شعرية النرجسية والهشاشة، قراءة في ديوان "أرتجل الحياة...!" للشاعر أحمد عبده الحريشي

" أرتجل الحياة...!" عنوان لديوان شعري بقلم الشاعر الشاب أحمد عبده الحريشي، من منشورات اتحاد كتاب المغرب مطبعة عكاظ الجديدة. وبرأيي، كل ناقد يملك ذوقا شعريا مرهفا وزادا فنيا مستقيما- قبل المفاهيم النقدية والعتاد المعرفي الصارم- لا يمكن إلا أن يعلن عن ميلاد شاعر يشتغل بحصافة واحترافية على نسج الكلام واللعب بخيوطه لعبا ليس مجانيا ولا بريئا لأن المراد منه تطعيم الذائقة الفنية والإسهام في الإعلاء من الخطاب الشعري الذي يخلق علاقات غير معتادة بين الذات الشاعرة والآخر والطبيعة والكون والمقدس وغيرها...

 في العنوان " أرتجل الحياة...!" تناص خفي قد لا يكون إراديا استحضر الشاعر فيه قامة فكرية باذخة من واحتنا التراثية الخالدة هي الجاحظ الكبير ( توفي سنة 255 ه )، فقد تباهى أبو عثمان في سياق تمجيد الشخصية العربية القادرة على الارتجال والطبع والتدفق في إنتاج الخطب المؤثرة في الظروف الحرجة على حساب الأعاجم الذين لا يستطيعون إنتاج القول الثقيل إلا بعد التصنع وطول التفكير والمدارسة والمعاناة والخلوة مع النفس ودراسة الكتب*. معروف أن الجاحظ كان يفضل السليقة والطبع العربيين في مواجهة المشروع الشعوبي الفارسي المستند إلى تراث فهلوي ضخم. ولا شك في أن الحاضنة الفكرية آنذاك تلقفت رأي الجاحظ بالقبول والمناصرة، إلا أن تلك القناعة الجاحظية طعنة نجلاء في خاصرة "الشعرية" العربية لكونها جردتها من أسمى ما يعتز به الإنسان وهي خاصية التفكير والتحقيق والتخطيط. و"أرتجل الحياة" بقدر ما في ذلك من بساطة وقدرة الذات على التأقلم مع المستجدات والمواقف بالبديهة والسذاجة والبساطة، فإنها بالمقابل تفيد عجز الذات عن قوننة الحياة والتحكم فيها وهندستها بتصميم ورؤية فكرية مجهرية وموجهة. إن ارتجال الحياة يجعل الذات تابعة للحياة وفاقدة للإرادة والكفايات اللازمة لممارسة فعل الحياة والإبداع والتأثير. وكخلاصة في هاته الجزئية، فإنني أعتقد أنه لا يسمح لشاعر يرفع شعار الإبداع والخلق أن يكون شعاره الارتجال لأن الوجه الثاني للشعر في عصرنا الراهن هو الفكر ولا ينهض الفكر إلا على المعاناة والسهر واختمار التجربة.

في الإهداء** أو ما يقوم مقام الإهداء، ينفتح شاعرنا الشاب على قامة أخرى شغلت الناس في عصرها وهي المتنبي العظيم في بيته المشهور والخالد:

على قلق كأن الريح تحتي ******* أوجهها يمينا أو شمالا.

ورغم الفوارق المائزة في البيتين (حيث يبدو المتنبي أكثر صلابة ومضاء وقدرة على الفعل والتأثير، بينما أحمد عبده يفخر بمؤهلاته غير المسبوقة في ترتيل الحزن و"صنعه أو التعايش معه" ليصبح أسطورة لها قدسيتها وتعاليها) فإن الجامع بينهما هو إخضاع الطبيعة لإرادة الشاعرين لتصبح خادمة لهما وتابعة (المتنبي قلّم أظافر الريح وعبده جعل الماء وهو المادة الأكثر حضورا في الأرض يسجد له). تلك أنانية قد لا نغفرها لأي كان لكنها مقبولة من الشاعر بل ومطلوبة منه شريطة أن تكون حاضنة للإبداع ومحفزة عليه.

