أن تكون بين حفيدتين

clip_image001_c6d9c.jpg

أن تكون جدّا فهذا يعني أنّ قلبك سيمتلئ حبّا بريئا لا مصلحة لك فيه، فحبّ الأحفاد غيث يهطل على قلوب الأجداد، فيروي ظمأ أرض قد تكون عانت من الجفاف، أو لم تأخذ حقّها كاملا من الرّيّ، وما أن يأتي الحفيد الأوّل حتّى تخضرّ بساتين القلوب. وهذا ما حصل معي حيث أزهر قلبي حبّا عندما رأيت حفيدي الأوّل "كنان" المولود في ١٥-٨-٢٠١١، كنت قبل ذلك أعرف أنّ الأجداد يحبّون أحفادهم حبّا جمّا، لكنّ عقلي لم يستوعب مقدار هذا الحبّ قبل أن أعيش تجربته.

 سمعت بالمثل الشّعبي القائل:" ما أغلى من الولد إلا ولد الولد" منذ سنوات طفولتي، لكنّ ذلك لم يسعفني بالمعرفة الحقيقيّة لحبّ الأجداد للأحفاد قبل أن أصبح جدّا، وقد ألحّت عليّ كثيرا قضيّة تفسير هذا الحبّ، وتساءلت عن أسباب ذلك! فهل المرء عندما يصبح جدّا يكون قد نضج عاطفيا؟ أو ازداد وعيه وخبرته في الحياة؟ أم أنّه يرى في الأبناء والأحفاد امتدادا لبقائه بعد وفاته؟ وأثناء انشغالي بالبحث عن تفسير مقنع لذلك قرأت مثلا اغريقيّا يقول:"ابنك ولدته مرّة، وحفيدك ولدته مرّتين". توقفت كثيرا أمام هذا المثل الذي أثار اعجابي. لكنّني دخلت في متاهة ثانية، وهي: هل الحفيد الأوّل سيملأ فراغات القحط في القلب، بحيث لا يكون مكانا آخر لأحفاد آخرين؟

الحفيدة الثّانية "بنان".

وروادتني هواجس بأنّ حفيدي الأوّل قد ملأني حبّا، ولم يعد في قلبي حجرات لحبّ أحفاد آخرين، لكنّ حدسي أيضا جانب الصّواب، فعندما أطلّت علينا بنان شقيقة كنان، وجدتني أعيش تجربة حبّ الأحفاد من جديد، فشعرت بسعادة أراحتني كثيرا، وحجزت مكانا لها في قلبي لا يقلّ عن مكانة أخيها، وكتبت لهما قصّة أطفال أسميتها "كنان وبنان".

الحفيدة الثّالثة "لينا".

وفي ٢١ أيّار –مايو- ٢٠١٥، شرّفتا الحفيدة الثّالثة لينا ابنة قيس ومروة، كنت يومذاك في زيارة لأبويها في شيكاغو، وكانت لينا الطفل الأوّل في حياتي الذي أحمله بعد ولادته بساعة فقط، فأنا لا أجرؤ على احتضان الأطفال حديثي الولادة خوفا من أن أؤذيهم، لكنّ جدّة لينا قدّمتها لي فور دخولي غرفة الوالدة في المستشفى، فاحتضنتها على غفلة منّي، شممت لها رائحة زكيّة تملأ القلب حبّا وطمأنينة، رائحة لا تزال ترافقني حتّى يومي هذا، عشت مع لينا ٧٩ يوما، وعندما أزف الرّحيل وافترقنا، بكيت من لوعة الفراق، نزلت دموعي لفراق لينا وليس لفراق غيرها مع محبتي الكبرى للآخرين، وربّما كان بكائي لخوفي من فراق لن يعقبه لقاء، لخيارات لست طرفا فيها، فكيف سأعيش في القدس وحفيدتي التي لم أرتوِ من حبّها في شيكاغو على بعد سبعة آلاف ميل عنّي؟ لكنّ حبّ لينا بقي ملتصقا بشغاف قلبي المعذّب، وهنا وجدتني أمام مقولة الفاروق عندما سئل: أيّ أبنائك أحبّ إليك؟ فأجاب: "الصّغير حتّى يكبر، والمريض حتّى يشفى والغائب حتّى يعود"، ولينا هنا ينطبق عليها شرطان من شروط أكثريّة الحبّ؟، فهي طفلة صغيرة وغائبة أيضا، ورغم أنّ "الحفيدين كنان وبنان" نهر حبّ يصبّان حبّهما في قلبي، إلا أنّ جزءا من هذا القلب بقي يعاني لبعد لينا عنّي، فحلمت كثيرا بلقائها، وكتب لها رواية "لنّوش"التي لا قت قبولا كبيرا، لكنّ بعدها بقي يعذّبني.

الحفيد الرّابع "باسل"

وفي ٢١-١-٢٠١٦ رزقنا بالحفيد الرّابع باسل بن لمى ومعتصم، فاحتلّ مكانا خاصّا في قلبي، وفرحتي به تعجز الكلمات عن وصفها، حتّى خيّل لي بأنّه الطفل الأكثر وسامة وذكاء في الكون، وأظنّه كذلك، لكنّ ولادة باسل أكّدت لي بأنّ قلبي بحر كبير، يتّسع لأنهار من الحبّ ولا يمتلئ، وكلّما أراه أو أسمع صوته أنتشي طربا وأرقص فرحا.

الحفيدة الخامسة"ميرا"

ولدت ميرا ابنة قيس ومروة في ١ كانون أوّل-ديسمبر- ٢٠١٧ في مدينة شيكاغو، رأيت لها صورا، وشاهدت "فيديوهات" لها، لكنّ قلبي كان يتوق لرؤية شقيقتها الكبرى لينا التي أنهت عامها الثّالث، فهل "البعد جفاء كما يقولون، أو "البعيد عن العين بعيد عن القلب"؟ عندما قرّرت وزوجتي زيارة شيكاغو في ٨-٥-٢٠١٨، وما أن رأيت "ميرا" حتّى ذهلت من هول المفاجأة المفرحة، التفتّ إليها فابتسمت لي ابتسامة وديعة شرحت صدري، عيناها الزّرقاوتان اكتسبتا لونا من سماء صافية، تقاطيع وجهها استلهمت ألوان بساتين ورود الأرض وخيراتها، ضحكتها خرير جدول صغير عذب، أغرتني أن أحتضنها وأن أطبع قبلة على جبينها. طافت بي عاطفة جيّاشة، فتساءلت عن عدم اكتراثي كلّ هذه الأشهر الخمسة من عمر ميرا التي كنت بعيدا فيها عنها، لمت نفسي كثيرا، فمن له حفيدة مثل ميرا ويصمد خمسة أشهر وثمانية أيّام بعيدا عنها، كظمت حزني وعواطفي وأنا أمنّي النّفس بالعيش قدر المستطاع مع هذه الحفيدة الرّائعة.

أعدت ميرا لأمّها وحاولت احتضان شقيقتها الكبرى لينا، لكنّها صدّتني وابتعدت عنّي، فقد كانت ترقبني وأنا أداعب شقيقتها ميرا، فشعرت بالغيرة كما بدا لي، وأرادت معاقبتي لعدم انتباهي لها أوّلا وقبل غيرها، وبيني وبين نفسي شعرت أنّها محقّة، وغيرة لينا من شقيقتها ميرا ذكّرتني بغيرة كنان من شقيقته بنان، وغيرة كليهما من ابن خالتهما باسل، فهكذا هم الأطفال، يريدون أن ينفرد كلّ منهم بحبّ ورعاية الآخرين.

وسوم: العدد 778