وداعا أيها الصديق علي صالح مسيبلي

أحمد علي عولقي

[email protected]

وداعا  أيها  الراحل * من دار الفناء الى دار البقاء *

وداعا أيها الرجل الخلوق .. المسافر من دار الوجود  الى دار الخلود *

سنبتهل الى رب الأرض والسماء * يغفر لك  ما قد مضى  ...

يلحقك بصحبة النبي  المجتبى * محمد الرسول المصطفى *

قبل أن اكتب هذه السطور وقفت مع نفسي متذكرا ما تحتفظ به الذاكرة  من ذكريات عن الفقيد  فإذا بي  أمام قامة كبيرة من السجايا والشمائل الكتابة عنها أكبر من أن تحتويها السطور  فقد كان من الرعيل الأول الذين كانت لهم بصمات وصولات وجولات وأبلوا بلاء حسنا في الإعلام الإذاعي والتلفزيوني.. والفقيد لي معه ذكريات عزيزة على نفسي وسوف أتطرق إلى بعضها لاحقا . وقد فجعت بخبر وفاته كما فجع غيري من محبوه ولكن هذه الحياة في ركضها المستمر وأحداثها الدامية  المتوالية باستمرار والموت يحصد البشر بالجملة هنا وهناك بسبب وبلا سبب ... حتى أصبحنا نستقبل أخبار الموت بدهشة فاترة وحزن عابر إلا ان رحيل بعض الشخصيات المؤثرة  في الحياة توقظ فينا مشاعر الموت الحقيقي .. مع وقفتي الاستذكارية وجدت نفسي أتذكر سيرة إنسان جمع مكارم الأخلاق و أصلة الإنسان  وسموا النفس وطيب السريرة وصفاء المعدن0

كل الناس  تتطلع إلى المستقبل , والمستقبل يصنعه النجاح  والنجاح نتيجة طبيعية للعزيمة القوية ..النجاح ليس لكل الناس  ولكن للذين يفكرون  ويؤمنون بما يفكرون الفقيد علي صالح مسيبلي من أولئك  الذين يفكرون يؤمنون ويعملون من اجل النجاح ..هو نجم من نجوم الإبداع وبصمة راسخة في عالم الإعلام والأدب , خلد ذكرى عطرة , موثقة وعالقة في الأذهان والوجدان .كان يرحمه الله متعدد المواهب  رائدا شموليا في الإعلام .. رائدا في الإذاعة ورائدا في التلفاز ورائدا في التأليف المسرحي  ورائدا في الإخراج ورائدا في التمثيل .. الشباب الذي عاشوا في الستينيات  يعرفونه من  خلال إعماله  في الإذاعة والتلفزيون أما شباب اليوم  لعلهم يعرفونه من خلال ما يسمعونه عنه  أو ما يكتب عنه أو من خلال إعادة  أعماله المسرحية  إذا كان التلفزيون  لا زال محتفظ بها  ويعرضها ؟ 0 

يقال أن المقياس لحضارة المجتمعات بمقدار ما يتمتع به أبناؤها من سعادة في حياتهم المعيشية وما يتمتعون به من صحة وبدنية ونفسية وفكرية وعلمية وحرية  وعدالة .. في تلك الفترة أواخر الخمسينات والستينات كانت عدن  نموذج للرقي والتحضر في المنطقة.. لذا يحلو للبعض أن يطلق على تلك الفترة أو ذلك الزمن  بالزمن الجميل . وفعلا كان جميلا ... كانت حياتنا يسودها الصفاء والقناعة والأخلاق العالية والمحبة والترابط الأسري والاحترام والوازع الديني  والتعاون فيما بين الناس ومشاركة الأهل والجيران في الأفراح والأحزان . كانت حياة بسيطة متواضعة  كانت الحياة أقل كلفة  وأقل إسرافا وتبذيرا  0 

