رِحْلَةُ اللُّغَةِ الْعَرَبيَّةِ في بُحورِ الشِّعْرِ

طَرَفٌ مِنْ تَكْمِلَةِ عَمَلِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَرَاهِيدِيِّ

دعيت من كيلة اللغات الأجنبية بجامعة بكين سنة 2010م، إلى المحاضرة في تاريخ اللغة العربية، فرأيت أن أصطفي نصوصًا من تراث الكلام العربي متوافقةً متعاقبةً متكاملةً، أتتبع فيها حركة أصوات اللغة العربية وصيغِها ومفرداتِها وجملِها وفقرِها؛ فلم يُمَكِّنِّي من ذلك إلا تراث الشعر العربي.وعلى رغم عيوب "الموسوعة الشعرية" الصادرة عن مُجَمَّع أبي ظبي الثقافي في 2003م، لم أستغن عما جَمَعَتْه من شعر لا يتيسر لباحث الانقطاع لجمعه؛ فعسى القائمون عليها وعلى مثلها أن يعرفوا خطر عملهم، فيقوموا له بما يستحق[1]!أهملت من مادة الموسوعة، شعر العامية، وشعر الدوبيت والشعر الموشح: أما شعر العامية فمتعدد الماهيات، يحتاج إلى بحث غير هذا المرصود لرحلة اللغة العربية الفصحى. وأما شعر الدوبيت ففارسي الوزن منخلع من العروض العربي الذي ضبطه الخليل. وأما الشعر الموشح فغير خالص للغة العربية الفصحى؛ فمن تقاليده الأصيلة المستمرة، أن يُختم الموشح بخرجة عامية أو أعجمية، يجدها الوشاح أولا، ثم يبني عليها موشحه، ليفضي إليها، وقد درست هذا الشعر الموشح من قبل، في "علاقة عروض الشعر ببنائه النحوي".خَلَصَتْ لي بعد ذلك 114234 قصيدة، توزعت في عصور التاريخ العربي، على النحو الآتي: م العصر مدته درجة مدته قصائده درجة قصائده صِنْفُه 1 ما قبل الإسلام 500 3 2,20% 10 د 2 المخضرمون 50 10 3,76% 9 ب 3 الإسلامي 39 12 0,36% 12 أ 4 الأموي 88 9 6,81% 7 ج 5 ما بين الدولتين 50 11 1,98% 11 أ 6 العباسي 508 2 19,54% 2 أ 7 الفاطمي 262 6 7,22% 5 ب 8 المغرب والأندلس 781 1 6,97% 6 د 9 الأيوبي 168 7 6,08% 8 ب 10 المملوكي 267 5 9,02% 3 ج 11 العثماني 288 4 7,40% 4 أ 12 الحديث 147 8 28,59% 1 د ولما تأملت من كل عصر، علاقة مدته بمقدار قَصَاْئِده، تَصَنَّفَتْ الاثنا عشر عصرا، على أربعة أصناف:

-         (أ) عصورٌ تَطابَقَتْ فيها دَرَجَةُ مُدَّةِ زمانها مِن تاريخ الشِّعْر ودَرَجَةُ نِسْبَة قصائدها مِنْ مَجْموع القصائد، وهي الإسلامي، وما بين الدولتين، والعباسيُّ، والعثماني.

-         (ب) عصورٌ تَلاصَقَتْ فيها الدَّرَجَتانِ، وهي المخضرمون، والفاطميُّ، والأيوبي.

-         (ج) عصورٌ تَقارَبَتْ فيها الدَّرَجَتانِ، وهي الأيوبيُّ، والمملوكي.

-         (د) عصورٌ تَباعَدَتْ فيها الدَّرَجَتانِ، وهي ما قبل الإسلام، والمغربُ والأندلسُ، والحديث.

وعلى حين يظهر في ثلاثة الأصناف (أ) و(ب) و(ج)، أثرُ المدة الزمنية في مقدار القصائد- يختفي في الصنف الرابع (د)، هذا الأثر، ليظهر أثر تِقَانةِ التوثيق والحفظ والنشر؛ فلم يكن كثير من شعراء الجاهلية يكتبون شعرهم مثلا، ولا تخلو نكبات المغرب والأندلس من تضييع تراث الشعر، ثم إن للطباعة أثرا واضحا في تسجيل الشعر الحديث.

