شعـر أحمد مطر بين واقعية السرد وجمالية التصوير

أحمد الطيب رحماني

يرى أغلب النقاد أن الشعر العربي شعر غنائي يفتقر إلى الحركية والدرامية التي تنتج عن سرد الأحداث الواقعية والخيالية كما تجلت في أشعار عالمية أخرى (الشعر اليوناني القديم مثلا)، غير أن كثيرا من نصوص الشعر العربي القديم والحديث تؤكد خلاف ذلك بما أنها جعلت من السرد مادة عضوية لها، واشتملت على قصص وأحداث مستقاة من واقع الشعراء أو من خيالهم.

وغنائية الشعر العربي ميزة تجعله أمكن من أداء وظيفته الإنسانية ببعث شعور الإنسان في مختلف أحواله النفسية من الفرح والحزن والأمن والخوف...غير أن الحكائية ملح لابد منه لارتباطها بذاكرة الشاعر وخياله، وربما لم يجد الشاعر بدا من التعبير عن بعض المضامين غير هذه الخاصة يستعيرها من الأجناس ويصوغها قصة أو حكاية شعرية.

وعلى خلاف الشاعر العربي القديم أتاح التطور الذي عرفته القصيدة العربية الحديثة لسلفه كثيرا من إمكانات السرد مثل تجاوز الأشكال الشعرية الجديدة لكثير من الضوابط العروضية مما أتاح نفسا يتلاءم مع انسيابية السرد، وظهور تطورات فكرية وسياسية واجتماعية بالعالم العربي خلال النصف الثاني من القرن الماضي الميلادي ومطلع القرن الجاري حتمت على الشعراء مواكبتها والتعبير عنها...ونجد صدى هذا الذي ذكرنا واضحا لدى عدد من الشعراء المعاصرين، ومنهم الشاعر العراقي أحمد مطر الذي تجلت في شعره مرارة الواقع العربي المليء بالمتناقضات والعلل سردا تسوده مسحة من السخرية والنقد اللاذع لا تكاد تخلو منه قصيدة من قصائده التي وسمها باللافتات بما يشي بطبيعتها التصويرية بإيجاز لا يخلو من الإيحاء الخفي تارة والإعلان الصريح تارة أخرى، فكأن كلا منها يسرد قصة الإنسان العربي بصيغة الجمع أو المفرد.

وقد جمع مطر شعره في مجلد واحد باسم "الأعمال الشعرية الكاملة"، واختار أن يصدره بإعلان صُراح للقطيعة مع الكلمة الرخيصة التي تركن إلى الظالم المستبد مستنشدة عطاءه وجوده، راضية وضع السكوت عن الحق، مقرة حال الذل والهوان...لكن شاعرنا مستعد لأداء ثمن الصدع بالحق ولو أودى به إلى القتل والتنكيل بالأخص إذا فتح نافذة يتنسم منها غيره عزة وإباء...

سبعون طعنة هنا موصولة النزف

تبدي..ولا تخفي

تغتال خوف الموت في الخوف

سميتها قصائدي

وسمها يا قارئي: حتفي!

وسمني منتحرا بخنجر الحرف.

لأني، في زمن الزيف

والعيش بالمزمار والدف..

كشفت صدري دفترا

وفوقه

كتبت هذا الشعر..بالسيف!

هذه هي إذن قصة الفن في العالم العربي الحديث، المقربون من أصحابه من جملة من يسبح في فلك الأمواج السائدة مهما كانت مخلة بكل القيم الشريفة، لا تنطق بتغيير ولا ترفض وتعارض وتنتقد...وتكتفي بالانضمام إلى جوقة التصفيق لموكب الحاكم ولو كان نظاما مستبدا..ولذا لما أعلن أحمد مطر القطيعة مع هذا الواقع نال ما نال من الحصار والتعتيم والإبعاد والنفي...

وعلى هذا المنوال الذي صدّر به الشاعر أعماله، جرت معظم لافتاته يغلب عليها السرد القائم على الصور الفنية التشخيصية أو المباشرة التقريرية دون أن تنزع عنها لباس الجمال الشعري المتأتي من قدرة هائلة على تصور الحدث، وتجسيده في ما يشبه قصة المثل التي تجري على الألسن فتصير بها الركبان وتخلدها الأقلام.

