لبيد بن ربيعة العامري(شاعر الحكمة والتأمل والاعتبار)

               " رائعة حقيقية الحياة "

1- المقدمة:

لبيد بن ربيعة العامري، أحد فحول الشعر الجاهلي وصاحب المعلقة المشهورة، ذات الصيت الذائع، بين عرب الجاهلية، والتي دافع فيها عن مجد قومه، وفاخر به، ولم يعرف عنه في شعره إلا الفخر بقومه، ترفع عن التكسب بالشعر وامتاز بصعوبة الأساليب والبحث عن الغريب، ولا غرابة في ذلك وهو ابن البادية الذي أَلف حياتها واخذ منها وتأثر بها. ومع ذلك خالط التأمل شعره الجاهلي حين كانت تطل عليه بعض لحظات الصفاء، ولكنه تأمل مرتبط بالعقلية الجاهلية وأغراضها وهمومها، كما ورد، في معلقته (عفت الديار محلها فمقامها ):

وما إن انبثق فجر الدين الجديد، وانتشر نوره بين القبائل العربية، حتى بعث البراء العامري ابن أخيه لبيد برسالة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم (فوقع الإيمان في قلبه إلا أنه لم يعلن إسلامه حينئذ، وعاد إلى قبيلته، حتى إذا استدار العام، خرج مع وفد منها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فأعلنوا دخولهم في دين الله.. ورجع لبيد إلى قومه يذكر لهم البعث والجنة والنار، ويقرأ لهم القرآن وما زال بينهم حتى خط عمر الكوفة، فنزلها وأقام بها إلى أن توفاه الله سبحانه وتعالى في صدر خلافة معاوية سنة أربعين للهجرة)(36).

 وكان سبب وقوع الإيمان في قلبه؛ سلامة فطرته، وكياسة عقله، وسعة أُفقه المبكر. وبذلك انفك عقله من قيود الجاهلية، وأخذ حريته في التأمل والتفكير، يساعده في ذلك منهج الدين الجديد الذي يعتبر التفكير والتأمل عبادة يتقرب بها العبد إلى الله.

2- التأمل والتفكير عند عرب الجاهلية:

التأمل طبيعة فكرية في الكائن البشري، لأنه مخلوق عاقل، يدرك المصلحة، ويحمل هموما فوق الإشباع العضوي، وقد تتعدد جوانب التأمل والتفكير في إلى الحياة المتشعبة، ولكن المسألة الملحة التي تقلق الضمير البشري هي حقيقة الموت، وهي الحقيقة التي تقف حائلا بين الجنس البشري وطموحه في البقاء، ورغبته الملحة في الخلود، وفي ظني أنَّ ذلك عائد إلى المنظار الذي يحمله الإنسان وإلى العقيدة التي ينتهجها في تفسير الظواهر ومنها ظاهرة الموت، فالإنسان الجاهلي، ومن خلال تصوره للحياة، كان يدرك أن الله هو الخالق، ولكنه ضل الطريق، فأنكر البعث والحساب، وظن أن الموت نهاية المطاف، وعنده ينتهي كل شيء، وتصور كهذا، يزرع في قلب صاحبه الهلع والحزن ويدفعه إلى الشعور بعبثية الحياة وتفاهتها، وهو يرى الأَحبة يذوبون في دنيا الفناء، وتتقطع أوصالهم في التراب، فلا أمل ولا لقاء، ولا بد لكل واحد أن يتجرع مرارة الموت. إنَّ عقيدة أهل الجاهلية مرعبة، تضاعف الأحزان، وتعمق الهلع والجزع، والسبب في ذلك أنّ الفطرة البشرية انحرفت عن ربها، ووقعت تحت عقائد الجاهلية المنحرفة فرأت في الموت فناء، يفسد عليها رغبتها في الخلود، وينزع منها الأمن، ونلمح ذلك من خلال قول عدي بن زيد (وما غبطة حي إلى الممات يسير)(37)، وإذا نظرنا إلى شاعر آخر نجده يتمنى المستحيل، ويود لو أن الإنسان كالحجر الصلد، لا تؤثر عليه الأحداث ولا تبليه الأيام، ولا يرعبه الموت:

وهكذا عاش الجاهلي التأمل مرارة، يتجرع به حسرة الضياع، ويعيش متآكلاً بين التوتر والرعب، ويشعر أنّ الحياة موحشة، لا تستحق منه إلا أحد أمرين: إما الهروب منها أو الإقبال عليها، إقبال المستغل المستفيد المتلذذ بها، قبل أنْ تبلعه الأرض في أحشائها، وليكن بعد ذلك ما يكون، وهذا طرفة بن العبد يعرض لنا هذه الفلسفة بوضوح تام.