وتخرجت قصائد الموسوعة الشعرية، من الستة عشر بحرا الخليلية، على النحو الآتي: م 1 2 3 4 5 6 قبل الإسلام المخضرمون الإسلامي الأموي بين الدولتين العباسي 1

الطويل

938

الطويل

1696

الطويل

171

الطويل

3604

الطويل

585

الطويل

4445

2

الوافر

428

الوافر

622

الرجز

92

الوافر

1017

الكامل

314

الكامل

3687

3

الكامل

347

البسيط

537

الوافر

58

البسيط

979

الرجز

304

البسيط

3035

4

البسيط

300

الكامل

511

الكامل

43

الكامل

806

البسيط

290

الخفيف

2271

5

الرجز

154

الرجز

414

البسيط

31

الخفيف

370

الوافر

204

الوافر

2120

6

المتقارب

104

المتقارب

217

الخفيف

11

الرجز

339

الخفيف

159

السريع

1625

7

الخفيف

76

الخفيف

113

المتقارب

6

المتقارب

302

السريع

104

المتقارب

1305

8

الرمل

54

الرمل

60

الرمل

3

المنسرح

118

الرمل

87

الرجز

1111

9

المنسرح

48

المنسرح

55

السريع

2

الرمل

111

المتقارب

84

المنسرح

1058

10

السريع

48

السريع

53

المنسرح

1

السريع

82

المنسرح

78

الرمل

888

11

المديد

13

الهزج

11

المجتث

1

المديد

33

الهزج

41

المجتث

351

12

الهزج

9

المديد

11

×

الهزج

20

المجتث

7

الهزج

278

13 ×

المجتث

1

×

المجتث

2

المديد

6

المديد

149

14 × × × × ×

المضارع

3

15 × × × × ×

المتدارك

3

16 × × × × ×

المقتضب

2

ج 2519 4301 419 7783 2263 22331 7 8 9 10 11 12 ج الفاطمي المغرب والأندلس الأيوبي المملوكي العثماني الحديث

الطويل

1832

الطويل

2051

الطويل

1825

الكامل

2077

الطويل

1905

الكامل

7786

الطويل

27701

الكامل

1568

الكامل

1797

الكامل

1354

الطويل

2016

الكامل

1833

الطويل

6633

الكامل

22123

البسيط

1352

البسيط

1227

البسيط

1217

البسيط

1444

البسيط

1248

البسيط

5287

البسيط

16947

الوافر

747

الوافر

597

السريع

496

السريع

906

الخفيف

941

الخفيف

3216

الوافر

10787

السريع

662

السريع

518

الوافر

465

الخفيف

826

الوافر

697

الوافر

3092

الخفيف

9548

الخفيف

596

الخفيف

504

الخفيف

465

الوافر

740

الرمل

447

الرمل

1806

السريع

6217

المتقارب

529

المتقارب

406

المتقارب

274

الرجز

593

السريع

440

الرجز

1324

الرجز

5371

الرجز

337

الرمل

299

الرجز

266

الرمل

544

الرجز

273

السريع

1281

المتقارب

4936

المنسرح

256

المنسرح

178

الرمل

225

المتقارب

409

المتقارب

242

المتقارب

1058

الرمل

4708

الرمل

184

الرجز

164

المنسرح

157

المنسرح

305

المجتث

172

المجتث

618

المنسرح

2604

المجتث

120

المجتث

136

المجتث

91

المجتث

304

المنسرح

159

المنسرح

191

المجتث

1803

المديد

39

المديد

57

الهزج

55

الهزج

62

المديد

71

المتدارك

134

الهزج

635

الهزج

25

المتدارك

17

المديد

52

المديد

59

الهزج

18

المديد

106

المديد

596

المتدارك

4

الهزج

13

المتدارك

8

المتدارك

14

المتدارك

11

الهزج

103

المتدارك

191

المقتضب

3

المقتضب

5

المقتضب

3

المقتضب

5

المضارع

1

المقتضب

30

المقتضب

48

المضارع

3

المضارع

3

المضارع

1

المضارع

4

×

المضارع

4

المضارع

19

8257 7972 6954 10308 8458 32669 114234 وتدرجت نِسَبُها من القصائد، على النحو الآتي:

1       الطويل (24,24%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة الأولى لعشرة عصور (1-9، 11)، والثانية لعصرين (10، 12).