ففي اللافتة الأولى عمد الشاعر إلى حالة لا يغادرها بصر إنسان عربي عاقل يلفحه لظاها بالصباح والمساء وهو يمر بالشارع، أو يطالع الأخبار على الشاشات أو المواقع.. جالسا أو ماشيا أو راكبا...إنها حالة النفس العربية التي فقدت عزتها وأنفتها فدُنِّست كرامتها وانحدرت نحو الدناءة والخسة بلا وخز ضمير أو رشد عقل وقلب...هذه الحال التي أضحت مرئية مجسدة لدى شريحة واسعة من المجتمع العربي اليوم ساقها الشاعر قصة واقعية شعرية مؤثرة جاعلا من ضمير المتكلم شاهد عيان:

في مقلب القمامه

رأيت جثة لها ملامح الأعراب

ومسرح الحدث (أو الحالة) دال بوضوح على مرارته وقسوته (مقلب القمامة) والقوى الفاعلة في هذا الحدث مرتبطة بها صفة المكر والخديعة والافتراس والتنكيل المطلق من دون شفقة ولا رحمة (النسور والدِّباب)، وتَحبِك ذلك سردا صيغة الماضي (رأيت- تجمعت ـ كانت) بما يجعل من الكتابة الشعرية أشبه بآلة تصوير عمادها الخيال الشعري المرهف بمشاعر النفس البشرية وجمال الكلمة المنتقاة بدقة وعناية.

لقد ماتت الكرامة العربية وأُبيحت بفعل كثير من العرب الذين ركنوا إلى المذلة، وتكالبوا على طاعة عمياء لأهوائهم، وتنازلوا عن قيمهم ومبادئهم، وأسلسوا القياد لأعدائهم...

وفي اللافتة الثانية الموقعة بعنوان "قطع علاقة" صورة لواقع حرية الرأي والتعبير بالوطن العربي، وضحيتها الفن الذي غدا محاصرا لا يقبل منه إلا ما كان مدحا وتملقا للزمرة الحاكمة، فإذا أراد فنان حر أن يبدع خارج هذا السرب نال عقابه قهرا وإبعادا وحصارا بدعوى أن التدخل في السياسة ليس من شأن الفن، وهل الفن إلا تعبير عن رأي حر أو شعور وإحساس؟

وضعوا فوق فمي كلب حراسة

وبنوا للكبرياء

في دمي، سوق نخاسه

وعلى صحوة عقلي

أمروا التخدير أن يسكب كاسه

...

وفي هذه اللافتة أيضا تكتمل أركان السرد المستمد من الواقع الممزوج بلمسة الخيال ومن أهما:

الشخوص: شخصية محورية مجسدة في ضمير المتكلم المفرد فهو ناطق بذاته مشخص في صورة إنسان عاقل شاعر: فأنا الفن، فهو مفعول به، وتماهي هذه الشخصية مع ضمير المتكلم يوحي برغبة أكيدة من الشاعر للتعبير عن مرارة الشعور بالانتماء إلى فئة من الفنانين الذين اختاروا طريقا صعبا لكنه الطريق الصحيح الذي يضمن العزة والكرامة، ويحفظ الفن من الابتذال، إنه طريق الفن الحر الذي لا يماري ولا يداهن الظلمة والمستبدين من أبناء الوطن وغيرهم، رغم ما يمكن أن ينال أصحابه من صنوف الأذى والقهر.أما الشخصية الفاعلة فيدل عليها ضمير الجمع الغائب (وضعوا، بنوا، أمروا...) بما يوحي بتسلط الجماعة على مفرد بحيث تكون الغلبة للكثرة التي تملك القوة والسلطة والمال وكل ما من شأنه أن يفتل في حبال الاستبداد المطلق الذي تشير إليه الأفعال: وضعوا، أمروا، بنوا...إلى كون هذه الجماعة تملك القدرة على التخطيط للفعل وتنفيذه دون رقيب ولا حسيب، وهي تعرف كيف ومتى تختار ضحاياها ممن تسول لهم أنفسهم التغريد خارج جوقة الحاكم وأعونه...

