ايطاليا (1)

د. عثمان قدري مكانسي

ايطاليا 

بقلم: د. عثمان قدري مكانسي

[email protected]

لا بد من العودة إلى الوراء في بعض الأحيان ليبدأ الحديثُ بداية صحيحة. فنحن في الثامن من تشرين الأول عام ثمانين وتسع مئة وألف للميلاد . في بيتنا المطل على شارع الجيش في الزرقاء الأردنية،  كان قريبا من جمعية الزرقاء الإسلامية الخيرية في شارع الفاروق في قلب الحي النصراني استأجرناه من صاحبه في بناء له من عدة طوابق، زوّج ابنه في عيد الفطر المبارك ، فكانت أغنية  " بدنا نتزوج على العيد ، وبدنا نعمّر بيت جديد " تصل إلى مسامعنا ليلا نهاراّ " فقط " . فمرة تنسينا مآسينا ، ومرة تنكأ الجرح الدامي النازف في أحداث حلب وبقية المحافظات السورية إذ ذاك .

كانت الدراسة قد بدأت في الجزائر ولما نُنْه علاقتنا هناك ماليّا ،فودعني أخي كمال حفظه الله تعالى من باب المطار ، وكان المطار في ماركا لمّا ينتقلْ إلى جنوب عمّان – مطار الملكة علياء  الآن . ولم يسمح له بالدخول حيث توزن الأمتعة ... كان السفر على متن الخطوط الأردنية إلى روما أوّلا، نقضي الليلة فيها لتقلنا طائرة أخرى إيطالية في ظهر اليوم التالي إلى الجزائر العاصمة.

نزل معي في روما طالبان فلسطينيان نالا الشهادة الثانوية ، ويريدان الدراسة الجامعية في الجزائر، أحدهما سيصل إلى عين طاية ، قرب " رويبة " والآخر إلى " عنابة  ، وما تزال الجزائر حتى الآن تحتضن الفلسطينيين ، على الرغم من مشاكلها . " أما الثالث  " رياض " فقد كان يعمل في مطار دمشق ،لم يلحق بالطائرة الإيطالية هناك فلحق بالثانية في عمان ليصل إلى باريس.

كان الطريق من " الكونتيننتال " إلى روما 35 كم . دخلنا فندقا وحجزنا غرفة بسريرين لي ولرياض،  فقد كان رجلا لبقاً.... أخرج من حقيبته الصغيرة أدوات الشاي وشربنا كأسين من العقيق اللذيذ ، ثم نزلنا نتجول في الشوارع القريبة تحت رذاذ المطر الخفيف ، ثم عدنا ، فنمنا استعدادا لليوم التالي .

استيقظنا صباحا ، وأفطرنا في الفندق ، وتمشينا في شوارع المدينة – المسرح الروماني : وقد رمم فظهر – على قدمه- مهيبا ، يتسع لآلاف الناس ، وهو بحجم مسرح " بصرى "  السوري إلا أنه أكمل وأعمق . ونصب الجندي المجهول ومثيله في فرنسا أكبر وأجمل ثم دخلنا " الترمينال" وهي محطة القطارات الكبيرة ،التي ينطلق منها كل دقيقة قطار يتجه إلى مدينة ، والازدحام في المحطة على أشده ليلا ونهارا... ثم انطلقنا إلى المطار وودع كل صاحبه ولم أره بعد وقد مضى على تعارفنا السريع ثلاث وعشرون سنة ... هكذا الدنيا محطات سريعة ...ليتنا ننتبه إلى حقيقتها المضمحلّة فنعتبر ، ثم نعمل للحقيقة الأبدية... واستغرق الطيران  بطائرة إيطالية ساعة ونصف الساعة إلى مطار الدار البيضاء في الجزائر .

أوصلتني الحافلة إلى حي القصبة ، فاتجهت إلى دار الدكتور بلحاج شريفي ، فاستقبلني ابنه أحمد ,

        أين والدك؟.. الوالدان كلاهما في الديار المقدسة يحجان ..

        تقبل الله حجهما وأعادهما مغفورا لهما مأجورين ... آمين .