2       الكامل (19,36%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة الأولى لعصرين (10، 12)، والثانية لستة أعصر (5-9، 11)، والثالثة لعصر واحد (1)، والرابعة لثلاثة أعصر (2، 3، 4).

3       البسيط (14,83%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة الثالثة لتسعة أعصر (2، 4، 6-12)، والرابعة لعصرين (1، 5)، والخامسة لعصر واحد (3).

4       الوافر (9,44%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة الثانية لثلاثة أعصر (1، 2، 4)، والثالثة لعصر واحد (3)، والرابعة لعصرين (7، 8)، والخامسة لخمسة أعصر (5، 6، 9، 11، 12)، والسادسة لعصر واحد (10).

5       الخفيف (8,35%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة الرابعة لثلاثة أعصر (6، 11، 12)، والخامسة لعصرين (4، 10)، والسادسة لخمسة أعصر (3، 5، 7-9)، والسابعة لعصرين (1، 2).

6       السريع (5,44%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة الرابعة لعصرين (9، 10)، والخامسة لعصرين (7، 8)، والسادسة لعصر واحد (6)، والسابعة لعصرين (5، 11)، والثامنة لعصر واحد (12)، والتاسعة لعصر واحد (3)، والعاشرة لثلاثة أعصر (1، 2، 4).

7       الرجز (4,70%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة الثانية لعصر واحد (3)، والثالثة لعصر واحد (5)، والخامسة لعصرين (1، 2)، والسادسة لعصر واحد (4)، والسابعة لعصرين (10، 12)، والثامنة لأربعة أعصر (6، 7، 9، 11)، والعاشرة لعصر واحد (8).

8       المتقارب (4,32%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة السادسة لعصرين (1، 2)، والسابعة لستة أعصر (3، 4، 6-9)، والتاسعة لأربعة أعصر (5، 10-12).

9       الرمل (4,12%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة السادسة لعصرين (11، 12)، والثامنة لستة أعصر (1-3، 5، 8، 10)، والمنزلة التاسعة لعصرين (4، 9)، والعاشرة لعصرين (6، 7).

10  المنسرح (2,27%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة الثامنة لعصر واحد (4)، والتاسعة لخمسة أعصر (1، 2، 6-8)، والعاشرة لأربعة أعصر (3، 5، 9، 10)، والمنزلة الحادية عشرة لعصرين (11، 12).

11  المجتث (1,57%)، في أحد عشر عصرا - فقد خلا منه العصر 1 - :

-    بالمنزلة العاشرة لعصرين (11، 12)، والحادية عشرة لستة أعصر (3، 6-10)، والثانية عشرة لعصر واحد (5)، والثالثة عشرة لعصرين (2، 4).

12  الهزج (0,55%)، في أحد عشر عصرا - فقد خلا منه العصر 3 -:

-    بالمنزلة الحادية عشرة لعصرين (2، 5)، والثانية عشرة لخمسة أعصر (1، 4، 6، 9، 10)، والثالثة عشرة لعصرين (7، 11)، والرابعة عشرة لعصرين (8، 12).

13  المديد (0,52%)، في أحد عشر عصرا - فقد خلا منه  العصر 3-:

-    في الحادية عشرة لعصرين (1، 4)، والثانية عشرة لأربعة أعصر (2، 7، 8، 11)، والثالثة عشرة لخمسة أعصر (5، 6، 9، 10، 12).

14  المتدارك (0,16%)، في سبعة أعصر - فقد خلت منه الأعصر 1-5-:

-    بالمنزلة الثانية عشرة لعصر واحد (12)، والثالثة عشرة لعصر واحد (8)، والرابعة عشرة لأربعة أعصر ( 7، 9-11)، والخامسة عشرة لعصر واحد (6).