وهذه الخنساء تمضي في البكاء على أخيها صخر، لا يقر لها قرار، ولا يرتاح لها بال، ولم تنهزم صورة الموت المرعبة من نفسها، إلا عندما أطلت عليها العقيدة الإسلامية، التي قلبت لها موازين الجاهلية، ووضحت الحقائق جلية في تصورها.

3- تحليل القصيدة

حتى إذا جاء الانقلاب الإسلامي على الجاهلية من جذورها، فقوض بنيانها، ونظف النفوس من صدأ عقائدها المنحرفة وانطلقت النفوس من أصرها وقيودها، عندها تغيرت الحياة ورآها الناس من خلال مجهر الإسلام بمنظار موضوعي جديد، وتأمل جديد، إنّها نظرة المؤمن، الذي يتأمل جوانب التغير التي تثير الدهشة، وترقق القلوب، وقد رأى في الموت واعظاً يضبطها من الخلل، وينبه الناس إلى حقيقة الحياة الزائلة،.التي يلفها الفناء، ولكن بعيداً عن العبثية، ومن خلال تصور جاد، ينقل الإنسان إلى التأمل والاعتبار الذي يعلمه كيف يقرأ سطور الكائنات، ويتفرس حكمة الله في خلقه، وعندها يصبح الموت مرحلة من مراحل تنقل الكائن في رحلته الطويلة في هذا الكون الواسع، وهكذا كان لبيد بن ربيعة، وبعين الشيخ الكبير الوقور، الذي عجم الحياة من خلال التجربة وهو القائل:

إنه يرى أن جميع الأشياء أطول عمراً من الجنس البشري، فالنجوم لا يرى أنها بليت والجبال تمر عليها الأجيال وتتعاقب وتندثر في أعماق الأرض، والجبال التي استقبلت الأجداد والآباء تستقبل الأبناء والأحفاد، وكذلك الأبنية والمصانع، فالإنسان هو العنصر الضعيف المندثر، والذي يجعل لبيداً مدهوشاً أمام الحقيقة التي تهز وجدانه من الأعماق، هو عنصر القهر وحقيقة الموت، وأنّ الجماد أكثر حظاً في الخلود من الإنسان، إنها مشاعر الذهول التي تتوارى وراء الألفاظ، ومع ذلك يتماسك لبيد أمام هذه الحقيقة ويعترف بها، ويُقربها إقرار المؤمن، الذي لا ينكر ولا يتهرب إنه اندهاش المؤمن وانبهاره أمام الحقائق، حتى يألفها، ثم يستعد للتعامل معها، ولذلك فلا داعي للحزن والجزع، ما دام أن الكأس سوف يشربه الجميع ويتجرعونه دون حيلة منهم أو تخيير لهم في ذلك وهنا قد يتعدد السلوك البشري وتتجاذبه المخاوف ويحكمه الارتباك، فمن متجه إلى الهرب من الحقيقة، يدفن رأسه خوفاً منها، كفعل ذكر النعام (الظليم) حين يدفن رأسه هربا من الصياد، يريد أن يعب من ملذاتها، قبل فوات الأوان ومن يائس سيطر عليه الحزن فاصبح شبح الموت يمنعه طيب المنام، ومن مؤمن عرف الحق فمال إليه، وهذا هو الذي تعلمه لبيد من إسلامه، وهو يُواجه حقيقة الموت بالاعتراف والاقتراب منها، وهنا يصبح الموت واعظا، يحرك القلوب للاستعداد والتزود إلى يوم الرحيل، والركض إلى الله بالعمل الصالح (وما البر إلا مضمرات من التقى وما المال إلا عاريات ودائع) فالمال وديعة ترد إلى صاحب الأمر، والسعيد من عاد وقد عمرت التقوى قلبه ومقاصده ونواياه، لأن الإنسان لا يحمل شيئاً من الأرض يوم موته، فالأرض معارة للجنس البشري، ويغادرها بعد أن تمتحن وتختبر نواياه ومقاصده فيها، فان أخضع هواه لأمر الله وقصدَهُ في الأعمال، فقد سلمت النوايا وسلم القلب، وعندها يكون الموت سعادة وراحة لها، بعد عودة المؤمن من سفره الطويل إلى ربه، إنها عودة الغانم السعيد بلقاء الله، وبهذا استطاعت العقيدة الإسلامية أن تجلو عن النفس صدأ الرعب، الذي ران على القلوب يوم  انحرفت إلى العقائد الجاهلية، ويعود بها إلى بر الأمان، وهنا يصبح التفكير في الحياة، وسيلة من وسائل ضبط العمل وتحسين السلوك، ويصبح الموت واعظاً، والتفكير عبادة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى.

