قارب الموت والظمأ العظيم 17

تحليل طبي نفسي ونقد أدبي لقصص مجموعة "أوان الرحيل" للدكتور علي القاسمي (17) (فصل جديد)

حين تداوي الطفولةُ الكتابةَ الجريحة

تحليل قصّة "هل تداوي الكتابةُ الطفولةَ الجريحة ؟"

(كلّ هذه ، جراحٌ غائرة فاغرة في حنايا الروح . ولا أستغرب الأمر إذا كتب كثيرٌ من النقّأد قائلين إنّ قصصي تنتهي بالخيبة والفقدان ؛ ولعلّها كذلك بلا إرادة منّي ، فعقلي لا يتحكّم بكلّ ما أكتب ، بل للروح نصيبٌ كبير في كلماتي . ألا يكفيكَ فقداناً أن يفقد المرء وطنه وأهله وأولاده وأحلامه ؟! )

                                             "علي القاسمي"

أطلق القاسمي على نصّه الأخير : "هل تداوي الكتابةُ الطفولةَ الجريحةَ ؟" الذي ختم به مجموعته القصصيّة هذه ، وصف "ما يُشبه القصّة" ، وهو الوصف نفسه الذي أطلقه على النصّ الذي افتتح به المجموعة : "البحث عن قبر الشاعر عبد الوهاب البياتي" . وأعتقد أنّه كان دقيقاً جدّاً في استخدام هذا الوصف للتعبير عن بنية وطبيعة النصّين ، فصحيح أنّ القصّة هي أوّلاً وأخيراً ، "حكاية" ، إلّا أن أيّ حكاية لن تتحوّل إلى قصّة بالمعنى الفنّي إذا لم تتوفّر على اشتراطات معروفة تنقلها من الأجواء "الخبريّة" إلى العوالم "الفنّية" حيث يبدأ فعل مخيّلة الفنّان ، ودور خياله الخلّاق ، وقوى لاشعوره ، في تشكيل الشخصيّات وتصوير انفعالاتها الحيّ ، وجعلنا نتماهى مع سلوكياتها ، وننفعل بصراعاتها ، ونتأثّر بأفكارها . والشرط الحاسم في كلّ ذلك هو "اللغة" واستخدامها الفنّي الرفيع والمدروس ، ولا يعني هذا تغليب الشكل على المضمون حسب مقولة الجاحظ الإشكاليّة : "المعاني مطروحة في الطريق" ، أو وفق مقولة "فلوبير" الشهيرة : "إن البيت الجميل الذي لا يحتوي على أي معنى خيرٌ من بيت أقلّ جمالا وإن احتوى على معنى" ، ولكن بالتلازم الحيّ بين شكل النصّ ومضمونه بحيث لا تكون اللغة "وعاءً" للنصّ كما يحبّ بعض النقّاد وصف العلاقة بينها وبين المعنى ، مثل علاقة الكأس بالماء الذي تحتويه ، بل مثل علاقة الماء بشكل الموجة في البحر . حاول أن تفصل "شكل" الموجة عن "محتواها" المائي ! . وقد حدّد القاسمي عناصر القصّة القصيرة على الوجه الآتي :

(بصورة عامّة ، هنالك شبه اتفاق على أنّ القصّة القصيرة تسرد حدثاً أو مجموعة من الأحداث تتعلق بشخصيةٍ (عادةً إنسانية) وتصف ردود فعلها ومشاعرها تجاه تلك الأحداث ، وهذا يعني أنّ القصّة القصيرة تتوفّر عادة ، وليس دائماً ، على عناصر ثلاثة هي :

أوّلاً ، عرض تعريفي بالشخصيّة أو الشخوص

ثانياً ، نمو الحدث وتطوّره

ثالثاً ، الصراع الدرامي الذي يحتدم في مواقف الشخصيّة وسلوكها ومشاعرها . (...) ونستطيع القول إنّ القصة القصيرة تقع في مربع تتألف أضلاعه من : السيرة ، والمسرح ، والشعر ، والمقالة ؛ ويتباين موقعها في هذا المربّع من كاتب إلى آخر ومن قصّة إلى أخرى ، بحيث تكون أقرب إلى ضلع من أضلاع ذلك المربّع ، وقلّما تكون في وسطه) (55) .

والنصّ الذي يسمّيه القاسمي بـ "ما يُشبه القصّة" ، كالذي بين أيدينا الآن ، هو في بنيته أقرب إلى ضلعي السيرة والمقالة ، وإلى الطبيعة الإخبارية ، ولكنه ينطوي على "حدث" يتطوّر ويتنامى ، وموقف ذي طابع شبه درامي ، ولهذا قال إنّه "ما يشبه القصّة" حيث لا ينطوي على شروط القصّة الفنّية الكاملة ، وفي مقدّمتها الذروة ولحظة التنوير والحبكة والاستخدام الفنّي للّغة . كلّ الشروط السابقة كانت في حدودها الدّنيا .

من الناحية السيريّة ، يتحدّث النصّ عن حادثة حقيقيّة أشار إليها القاسمي في مواضع أخرى ، وتتمثّل في دعوته لإلقاء محاضرة في دار الشباب صبيحة يوم أحد ، في جمعيّة الشعلة الثقافية في بلدة آيت أورير ، وهي بلدة صغيرة قرب مراكش بالمغرب ، خلال عطلة أمضاها في مراكش . وينقل إلينا هذه المعلومة ، التي كان يمكن أن تكون خبراً في صحيفة ، في استهلال النصّ بطريقة تقع على حدود الإستهلال الفنّي :

(أمضيتُ عطلة أسبوع في مدينة مراكش الرائعة ، لعلّ هواءها الربيعي العليل ، وشمسها الدافئة ... تبعث الراحة في فكري المُتعب ، ونفسي المُنهكة ، بسبب ما أتابعه من أخبارٍ مأساوية مُثبّطة عن فلسطين والشيشان والعراق .. وهناك هاتفني المسؤول عن جمعية الشعلة الثقافية .. إلخ) (ص 311) .