15  المقتضب (0,04%)، في ستة أعصر- فقد خلت منه الأعصر 1-5، 11-:

-    بالمنزلة الخامسة عشرة لخمسة أعصر (7-10، 12)، والسادسة عشرة لعصر واحد (6).

16  المضارع (0,01%)، في سبعة أعصر - فقد خلت منه الأعصر 1-5-:

-    بالمنزلة العاشرة لعصر واحد (6)، والخامسة عشرة لعصر واحد (11)، والسادسة عشرة لخمسة أعصر (7-10، 12).

ولا تخفى مراتب الستة عشر بحرا الخليلية بعضها من بعض، بل قد انتبه إلى كثير من ذلك الخليلُ بن أحمد، ونبه عليه بدوائره المرتبة على وفق نسبة شيوع البحور؛ فقد قَدَّم دائرة المختلف ليدور فيها الطويل والمديد والبسيط، ثم ثَنَّى بدائرة المؤتلف ليدور فيها الوافر والكامل، ثم ثَلَّث بدائرة المجتلب ليدور فيها الهزج والرجز والرمل، ورَبَّع بدائرة المشتبه ليدور فيها السريع والمنسرح والخفيف والمضارع والمقتضب والمجتث، ثم خَمَّس بدائرة المتفق ليدور فيها المتقارب والمتدارك. ولو اطلع الخليلُ بن أحمد على ما كان بعده، لربما قدم دائرة المشتبه بتقدم الخفيف والسريع على وجه العموم، على دائرة المجتلب بتأخر الرجز والرمل!

ثم إننا نستطيع الآن أن نصنف الستة عشر بحرا الخليليةَ، على طبقتين:

1       في الطبقة الأولى بحور لم يخل منها عصر، وهي عشرة: الطويل، والكامل، والبسيط، والوافر، والخفيف، والسريع، والرجز، والمتقارب، والرمل، والمنسرح.

2       وفي الطبقة الثانية بحور خلا منها بعض العصور، وهي ستة: المجتث، والهزج، والمديد، والمتدارك، والمقتضب، والمضارع.

لِنُنَوِّهَ بما ثبت لبحور الطبقة الأولى دون أبحر الطبقة الثانية، من ملاءمة إيقاعية حيوية مستمرة- ثم بما كان من استغناء الشعراء بها أحيانا عن أبحر الطبقة الثانية.

ولَمَّا تَمَيَّزَ لي تراث الشعر العربي على النحو السابق، أقبلت أصطفي من عصوره كلها، ما اتَّحَدَ بينه البحر والرسالة والطول جميعا معا؛ فاجتمعت لي عفوا لا قصدا، اثنتا عشرة قطعةً طَويليةً مَديحيةً مُثَلَّثَةً. ولا يمتنع أن يجتمع لي غيرها، إذا ما تغيرت مجامعها، ولكنني حرصت على البدء بهذه الدفعة، إجلالا لبحر الطويل ملك البحور المتوج عليها بالمرتبة الأولى من الاستعمال على مدار التاريخ.وهذه هي الاثنتا عشرة قطعةً، الطويليةُ المديحيةُ المثلثةُ:

1       مِنْ عصر ما قبل الإسلام قال الطُّفَيْلُ الْغَنَوِيُّ (؟-609م):

عُصَيْمَةُ أَجْزِيهِ بِمَا قَدَّمَتْ لَهُ يَدَاهُ وَإِلَّا أَجْزِهِ السَّعْيَ أَكْفُرِ

تَدَارَكَنِي وَقَدْ بَرِمْتُ بِحِيلَتِي بِحَبْلِ امْرِئٍ إِنْ يُورِدِ الْجارَ[2] يُصدِرِ

أُفَدّي بِأُمِّيَ الحَصانِ وَقَد بَدَت مِنَ الوَتِدات لي حِبالُ مُعَبِّرِ

2       ثم مِنْ عصر المخضرمين قال النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ (570-670م):

