أمي الحبيبة ؛أنت في قلبي

مما شوّقني لأمي – وذكراها في قلبي وفؤادي مرتسمة – أنني قرأت قبل مغرب اليوم قصة ترويها إحداهن بطريقة شائقة ، فإذا بنبضات قلبي ترتفع وتيرتها – وأنا ابن الثانية والستين – وأحسّ بنفَس أمي رحمها الله تعالى يلامس وجهي ، وتتراءى عيناها الباسمتان ووجهها المشرق ، فيرتفع صدري ويهبط ، وتتساقط الدموع من عينيّ سخينة، ويرتفع النشيج شيئاً فشيئاً  تلقائياً ،  أو قلْ : إن النشيج كان متساوقاً مع حرارة شوقي للحبيبة الراحلة التي فارقتنا منذ تسع سنين ...

قمت لصلاة المغرب بعد هذا ، ووقفت زوجتي ورائي تصلي ، ولم أدر أنني بدأت بعد قراءة الفاتحة أرتل قوله تعالى من سورة الإسراء : " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً ... "

وسلمت بعد ذلك وأنا أذرف الدمع وأترحم على الحبيبين الراحلين ، على الوالدين الكريمين ،

على سبب وجودي بعد الله تعالى ،على من وصّانا المولى بتكريمهما وطلبِ رضاهما والدعاء لهما .

والتفتّ إلى زوجتي التي كانت تنظر إليّ مشفقة حائرة : فقلت لها : اتصلي بأمك واسألي عنها .

قالت : كلمتها قبل يومين ، وهي بصحة وعافية .

قلت : كلميها – رحمك الله وأجزلَ لك الثواب –  واسأليها أن تدعوَ لي ، ولئن فقدت أمي إن اتصالك بأمك ورضاها عنك يشرح صدري ، ويُقرّ بلابلي .

كلمَتها ، وسألـَتها رضاها ، فدعَت لها بما تدعو الأم لابنتها من دعاء جامع ينال الإنسانُ به البركات ، ودَعَت لي كذلك .

إذا ماتتِ الأم نزل ملَك من السماء يقول : ياابن آدم ماتت التي كنا نكرمك لأجلها ، فاعمل لأجلك نكرمْك .

ولعلي إذ أدعو لوالدتي بالرحمة في عالم البرزخ ، وهي بين يدي الله تعالى الرحيم بعباده ، الغفور لهم تسأله تعالى أن يكتبني من البارين بها في الحياة وبعد الممات ، فيستجيبَ لها ، وأكونَ بدعائها ورضائها من سعداء الدارين ... اللهم ارحم والديّ رحمة واسعة فأنت بهما وبعبادك المحبين رحيم ودود . 

أما القصة التي قرأتها ، فكانت سبب ما أنا فيه من شوق للحبيبين الغائبَين الحاضرَين فقد روتها إحداهن قائلة :

 كان زوجي في مجلس أحد أصحابه حين رنَّ هاتف أحد الحاضرين .

 رد الرجل على المكالمة بصوت عال فيه كثير من الخشونة : إيـــــه ! ، ليس الآن ....  أقول لك أغلقي الهاتف ، لا أريد أن تكلميني الآن ... بعد ذلك ، بعد ذلك .

 هكذا توالت الكلمات قلنا لعله يخاطب زوجته ، أو أخته ، أو إحدى قريباته، وما كان له أن يفعل ذلك..

  أغلق الرجل هاتفه وقال : أزعجتنا العجوز!!    قلتُ :مَن تلك العجوز ؟! ردَّك إنها أمي !!

 ما أقبح ما قاله وما فعله !، لم يتلطف معها في الكلام ولم يكن في وصفها مؤدّباً !

 سكتُّ .. وسكت الحاضرون على مضض  متألمين ..

ثم سمعنا بكاء خفياً  ، إنه أحد الحاضرين موصوفاً بالصبر والرجولة ، وكنا نعرفه رجلَ المواقف  في مواطن الابتلاء

 نظرنا إليه بدهشة، فدمعُ الرجال ليس هَيـّناً ، فلما أحسّ أننا ننظر إليه متعجبين  قال متحسراً متألماً

  ليتني رأيت أمي ، وليتها كانت على قيد الحياة ، فأتمتعَ بحديثها ، والنظرِ إليها ، وتقبيلِ يديها ورجليها . ..  كي أقول لها : مُريني بما يرضيك ؛ يا أغلى أمٍّ في الدنيا ، ويا أعظم مخلوق فيها ، ويا أكرم إنسان عليّ !

