لا «إلياذة» لنا… ولا «أوديسا»!

تفاحة ذهبية مكتوب عليها «للأجمل» ألقتها «إريس» إلهة النزاع، بين المدعويين في عرس «ثيتس» إلهة البحار، لتثير النزاع بينهم، لأنها لم تُدع إلى ذلك العرس، وبالفعل نشب النزاع بين الإلهة «هيرا و»أثينا» و»أفروديت» أيهن أحق بالتفاحة الذهبية، وحسم الإله «زيوس» الأمر، فلجأ إلى تحكيم أجمل البشر من الرجال «باريس بن بريام» ملك طروادة.

هو جزء من مضمون الملحمة الأسطورية المعروفة باسم «الإلياذة» للشاعر هوميروس المشكوك أصلاً في وجوده، شأنها شأن سائر قصص الخيال التي اكتظ بها الأدب الغربي، منذ العصور الغابرة وحتى اليوم، وأصبحت السمة الغالبة والعلامة المميزة له، ثم لهث وراءها المسلمون العرب في العهود المتأخرة، بتأثير داء التقليد الأعمى.

كانت ولا تزال الأسطورة والقصة الخيالية عماد الأدب الغربي، وغالباً ما ترتكز على المعتقدات الوثنية، وتفسر الظواهر الكونية على ضوئها، وتنسبها إلى آلهة تتصارع فيما بينها، بل وتدخل في علاقة نزاع وصدام مع البشر.

ومن الإلياذة والأوديسا، إلى الكونت دراكولا القاتل السفاح الذي تحول في الأدب الغربي إلى مصاص للدماء، إلى روايات الرعب القوطي وصرير الأبواب، مروراً بقصص الخالدين الذين لا يموتون إلا بقطع الرؤوس، وحكايات المصابيح التي يخرج منها الجن…. وتضاهيها في القيمة أساطير الشرق الساحر، جلجاميش في العراق القديم، وإيزيس وأوزوريس في عهد فراعنة المصريين، وجارودا في الهند، وأسطورة آديري في ماليزيا…

تراث يُروى ويُنمَّى بالأدب المعاصر، يحشد ألواناً من الخرافات المتعلقة بالنجوم وأسرار الأرقام، وتعاويذ طرد الأرواح الشريرة، والقوى البشرية الخارقة المتصلة بالألهة بالأنساب، ربما جعل الكثيرين في أمتنا يتساءلون: أين نحن من هذا اللون من القصص، لماذا نأت حضارتنا الإسلامية عن مثله؟

الإجابة الوحيدة من قِبل عشاق التبعية: أن خلو التراث الإسلامي من قصص الخيال والأساطير علامة تخلف ورجعية وجمود. وكان الأحرى أن يتساءل هؤلاء: لماذا أعرض المسلمون عن ترجمة هذه الأساطير في العصور الزاهية إبان نهضة الترجمة؟

إن هذه الأساطير والقصص الخيالية انعكاس لمحاولات سد الفراغ النفسي لدى أصحابها تجاه القضايا التي يخشونها ولا يعلمون مصدرها، والتي نشأت بسبب انعدام تصور واضح ومقنع لعلاقة الإنسان بالكون، وصلة الأرض بالسماء. لقد تسللت نزعة الإنسان الغربي في الارتباط بالأسطورة إلى الباحثين في علوم النفس، فترى «فرويد» يقيم نظريته على أسطورة أوديب، ويقتبس منها رموز نظرياته في الغريزة الجنسية والعقل الباطن. أما في ظل الحضارة الإسلامية، فلم يُعِر العرب تلك الأساطير اهتماماً يذكر، لإعراضهم عما اعتبروه لغواً لا ينفع، إضافة إلى الرغبة في الحفاظ على سياج المعتقدات الإسلامية من لوث الأفكار والتصورات الوافدة من الشرق والغرب.

كان السبب هو تَشبُّع العقلية الإسلامية بتصورات واضحة عن علاقة الإنسان بهذا الكون، وتفسير الظواهر الكونية تفسيراً يقبله العقل السليم، فلم يقع المسلمون في شِبَاك الحيرة تجاه الغيبيات، ولم يكونوا أسارى الفراغ النفسي الذي يدفع صاحبه إلى التعلّق بالخيال.