وَأَيَّ فَتًى وَدَّعْتُ يَوْمَ طُوَيْلِعٍ عَشِيَّةَ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ وَسَلَّمَا

رَمَى بِصُدُورِ الْعِيسِ مُنْخَرَقَ الصَّبَا فَلَمْ يَدْرِ خَلْقٌ بَعْدَهَا أَيْنَ يَمَّمَا

فَيَا جَاْزِيَ الْفِتْيَانِ بِالنِّعَمِ اجْزِهِ بِنُعْمَاهُ نُعْمَى وَاعْفُ إِنْ كَانَ أَظْلَمَا

3       ثم مِنَ العصر الإسلامي قال زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفيَانَ (622-673م):

هَلُمُّوا إِلَى أَهْنَاسَ يَا آلَ هاشِمِ    وَيَا عُصْبَةَ الْمُخْتَارِ نَسْلَ الْأَعَاظِمِ

وَدُونَكُمُ ضَرْبَ السِّهَامِ بِشِدَّةٍ وَقَطْعَ رُؤُوسٍ ثُمَّ فَلْقَ جَمَاجِمِ

لِنَنْصُرَ دِينًا لِلنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الْهُدَى الْمَبْعُوثِ مِنْ آلِ هَاشِمِ

4       ثم مِنَ العصر الأموي قال الْفَرَزْدَقُ (658-728م):

وَقَوْمٌ أَبُوهُمْ غَاْلِبٌ جُلُّ مَالِهِمْ مَحَامِدُ أَغْلَاهَا مِنَ الْمَجْدِ غَالِبُ

بَنُو كُلِّ فَيَّاضِ الْيَدَيْنِ إِذَا شَتَا وَأَكْدَتْ بِأَيْمَانِ الرِّجَالِ الْمَطَالِبُ

وَمَا زَالَ مِنْهُمْ مُشْتَرِي الْحَمْدِ بِاللُّهَى وَجَارٌ لِمَنْ أَعْيَتْ عَلَيْهِ الْمَذَاهِبُ

5       ثم مِنْ عصر ما بين الدولتين قال مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ (723-798م):

إِذَا بَلَّغَتْنَا الْعِيسُ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ أَخَذْنَا بِحَبْلِ الْيُسْرِ وَانْقَطَعَ الْعُسْرُ

سَمَتْ نَحْوَهُ الْأَبْصَارُ مِنَّا وَدُونَهُ مَفَاوِزُ تَغْتَالُ النِّيَاقَ بِهَا السَّفْرُ

فَإِنْ نَشكُرِ النُّعْمَى الَّتِي عَمَّنَا بِهَا فَحَقَّ عَلَيْنَا مَا بَقِينَا لَهُ الشُّكْرُ

6       ثم مِنَ العصر العباسي قال ابْنُ الرُّوْمِيِّ (836-896م):

بِهِ تَنْطَوِي الْآمَالُ عِنْدَ انْبِسَاطِهَا وَتَنْبَسِطُ الْأَعْمَارُ بَعْدَ انْطِوَائِهَا

وَمَا تَنْطَوِي الْآمَالُ عَنْهُ بِخَيْبَةٍ وَلَكِنْ إِلَى جَدْوَاهُ أَقْصَى انْتِهَائِهَا

إِذَا غَلَتِ الْآمَالُ فَارْضَ بِجُودِهِ فَمَا بَعْدَهُ مَعْدًى لِسَهْمِ غَلَائِهَا

7       ثم مِنَ العصر الفاطمي قال ابْنُ أَبِي حُصَيْنَةَ (998-1064م):

رَأَيْتُ مُلُوكَ الْأَرْضِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ وَأَبْصَرْتُ مَا لَا يُبْصِرُ النَّاسُ فِي النَّاسِ

وَطَوَّفْتُ فِي شَرْقٍ وَغَرْبٍ وَأُدْمِيَتْ مَنَاسِيمُ أَعْيَاسِي وَآطَالُ أَفْرَاسِي

فَلَمْ أَرَ مَخْلُوقًا مِنَ النَّاسِ فَضْلُهُ يَزِيدُ عَلَى فَضْلِ الْمُعِزِّ بْنِ مِرْدَاسِ