 وقع صاحبنا ذاك في حرج حين سمع هذه الكلمات ، وحاول الدفاع عن نفسه ، بتأتأة وفأفأة .

 فقاطعه الحاضرون دفعة واحدة قائلين : لا تعتذر مما فعلتَ ، فما لك من عذر .. خلّ المجلس سريعاً وانطلق إلى أمك ، واسترضِها ، قبـّلْ رأسها ، وقدميها ، واذرِفِ الدموع بحضرتها علها تنسى أو تتناسى ما فـُهت به من سفساف القول. ولعلها الآن – بعد ما سمعتْ منك هجرَ القول – حزينةٌ ، ففرّج عنها وكن باراً بها .

 أما من بكى فقد توفيت أمه  بعد ولادته فورا، ففاته حنان الأم ورأفتها ، ومما زاد في ألمه أنه كان يعتبر وجوده سبب وفاتها ، إذْ فارقت فور دخوله الحياة

 نشأ وهو صغير يسمع الأطفال تنادي أمهاتها ، وتحتمي بهنّ ، وتفزع إليهنّ  ، وتعتمد عليهنّ . يبكون فيجدون أمهاتهم يُسارعن إليهم متلهّفات حانيات ، يضمُمْنَهم ، ويطعمنهم ، وينظفنهم ، ويحملنهم . وهو بعيد عن كل هذا ، فينفجر بركانُ الأسى في داخله ، وينزوي في إحدى زوايا البيت يبكي بكاء مرّاً.

قرأتُ هذه القصة ، فبكى في داخلي طفلٌ كبير ، ما يزال يرى نفسه ظمآنَ لعطف أمه ، راغباً في رضاها ،

أذكر أنني – وكنت في دبيّ أعمل مدرساً –  اشتقت أمي – في حلب – إحدى الليالي ، فلم أنم حتى كلمتها ، وسألتها رضاها، ففعلت - رحمها الله ورفعها في عليين - ، فجلست أخط شوقي لها قائلاً :

             في هـَدأة الـليـل البهـيـم كـَتبتهـا       ودموع عيني سـطرُهـا ومدادُها

             ولواعج النفس انثنت تروي لكم       ما في الضمير وما حواه فؤادها

             تبدي لكم ما هـاج من أشواقهـا        ولأي حـَدّ وُدُّهــا .....ووِدادُهــا 

             تروي لكم ما ساح من عَبَراتهـا       لـَمّـا تمـَلـّك مقـلـَتَـيّ سُـهــادُهــا

             فـإذا النشـيجُ لُحونهـا وغِنـاؤهـا       وتـَذكـّري لأحـبــّتـي أورادُهــا

وكتبت أبياتاً أُخرى بثثتها فيها بعض شوقي وتقديري :

                          قـُبـُلاتي أطبعهـا رَغَبـاً        وضلوعي تزداد حنينـاً

                          لـِلأم حـَبـاهـا مـولانــا        عـفـْواً وصـفاءً ويقـيـنـاً

                          ربـّتـْنـا بالخـُلُق السامي        جعـَلـَتـْنا نلتـزم الديـنـا

                          فالفضل لها والشكر لها       هي منبـعُ خيـر يهدينـا

                          وضيـاءُ قد شـعّ وحبّ         ما زال بعطف يروينـا

                          فجنانُ الخلد بمرضاة الـ       الأم المعطاء تـُؤاويـنـا

                          ورضاء الله برضوان الـ      الأم السـمحاء يواتيـنـا

                          يا ربّ : فأكـرمهـا دوماً       فلأنت المكـرم ، آمينـا

وهذا ديواني الشعري الأول " نبضاتُ قلب "  أهديتُه الوالدة ، فقلت في إهدائه :

                                      يا من زرعتِ الخيرَ في داري

                                      وسـقـَيـْتِ بالتحنـانِ أشـجـاري

                                       وروَيـْتِ بـالإيـمــان أفكـاري

أهديكِ – أمي – بِكرَ أشعاري

مقبِّلُ قدميك وراجي رضاك : عثمان 

وسوم: العدد 744