وحين تُكمل قراءة النصّ وتتعرّف على الحدث الرئيسي فيه ، تشعر وكأنّ بحث الراوي عن الراحة لفكره المُتعب ونفسه المُنهكة من متابعة مآسي فلسطين والشيشان والعراق ، وكأنّه "مصنوع" لإعداد القارىء لاستقبال الحدث الرئيسي المفاجىء المُقبل وضمان تعاطفه المُسبّق . وقد كنّا من جيل يختلف فيه الواحد مع زوجته ، وقد يطلّقها ، حين تتحدّث بسوء عن "نيكارغوا" مثلاً على طريقة الراحل "محمّد الماغوط" في مسرحيّته الشهيرة "كاسك يا وطن" .

وقد حاول الراوي ، أوّل الأمر ، الاعتذار عن قبول الدعوة ، لأنّه في عطلة يبغي منها استرجاع قواه الجسديّة وترميم نفسه ، لكنّه تذكّر أنّ من واجبه أن ينقل ما تعلّمه إلى الآخرين من أبناء الوطن ، "فزكاة العلم إنفاقه" كما يقول الإمام "علي بن ابي طالب" ، وهو "يزيدُ بكثرةِ الإنفاق منه .. وينقصُ إن به كفّاً شددتا" كما يقول "إسحق الأندلسي" . والراوي ، كما يقول ، مقتنع بأنّ على المهني ، طبيباً كان أو مهندساً أو معلّماً ، أن لا يكتفي بالقيام بوظيفته في العيادة أو المصنع أو المدرسة ، بل من واجبه أن ينشر معرفته المهنيّة بمختلف الوسائل بين أوسع شرائح الشعب . ويقول القاسمي في حواره السابق :

(المعرفة رافد من روافد العمل الأدبي لديّ ، لأنّي مؤمن بأنّ الكاتب مهنيّ كالطبيب والمهندس والمحامي ، وينبغي على المهني أن ينقل معرفته وثقافته إلى الآخرين ، فالطبيب مثلاً ، لا تقتصر مهمّته على معالجة المريض فحسب ، بل تشمل كذلك نقل معارفه الصحّية والطبّية إلى المساعدين والممرضات والمرضى وإلى الناس عموماً ، وبذلك يسهم في إيجاد مجتمع المعرفة القادر على تحقيق التنمية البشرية ) (ص 311) .

ولهذا كلّه وغيره، قبلَ الدعوة ، وتوجّه إلى البلدة الصغيرة لإلقاء المحاضرة ، وهناك كانت الدهشة والخيبة البالغتين . فعندما دخل قاعة العروض في دار الشباب ، كان يعتقد أن الجمهور الحاضر سوف يكون من الشباب الراشدين الذين سيتواصل معهم بسهولة ، ويوصل إليهم أفكاره بيسر بفعل نضجهم العقلي . لكن المفاجأة التي باغتته هي أن القاعة كانت غاصّة بأطفال صغار لا تتجاوز أعمارهم عشر سنوات ، لا بُدّ أنّهم من الصفوف الأوّلية في المدرسة الابتدائيّة ، بل كان بينهم طفلة وضعت رضّاعة الحليب في فمها (ص 312) .

فكّر الراوي في التراجع ، لكنّه لم يستطع ، فقد اصبح أمام الأمر الواقع . وهنا ينبغي أن نشدّ على يديّ الأستاذ "عبد القادر الساري" المسؤول عن جمعيّة الشعلة - وأنا أذكر اسمه هنا للتاريخ – على هذه المبادرة الفذة الجسور . فالكثير من المثقفين "الكبار" عندنا صاروا يتعالون على التعامل مع الأطفال وأدبهم ، بل يحتقرونه . صاروا يكتبون وأمام أعينهم "عباقرة" النقد من ناحية ، والتفكير في كيفية كتابة نصّ "يرتفع" إلى مستوى النصوص الحداثوية الغربيّة من ناحية أخرى . كما أنّ لدى هؤلاء "الكبار" شفرة خاصّة لا يستطيع كلّ من هبّ ودبّ حلّها ، في حين أنّ الإبداع العظيم هو الذي يستطيع طرح الأفكار الكبيرة المُعقّدة بأساليب بسيطة كما نُكرّر دائماً . ومخاطبة عقول هؤلاء الأطفال هي محكّ اختبار حقيقي لقدرات أيّ مثقف على التوصيل والإفهام والإقناع ، بشرط أن لا يكون "مقولباً" على شفرات العقل الراشد المُنتفخ . وقد قام أحد المعنيين بتقديم الراوي بلغة أدبيّة رفيعة منمّقة ، تحدّث فيها عن مؤلّفاته في علم المصطلح وصناعة المُعجم والتنمية الإقتصادية ، فكان من الطبيعي أن يتوقّع الراوي أنّه سوف يحصل شرخ بين المُرسِل (بكسر السين) والمُرسَل (بفتحها) إليه ، وأن تتعثر الرسالة في الوصول إلى الأطفال الذين بدت وجوههم فارغة من أيّ تعبير ، كأنّها لا تُدرك ما يُقال .

وحين جاء الدور للراوي المُحاضر ، حاول أنْ يخاطب هؤلاء الأطفال بأسهل لغة ممكنة ، وأن لا يتناول موضوعاتٍ معقّدة تفوق مداركهم ، بل موضوعات قريبة من اهتماماتهم الطفولية . ولهذا اختار – كما يقول – مجموعة قصصية له عنوانها : "رسالة إلى حبيبتي" ، تشتمل على قصص قصيرة عن طفولته . أخبرهم أوّلاً أنّه كان يعيش في طفولته في قرية صغيرة في وسط العراق ، هي أصغر من بلدة آيت أورير ، وأنّه كان يطمح أن يصبح كاتباً (ص 312) .