كان ترحيبه بي جيدا ، وطلب مني أن أبيت في دارهم ، كنت أفضل الفندق لكن السمر إلى آخر الليل ، وطيب الحديث مع أخيه وزوج أخته، وحسن سماعهم أشرطة الكاسيت التي كنت أحملها –أشرطة أبي دجانة الثلاث ذات الدفق الإيماني الحماسي الكبير- جعل الليل يمضي سريعا فرأيتني أقضي بقية الليل عندهم... أهديت أحمد كتاب " جذور البلاء " للمرحوم عبد الله التل بعد أن أنهيت قراءته في الطائرتين كتاب يضع الدواء على الجراح وينبه الغافلين إلى الطريق المؤدي إلى استدراك ما فات ، والخروج من مستنقع التبعية للآخرين والسير قدما إلى مقدمة الركب العالمي ....وكنت بدأت القراءة في كتابه الثاني " الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام " وهو كتاب جيد يدل على تمتع الرجل رحمه الله  بذكاء وإيمان على مستوى راقٍ ، أنصح القارىء المسلم بدراستهما .

يومان في بجاية

انطلقت إلى القرض الشعبي الرئيسي في العاصمة علني أنهي الأمر دون الذهاب إلى بجاية ، فلم أكن أريد أن يراني أحد هناك، لكن ذكروا وجوب الذهاب إلى بجاية ... أكلت صحن آيس كريم .. ثم من محطة الآغا وكان الوقت ظهرا ركبت باصا صغيرا ، وعزمت أن لا أزور أحداُ ممن أحبهم ويحبونني كي لا أترك للنصيريين والحزبيين القذرين ممسكا يتكئون عليه في إيذائهم والمكر بهم ... ولكن في البويرة – عند منتصف الطريق صعد أحد الزملاء من مصر – عبد الحميد خضر-وتجاذبنا أطراف الحديث، قلت له : رؤيتك إياي سيضطرني لزيارة هؤلاء الأحباب ، لأنهم إذا علموا بوصولي ولم أزرهم فاللوم كثير . فقال : أنا لم أرك ولم أكلمك. إلا أنني ارتأيت أن يخبر خليلا بوجودي في مقهى البحروأن يطلب إليه أن يأتي بحسام معه دون أن يخبره بوجودي، واستأجرت غرفة في فندق قاعة الشاي قرب بائع الكاتو الذي أحب مذاقه ، ولكنني لم آكل منه شيئا , ! ربما ،! لأن زوجتي التي تحبه مثلي لم تكن معي ، فلم أدخل إلى المكان على الرغم أنه جذاب يشد الجائعين وغيرهم.

التقيت الرجلين بعناق وشوق ، فهما في الغربة سدا كثيرا من الفراغات بلطفهما وحسن أخلاقهما، وكانت السنتان اللتان قضيتهما معهما جميلتين بصحبتهما، وأخبرني حسام أنه لم يكن يعرف سبب المجيء إلا قبل أن يراني بدقيقة من وصولهما ، وكان لقاء حلواً، وحديثا عن الثورة الشعبية في حلب وحماة وبقية المدن السورية ضد النظام القمعي الذي جثم على صدور الشعب المصابر. .. قدمت لخليل أعداداً من مجلة النذير الصادرة عن الجماعة، فعلق عليها حسام قائلا : كنت أسمع عن هذه المجلة ولم أرها إلا الآن ، فيها أخبار الجهاد والمجاهدين ، وكانت توزع بكميات كبيرة بين الشعب فيتلقفونها برغبة ، ويتداولونها بسرعة .... ثم ودعتهما .. وفي اليوم التالي كنت في طريقي إلى العاصمة فمررت على مدينة " أقبو " وبت عند الأخ الكريم طريف ، قريب الأستاذ إبراهيم عاصي رحمه الله تعالى ، فقد قتله الظالمون مع عشرات الآلاف من مثقفي الأمة وقادة المستقبل.

وفي المطار تأخرت مع حاجّين ، رجل وامرأته عجوزين، لم يلحقا بالطائرة السعودية ، ولا يعرفان لغة غير اللهجة الجزائرية، فرغبت في مساعدتهما عل الله سبحانه وتعالى يسهل أمري ، " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" . ووصلت إلى روما ، فذهبت إلى الفندق نفسه، ونمت سريعا ، فقد كان اليوم طويلا والسفر فيه مرهقا.