1 – سؤال الهوية: لو تتبعت ضمير المتكلم العائد على الشاعر لوجدته يسكن الصفحات والأسطر كلها تقريبا، وهذا يعني أن الشاعر يكتب الحياة والشعر أو يرتجلهما بمرآة ذاته، وبالتالي فالشاعر يأتي أولا ثم تأتي بعده الحياة ثانيا. وعندما يجعل الشاعر من نفسه مركز القصيدة ونواتها فإنما يبعث للقارئ برسالة تشير إلى نقاء الذات وطهرها وامتيازها لدرجة يصبح معها الشاعر قادرا على اللعب بالمعنى وخلق عالم حصري يتأسس على الغرابة والفوضى وما على القارئ إن أراد درء الفتنة سوى الإذعان والتسليم، أما لو ابتلي الشاعر العنيد بقارئ أشد منه عنادا فستصبح القصيدة ميدانا للتجاذبات و استعراض العضلات، وكلما احترمت المعركة أدبيات الصراع انبجس المعنى الإبداعي ساخنا ومشعا. يقول الشاعر: أنا...لا تسألي عني/ فما لك عندي الردُّ/ أنا المبثوث/ في الأشياء/ لا قرب/ ولا بعد/ أنا من مجمع البحرين/ لا جزر/ ولا مد. هذا الشاعر المبثوث في أجزاء الكون حيث تتمازج طينة الشاعر وشظايا الكون ألا يصير داعيا أو بالأحرى "داعية" إلى وحدة الوجود؟ ولذلك يتعاظم الشاعر بعظمة العالم ويُختزل العالم ويتكثف في جسد الشاعر. ويكتب أيضا بلغة مراوغة ماكرة: أنا وردُ/ دمي مرُّ/ ويُجنى من فمي الشَّهدُ. ولا يعتقدن القارئ أن المقصود بالورد الزهور، بل المقصود بالورد في لغة الضاد وكما يقتضي السياق صفة لصيقة بالأسد المكتمل والممتلك لشروط القوة والحياء والحياة. وتتضخم ذات الشاعر لتصبح قرينة للأجرام الكبرى: سماويُّ أنا مذ كنتُ/ - يا موتي-/ سماوي/ أصادقُ/ كل عاصفة/ فلي في تِيهها وحيُ. ولا عجب بالتالي أن تصل نرجسية الشاعر إلى حد توجيه سهام الانتقاص إلى الموت لا لشيء سوى أن الموت، كما يراه الشاعر، كائن أرضي محايث: سماوي/ أنا مذ كنتُ/ - يا موتي -/ سماوي.../ فأشهِرْ وجهك/ الأرضيَّ في وجهي/ أنا حي../أنا حي. ومن كان فوق الموت لا يخشى سلطة ما مهما كان مصدرها: سأسكب/ خمرة العصيان/ حتى يثمل الكأس/ وأهدم شرعة الأصنام../لا شيخ../ولا قسُّ. ولا غرابة أخيرا أن يصير الكون معادلا موضوعيا لذات الشاعر، فيصبح الغوص في مكنونات الذات الشاعرة مفضيا بالضرورة إلى اكتشاف متاهات الكون وأسراره والتواءاته: أغوص/ إلى قرار الكون/ حين أغوص/ في نفسي.