ثم اختار قصّتين من قصص المجموعة تلك ، كان يريد أن ينقل إلى الأطفال من خلالهما بعض القيم الأخلاقيّة ، والمعاني النفسيّة والاجتماعية المهمة . لكن يبدو أنّ اختياراتنا تأتي كنتاج لحتم لاشعوري ، محكومة بالدفاعات النفسيّة التي شكّلت – عبر اللجوء إليها لسنوات طويلة كسبل تكيّفيّة في حياتنا - "دروع طبعنا" حسب تعبير "آنا فرويد" من جانب ، وبتجاذبات الموقف النفسي الراهن الذي نعيشه وسبل تسويتها للحفاظ على تماسك ذواتنا وصورتها النرجسية من جانب آخر . فقد كانت القصّة الأولى عن حادثة في يومه الأوّل في المدرسة حين تعثّر المعلّم وسقط ، فضحك عليه ، وعندما نهض المعلّم ، ورفع عصاه سائلاً عن الذي ضحك ، اعترف خائفاً ، لكنّ المعلم طلب من التلاميذ أن يصفّقوا له تقديرا لصدقه وجرأته . وفي موقفه الراهن يمكن أن يكون "اختيار" هذه القصّة متأثّراً بجو الإحراج الذي وُضع فيه ، والذي يستعيد فيه ، من خلال الحادثة القديمة ، شيئاً من اقتدار مُركّب من جسارة الطفولة المُنعشة ، وسطوة المعلّم الحاكمة . أمّا القصّة الثانية التي حكاها للأطفال فكانت عن بطّة صغيرة اتخذها صديقة له في طفولته وسمّاها "وفاء" ، وكان يصطحبها كلّ يوم بعد المدرسة إلى النهر القريب لتسبح فيه قليلاً ، ثم يعود بها إلى المنزل . وذات يوم مرّ سربٌ من البط البرّي في النهر ، فلحقت به بطّته ولم تعدْ إليه ، غير آبهة بنداءاته ، فرجع إلى المنزل باكياً (ص 312) .

والراوي – ومن ورائه القاص طبعاً - يضع نفسه في الموضع الذي أسميته في مقالات سابقة بـ "ما يدسّه الكبار للصغار" من خلال أدب الطفل ، وذلك حين يُمرّر الكبار الذين يكتبون قصصاً للطفل آراء ومواقف ذات أبعاد فكريّة وفلسفيّة (اجتماعية ونفسية) عميقة تحت غطاء ملاعبة البراءة الطفليّة عبر موضوعات تسحب ذهن الطفل نحو طيبة الإنسان في ارتباطه الدافىء بانموذج حيواني مسكين ، سرعان ما ينقلب عليه ، ليترك قلبه منكسراً موجوعاً ، خصوصاً أنّ الراوي الطفل في القصّة قدّ سمّى بطّته "وفاء" ، فظهر أنّها لا تعرف الوفاء ، فتتغيّب الانتباهة النقديّة لدى الأطفال القرّاء والمستمعين عن الكيفية التي سمح بها إنسان أن "يستعبد" حيواناً مهما كان . فوق ذلك فإنّ سمة الوفاء والتعلّق معروفة عن الكثير من الحيوانات . ويبدو أنّ الإنسان يُسقط دوافعه "الخيانيّة" عليها . لقد عزّز الراوي نرجسيّته من خلال الظهور بمظهر المغدور الوفي أمام أعين الأطفال . ولا أعلم هل تململ شعور في أعماق الراوي فرضه الضمير المُعذّب بأنّه إنّما يتحدّث عن ذاته بارتياح ، ويستعرض مآثرها المُبكّرة ، ناسياً ملايين الأطفال من ابناء وطنه الذين كانوا يموتون كلّ لحظة بسبب حصار الوحوش من أمريكان وبريطانيين . قد لا يعرف أطفال آيت أورير التفصيلات السياسية لأكبر وأخطر مخطّط إجرامي في التاريخ لقتل الشعوب ممثلةّ بالشعب العراقي ، عن طريق التجويع ، وبمباركة عصبة الأمم ومجلس الأمن اللذين تحوّلا على أيدي الأمريكان إلى مخالب لافتراس الشعوب لتحقيق المنافع الاقتصاديّة للأشرار الأمريكان والبريطانيين . ولكن العالم كلّه كان يسمع عن موت مئات الألوف من الأطفال العراقيين بسبب منع الحليب والدواء ، وهؤلاء الأطفال هم أطفال شعب الراوي الذين لم يكتب نصّاً قصصيّاً عن موتهم اليومي في حين كتب نصوصاً عن حوادث قديمة في طفولته وعن معاناة أشخاص في بلدانٍ أجنبيّة .

كان الراوي – وهو يشاهد التجاوب معه في عيون الأطفال ووجوههم – يداخله الزهو والعجب ، ولكن حين فتح باب الأسئلة ، رفعت إصبعها طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها ثماني سنوات وسألته بأدبٍ ولطف :

(- "شكراً ، أستاذ ، على إخبارنا عن المعلّم الذي ضحكتَ عليه وعن بطّتكَ التي أضعتها ، ولكن ماذا كتبتَ لأطفال العراق الذين لا يجدون الحليب ولا يتوفّرون على الدواء ؟" ) (ص 313) .    

