ذكريات إخوانية

الأخ الذي قضى ردحاً من عمره في جماعة الإخوان المسلمين، يختزن في ذاكرته فيضاً من ذكريات حلوة طيبة لإخوان العقيدة والدعوة، تذكّر بالصلاح والتقوى، والتضحية والفداء، والحب والوفاء.

وهذه الزاوية إحدى ذكرياتي شتى مع إخوة تحابّوا في الله على غير أرحام بينهم، لعلّ هذه الذكريات تجلّي صورة الإخوان في النفوس، وتشحذ العزائم.

الرئيس والمرؤوس

في مطلع السبعينيات كلّفتني إدارة المركز لجماعة الإخوان المسلمين، في حلب، بأن أتسلّم مسؤولية جهاز التربية في المدينة.

كنتُ شغوفاً بعلم النفس التربوي، على قلة بضاعتي فيه، فأحببتُ أن أطبّق ما أعرفه من أصول المسح والفرز والتعرّف إلى القدرات، في المجال الذي يخدم العمل، من مثل الفهم والوعي والاستقامة، والمعرفة بالعلوم الإسلامية، وسَعَة هذه المعرفة، والخبرات التربوية، والإلمام ببعض المعارف العصرية السياسية والاجتماعية، وحسن الأداء الاجتماعي والتنظيمي...

استنفرت إمكاناتي، واستعنتُ بمن أعرف من إخواني، وقمتُ بعملية المسح والفرز، وفق الإمكانات والظروف المتاحة.

استغرقت العملية نحو شهر، ونتيجة ذلك صار لكل أخ رقم ترتيبي، ففيهم الأول والثاني.. والعاشر.. وفيهم من كان رقمه بالمئات!.

وشملتْ عملية الفرز جميع الإخوة التابعين لجهاز التربية، بمن فيهم الموجّهون (أي نقباء الأسر أو الحلقات)، وهم في الغالب من طلاب الجامعات والخريجين، وأفراد الأسر العاديون وهم طلاب المدارس الثانوية والإعدادية.

لم أكن أتوقّع أن تكون نتائج الفرز دقيقة، فمثل هذا الفرز يبقى ذا دلالة توجيهية عامة، يحمل نسبة من الارتياب والخطأ. ومع ذلك وجدتُ، من خلال التعامل مع نتائج هذا الفرز، أن دلالته كانت قوية جداً من الدقة. وكان هذا من عون الله وفضله.

كان عليّ أن أُشكّل مجلساً للجهاز من بضعة إخوة، يكون كل منهم مسؤولاً عن مجموعة من الإخوة الموجّهين.

وكان أن اخترتُ أعضاء مجلس الجهاز من الإخوة الأوائل في نتائج الفرز، واخترت نحو خمسة وثلاثين أخاً يلونهم في الترتيب، ليكونوا موجّهين، ولم أكن أعرف معرفة مباشرة، كل أخٍ من أولئك الإخوة، بل إنّ منهم من أعرفه جيداً من قبل، ومنهم من تعرّفت إليه بعدئذ...

وبعد إنجاز هذا التوزيع واستقرار العمل به خلال شهر أو اثنين، رأيتُ من المناسب أن أقوم بزيارة لكل مجموعة من مجموعات الموجّهين بوجود رئيسهم (عضو مجلس الجهاز).

كان معي في مجلس الجهاز الأخ سعد الطيّب. وهو شاب أسمر اللون، أقرب إلى الطول، تظهر عليه علامات الجد والدأب، كما تظهر في وجهه، وفي سلوكه، سمات التقوى والصلاح. وكان طالباً متفوّقاً في دراسته، وهو في السنة الجامعية الأولى في كلية الطب، فقير اليد، غنياً بالأخلاق العالية والدماثة.

ذهبتُ لزيارة مجموعة الموجّهين التي يرأسها الأخ سعد. كانت الزيارة في أثناء اجتماع لهم في بيت الأخ زياد نحاس، وهو أحد موجهي المجموعة، ومن أسرة ثرية، ويُقيم مع أهله في أحد الأحياء الراقية، وهو طالب في الجامعة، في الكلية نفسها التي يدرس فيها رئيسه سعد، لكنه في صف دراسي أعلى من صف رئيسه... لقد كان طالباً في السنة الثالثة.

كان زياد حنطي اللون، ممتلئ الجسم، متوسط الطول، هادئاً، عميق التفكير، حادّ الذكاء، طيب القلب، كثير التبسّم، ودوداً لإخوانه جميعاً.

جلستُ مع الإخوة مستمعاً مراقباً، لم أتدخّل بشيء من مجريات اللقاء، لكنني في نهايته عقّبتُ بكلمة قصيرة، أبديتُ فيها مشاعر الحب والإعجاب والتقدير للإخوة، وأوصيتهم ببعض الوصايا، وذكّرتهم ببعض المعاني التربوية.

لقد شدّ انتباهي بقوة، وجود زياد تحت إمرة سعد، مع أن زياداً أكبر سناً، وأعلى صفاً من رئيسه. وكان زياد يشارك في الجلسة بإيجابية تامة، وأدب جمّ.. كما كان سعد يُدير الجلسة بكفاءة عالية، وحزم من غير قسوة، ورفق من غير تسيّب.. فلم أدرِ بأيّهما كنتُ أكثر إعجاباً، ولأيهما كنت أكثر حباً!.

أثّر هذا المشهد في نفسي تأثيراً بالغاً، وشعرتُ بفضل الله علينا، أنْ منّ علينا بهذه الروح الأخوية الصافية؛ (ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون). {سورة يوسف: 38}.

بعد نحو شهرين طَلَبَتْ مني إدارة المركز أن أنقل من عندي أخاً لتكليفه ببعض المهمات، وكان هذا الأخ عضواً في مجلس الجهاز، وبذلك شغر مكانٌ في هذا المجلس فاستدعيتُ الأخ زياداً، وجعلته عضواً في المجلس ليكون زميلاً للأخ سعد.

وسارت الأمور كذلك على ما يرام، فكما كان سعد وزياد أخوين وهما رئيس ومرؤوس، بقيا أخوين وهما زميلان في مجلس واحد.

ومرّت سنوات قليلة على هذا، ودخل الأخَوَان المعتقل... وعلمتُ بعدئذٍ أنهما استُشهدا.

تذكّرتُ قول الله سبحانه: (ويتّخذ منكم شهداء). ربطتُ بين ما كنتُ أفهمه من معنى هذه الآية الكريمة، وما أعرفه من سُموّ الأخلاق عند الأخوين، فأدركتُ سرّ اختيار الشهداء!.

وسوم: العدد 1015