رغم أن المنهج الإسلامي يعتمد جوهره على الإيمان بالغيب، إلا أنه حَمَى العقل البشري من الزلل أمام الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة)، فكشف حقيقة الملائكة والجن التي حارت فيها الأفهام، ووضع تصوراً شافياً لطبيعة النجوم والكواكب وعلاقتها بالإنسان، فلا هي تملك النفع والضر، ولا هي ترتبط بالمقادير.

وقضى على الأساطير المتعلقة بأسباب المرض والعلاج منه، فبطلت الطقوس الكهنوتية القديمة التي تزعم طرد الأرواح الشريرة التي هي دائماً عندهم سبب الأمراض، ووضع الإسلام مبدأ أن: لكل داء دواء إلا الموت.

ويوم أن مات «إبراهيم» ابن النبي محمد، وانكسفت الشمس، وقع في أنفسهم شيء من ميراث الجاهلية، وهي ارتباط كسوفها بموت عظيم، فقال النبي: (إن أهل الجاهلية كانوا يقولون إن الشمس والقمر لا ينخسفان إلا لموت عظيم، وإنهما آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوّف الله به عباده). فقد حمل الإسلام إلى الناس توجيهات النظر في خلق الله والتأمل في عظمته، فهداهم بذلك إلى بناء المنهج العلمي التجريبي الذي نشأت عليه الحضارة الحديثة.

امتازت القصة في الأدب الإسلامي في العصور الزاهرة بالواقعية، وكانت بمثابة أحداث منقولة، واشتهرت تلك الحكايات في كثير من الأحيان بالاهتمام بالعنعنة (فلان عن فلان ….). وحتى القصص الوهمية التي وردت في كتب التراث التي تُجسِّد حوارات بين الحيوانات على غرار كتاب الأذكياء لابن الجوزي، فإنما تُساق للعظة والتقريب، وتنقل المنطق البشري بصورة لا تُلَبّس على الناس تصوراتهم، فمن يقرأ يعلم يقيناً أن الحيوانات لا تتحدث، ويلتقط الغاية والعِبْرة. الأساطير قد أعرضت عنها طبيعة العرب المسلمين، التي تستمد مقوماتها من قيم الشهامة والكرامة والفروسية والكرم والمروءة ونجدة الملهوف، فلم يكن المسلمون كغيرهم ممن يعالجون الواقع المر بالتعلق بالأساطير والخيال، وإنما كانوا يعرفون وجهتهم، ويدركون ما يمكن فعله وما لا يمكن فعله.

ففي العزم والتصميم على بلوغ الهدف يقول شاعرهم:

إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب جانبا

وفي تجاوز ما تحقق أنه من المستحيلات إلى التركيز على الممكن، يقول آخر:

إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع

في حقيقة الأمر، يعد خلو التراث الإسلامي من قصص الخرافات محمدة لا منقصة، ولم تتجه العقلية الإسلامية إلى محاكاة الحضارات الأخرى في هذا الجانب إلا بعد أن دب الضعف، وفقدت الشخصية العربية المسلمة بوصلتها، وأصابها الفراغ النفسي، ومن ثم صارت تنشد ضالتها في نسج الأساطير. وحتى روائع التراث الشعبي التي توارثتها الأجيال في الشعوب العربية، كالسيرة الهلالية، كانت عبارة عن ملحمة أسطورية في حقبة الدولة الفاطمية العبيدية التي كانت سيطرتها مظهراً من مظاهر الضعف في الأمة. افتُتِنت الأجيال بالأساطير والخرافات، وصارت قصص الخيال تتصدر المبيعات في العالم الإسلامي العربي، وأصبحت الشخصيات الأسطورية الخارقة (سبايدر مان، بات مان، سوبر مان…) هي الأكثر قرباً من الطفل العربي بما لها من مخاطر وسلبيات غير خافية في المجال التربوي.

التاريخ الإسلامي يزخر بالشخصيات والأحداث الواقعية الثابتة، وقصص البطولات العظيمة، لكنها تحتاج إلى القالب الروائي القصصي البعيد عن السرد التاريخي المجرد، كما تحتاج المكتبة الأدبية إلى القصص الوهمية التي تعكس قيماً واقعية، وتقدم للقارئ والمشاهد شيئاً هادفاً يتفق مع هويته ومنظومته الأخلاقية.

إننا بحاجة إلى أدب يدفع للبناء، لا أن يكون مهرباً من الواقع، ولا أن يكون تغييباً للعقول في متاهات الخيال والأساطير والخرافات.

وسوم: العدد 718