الأخ الداعية الشاعر الأديب خالد البيطار، محطات في حياة الداعية

في وداع الراحلين

رحل عن دنيانا منذ أربعين يوما الأخ الداعية الشاعر الأديب خالد البيطار ( أبو نزار ) ، بعد عمر من الجهاد والعطاء ، والهجرة والصبر والمصابرة . كان الأخ الفقيد في عقود من المحنة والهجرة مثالا للمسلم العامل المحتسب ، ممن يصدق عليه ، إن شاء الله ، (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا )) . اللهم تقبل من سبق منا إليك ، وثبّتنا مع من بقي على عهدك وميثاقك حتى نلقاك .

رحل الأخ الشاعر الرهيف أبو نزار ، والمسلمون في العالم ، وفي منطقتنا ، وفي شامنا ، وفي سوريتنا ، يعيشون أحلك وأصعب ما مر بهم في التاريخ ، من فرقة وضياع وتشرذم ، وتسلط الأعداء والبعداء وخذلان الأهل والأقرباء . ومن زعم أنه قد كان في تاريخ الإسلام والمسلمين حقبة أشد حلكة وسوادا من هذا الذي يعيش المسلمون اليوم فقد أبعد النجعة ، وبالغ في الادعاء. حتى صار المسلم اليوم ، كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يمر بالقبر فيقول ليتني صاحب هذا القبر ، ويغبط الموتى على ما سبقوا إليه ، وتعافوا منه ؛ كل هذا لنقول بحق وجد ، أن الموت الذي هو قدر ربنا القادر قد أصبح أمنية يغبط عليها الأموات في هذا الزمان .فأن تقول مات يرادف أن تقول قد استراح ..على مذهب عدي بن الرعلاء الغساني :

ليس من مات فاستراح بميت .. إنما الميت ميّت الأحيـاء

إنما الميت من  يعيـش كئيبا .. كاسـفا باله  قليل الرجاء

وحين نكتب اليوم مات الأخ الحبيب الأديب ( أبو نزار ) الذي قضي سني عمره دَأَبا فإنما نستشعر معنى ما قال الأول

وألقت عصاها واستقرت بها النوى .. كما قرّ عينا بالإياب المسافر

 فلتهنك الراحة أخي أبا نزار ، وليهنك هذا الذي انتقلت منه وذاك الذي صرت إليه في جوار ربنا الرحمن – إن شاء الله – في عالم العدل المطلق ينادي فيه الملك المنان : لا ظلم اليوم .

والعزاء كل العزاء لأسرتك وأبنائك وبناتك ومحبيك وإخوانك ، الذين زادت غربتهم بفقدك غربة ، ووحشتهم بفقدك وحشة ، وبؤسهم ببعدك بؤسا ..فأي طعم يبقى للحياة بعد فقد الأحباب والإخوان والأقران ، لولا ركعيات يركعها المسلم بين يدي الله ..

رحل الأخ الداعية ، والعالم والمعلم والشاعر والأديب ، ولكن في عالم البؤس الذي يسوسه ويسوده الروبيضات من الرجال والنساء لم يكد يسمع بأبي نزار لا في حياته ولا في موته إلا القليل ، ولم يحتف بوفاته إلا الأقل . وبؤسى لعالم يظل فيه الإنسان غريبا في وطنه ، وبين أهله وعشيرته ، حيث تُصادر كل وسائل الإعلام والثقافة لمصلحة بعضٍ ، من الذين (( يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ )) و (( يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا )) .

قريبا من أربعة عقود ، مهجرّين ، في المكان والزمان ، جمعتني بالأخ أبي نزار ساحة العمل والرباط . وكان العهد والميثاق في عقود من الصبر والمصابرة في عقود أن تبقى راية الدعوة ، راية جماعة الإخوان المسلمين ، على النهج الذي أراده القادة المؤسسون عالية مرفوعة . ..

وكان أول سماعي باسم الأخ الراحل الحبيب ( خالد البيطار - أبو نزار ) في مطلع في شهر آذار 1981 . عندما توجهت أجنحة جماعة الإخوان المسلمين ، إلى استعادة لحمتها ووحدتها ، فكان ما سمي يومها (بالوفاق) الداخلي ، بين أجنحة الجماعة الثلاثة .

