – جامعة أم القرى 1413ه  0

[18] - د/ محمد حسين الذهبي : التفسير والمفسرون ـ سابق ـ 1/125- 126  0

[19] - الإمام عبد الرزاق الصنعاني : تفسير القرآن – تحقيق د/ مصطفى مسلم محمد 2/ 80- ط1/ 1989م- مكتبة الرشد – الرياض 0

[20] - مقاتل بن سليمان : تفسيره – دراسة وتحقيق د/ عبد الله محمود شحاته – 3/ 301- ط2/ 2002م – مؤسسة التاريخ العربي – بيروت 0

[21] - الماوردي : النكت والعيون أو تفسير الماوردي – راجعه وعلق عليه السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم 4/ 203- دار الكتب العلمية – بيروت 0

[22] - الزمخشري : الكشاف وفي حاشيته كتاب الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال  لابن المنير الإسكندري 3/ 374- ط1/ 1997م – دار إحياء التراث العربي – بيروت  0

[23] - السدي : تفسير السدي الكبير – جمع وتوثيق ودراسة د/ محمد عطا يوسف – ص 371- ط1/ 1993م – دار الوفاء – المنصورة – مصر 0

[24] - الزجاج : معاني القرآن وإعرابه – شرح وتحقيق د/ عبد الجليل شلبي 4/ 122- ط1/ 1988م- عالم الكتب – بيروت 0

[25] - الطبري : جمع البيان عن تأويل القرآن 19/ 169- دار الفكر – بيروت 1984م  0

[26] - البخاري : الضعفاء الصغير ، ويليه الضعفاء والمتروكين للنسائي – تحقيق محمد إبراهيم زايد ص 51 ، 189- ط1/ 1986م – دار المعرفة – بيروت 0

[27] - السمرقندي : تفسير بحر العلوم – تحقيق وتعليق الشيخ علي محمد معوض ورفيقيه 2/ 493 – ط1/ 1993م – دار الكتب العلمية – بيروت  0

[28] - السابق 2/ 498  0

[29] - السابق : الموضع نفسه  0

[30] - عبد القاهر الجرجاني : درْج الدُّرر في تفسير الآي والسور – تحقيق وليد بن أحمد بن صالح الحسين ، وإياد عبد اللطيف القيسي 3/ 134- ط1/ 2008م – سلسلة إصدارات مجلة الحكمة – بريطانيا – مانشستر ، والمدينة المنورة 0

[31] - السمعاني : تفسير القرآن – تحقيق أب بلال غنيم بن عباس – 4/ 89 - ط1/ 1997م – دار الوطن – الرياض 

[32] - السابق 4/ 101- 102   0

[33] - ابن العربي : أحكام القرآن – راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلق عليه محمد عبد القادر عطا – 3/481-  ط3/ 2003م – دار الكتب العلمية – بيروت 0

[34] - ابن الجوزي : زاد المسير في علم التفسير – تخريج وحواشي أحمد شمس الدين – 6/ 67- ط1/ 1994م – دار الكتب العلمية 0

[35] - الرازاي : تفسير الفخر الرازي : المشتهر  بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب 24/ 200- 201- ط3/ 1985م – دار الفكر – بيروت 0 

[36] - القرطبي : الجامع لأحكام القرآن – راجعه وضبطه د/ محمد إبراهيم الحفناوي ، وخرج أحاديثه د/ محمود حامد عثمان 10/ 295- ط1/ 1994م- دار الحديث – القاهرة  0

[37] - القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ـ السابق ـ 13/ 192  0

[38] - أبو نواس : ديوانه – تحقيق إيفالد فاعنر 3/ 199- ط1/ 1988م – دار النشر فرانزشتاينر فيسبادن – شتوتجارت – ألمانيا 0

[39] - ديوان أبو نواس – تحقيق فاغنرـ السابق ـ 3/ 423  0

[40] - السابق 5/ 45- 46  0

[41] - د/ علي البطل الصورة في الشعر العربي حتى أواخر القرن الثاني الهجري ص 44- ط2/ 1981م – دار حراء للنشر والتوزيع    

