من أدب السجون

د. أحمد محمد كنعان

قرأت لك : من أدب السجون

الرواية : شرف

المؤلف : صنع الله إبراهيم

الناشر : دار الهلال عام 1997م

تعريف بالمؤلف : صنع الله إبراهيم أديب مصري، ولد في القاهرة عام 1937، وهو روائي ثوري، فاز في عام 2003 بجائزة الرواية العربية التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة في مصر، لكنه رفض استلام الجائزة احتجاجا على الدكتاتورية وما يتعرض له المواطنون من ظلم وقمع وانتهاك، وقد سجن عدة مرات لمواقفه المعارضة للدكتاتورية، منها السُجن خمس سنوات في العهد الناصري !

 صنفت الرواية في المرتبة الثالثة بين أفضل مائة رواية عربية في العصر الحديث، وهي تنتمي إلى أدب السجون، ومن المعروف أن معظم الإنتاج العربي في هذا الضرب من الأدب أنتجه معتقلون سياسيون، مما يضفي على هذا النوع الأدبي نكهة خاصة، إذ حاول كل من هؤلاء الربط بين تجربته الخاصة والأوضاع السياسية السائدة في أيامهم !

 ونظرا لما شهدته الساحة العرببة من مظالم وانتهاكات رهيبة على أيدي الأنظمة التي تحكمت بالبلاد خلال العقود القليلة الماضية؛ فقد شهد الأدب العربي المعاصر كثيرا من هذه الأعمال نذكر منها : «الحياة بين يدي الملك» للمغربية سكينة أوفقير، ورواية "تلك العتمة الباهرة" للطاهر بن جلون، و"نجمة أغسطس" لصنع الله إبراهيم نفسه، وغيرها من الروايات الكثيرة الأخرى التي تنتمي إلى أدب السجون!

 ويرى بعض الباحثين أن هذا الضرب من الأدب الروائي يرجع إلى "روميات" أبي فراس الحمداني، وقصائد الحطيئة وعلي ابن الجهم وأمثالهم في الأدب العربي القديم .

ويذهب باحثون آخرون إلى تصنيف ما دونه الإمام أحمد ابن حنبل من أشعار ظغبان سجنه في إطار أدب السجون، ومما قال فيها:

لعمرك ما يهوى لأحمد نكبة     من الناس إلاّ ناقص العقل مُغْـوِرُ هو المحنة اليوم الذي يُبتلى به   فيعتبر السنِّي فينا ويسبُرُ شجىً في حلوق الملحدين وقرَّةٌ  

لأعين أهل النسك عفٌّ مشمِّرُ

لريحانة القرّاء تبغون عثرة   وكلِّكُمُ من جيفة الكلب أقذرُ فيا أيها الساعي ليدرك شأوه   رويدك عن إدراكه ستقصِّرُ

 

 

 

الرواية : تنقسم إلى أربعة مراحل أو أجزاء:

في الجزء الأول نجد "أشرف" بطل الرواية ، أو "شرف" كما تناديه أمه، يدخل السجن بعد قتله خواجة سائح أجنبي حاول انتهاك عرضه، وداخل السجن تبدأ معاناة شرف بالتعرف على عالم جديد ليس كالعالم .. وقوانين جديدة .. ليست كالقوانين !! الجزء الثاني يسرد فيه المؤلف حكاية الدكتور رمزي المسجون في قضية رشوة، ونلاحظ أن هذا الجزء من الرواية وثائقى أكثر منه أدبي، يكشف فيه المؤلف من خلال شخصية رمزي جرائم الشركات متعددة الجنسيات وخاصة شركات الأدوية وما ترتكبه من جرائم بحق العالم الثالث خاصة ! الجزء الثالث يسرد صنع الله فكرة مسرحية ألفها رمزي لعرضها داخل السجن في احتفال 6 أكتوبر، وفى هذه المسرحية يعرض صنع الله إبراهيم مختلف التحولات التي مرت بها مصر بدءا من العهد الناصري مروراً بعهد السادات وانتهاءً بتجاوزات حسني مبارك ! في الجزء الرابع والأخير يكشف المؤلف عن الوجه الإنساني للمساجين خاصة أصحاب العقوبات الطويلة. وتنتهى الرواية نهاية مفتوحة للغاية لتجعل القارئ رهن أسئلة كبيرة، مقلقة تدور حول مصيرنا نحن العرب في هذا الجو الخانق الموبوء !

 وقد حرص صنع الله إبراهيم في روايته على فضح الكثير من الممارسات السياسية غير الإنسانية التي يتعرض لها المواطن العربي في ظل الدكتاتورية وانتهاك الأعراف الإنسانية، ويصور في الرواية رفضه المطلق للتعصب الطائفي، من خلال سرد حادثة تعرض لها المعتقلون المسيحيون على أيدي بعض المساجين المسلمين، ما جعل السجين المسيحي سامي، يخشى أن يكتشفوا احتفاظه بنسخة من الإنجيل !