8       ثم مِنْ عصر المغرب والأندلس قال ابْنُ رَشِيقٍ الْقَيْرَوَانِيُّ (1000-1071م):

فَقُلْ لِصُرُوفِ الدَّهْرِ ضُرِّي أَوِ انْفَعِي فَإِنِّيَ مِنْ مَثْوًى بَعِيدٍ عَلَى قُرْبِ

هُوَ الْمَرْءُ أَمَّا جَارُهُ فَهْوَ آمِنٌ وَأَمَّا الْعِدَى وَالْمَالُ مِنْهُ فَفِي رُعْبِ

مَتَى يَدْعُهُ الدَّاْعِي لِدَفْعِ مُلِمَّةٍ يُجَاوِبْهُ مَنْصُورَ الْيَدَيْنِ عَلَى الْخَطْبِ

9       ثم مِنَ العصر الأيوبي قال ابْنُ النَّبِيهِ (1164-1222م):

أَيَا مُنْعِمًا شُكْرِي لَهُ الْوَاجِبُ الْأَوْلَى    وَيَا مُخْلِصًا لِلَّهِ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى

خَرَجْتَ لِتَرْتِيبِ الْبِنَاءِ فَلَوْ رَأَى سُلَيْمَانُ مَا شَيَّدْتَهُ قَالَ لَا أَقْوَى

فَكَمْ بُنِيَتْ مِنْ قَبْلِهَا مِنْ مَدَارِسٍ وَلَكِنَّهُمْ مَا أَسَّسُوهَا عَلَى التَّقْوَى

10  ثم مِنَ العصر المملوكي قال ابْنُ الْوَرْدِيِّ (1292-1349م):

وَمَا كَانَ ظَنِّي أَنْ يَكُونَ الْفَتَى كَذَا ذَكَاءً وَلَكِنْ مَنْ يَوَدُّكَ مُقْبِلُ

وَمَا حَدَبَاتُ الْأَذْكِياءِ نَقِيصَةٌ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ تِلْكَ لِلْعِلْمِ أَحْمَلُ

فَدُمْ فِي أَمَانِ اللَّهِ فَضْلُكَ وَافِرٌ وَعِرْضُكَ مَوْفُورٌ وَذِكْرُكَ أَوَّلُ

11  ثم مِنَ العصر العثماني قال شِهَابُ الدِّيْنِ الْخَفَاجِيُّ (1569-1659م):

بِنُورِ الْمَعَانِي أَشْرَقَ اللَّفْظُ فَاكْتَسَى بِثَوْبَيْهِ مِنْ حُسْنٍ بَدِيعٍ بِلَا زُورِ

فَفِي عُمَرٍ مِنْ عَالَمِ الذَّرِّ عَدْلُهُ إِلَى اسْمٍ سَرَى مِنْ أَجْلِ ذَا قِيلَ تَقْدِيرِي

وَمَنْ قَالَ ذَا التَّقْدِيرُ غَيْرُ مُحَقَّقٍ فَقَدْ سَارَ فِي ظَلْمَاءِ جَهْلٍ بِلَا نُورِ

12  ثم مِنَ العصر الحديث قال جَمِيل صِدْقِي الزَّهَاوِي (1863-1936م):

نَزَلْتَ كَمَا يَرْجُو السَّلَامُ عَلَى الرَّحْبِ    بِمُشْرِفَةٍ بَيْنَ الْمَحَابِرِ وَالْكُتْبِ

وَجِئْتَ إِلَى بَغْدَادَ تُبْصِرُ دِجْلَةً وَتَشْرَبُ مِنْ سَلسَالِ مَنْهَلِهَا الْعَذْبِ

فَقَامَتْ بِتَكْرِيمِ الرَّجَاحَةِ أُمَّةٌ وَرَحَّبَ شَعْبٌ بِالْكِيَاسَةِ وَاللُّبِّ