الحدث: مجريات وأطوار التضييق على الفن وإفراغه من محتواه وجوهره المتمثل في التعبير الحر عن الفكر والشعور، وتجسَّد سرد هذا الحدث في جمل فعلية مصدرة بأفعال الماضي: وضعوا فوق فمي كلب حراسه ـ بنوا للكبرياء في دمي سوق نخاسة ـ أمروا التخدير أن يسكب كاسه ـ شيدوا المبنى وقالوا أبعدوا عنه ساسه...فقد تطورت مجريات الحدث من الرقابة على الكلمة إلى النيل من الكبرياء وتخدير العقل لإلهائه وصولا إلى امتهان الفن بقوة السلاح وجعله في خدمة المستبد حتما، هذا الأخير قد يشيد المباني الفاخرة من المسارح والقاعات المؤثثة، ويكتب على واجهاتها بالخط العريض الواضح عناوين رنانة لكن دون أن يسمح لها بالهمس بكلمة في السياسة.

المكان والزمان: العبارات المصدرة بحروف الجر والظروف المكانية التي لا تنفك عن بعض ما يتعلق بشخصية المتكلم من مثل: فوق فمي، في دمي، على رأسي، على صحوة عقلي، على رأسي، على أوتار جوعي...تدل على أن الجلاد اختار أن يخوض معركة غير متكافئة على أرض ضحيته ليقضي على جوهرها قضاء مبرما حتى لا تقوم لها قائمة، وما دام الزمان مفتوحا على الماضي فهذا يؤشر على أن تجربة المعاناة التي يخوضها الفن لا تقتصر على العصر الحالي بل هي قديمة قدم الفن نفسه، وإنما كانت أكثر مرارة في التاريخ العربي الحديث، واشتد أوارها في القرن الماضي تبعا لضراوة العدوان الداخلي والخارجي الذي يواجه الوطن العربي.

وهكذا يمضي السرد في لافتات أحمد مطر ممزوجا بالصورة الفنية القائمة على التشخيص المستمد من الواقع الملموس حسا أو معنى، ففي اللافتة الأولى تجسدت الكرامة الآدمية (وهي معنوية) في صورة جثة (مادة) ذات ملامح عربية (رأيت جثة لها ملامح الأعراب)، والقوى الخارجية المتكالبة للنيل من الكرامة العربية تشبه الكواسر والضواري في التداعي إلى افتراس الجثث وكلاهما مادي مع اختلاف في الخصائص الجوهرية (الإنسان / الحيوان)، فالإنسان مفروض فيه احترام آدمية أخيه الإنسان بينما هو يخرج عن طبيعته الجوهرية الإنسانية إلى طبيعة حيوانية، فيسود قانون الغاب ومنطق الغلبة للأقوى كما هو حال العالم اليوم، وتلك قصة تاريخ الإنسانية تجلت أقوى فصولها في عصر التقدم والحداثة.

والشاعر يمتلك قدرة هائلة على التصوير الدقيق بما يسمح بتجميع أكبر قدر ممكن من الإيحاءات والدلالات، ويجعل اللافتات مساحات واسعة مفتوحة على قراءات متعددة بتعدد مؤهلات وقدرات القراء والدارسين، فالسرد بهذا المعنى تعبير رمزي عن الواقع العربي المرير الذي يرفض القول الصريح بل ويفتش في ثنايا الكلام عن سند لتهم جاهزة ...لذا فالشاعر مجبر على نسج حيل كلامية تمزج بين الواقع والخيال، والسرد والتصوير، والهزل والجد، والضحك والبكاء، والفرح والحزن...بما يجعل من شعره نقدا صريحا لهذا الواقع بهدف الدفع بالفن ـ ومنه الشعر ـ نحو فعل تغييري بدل الركون إلى الهدوء الاستكانة في غنائيات ميتة تكتفي بمدح الوضع القائم وتمجيده.  

وسوم: العدد 720