 وكان اسم الأخ خالد البيطار رحمه الله تعالى ، أحد الأسماء الأربعة التي تحملت عبء تمثيل ما كان يرمز له بجناح ( دمشق ) في تلك الأيام .

كان الأخ المرحوم حسن الهويدي على رأس الأخوة الأربعة الذي تحملوا عبء رأب الصدع ، وكان منهم الأخ المرحوم أبو محمود ( محمد الهواري ) والأخ المرحوم أبوسليم ( عيد البغا ) ثم أخونا المرحوم أبو نزار ..

ولعل المقام لا يحتمل ، لنذكر بانعكاس حالة التعدد أو الانقسام التي عاشتها الجماعة منذ أواخر السبعينات ، على سير الجماعة الدعوي تاريخها وحاضرها ومستقبلها . بل إننا لا نبالغ إذ نؤكد أن الجماعة ما تزال تدفع حتى الساعة من نتائج ذلك الانقسام ، بما خسرت من طاقات نخبوية ، كان المؤمل منها أن تحدث تأثيرات إيجابية في مسيرة على أكثر من صعيد . حقيقة نضعها بين يدي جيل الدعوة من الشباب السوريين . إن المطلوب العاجل من جيل من شباب الدعوة في سورية ، أن يعيدوا بناء الهرم الدعوي على قواعده الحقيقية التي تجمع ولا تنبذ . ولعل هذه الخطوة هي أفضل هدية يقدمها شباب الدعوة للراحل الحبيب أبي نزار وجيل أبي نزار وإخوان أبي نزار .

ولعل أخطر أنواع الانشقاقات أو الانقسامات التي تعيشها الأحزاب والجماعات هي تلك الانقسامات السكرية ( الانقسامات الخفية مثل داء السكري ) ، حيث يعمل بصمت مبضع الإقصاء والإزواء ، والإهمال الذي يولد في كثير من الأحيان الغرغرينا القاتلة والموحشة . الداء السكري داء خفي دوي يفتك في جميع الأجهزة الحيوية لجسم الإنسان ، وهو إن لم يقتل شلّ وأفقد الإنسان الحضور والإحساس ..

وحين يغبط الناس الأحزاب والجماعات المعمرة على عمرها المديد ، فإنما يغبطونها على تنامي الطاقات وتراكم الخبرات . ولكن حين تصبح ( الأخوة التعاونية ) مثل ( الأخوة العضوية ) ، حيث يريد كل شقيق أن يعيد تعلم كيف يأكل مستقلا ، وكيف يلبس ثيابه مستقلا ، دون أن يسقط على الأرض ، وكأنه ينجح في تجربة فريدة يستحق عليها التصفيق ؛ فلا معنى لما يعد الناس من عمر هذا التجمع من سنين ..

لقد اهتدى العقل البشري إلى صناعة البواب الدوار ، الباب الذي يشتمل على ثلاثة أجيال من الناس . جيل صاعد ، وجيل متمكن ، وجيل مغادر، هذه الروحية هي التي يفقدها فقه الأنا ، ويضيعها عنوان : ضيق الطريق يورث قلة الأدب . حقيقة إن الطرق لا تضيق ، ولكنّ أحلام الرجال تضيق.

التدافع سنة الحياة نعم ، ولكن ليس إلى حد أن ينبذ الأخ أخاه ، وأن يقطع يمينه ، وأن يثلم سيفه . وإنه لمعنى رائق راق لا يدركه الكثيرون يصعب على كثير من أصحاب النفوس أن تدرك مغزاه وتداعياته أشار إليه الشاعر العربي يوم قال ..

 خلت الديار فسدت غير مسود .. ومن العناء تفردي بالسؤدد

استشعارا لهذه المعاني ، وتحسسا لثقل الأمانة أقبل الأخ أبو نزار ( رحمه الله تعالى ) على إخوانه في هذه الجماعة المباركة ، بروح الأخوة الصادقة الصافية . وإن كان لواصف أن يصف سلوك الأخ أبي نزار (رحمه الله ) في تلك المرحلة وهو يمثل حالة اندماج أخوي لعودة الأمور إلى نصابها ؛ فلن يجد عبارة أصدق من التشبيه (بالحليب الصافي) . الحليب يخرج من بين فرث ودم الفرقة والاختلاف ، والقيل والقال ؛ ليتمثل واقعا في سلوك رجل هو الأخ خالد البيطار ( رحمه الله ) .