جاء السؤال صاعقاً أصاب الراوي بالذهول . لم يكن السؤال مكتوباً ليتصوّر أن أحد المعلمين كتبه لها . كانت تسأل بتلقائية وبلا ورقة . هنا – وكما يقول الراوي – "تذكّر" ، في تلك اللحظة ، أنّ أطفال اليوم أذكى من أطفال الأمس ، وأوسع معرفةً وأعمق فكراً ، بفضل تطوّر وسائل الاتصال الحديثة . ووسائل الاتصال هذه ، من وجهة نظري ، حوّلت العالم - ليس إلى "قرية صغيرة" كما دأب الكلّ على وصف حال عالمنا المُعاصر - بل ، وهذه نتيجة خطيرة جدا وسلاح ذو حدّين ، إلى "غرفة صغيرة مُغلقة" ليس هنا مجال الحديث عن آثارها النفسيّة والاجتماعية والثقافية . وهذه هي المرّة الثانية التي "يتذكّر" فيها الراوي حقيقة أساسيّة ينبغي أن لا ينساها أبداً ، هو الدارس العميق لعلم النفس في خيرة جامعات العراق ولبنان والولايات المتحدة الأمريكية . كانت المرّة الأولى ، كما رأينا ، هي "تذكّره" لواجبه - الذي يجب أن لا ينساه أيضاً – في نقل ما تعلّمه إلى الآخرين من أبناء الوطن . وهذه النسيانات ، مع نسيان الموضوع الموجع المتعلّق بقتل أطفال وطنه ، والذي كان يجب أن يكون في المُقدّمة من الموضوعات التي يحدّث بها أطفال مرّاكش ، وعلى رأس نصوص إبداعه خصوصاً في هذه المجموعة "أوان الرحيل" التي تتناول موضوعة الموت ، والإشارة "المسبّقة" إلى فاجعات فلسطين والعراق التي أنهكت روحه ، كلّها تعبيرات عن الضمير المُثقل بمشاعر الذنب ، تلك المشاعر التي استعرت حين وضعت هذه الطفلة الصغيرة أمام عينيه حقيقة الهوّة الساحقة بين انشغالاتهم كأطفال بموت رفاقهم من أطفال العراق ، وحديثه كقاصّ عن البط والمعلّم السمين الذي تعثّر . ولأنّ "دروع طبعنا" – كما ذكرتُ – هي التي تحدّد ردود أفعالنا من حيث لا ندري في أغلب الأحوال بفعل تكلّسها كأطرٍ للسلوك ، فقد اختار الراوي طريقةً في الردّ أوغلت في غوص قدميه في أرض التكفير الرخوة . يقول الراوي إنّه لم يُردْ أن يتضمن جوابه إخبار تلك الطفلة عن المقالات التي كتبها عن فلسطين والشيشان – ولا أعرف ما هي حكاية التركيز على الشيشان بين مصائب دول إسلاميّة كثيرة – والعراق ، ولم يشأ أن يبيّن لها أنّ عنوان مجموعته القصصيّة "رسالة إلى حبيبتي" هو رسالة إلى الوطن ، ولم يتقصّد إبلاغها عن رسائله بالبريد الإلكتروني إلى كثيرٍ من أصدقائه ومعارفه من الأدباء والمثقفين في أمريكا وأوروبا وآسيا وغيرها وما تحمله من وجهة نظره في السياسات الأمريكيّة الخاطئة في فلسطين والعراق وبقيّة البلاد العربيّة ، تلك السياسات التي تُسيء إلى الصداقة بين الشعوب وتشجّع المشاعر العدوانيّة المُتطرّفة (ص 313) .

وهنا يثور تساؤل حسّاس يؤكّد استنتاجاتنا عن الغوص في الأرض التكفيرية الرخوة : تُرى لو ذكر الراوي كل هذه النشاطات للطفلة صاحبة السؤال المُخيف ، فهل لكل ما يذكره علاقة بالإجابة على سؤالها ؟ هل في حديثه كلّه إجابة مٌقنِعة لتساؤلها الحائر ؟ هل في أيّ نشاط من النشاطات التي ذكرها "نصّاً" قصصيّاً – مثل نص البطّة "وفاء" مثلاً - عن أطفال العراق الذين أخطأت الطفلة في القول إنّهم لا يجدون الحليب ولا يتوفّرون على الدواء ، فأطفال العراق لم يكونوا يُعانون من هذا النقص كما يعاني طفل أمّ فقيرة في أفريقيا من نقص الحليب . أطفال العراق كانوا يُقتلون .. نعم يُقتلون ، مثلما يُقتل أيّ شخص مذبوحاً بسكين أو مُردىً بطلقة مسدّس . ثمّ عن أيّ صداقة تتحدّث ايّها الراوي ؟ هل الولايات المتحدّة صديقة الشعوب ؟ وهل قادت الإدارة الأمريكية ، منذ تأسيس الولايات المتحدة ، شعبها نحو الصداقة والخير والمحبّة والتعاون ؟

لقد قال الراوي في "مونولوجه" الداخلي إنّه "لم يُرد .." ، وقد فعل حسناً لأنّ الطفلة سوف تقول له من جديد :

(- "شكراً ، أستاذ ، على إخبارنا عن مقالاتك التي كتبتها عن فلسطين والشيشان والعراق ، وعلى عنوان مجموعتك القصصيّة .. وعلى رسائلك بالبريد الإلكتروني ... ولكن ماذا كتبتَ من قصص لأطفال العراق الذين لا يجدون الحليب ولا يتوفّرون على الدواء ؟ ") .

قد يؤثر ذلك الحوار الداخلي التبريري الذي دار في ذهن الراوي في نفوسنا كمتلقّين ، ولكنه لن يقنع هذه الطفلة ابداً ، وهي تسمع كل لحظة عن موت إخوة لها من اطفال العراق لأنّ وحشاُ حقيراً يمنع عنهم الحليب والدواء .

لماذا لم تُرد أيّها الراوي أن تقول الحقيقة العارية للطفلة وعمرها العقلي – كما تقول – يفوق عمرها الزمني :

قُلْ لها ، أيّها الراوي ، إنّ أوّل مصنع دمّره الأمريكان في العراق كان مصنع حليب الأطفال !

قُلْ لهم ، أيها الراوي ، إنّ نصف مليون طفل عراقي مثلهم قتلهم الأمريكان ، وحين سُئلت مادلين أولبرايت آنذاك عن مستقبل العراقيين بعد موت مليون منهم قالت : سوف نقتلهم كلّهم " !

قُلْ لهم ، أيّها الراوي ، إنّ أكثر من (1200) ألف ومئتي طفل عراقي مثلهم حرقهم الأمريكان وهم أحياء .. نعم أحرقوهم ، في ملجأ العامريّة ، بالنار ، وهم أحياء ، ومع أمّهاتهم .. وكان الأطفال العراقيون يشوون بالنار الأمريكية في الملجأ وهم يصيحون : ماما .. ماما .. إلحگيني ! وإنّ الجنرال الذي اقترف الجريمة قد كُرّمته أمريكا بأعلى الأوسمة !