 لكن صنع الله لا يترك الأمور تنتهي عند هذه الصورة القاتمة، بل نراه في الصفحات التالية يرسم صورة ناصعة للعلاقات المسيحية الإسلامية في البلاد العربية، إذ يحتفل المساجين المسيحيون بيوم شم النسيم مع المسلمين الذين كانوا يحتفلون بعيد الفطر، وهي فكرة يقتبسها من تاريخ مدينة بورسعيد المناضلة، عندما كانت تحت الاحتلال البريطاني، حدث ذلك إبان ثورة 1919 ضد الاحتلال، فقد تصادف أن حلّ عيد الفطر مع عيد شمس النسيم في اليوم نفسه، فشارك مسلمو بورسعيد مع أقباطها في الاحتفال، ورفعوا معاً شعار الهلال والصليب، وأعدوا تمثالاً من الخشب للجنرال الإنجليزي اللنبي، وأحرقوه معا على الملأ، ومن يومها في كل عيد لشم النسيم، يفطر البورسعيديون بكعكة من الخبز تتوسطها بيضة مشوية، ملونة»

·       ما الذي أراد صنع الله أن يقول بسرده لهذه الصور ؟

 لقد أراد تسجيل رفضه القاطع للتعصب الديني، وأراد – فوق هذا - أن يصدمنا، كما فعل في العديد من أعماله السابقة، فهو هنا يقول بصوته الوطني الجريح : لقد كنا في أيام الاستعمار أحسن حالا مما نحن اليوم، أراد أن يقول : «الاستعمار وحدنا» و «الاستقلال .. مزقنا» وهي صرخة مدوية أراد صنع الله أن تتردد في سمع العرب من المحيط إلى الخليج لعلها توقظ الضمائر النائمة !!

 وتكمن أهمية هذه الرواية المفجعة في أنها لا تكتفي بمعالجة أوضاعنا السياسية الكارثية، بل هي تحاول معالجة بعض القضايا الاجتماعية المتعلقة بالمرأة، فهي تسلط الضوء لكشف بعض أشكال القمع التي تتعرض لها المرأة اليوم في عالمنا العربي الذي تنادي فيه الأنظمة الحاكمة بحرية المرأة فيما تقبع آلف النساء في السجون العربية، ويا لها من مفارقة !؟

 وفي الخلاصة .. نجد أن صنع الله ابراهيم في روايته هذه حريصا على تسجيل الكثير من المواقف السياسية المؤلمة التي عاشها بهدف إعادة النظر في القيم السياسية التي تعكر اليوم مسرحنا السياسي العربي، على المستويين العملي والفكري .

 وبعد .. فإنني عندما وصلت الصفحة الأخيرة من هذه التحفة الأدبية النادرة وجدت نفسي أمام علامة استفهام كبيرة مرعبة تواجهني بالسؤال المفجع : هل وصلنا فعلا – كما يعتقد صنع الله - أن حياتنا نحن العرب قد أصبحت أسيرة عبثية سياسية توحي باستحالة التغيير؟!

 لكني لم أغلق الرواية حتى وجدت نفسي أفكر بالأنظمة الغاشمة التي تكاد تودي بربيعنا العربي إلى متاهة كارثية تلقينا في أحضان التطرف والتشدد والإرهاب رغما عن إرادتنا، وضد قناعاتنا، متاهة تدفعنا إلى تدشين ربيع جديد لن يزهر الياسمين .. بل ربيع عاصف لن يبقي ولن يذر !! على غير ما انتهى إليه صنع الله الذي حاول في النهاية زرع الأمل في نفوس قرّائه، حين رسم صورة حالمة لبطل الرواية «شرف» الذي راح يحلم بالبدء من جديد، رغم كل الإكراهات التي تواجهه، يحدوه في ذلك أمل كبير لا يملكه سوى قلة من الثوريين الصبورين ذوي النظرة البعيدة مثل كاتبنا المبدع صنع الله !!

 وبعد .. بقي أن أقول إنني على مدى قراءتي لهذا العمل الأدبي الأصيل، لم تغب عن ذاكرتي مشاهد الجرائم الفظيعة التي ارتكبها حافظ الأسد ضد المعتقلين السياسيين على مدى نصف قرن من الزمان، ولاسيما منها جرائمه ضد المعتقلين في سجن تدمر الرهيب، كما لم تغب عن ذاكرتي مشاهد التعذيب المرعبة التي ارتكبها ولده الشقي بشار ضد الشعب السوري الذي انتفض طالبا الحرية والكرامة .. جرائم لا أعتقد أن يستطيع قلم صنع الله المبدع أن يصورها، لأنها جرائم أعظم من أن تسطر في روايات !

وسوم: العدد 732