لا يغيب عن قلب مسلم وهو يؤرخ لمواقف الصدق الدعوية في حياة الأخ أبي نزار قول الله تعالى (( وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ)) ، ولكن ترفع أصحاب النفوس الكبيرة أمام الأهداف الجسام هو الذي يعطيهم المكانة التي نحب أن ندعو الله في هذا المقام للأخ أبي نزر أن يكتب له أجرها وثوابها وأن يرفع له درجاته ، ويعظم له أجرا .

وبقبول الأخ أبي نزار تحمل مسئولية ( إعادة الالتحام ) كان يعيد إلى اللحمة الدعوية في سورية رصيدا نخبويا طيبا وسطيا لطيفا متمثلا في إخوة محافظة ( حمص ) ، وخير ما توصف به حمص بعلمائها وفضلائها ودعاتها قول الأول :

 هينون لينيون أيسار ذو كرم .. سواس مكرمة أبناء أيسار

فإذا كان لا بد لإقامة الصف وتسويته وصلابته من قبضة طين ، تجمع بين اللبنتين ، وتخفف من الاحتكاك بين الحجرين ؛ فإن إخوة حمص قد اختاروا عن فطرة ووعي أن يكونوا ملاط الأخوّة الحي ، ومثّل الأخ أبو نزار ، رحمه الله تعالى ، هذا الدور ألطف تمثيل ، أخ مهما اختلف معك يظل ممسكا بيدك . قريبا منك ، ألوفا ودودا ، يظل مستبشرا متهللا في كل حين ؛ فإن كره أمرا أو أباه قرأت ذلك في لون وجهه دون أن يزيد ..

وفي محطة أخرى على طريق الدعوة ، قررت جماعة الإخوان المسلمين ، أن تصدر نشرة ( المجاهد ) الموازية لنشرتها السياسية النذير في تلك الأيام . وتشكلت أسرة تحرير ( المجاهد ) النشرة الجديدة بإشراف مباشر من الأخ الشيخ ( سعيد حوى ) رحمه الله تعالى . وكان في عضوية أسرة التحرير الأخ الأديب الداعية ( أبو نزار رحمه الله تعالى ) وكانت المرة الأولى التي نحتك بها معا ، في ميدان عملي ، وكان رحمه الله بعطائه وبفكره وبسمته أنموذجا يحتذى في الصورة الرقيقة الشفافة التي ستظل تلازم الأخ الداعية طوال حياته ..

إن أعداد نشرة المجاهد ، المعبرة عن الخطاب الشرعي الداخلي لجماعة الإخوان المسلمين ، والتي كتبت كلماتها في أصعب الظروف الدعوية والسياسية التي مرت على سورية في تلك الأيام ؛ لهي شاهد صدق على وسطية الإسلام أولا ثم على وسطية الدعوة ووسطية الدعاة . لقد كان الإمساك ببوصلة الكلمة ، ومسئوليتها ، وآفاقها هي بعض المهمة التي كان يشارك فيها الأخ الفقيد الراحل ( أبو نزار ) بكفاءة واقتدار.

ومن حق أن تعتبر نشرة المجاهد بكل ما نشر فيها وثيقة داخلية ، تعبر عن رؤية وفكر وثقافة جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تربي عليها أجيالها.

وفي محطة ثالثة أسست الجماعة في مطلع الثمانينات ( مدرسة الدعاة ) . مدرسة خاصة مرّ عليها جيل من شباب هذه الدعوة في سن التكوين الأول . وكان الهدف الأول لتأسيس هذه المدرسة هو بث العلم العملي الذي ينفي عن الإسلام وعن الدعوة انتحال المبطلين ، وتحريف الغالين ، وتثبيت معاني القصد واليسر والعدل في أذهان وعقول الشباب .

كان القائم على أمر تلك المدرسة الأخ الداعية الشيخ سعيد حوى ، مع نخبة من علماء الجماعة كان منهم الأخ أبو نزار رحمه الله تعالى .