قُلْ لهم ، أيّها الراوي ، إنّ أطفالاُ عراقيين مثلهم كانوا يولّدون في المستشفيات بعمليات قيصرية وأمّهاتهم تصرخ من الألم الرهيب ، لأن الأمريكان والبريطانيين منعوا مواد التخدير عن المستشفيات !

قُلْ لهم ، أيّها الراوي ، إنّ (300000) ثلاث مئة ألف طفل عراقي مثلكم تركوا مقاعد الدراسة خلال سنوات الحصار الجائر ، ليعيشوا في الشوارع تحت الحرّ والبرد والمطر يبيعون أتفه الأشياء ليساعدوا عائلاتهم المثكولة بسبب حصار الأمريكان والبريطانيين ! وقلْ لهم إن الأمريكان والبريطانيين منعوا توريد حتى أقلام الرصاص لإخوانهم التلاميذ العراقيين !

قُلْ لهم ، أيها الراوي ، إنّ عشرات الألوف من الأطفال العراقيين مثلكم يولدون بوجوه مُخيفة (شفاه مشرومة ، وعيون عمي ، وآذان ناقصة) ، وبفتحات مميتة في قلوبهم الصغيرة ، وبإثني عشر إصبعاً في أيديهم ، وبأرجل مفقودة ، بسبب االتشوّهات الوراثية التي سبّبها اليورانيوم المُنضّب الذي استخدمه الأمريكان في قصف المدن العراقية الآمنة ، والذي يبقى في التربة لمدّة (4000000000) أربع مليارات سنة .. أُكرّر أربع مليارات سنة ليقضي على إخوانهم وشعبهم في السمتقبل إلى الأبد !

قُلْ لهم ، أيّها الراوي ، إن آلاف الأطفال العراقيين الذين تسألون عنهم يموتون سنويّاً بسبب السرطانات التي سبّبها اليورانيوم المُنضّب . واشرح لهم أنّ اليورانيوم المُنضّب هو النفايات النوويّة التي ابتكر شيطان الولايات المتحدة الأمريكية طريقة علميّة جديدة بدلا من دفنها والتخلّص منها ، وذلك بتثقيل رؤوس صواريخ كروز بها لكي تصيب أهدافها وتقتل إحوانهم الأطفال بصورة أكثر دقّة وتصهر الناس مع المعادن !

قُلْ لهم ، أيّها الراوي ، إنّ خمسة آلاف طفل عراقي مثلهم صاروا أيتاماً لأنّ الأمريكان دفنوا خمسة آلاف من آبائهم - وهم أحياء وبملابسهم العسكريّة - في "حفر الباطن" !

قُلْ لهم ، أيّها الراوي ، إن آلافاً أخرى مؤلّفة من الأطفال العراقيين صاروا أيتاماً لأنّ الأمريكان قتلوا آباءهم المُنسحبين بلا سلاح من الكويت في الحرب التي تحوّلت من حرب تحرير الكويت إلى حرب تدمير العراق وقتل أطفاله !

وقُلْ لهم ، أيّها الراوي - إذا عُقِدتْ لك محاضرة جديدة مع الأطفال المغاربة - إنّ الأمريكان والبريطانيين الأشرار عادوا بعد محاضرتك الأولى لقتل الأطفال العراقيين ، واحتلال وطنهم ، فقتلوا مليونين من آبائهم وأمّهاتهم وإخوانهم وأصدقائهم !

وقُلْ لهم أنّ صديقك عمّو دكتور حسين سرمك حسن يسلّم عليكم من العراق ، ويقول لكم أنّه بعد الإحتلال الأمريكي شاهد فجر أحد الايام كلباً يركض فرحاناً وبين فكّيه ذراع طفل عراقي من إخوتهم الأطفال العراقيين !

قلْ وقلْ وقلْ وقلْ أيّها الراوي ..

لكن لا تقل لي إنّ هذا لا علاقة له بالإبداع ..

قلْ لهم ، رجاءً ، واعفني ولو لهذه المرّة من جوابك الذكي ، الذي رددتَ به على تلك الطفلة البريئة العظيمة . يقول الراوي في ختام قصّته :

(أردتُ أن أتقبّل ملاحظة تلك الطفلة ، وأكافئها على ذكائها وشجاعتها الأدبيّة ولباقتها ، فوقفتُ لأجيب احتراماً لها ، وخاطبتُها كفتاةٍ ناضجة بقولي :

(- "آنستي الصغيرة ، أعترفُ أنّكِ على صواب ، وأعترفُ أنني كاتبٌ بلا خيال ، تنقصني القدرة على التخيّل . فأنا لا أستطيع الكتابة إلّا عن تجارب خبرتها بنفسي وانفعلتُ بها . ولمّا لم يكن لي طفلٌ رضيعٌ يصعب عليّ شراء حليب له ، ولم يكن لي طفل مريض بالسرطان يلفظ أنفاسه بين ذراعي دون أن أتمكّن من توفير الدواء له ، فإنني لم أكتب عن أطفال العراق . ولكنّني أعدكِ -  يا آنستي العزيزة – أنّني سأبذل جهدي لأكتب في المستقبل عن أطفال فلسطين والعراق والشيشان – ولا أعرف سرّ التركيز على الشيشان حتى الآن ؟! ، الناقد - ، وعن جميع الأطفال البائسين والمنكوبين والمُشرّدين في كلّ مكان" .) (ص 313 و314) .

وحين تُدقّق في جواب الراوي هذا ، تجد – وعلى طريقة "ما يدسّه الكبار للصغار في أدب الأطفال" - أنّ علي القاسمي قد دسّ احتجاجه من أجل أطفال وطنه إدانة للأعداء كما يُدسّ السمّ في العسل .. فتحيّة له .