إن وجود هذه القطع في نفسه رباط قوي، يخلد أسلوبا عربيا أصيلا مستمرا، يستشكل فيه الشاعر ببيت من مُثَلَّثَتِه، ويدعي ببيت، ويستدل ببيت، وإن اختلف بين الشعراء ترتيب هذه الفصول.وربما خطر لبعض المتلقين أن تلك القطع بقايا قصائد -وإن اكتملت رسائلها- لاقترانها ببعض الروابط والإحالات التي لا ترجع إلى مذكور. ولكنها على هذا قُبِلت ورُوِيَت وبَقِيَت، فأما الروابط والإحالات فلها فيما يأتي وجوه من أساليب الشعر العربي الأصيلة المستمرة.ولقد تجلى لي أن حركة الأصوات في الشعر العربي، مخبوءة في حركة المفردات؛ فإذا غلبت على الشاعر كلمة دالة تعلق بها وبسط لأصواتها في كلامه عنها؛ ومن ثم اضطربت أَرْوِيَةُ قِطَعنا بين ثلاث درجات من الإسماع.وتلاقى بعض الشعراء في كلمات القوافي، على صيغٍ تؤدي تفعيلات أو أجزاء من تفعيلات، كصيغتي "فُعْل"، و"فَعْل"، اللتين تُؤَدِّيان جزء "عِيلُنْ"، من تفعيلة الضرب "مَفَاعِيلُنْ".وآثر بعض الشعراء تعبير الجار والمجرور في بعض المواضع التي آثر فيها غيره تعبير المتبوع والتابع، فدل الأول على تَحَرُّجِه من عيب الاستدعاء، على حين استكان له الأخير.وتلاءم في أبيات قطعنا البيت والجملة، إلا درجاتِ التضمين الخفيفةَ، التي تتيح للمتلقي أن يستعمل البيت الواحد في حاجته المشابهة.أما جرأة بعض الشعراء على تصدير حروف العطف من غير معطوف عليه، عطفا على حديث النفس، أو تسليما لوزن البحر اطمئنانا إلى جواز العطف على حديث النفس- فيستثقله بعض الشعراء فيعرضون عنه، أو يستغلق على بعض المتلقين فيحذفون هذه الحروف!لقد بدت لي تلك القطع الاثنتا عشرةَ الطويليةُ المديحيةُ المثلثةُ، قصيدة واحدة مستمرة، أجاز فيها اثنا عشر شاعرا بعضُهم بعضًا على اختلاف الأزمنة والأمكنة، ولن يَقَرَّ لها قرار ما بقي في الدنيا عربي، و"لَنْ تَدَعَ الْعَرَبُ الشِّعْرَ حَتَّى تَدَعَ الْإِبِلُ الْحَنِينَ"!وتَمَثَّلَتْ لي بها رحلة اللغة العربية في بحور الشعر، كيف كانت أصواتها وصيغها ومفرداتها وتعبيراتها وجملها وفقرها، وكيف صارت. وفي تأمل كلٍّ من ذلك بها، ما لا يتسع له وقت.وتجلى تراث العربية كُلًّا مجتمع الأجزاء، يَسْتَوْعِبُه على اجتماعِ أجزائِهِ كلُّ طالبٍ من كل زمان ومكان، عالما كان أو فنانا، وتتكرر لذلك آثاره على اختلاف الأزمنة والأمكنة.لم أكن أريد إلا أن أصطفي نصوص الكلام العربي المتوافقةَ المتعاقبةَ المتكاملةَ، التي أتتبع فيها رحلة اللغة العربية، ولكنني وجدتني أجري مجرى الخليل بن أحمد الفراهيدي، من حيث أدري ولا أدري، وأُكَمِّل عمله على نحو ما، فرضَ كفاية على المشتغلين بالعربية في كل زمان ومكان! فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات!

 [1] ربما كان من علامات التفريط أن يتخلوا عن عملهم لتستولي عليه مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم لتخرج به سنة 2009م، ما سمته موسوعة الشعر العربي!

[2] هكذا في الموسوعة وفي ديوانه نشرة دار صادر بتحقيق حسان فلاح أوغلي الطبعة الأولى 1997م، ص132، ولكنني أظن أن الصواب بالرفع؛ فعلى هذا ينبني المديح.

وسوم: العدد 739