[42] - ديوان أبي نواس حققه وضبطه وشرحه أحمد عبد المجيد الغزالي ص 312- دار الكتاب العربي 1992م 0

[43] - ابن الرومي : ديوانه – تحقيق د/ حسين نصار 1/ 135 – ط2/ 1993م – الهيئة المصرية العامة للكتاب 0

[44] - السابق 3/ 1211  0

[45] - ديوان أبي تمام بشرح التريزي – تحقيق محمد عبده عزام 2/ 264- ط4/ 1983م – دار المعارف – القاهرة  0

[46] - أبو الشيص الخزاعي : ديوانه وأخباره صنعة عبد الله الجبوري ص 72- ط1/ 1984م - المكتب الإسلامي – بيروت 0

[47] - ابن الساعاتي : ديوانه – تحقيق ونشر أنيس المقدسي 1/ 130 – منشورات كلية العلوم والآداب – الجامعة الأمريكية – بيروت 1938م 0

[48] - ديوان أبي نواس – تحقيق فاغنر 1/ 65  0

[49] - ديوان ابن الرومي 3/ 1254  0

[50] - البحتري : ديوانه – تحقيق وشرح وتعليق حسن كامل الصيرفي 4/ 2416- 2417- ط2/ 1977م – دار المعارف  0

[51] - أبو الحسن الشمشاطي : الأنوار ومحاسن الأشعار – تحقيق د/ السيد محمد يوسف – راجعه وزاد في حواشيه عبد الستار أحمد فراج 2/ 78- مطبعة الكويت 1977م  0

[52] - الشمشاطي : الأنوار ومحاسن الأشعار ـ السابق ـ 2/ 94  0

[53] - أحمد شوقي : الشوقيات 2/ 107- المكتبة التجارية الكبرى – مصر 1970م  0

[54] - أحمد شوقي : الشوقيات 2/ 46- 47  0

[55] - السابق 2/ 3  0

[56] - الشوقيات 2/ 68  0

[57]  - السري الرفاء : ديوانه – تقديم وشرح كرم البستاني ص 262 – ط1/ 1996م – دار صادر – بيروت  0

[58] - ديوان أبي نواس – تحقيق فاغنر ـ سابق ـ 1/ 34- ديوان علي بن الجهم – تحقيق خليل مردم بك ص 151- 152- ط2/ 1980م – دار الآفاق الجديدة – بيروت  ، ديوان أبو الشيص الخزاعي ـ سابق ـ ص 152- 153  0

[59] - الجاحظ : الحيوان – تحقيق وشرح عبد السلام هارون 3/ 518- 519- ط2/ 1965م – الخانجي – القاهرة  0

[60] - البصري : الحماسة البصرية – تحقيق وشرح د/ عادل سليمان جمال 3/ 1515– ط1/ 1999م – الخانجي 0

[61] - اسماعيل بن أحمد التجيبي شرح المختار من شعر بشار للخالديين – تعليق وتصحيح السيد محمد بدر الدين العلوي ص 157- لجنة التأليف والترجمة والنشر 0

[62] - ديوان أبي نواس ـ السابق ـ 1/36  0

[63] - ابن عربي : ديوان ترجمان الأشواق – اعتنى به عبد الرحمن المصطاوي ص 30-31 – ط1/ 2005م – دار المعرفة – بيروت 0

[64] - ابن عربي : ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق – ناظر طبعه – محمد سليم الأنس ص 9 – الطبعة الأنسية – بيروت 1312ه 0

[65] - ابن عربي : الفتوحات المكية – تحقيق وتقديم د/ عثمان يحيى 11/ 327- الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987م 0

[66] - نزار قباني : الأعمال الشعرية الكاملة 4/ 19- ط2/ 1998م – منشورات نزار قباني – بيروت  0

[67] - عبد الله البردوني : ديوانه – الأعمال الشعرية 1/57- ط1/ 2002م – إصدارات الهيئة العامة للكتاب – صنعاء 0

[68] - ديوان البردوني ـ السابق  1/ 79 0

[69] - السابق 1/ 597  0

[70] - محمود درويش الأعمال الأولى 3/ 45- 46 – ط1/ 2005 – رياض الريس للكتب والنشر – بيروت 0

وسوم: العدد 715