وفي الحوار الذي أشرتُ إليه سابقاً ، وفي معرض إجابته على سؤال للمحاوِر عن قصده بقوله أنّه "كاتب بلا خيال" ، وردتْ إجابة القاسمي / الراوي ، السابقة ، على الشكل الآتي :

(دُهِشتُ لذكاء هذه الطفلة ، وأُعجِبتُ بثقافتها ولغتها ووطنيّتها ، ولم أشأ أن أخبرها عن كتاباتي السياسيّة في الموضوعين اللذَين ذكرِتُهما ، ولم أُردْ أن اشرح لها الدلالات السياسيّة في بعض قصصي القصيرة ، بل أردتُ أن أكافئها على شجاعتها الأدبيّة ، فقلتُ بنبرة انهزام وتسليم :

-"أعترفُ يا آنستي ، إنّني كاتب بلا خيال . أكتبُ فقط عن تجاربي في الحياة . ولّما لم يكن لديّ طفلٌ يتضوّر جوعاً ويموت بين ذراعيّ ، وليس لي طفل يُقتل برصاص "الإسرائيليين" أمام ناظري ، فإنّني لم أكتبْ عن ذلك . ولكنّني أعدُكِ ، يا آنستي ، بأنّني سأتعلّم الكتابة عن أطفال العراق وأطفال فلسطين وأطفال الشيشان ، وأطفال جميع المُضطهدين) (56) .

سيلاحظ السيّد القارىء ما يلي :

# ظهر أنّ الطفلة قد سألت أيضاً عمّا كتبه القاسمي عن أطفال فلسطين الذين يُقتلون كلّ يوم برصاص "الإسرائيليين" الأوغاد ، وأنّ القاسمي ، ولأغراض التركيز على ثيمة القصّة الرئيسية ، جعل سؤالها عن أطفال العراق فقط ، وهذا من اشتراطات بناء القصّة وليس المقالة .

# جملة : "... ضياع البطّة منك" في الحوار ، كانت أصلاً : "بطّتكَ التي أضعتها" ، حيث ينطوي التعبير الأخير على موازنة طفليّة بين الجانبين ، وعلى مرارة أكبر ، مقابل الإنشغال المُفترض من قبل القاص ، وحسب توقّعات الطفلة ، بمأساة أعظم وأفظع .   

# مازال القاص يعتقد أنّ الطفلة إنّما تطرح ماساة الأطفال العراقيين من وجهة نظر سياسيّة !! في حين أنّ روحها الصغيرة تتقطّع ألماً على موت أطفال مساكين وأبرياء مثلها لا صلة لهم بالمؤامرات السياسيّة . والقاسمي يحيلنا هنا إلى إشكالية العلاقة بين الأدب والسياسة .

# يعلن القاسمي في الحوار بصراحة أنّه ردّ على الطفلة "بانهزام وتسليم" ، وهو ردّ لن يتسق مع موقف الراوي العام في القصّة خصوصاً أن القاسمي جعله يردّ بشكل كافٍ في مونولوجه الموجّه إلينا نحن القرّاء ، وهذا تواضع جرىء في كشف مشاعره آنذاك .

# كرّر القاسمي في الحوار قوله "ولمّا لم يكن لديّ طفل يتضوّر جوعاً ..." ليعكس مقدار ارتباط اشتغاله الإبداعي السردي بالتجربة المعيشة ، وهي إشكالية عميقة معروفة في تاريخ الإبداع ، وكأنّ دستويفسكي كان يجب أن يشاهد يهودية مُرابية تُقتل أمام عينيه ليكتب رائعته "الجريمة والعقاب" ! ينضاف هذا العامل إلى تمظهرات الإحساس الموجع بالذنب لدى الراوي ومن خلفه خالقه : الكاتب .

# يأتي تعبير "سأتعلّم الكتابة عن أطفال العراق .. " في الحوار رائعاً ودقيقاً ومُعبّراً عن تواضع المُبدع ، ففي العراق تحديداً يعيش المبدعون في محنة قلبت المعادلة المعروفة على رأسها . المعادلة المعروفة في كلّ مكان من العالم هي التي تقول إنّ على مُخيّلة الكاتب أن تسبق الواقع بعد أن تأخذ منه مادّتها الأولّية ، لتعيد – المُخيّلة – تشكيلها ببراعة في نتاجات ونصوص تسبق الواقع . أمّا في العراق الآن ، فقد سبق الواقع الجحيمي مُخيّلة المُبدع بأشواط طويلة جدّاً .

# ولأنّ المبدع العربي هو الشاهد الصادق الأوحد على العصر العربي الرديء ، فإنّ عليه أن لا ينسى أنّ "إسرائيل" كيان لقيط جُمعتْ شراذمه وفق نبوءة دينية مُفبركة غلّفت مشروعاً استعمارياً معادياً للأمّة ، وعليه فعلى المُبدعين  - بخلاف الكثير من السياسيين الماكرين عليهم لعنة الله – أن يضعوا كل وصف يتعلّق بـ "إسرائيل" بين قوسين ، أو يذكروا التسمية الصريحة : الكيان الصهيوني اللقيط ، هذا لكي لا يساهموا في تزوير التاريخ ، فيحل عليهم سخطه . 

# يبقى الإعلان الإشكالي الذي قال فيه القاسمي في القصّة والحوار : "إنّني كاتبٌ بلا خيال" ! والذي أنقل تبرير القاسمي التنظيري ، الشافي والموضوعي ، له من الحوار نفسه :

(ولسوء الحظ ، كان أحد الحاضرين في الإجتماع ، ناقدٌ راح يشيع عنّي أنّني اعترفتُ بأنني كاتبٌ بلا خيال ، على الرغم من أنّه يعلم حقّ العلم ، أنّ الكتابة الإبداعية يتسرّب إليها الخيال حتى إذا حرص الكاتب على نقل الواقع مجرّداً . وأنّ لغة الكتابة تغيّر الواقع الذي تنقله ، لا لأنّ بنيتها وتعبيراتها السياقيّة والاصطلاحية تضع إكراهات على الكاتب فتغيّر من دلالات لغته الداخلية وهي في طريقها إلى الورق فحسب ، بل كذلك لأن اللغة مجرّد رموز ، والرموز لا تساوي الواقع ، لأنّها في أصلها وليدة الخيال . والفنّ ، بمختلف أنواعه ومدارسه ، يغيّر الواقع ، فحتّى الفنّ الفوتوغرافي لا يمثّل واقع الموضوع كلّه وبصدق ، وإنّما يقدّم لنا واقعاً من وجهة نظر الفوتوغرافي الخاصّة) (57) .