وهنا نرى الشاعرية المرهفة، والتأمل الدقيق، يتعمق في النظر، فيرى حياة الفرد كأنه شهاب تألق، ولكنه لا يلبث أن ينطفئ ويذبل ثم يذوب فيها، انه تألق الفناء والانتهاء وعندها تخلوا الديار، ويكونوا الناس كالظل الزائل يمرون عليها خالية، فيعمرونها، ثم تعود خالية منهم كما كانت خالية من قبلهم، والمال والأهل والأولاد والسيادة، كلها ترد إلى صاحب الأمر، وبهذا يصبح التأمل إدراكاً للحقائق وخضوعاً لها وتفاعلاً معها، وهنا نلاحظ كيف دخلت العقيدة الإسلامية إلى القلوب والعقول، فأورقت ثماراً من التأمل لا جزع فيها ولا هلع، ولكن فيها اعتبار وطمأنينة وتوجه إلى الله:

فالإنسان يعيش وسط الغيب والمجهول، ولا يمكن ادعاء العلم ومعرفة الغيب، من فئات تقامر وتدعي العلم (الطوارق بالحصى وزاجرات الطير) فما عليه إلا أن يترك ادعاء معرفة الغيب، ويترك الغيب لله سبحانه وتعالى، فهو الذي عنده مفاتح الغيب، وعلى الجنس البشري أن يترك ادعاء معرفة الغيب وأفاعيل الكهان ويحترم عقله، ويعيش ضمن العالم المحسوس، ويدرك الدنيا بحواسه، ويستشرف عظمة الخالق من خلال التفكير في إبداعه في مخلوقاته، وهذا هو طريق العلم الذي دلنا عليه القرآن الكريم يتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا آل عمران:191

4- البناء الفني والمذهبية الأدبية

1- عدد لبيد في الأساليب بما يخدم الغرض ويوصل المشاعر والأفكار، بلغة حية ذات حلاوة ورونق جمعت بين أسلوب الحصر، والتشبيه، والتقريب وهذا يدل على قدرة لبيد في الانتقال من وعورة الألفاظ وحوشي الكلام إلى سهولة الأداء وجمال الألفاظ.

2- استطاع القرآن الكريم أن يفعل فعله في قلب لبيد وتعبيره وجملته الشعرية فقد ترك فنيات الجاهلية وغموضها الذي كان يسيطر على معلقته، واتجه إلى وضوح الخطاب الشعري دون النزول عن المستوى الفني، وبخبرة عريقة نحو قوة السبك ورقة الألفاظ وعذوبتها، مع تأثر واضح بمعاني القرآن الكريم، كالاعتبار بالدنيا وتذكر الحساب والبعث، والخوف من الله والاستعداد ليوم الرحيل، وهو القائل:

3- استطاع لبيد أن يطوع شعره، في اتجاه تحقيق الشعر الذي يتسق مع متطلبات الإسلام وقد بدت استجابته في الأخيلة، والأساليب، والمعاني، والأغراض الشعرية، من خلال الشمولية التي تربط المعتقد والمشاعر والأساليب وباتساق متين لا نشوز فيه. 

وسوم: العدد 730