علي صالح المسيبلي كما عرفته

هو من ذلك الزمن الجميل يتمتع بعقل في داخله مخزون من الذكاء وأعصاب هادئة .. ملامحه تعبر عن إيمان بكل رأي يقوله وآراؤه نتيجة حصيلة وفيرة من  الثقافة  والاطلاع الواسع 0بشوش الوجه دائم الابتسام شديد التواضع يعطي فرصة لمن يتحدث معه  ويشجعه  بعينيه  وإيماءات رأسه  وتعابير وجهة ليقول كل ما يريد وينصت بكل جوارحه  ثم يناقش بأدب وأخلاق عالية رحم الله علي صالح المسيبلي فقد كان نجما متوهجا في سماء عدن 0

بداية معرفتي به في مبنى إذاعة عدن  في التواهي حينها كنت رئيس الفرقة الشعبية للفنون والتمثيل وكان الصديق العزيز فرحان علي حسن  سكرتير الفرقة، ونائب الرئيس محسن البيحاني .. ذهبت إلى الإذاعة ومعي سهرة درامية ( تمثيلية ) من تأليفي أريد أن تمثلها الفرقة  وكان في نيتي مقابلة  علوي السقاف يرحمه الله  ولم يكن في ذلك الوقت موجود في الإذاعة  فإذا بي أجد أمامي علي صالح المسيبلي فسلمت عليه وتحدثنا وأخبرته  عن التمثيلية فتناولها  وقراء فيها صفحات ثم التفت إلي وقال هذه باللهجة الشبوانية وأنا خير من يخرجها0 خرجت من مبنى الإذاعة وأنا مسرور مرتين أولاً بقبول وإجازة  أن نمثل التمثيلية ثانيا بمقابلة هذه الشخصية التي أقابلها لأول مره  ولكنه أحسسني كأننا أصدقاء منذ زمن ... ومن ثم قمنا بالترتيبات وسجلنا التمثيلية في مقر الإذاعة  وبالفعل تم بثها واستمعنا لها  وهي بعنوان    ( القبيلة المتمردة ) تأليف عبد الله عبد القادر علي (احمد علي عولقي) إخراج  علي صالح مسيبلي  وقد شاركت في تمثيلها وممن شاركوا في التمثيل على ما أتذكر  عبدربه محمد طرموم 0محسن البيحاني 0 صالح الوحيشي 0فرحان علي حسن0 والأخت رجاء معتوق  والجدير بالذكر نحن أول من قدمناها لساحة الفنية في تلتك التمثيلية  ـ وبعد ذلك قدمت نص مسرحيتان لمسرح التلفزيون للأخ المرحوم محمد مدي الأولى بعنوان عقيرة و تعشيرة  والثانية بعنوان  الأخذ بالثار  قال لي  محمد مدي سنبدأ بالأولى وطلب منا ان نقوم ببروفات في مقر الفرقة  ومن ثم  سوف يأتي ويعطينا توجيهات وملاحظات  والبروفة الأخيرة والتسجيل على مسرح التلفزيون.. وفجأة حدث أمر جلل أطاح بالفرقة ونشاطها وفرَق شمل أعضائها ـ نتيجة الأحداث السياسية لان معظم أعضاء الفرقة فدائيين في التنظيم الشعبي لجبهة التحرير وكنت أنا من المطلوبين واختفيت  في الشمال فترة قصيرة ثم عدت لمواصلة العمل الفدائي .. وفيما بعد كانت لنا لقاءت عابرة  وكانت تربطني صداقة بالأستاذ حسين صالح مسيبلي وكنت أزوره في منزله بالمنصورة  0  