2 – سؤال الأداء الشعري: الشعر عند أحمد عبده مسلك يخوض فيه الحيارى بالمعنى الأنطولوجي: على أشعاري/ الحيرى/ يذوب الشكل والقصد. وتصير الكلمة الشعرية رقصا على حافة الموت: يظل الشعر/ - في الأبدي -/ أزهارا على قبري.../ تقيم.../ على حدود الخلد... و " الحقيقة الشعرية" لدى شاعرنا مغايرة كليا للمعرفة العلمية والعقلانية التي تتوسل الاستدلال والمنطق والنصوص السلطوية، بل هي معرفة مضللة لا معنى لها في ذاتها بل في قدرتها على التصدي للغة والفكر الجمعيين: ففي أسرار معرفتي/ تساوى الشيء والضد. والشعر انخراط إرادي في مملكة الجنون : أنا/ مجنون أوراق/ رضعت الطهر/ فيها. كما أن الشاعر واع تماما بمطواعية الشعر ومقدرته على هز العالم وزحزحته بما لا تستطيعه الحواس والأجساد: أتيت/ قصيدة خضراء/ من لا شيء تبتكر/ تفيض/ بصيرتي برؤى/ تعي/ ما لا يعي البصر. وترتقي العلاقة بين الشاعر والأشياء إلى درجة الفعل الجنسي الخلاق: أغازل/ جوهر الأشياء/ في لغتي../ وفي حسي.. لكننا، على غير المنتظر، نعثر على فهم متخلف ورجعي لحقيقة الشعر يكاد يعصف بكل البناء النظري السابق، إذ يجعل الشاعر الشعر نقيضا للنثر موظفا تناصا قرآنيا موسويا توظيفا بائسا: وقيل/ ألقِ العصا شعرا/ سيلقف كل ما نثروا.

3 – المرأة في ضيافة الشاعر: يرسم الشاعر لعيني المرأة التي يخاطبها لوحة راقية تمزج بين معاناة الشاعر التي تثمر شعرا وبين الله الذي يتمرأى في تلكما العينين مانحا إياهما حضورا إلهيا قدسيا: أيا ليلية العينين/ في لونيهما/ قدري../ على عينيك/ يكتبني مداد/ أسود السهر/ حديثا/ في سماء الروح/ بين النجم والقمر/ ففي ليليهما/ يحلو تجلي/ الله في البشر. وعلى هدي الشعراء الكبار الذين وجدوا في المرأة تماسا مع الموت والتماسا للفناء في عشق الوجود، يعتبر أحمد عبده الحب والموت قرينين يستند كل منهما إلى الآخر: تحاصر/ في الهوى/ امرأةٌ دمي/ والحب أطواق/ وللموت/ احتمالات/ على يدها/ وإشراق/ لها/ كالطعنة النجلاء/ في الأعماق أعماق/ ولي صمت الشهيد/ ولي برغم البوح/ إطباق. وفي سَوْرة العشق وحمياه يدرك الشاعر المطلق، وفي المطلق تبطل وظيفة التفكير فتعيش الذات انخطافا قد يقصر وقد يطول قياسا إلى شدة التجربة وعنفها. وعندما ينحسر العشق تسترد الذات توازنها المستباح، لكنه لا يؤدي بالضرورة إلى صناعة الحكمة لأن احتمال الضياع وارد: أنا المطلق../ إذا أعشق../ أنا المتفلسف الأحمق... !!

 ومرة أخرى، عندما يعتصم الشاعر بأناه الباذخة المتعالية تتقزم مكانة المرأة وتتراجع، فيرى أنه لا معنى لها إلا بوجوده: فهي عاجزة عن تعرف جسدها وخصوصياته إلا بترخيص منه وتوجيه متأثرا بالشاعر نزار قباني في الكثير من تجاوزاته عندما كان لا يمنح المرأة هويتها وأنوثتها إلا بتوقيع من الشاعر مرورا بسريره الخلاق: تقول/ أنا جمالي لي/ وليس حضورَ شخص فيه/ أقول:/ إذا بدوني نِلْتِ/ ثغرك مرة/ " بوسيه ".

 إلى هنا نتوقف وما زالت الرحلة تطول، وكان بإمكاننا أن نفرد عنوانا للتناص وعنوانا للإيقاع وعنوانا للعب اللغوي وآخر لمعجم التصوف... ولكننا نرى أن عابر السبيل الذواقة يستطيب ظلال الواحة ونخيلها أكثر من أن يقذف ثمارها ويتلف خيراتها.

بن العربي غرابي، أستاذ في التعليم الإعدادي، ميسور، المملكة المغربية.

وسوم: العدد 730