ذيل ختامي : معلومة عراقيّة عن التجربة المعيشة :

قبل شهرين ، أرسل إليّ أحد الأصدقاء من الشعراء العراقيين الذين يعيشون في المهجر منذ أكثر من ثلاثين عاماً ، واحداً من مجموعاته الشعريّة على صندوق بريدي ، ورجاني أن أستلمه لأطّلع عليه ، وأكتب عنه . لا يعلم هذا الصديق حالنا في بغداد . تردّدتُ لأيامٍ طويلة في إرسال إبني لاستلام الكتاب من بريد بغداد الجديدة لأنّ السيارات المفخّخة كانت تحصد الناس في تلك المنطقة كل يوم تقريباً . ولم أستطع إخبار الصديق الكاتب بهذه الظروف لقناعتي بأنّه لن يقتنع بها ولن "يفهمها" إلّا إذا "عاشها" ورآها بعينه . أرسلتُ ولدي الأصغر "عمر" ، وإلى أن عاد سالماً كانت أمّه تصلّي وتقرأ القرآن وتدعو أن يحفظه الله . أمّا أنا فكنتُ أفكّر : تُرى لو قُتل إبني بانفجار من هذه الإنفجارات وهو يستلم المجموعة الشعريّة ، ما الذي كنتُ سأقوله لنفسي ؟ وكيف أقنع أمّه بأنّ ذهابه كان ضرورة ؟ وهل يعاني صديقي الشاعر من هذا "الحصار الجديد" الذي جاء إلى العراق على أيدي الأمريكان والبريطانيين الأشرار ؟

النصّ الذي تم تحليله

______________

ما يُشبه الخاتمة، ما يُشبه القصّة

هل تداوي الكتابةُ الطفولةَ الجريحةَ

د. علي القاسمي

       أمضيتُ عطلةَ أسبوعٍ في مدينة مراكش الرائعة، لعلَّ هواءها الربيعيّ العليل، وشمسها الدافئة، ومناظر جبالها ووهادها الخلابة، تبعث الراحة في فكري المُتعب، ونفسي المُنهكة، بسبب ما أتابعه من أخبارٍ مأساويّة مُحزِنة مثبِّطة عن فلسطين والشيشان والعراق. وهناك هاتفني الأستاذ عبد القادر الساري، المسؤول عن جمعية الشعلة الثقافية في بلدة آيت أورير، يدعوني لإلقاء محاضرة في دار الشباب صبيحة يوم الأحد.

       كنتُ على وشك أن أعتذر إليه متذرِّعاً بأنَّني في عطلة، حينما تذكّرتُ أنّ من واجبي أن أنقل ما تعلّمتُ إلى الآخرين من أبناء الوطن، "فزكاة العِلم إنفاقه"، وأنّ على المهنيّ، طبيباً كان أو مهندساً أو معلّماً، أن لا يكتفي بالقيام بوظيفته في العيادة أو المصنع أو المدرسة، بل من واجبه أن ينشر معرفته المهنيّة بمختلف الوسائل بين أوسع شرائح الشعب، ليسهم فعلاً في تحقيق التنمية البشريّة. ومن ناحيةٍ أُخرى، شعرتُ أنّ القرى والأرياف لم تحظَ بالأنشطة الثقافيّة والتربويّة والصحيّة والاقتصاديّة اللازمة، مما حمل كثيراً من أبنائها على الهجرة إلى المُدن بحثاً عن حياة أفضل.

       لهذا كلِّه قبلتُ الدعوة شاكراً، وتوجّهتُ صباح الأحد إلى بلدة آيت أورير التي تبعد عن مراكش حوالي 30 كيلومتراً في اتّجاه ورزازات. ورافقني بعض الأصدقاء منهم مستشار اتحاد كتّاب المغرب فرع مراكش الصحافي الشاعر مصطفى غلمان، والمؤرِّخ أحمد متفكِّر، والشاعر إسماعيل إزويرق، والناقد إبراهيم أولحيان. واهتدينا بدون صعوبةٍ إلى دار الشباب في تلك البلدة الصغيرة.

       كانت دهشتي وخيبتي بالغتَيْن، عندما دخلتُ قاعة العروض في دار الشباب، لأنَّ القاعة كانت غاصَّةً بأطفالٍ صغارٍ لا تتجاوز أعمارهم عشر سنوات، لا بُدّ أنّّهم من الصفوف الأوليّة في المدرسة الابتدائيّة، بل لمحتُ بينهم طفلةً وضعت رضّاعة الحليب في فمها. ولكنّني كنتُ أمام الأمر الواقع، ولم يكُن في وسعي العودة أدراجي.

       وعندما قدَّمني أحدهم بكلماتٍ أدبيّةٍ بليغةٍ رفيعةٍ، تحدّث فيها عن مؤلَّفاتي في علم المصطلح وصناعة المعجم والتنمية الاقتصاديّة، بدت لي وجوه الأطفال فارغة من أيِّ تعبير، كأَنَّها لا تدرك ما يُقال، أو هكذا خُيّْل إليّ. فهمستُ في أُذن الخطيب أنْ أوجز.

       وأخذتُ الكلمة عازماً على أنْ أخاطب أولئك الأطفال بأسهل لغةٍ ممكنة، وأنْ لا أتناول إلا الموضوعات القريبة من أفهامهم واهتماماتهم الطفوليّة. ولهذا اخترتُ مجموعتي القصصية "رسالة إلى حبيبتي"التي تشتمل على قصص قصيرة عن طفولتي. وقلتُ لهم إنّني في طفولتي كنتُ أعيش في قريةٍ صغيرة في وسط العراق، هي أصغر من بلدة آيت أورير، وكنتُ أحلم أن أُصبِح كاتباً، وإنّني أتمنّى أن يكون منهم كتّابٌ في المستقبل وكثيرٌ من المهندسين والزراعيّين والحاسوبيّين والأطباء، لأنّ تطوير البلاد وتحسين الحياة يحتاجان إلى العلميِّين والتقنيِّين.