البناء الشامخ الكبير يبدأ  بأول لبنة والرحلة الطويلة تبدأ بأول خطوة .. والبناء لن يكتمل والرحلة لن تتم إلا إذا عرفت أين تضع اللبنة الأولى ومتى تبدأ الخطوة الأولى .. أحيانا تأتي المقادير بما لم يكن في الحسبان يتوقف البناء  ويتغير اتجاه الرحلة .. علي المسيبلي تجربة كبيرة في مرحلة قصيرة  - الراحل المسيبلي لم تكن الهجرة والبعد عن محبوبته عدن  في حساباته ولا حتى تخطر له على بال  ولكنه هاجر كما هاجر كثبر من المبدعين  منهم احمد شريف الرفاعي ارتحل إلى السعودية وكان له نشاط كبير في الإعلام السعودي في الإذاعة والصحف والمجلات 0وحسين الصافي ذهب إلى الشمال وشارك في تطوير تلفزيون صنعاء عبد الرحمن باجنيد التحق بإذاعة هولندا  والكثير أسرة آل  لقمان هاجروا إلى بلدان متفرقة  0

فارس من الزمن الجميل شد رحاله طوعا أو كرها على أمل ان يعود حينما يتحقق الحلم المنشود لمحبوبته عدن  وتزداد حضارة فوق حضارتها ورقي على رقيها وثقافة وتجارة وعلم  ويكتمل الحلم  لتكون عدن جنة عدن .. فإذا الغربان تتداول اغتيال الحلم المنشود والفرسان تتساقط واحد بعد الآخر.. والحلم المنشود يبقى مطلوبا تنشده الأجيال .. 

هذه السطور عن هذه الشخصية  ليست كتابة تاريخية وإنما هي وفاء وعرفان لشخصية وطنية قدمت للوطن إبداع فني وأدبي وإعلامي  .. وستبقى سيرة الراحل حاضرة دائما لأنها امتزجت عميقا بتراث وثقافة الوطن وتأصلت على الإخلاص والوفاء 0

في ذلك الزمن كانت عدن مليئة بالمدعين  والكفاءات  والمفكرين  في شتى المجالات ..الإعلام والأدب والرياضة والفنون و.. و.. والحقيقة يصعب علي ذكر بعض الأسماء  اللامعة كنموذج  وتجاهل آخرين لأن الأسماء كثيرة و وكلهم قامات كبيرة شامخة ساهموا  في توثيق وترسيخ تراثنا الثقافي والفكري والأدبي و..

كم هو مخزي ومؤسف ومؤلم ما عاناه وما يعانيه مبدعينا من الأحياء منهم  والأموات ما يعانونه من إهمال وتجاهل وجحود من الدولة  والأمثلة كثيرة .. الفنان محمد سعد عبدالله 0 المرشدي0 الإعلامية  الرائعة نبيلة حمود  وقبلهم نخبة من الرواد في الأدب الروائي والشعري والمسرحي وكافة أنواع الفنون والقائمة طويلة ـ أكبر من أن تستوعبها  مساحة مقال.والجدير بالذكر ان الإعلامية الراقية   أمل بلجون  يحفظها الله تعرضت لمرض ولم تلق من الدولة إلا الجحود والنكران والتجاهل مع إن الدولة تصرف ببذخ و إسراف للمهرجين والمنافقين والوصوليين والمفسدين 0 المبدعين هم الوجهة الحضارية لأي أمة  . وعندما يتسيد الجهل على أي أمة  فلا غرابه ولا استغراب ولا عجب. فكل شي متوقع وجائز يصدر منهم 0

أقسى ما في الحياة عند ما  يداس النبل والعطاء والإبداع تحت أقدام الجحود والنكران

.رحم الله الصديق علي صالح مسيبلي وله منا صادق الدعاء بأن يتغمده الله بواسع رحمته ورضوانه ـ ويلهم أسرته الكريمة الصبر والسلوان  وانا لله وانا إليه راجعون

دموع القلم 

المبدعين في ضمير وذاكرة  الوطن وفي قلوب الأجيال تتداول سيرتها جيل بعد جيل والماضي استشراف للمستقبل وطريق المستقبل بدايته خطوات الرواد 0

أمة لا تعترف بفضل روادها ولا تفاخر بهم .. لا تستحق أن يكتب لها تاريخ 0

امة تطمس معالم وتاريخ  الآباء والأجداد .. تتخبط  في ظلام وضلال 0

احمد علي عولقي  (  عبد الله عبد القادر علي   )