كان التدريس في تلك المدرسة ميدان آخر نلتقي بها معا ، ونعمل بها معا ، ونخدم معا هدفا دعويا يبعد عن عقول وقلوب شبابنا طروحات الأشباه والأشباح . كان الأخ أبو نزار يدرس اللغة العربية وشريكا أساسيا في وضع مناهج المدرسة وموادها وأهدافها . كانت المدرسة بمنهاجها ومدرسيها أنموذجا ما تزال الساحة الدعوية في كل الأقطار العربية بحاجة إلى مثلها ؛ وإنما نذكر ما نذكر من أمرها لنزيد الدعاء بالرحمة على أخينا الحبيب خالد البيطار ، بما سبق وقدم .

ثم في عام 1986 ، ومع استلام المرحوم الشيخ ( عبد الفتاح أبو غدة ) مسئولية الجماعة ، ظل الأخ أبو نزار واحدا من الأخوة الذين تحملوا المسئولية العليا في الجماعة التي ظل فيها من يوم تم الإعلان عن الوفاق . وقاموا بالحق ، وليلتقي به كاتب هذه السطور مرة أخرى عبر سنوات مديدة من الهجرة الطويلة في صف الدفاع والحفاظ ..

لم يتوقف الأخ ( أبو نزار ) عن عطاء ، ولا عن تقديم جهد . وإن رجلا في مثل إمكانات وقدرات الأخ أبي نزار لكالغيث حيثما وقع نفع . فكان إلى جانب المسئوليات الجسام التي يتحمل أماناتها يظل يكتب ويعلم ويشرح ويوضح ويدافع عن عقيدة ودين ..

تجلس إليه فتسأله : وهل أحدثت بعدنا شيئا يا أبا نزار ؟! فلا يبخل أن ينشدك فتسمع ثقة في رب ودين ودرب ، كما تسمع مباهج روح وأملا في غد وأحيانا أنين قلب مذبوح ومطعون .

كثيرا ما يتساءل بعض الناس لم يكتب الكاتب ، وينفث الشاعر ؟!! على هؤلاء ردت العرب بالقول ( ويل للشجي من الخلي ) فمن أين للخلي أن يدرك أن الشاعر وهو ينفث أو الكاتب وهو يكتب إنما يجود بقطع من كبده ، يفرقها مدادا على كلمات ..؟! ورحم الله الأخ الأديب الشاعر ( أبو نزار)

قصدته يوما أحدثه عن تغييب رجالات الإسلام في سورية عن الرأي العام . علماء أعلام ، مفكرون شعراء مبدعون أدباء مؤرخون لا يحتفي بهم قريب ، ويجهد في طمس آثارهم بعيد ، وكنا قد قررنا أن نبدأ التعريف ( برجال الشرق ) على موقع الشرق العربي ، فأخذ على عاتقه أن يبادر إلى الكتابة عن علماء حمص فكانت سلسلة جميلة معبرة ما تزال بحاجة إلى استكمال واستدراك ..

في زيارتي الأخيرة إلى عمان في عيد الفطر ، نبهني أخ كريم ، إلى مرض الأخ أبي نزار ، ولما دخلت عليه ، رأيت جسدا ناحلا قد أنهكه المرض ، وروحا أبية شامخة ما يزال همها ما يجري على البلد وعلى الناس . أردت أن أنبه بعض الحضور إلى بعض ما يعانيه الأخ الحبيب من آلام لنختصر ونقتصر أخذا بأدب عيادة المريض ، ولكن الأخ المريض المنهك كان يقول لعواده : إيهِ عن الشام ثم إيهِ ثم إيهِ ..

إيه أيها الأخ الحبيب ..

إيه أبا نزار ..

لن أقول وداعا ، فلقد تحاببنا بروح الله ، على غير أرحام تجمعنا ، ولا أموال نتعاطاها ، وسأقول ثقة بحسن وعد الله إن منابر النور إن شاء الله موعدنا .. لا نخاف إذا خاف الناس ، ولا نفزع إذا فزع الناس ..

اللهم تقبل من أخينا خالد البيطار ما قدم ، واغفر له ما فرط ، اللهم ثبتنا بقولك الثابت حتى نلقاك وأنت راض عنا ..

اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله

وإنا لله وإنا إليه راجعون ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 747