       وأخذتُ أسرد لهم بعض قصص المجموعة مثل قصّة يومي الأوَّل في المدرسة عندما عثر المعلِّم بعتبة باب القسم فسقط أرضاً بكرشه الكبيرة فضحكتُ عليه ببلاهة، ولكنَّه سرعان ما نهض ورفع عصاه سائلاً عن الذي ضحك، ولم أتمكَّن من السكوت فاعترفتُ، فما كان منه إلا أنْ رفعني بكلتا يديه فظننتُ أنّه سيرميني أرضاً عقاباً لي، ولكنّه أوقفني على المنضدة، وطلب من التلاميذ أن يصفّقوا لي، لأنّني قلتُ الحقيقة. ثم أخبرتهم عن قصَّة أُخرى في المجموعة، تدور حول بطَّةٍ صغيرةٍ اتَّخذتُها صديقةً لي في طفولتي وسمّيتها "وفاء"، وكنتُ أصطحبها كلّ يوم بعد المدرسة إلى النهر القريب لتسبح فيه قليلاً، ثمَّ نعود إلى المنزل. وذات يوم مرّ سربٌ من البطّ البريّ في النهر، فلحقتْ به بطّتي ولم تَعُد إليّ، غير آبهةٍ بندائي، فرجعتُ باكياً إلى المنزل.

       وكنتُ وأنا أروي للأطفال هذه القصص، أشاهد في وجوههم وعيونهم وعلى شفاههم التجاوب معي، أو هكذا خُيِّل إليّ. فداخلني بعض الزهو والعُجْب، والعياذ بالله منهما. وبكلِّ ثقةٍ بالنفس، فتحتُ باب الأسئلة. فرفعت إصبعها طفلةٌ صغيرةُ لا يتجاوز عمرها ثماني سنوات وقالتْ بأدبٍ ولطفٍ:

       "شكراً، أستاذ، على إخبارنا عن المُعلّم الذي ضحكتَ عليه وعن بطتك التي أضعتَها، ولكن ماذا كتبتَ لأطفال العراق الذين لا يجدون الحليب ولا يتوفرون على الدواء؟ "

       أصابني الذهول. لم أصدّق ما سمعتُ. طفلةٌ صغيرةٌ تطرح هموماً كبيرةً، كبيرةً جداً. لو كانت الطفلة تقرأ من ورقةٍ، لقلتُ إنَّ أحد المعلِّمين كتب لها السؤال. بَيدَ أنّ الطفلة ارتجلتِ السؤال بعفويّةٍ وتلقائيّةٍ أمام ناظريّ. حاولتُ أن استجمع شتات فكري المندهش، وألملم أشلاء نفسي التي انفعلت وجدانيّاً، لأتمكَّن من الإجابة.

       تذكرتُ، في تلك اللحظة، أنَّ أطفال اليوم أذكى من أطفال الأمس، وأوسع معرفة وأعمق فكراً، بفضل وسائل الاتّصال الحديثة كالفضائيّات والحاسوب والفيديو والسينما وغيرها، وبفضل المناهج المدرسيّة الحديثة وطرائق التدريس المبتكرة. وقدّرتُ أنّ عمر تلك الطفلة العقليّ يفوق عمرها الزمنيّ، كما يقول علماء النفس التربويّ. وشعرتُ بالخطأ الذي اقترفتُه حين أسففتُ في مستوى الخطاب، وأدركتُ صواب زميلي الذي ارتفع بمستوى اللغة، وخاطب الأطفال بجدّية خطابََ البالغين كامليّ الأهليّة، لتدريبهم على احترام الذات وتحمُّل المسؤوليّات.

       لم أُرِد أن يتضمّن جوابي إخبار تلك الطفلة عن المقالات التي كتبتها عن فلسطين والشيشان والعراق. ولم أشأ أن أبيّن لها أنّ عنوان المجموعة القصصية "رسالة إلى حبيبتي "هو رسالة إلى الوطن، ولم أتقصّد إبلاغها عن رسائلي بالبريد الإلكتروني إلى كثير من أصدقائي ومعارفي من الأدباء والمثقَّفين في أمريكا وأوربا وآسيا وغيرها وما تحمله من وجهة نظري في السياسات الأمريكية الخاطئة في فلسطين والعراق وبقية البلاد العربيّة، تلك السياسات التي تسيء إلى الصداقة بين الشعوب وتشجّع المشاعر العدوانيّة المتطرّفة.

       أردتُ أن أتقبّل ملاحظة تلك الطفلة، وأكافئها على ذكائها وشجاعتها الأدبيّة ولباقتها، فوقفتُ لأجيب احتراماً لها، وخاطبتُها كفتاةٍ ناضجةٍ بقولي:

       "آنستي العزيزة: أعترف أنّكِ على صواب، وأعترفُ أنّني كاتب بلا خيال، تنقصني القدرة على التخيُّل. فأنا لا أستطيع الكتابة إلا عن تجاربٍخبرتُها بنفسي وانفعلتُ بها. ولمّا لم يكُن لي طفل رضيع يصعب عليَّ شراء حليب له، ولم يكُن لي طفلٌ مريضٌ بالسرطان يلفظ أنفاسه بين ذراعيّ دون أن أتمكّن من توفير الدواء له، فإنّني لم أكتب عن أطفال العراق. ولكنّني أعِدك ـ يا آنستي العزيزة ـ أنّني سأبذل جهدي لأكتب في المستقبل عن أطفال فلسطين والعراق والشيشان، وعن جميع الأطفال البائسين والمنكوبين والمشرَّدين في كلِّ مكان."

وسوم: العدد 729