في روما

في المطار قدّمت بطاقة السفر على الطائرة الأردنية علني أجد مكانا فارغا فيها....قالت الموظفة بعد النظر فيها : بطاقتك هذه رَخُص ثمنها على أن تكون العودة بعد عشرة أيام ، ولم يمض على سفرك سوى أربعة أيام . قلت : وما المقصود؟ قالت : إما أن تنتظر أسبوعا وإما أن تدفع ثمن البطاقة كاملا . قلن : وكم أدفع ؟ قالت : مئتين وعشرين دولارا. قلت أصرفها سائحا ، متنقلا بين ربوع إيطاليا أوفر وأجدى . .. وثبّتُّ الحجز بعد أسبوع كامل . إلا أن موظفة أخرى همست : تعال بعد يومين أو ثلاثة.

قضيت اليوم الأول في حدائق روما ومتاحفها ، إلا أن نفسي انقبضت من تماثيل الآلهة وأصنامها ، أين الجمال فيها ؟ وأين العظمة التي تستقطب المئات يوميا ؟! ما هي إلا أحجار صم لا تعي ولا تعقل ، والنظر إليها يولد في النفس قشعريرة ، بله قرفاً واشمئزازا ونفرة ... أحسست بثقل في قلبي ، وخفت أن أموت وأنا بينها ، ماذا أقول لربي إذا سألني سبب دخولي هذه المباءة ، أأقول : إنني كنت أزور معالم حضارية؟! وما الحضارة في زيارة رموزِ ديانة وثنية لشعوب همجية ، سطت على البشرية في عهدها وطغت وعاملت الشعوب الأخرى معاملة قطعان البهائم ؟ولماذا أزور أوثانا  كسّر أمثالها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة مصمما على إزالتها قائلا : " وقل جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا " ؟! ... ليس من مكان أو موضع يتجه إليه النظر إلا وتجد فيه عريا وابتذالا وتماثيل تتجلى فيها المادة ، وتغيب عنها الروح. تصور أن تلاّ يشرف على مدينة فلورنسا في وسط إيطاليا يحج السياح فيها إلى تمثال فيه يمثل العري الفاضح والقوة الجبارة ، ويدعون أنه للنبي العفيف والقائد الشريف سيدنا داوود عليه السلام !!هذا النبي العظيم الذي مدحه الله تعالى، فوصفه بكثرة التسبيح والتبتل إلى الله عز وجل ، والأدب الجم ، والأخلاق العالية ، هو عندهم مثال العهر والخيانة والفساد والزنا ،  والعياذ بالله .أراد صاحب الفندق حين نزلته أول مرة أن يغريني بالنزول في فندقه ، فقال بلغة إنجليزية مؤكدا بحركة يدوية متناسقة وصوت قوي: "there is big break fast.  وحسبت أن وجبة الإفطار ستكون دسمة ،ومنيت نفسي بصحن فول شهي ، مع "فحل " من البصل وشيء من " الشطة " . وكنت قد عدت إلى الفندق متأخرا متعبا ، أجر رجلي من إرهاق مسيرة تسع ساعات ، أطوف فيها بين الأسواق والمحلات التجارية ،أتعرف على أقوى عاصمة في الزمان الغابر قبل الإسلام ، مسارح وملاعب وشوارع ونُصُب وساحات وأبنية ذات طراز قديم . ورحت أسأل العرب – وهم قليلون –عن مصلى أو مسجد، أو تجمع لهم فلم أظفر بطائل.... _ وسأحدثكم عن الطفرة الرائعة للحركة الإسلامية الواعية في إيطاليا –2-  إن شاء الله تعالى _ ولم أعرّج على مطعم خشية أن آكل ما لا يجوز من لحوم محرمة ، فوجدت بقايا خبز يبس ، وقليلا من الشاي البارد صنعته بنفسي صباحا ، ولم أكن قادرا على تجديده ، فقلت :" خبز وماء أكل العلماء " قلتها مع أنني لست منهم ولا حتى من طلبة العلم ,فشتان ما بين التدريس والبحث والتمحيص .وانطبق عليّ قول الثعلب الذي لم يستطع الوصول إلى العنب :

                              وقال : هذا حصرم        رأيته في حلـب

ونزلت في الصباح إلى بهو الفندق حيث الإفطار فكان الأكل ملعقتين صغيرتين من مربى المشمش المهروس ولفافتين صغيرتين زبدةً وقطعتين من خبز " التويست " وبيضة مسلوقة . قلت في نفسي :إذا كان هذا "big break fast  فكيف يكون " small break fast?  "

طُرِق باب الغرفة في مساء اليوم التالي ، ولما فتحته سألني النادل : أتحب أن يكون فراشك دافئا ياسيدي؟ قلت له سريعا دون أن أعي حقيقة السؤال للوهلة الأولى: نحن في تشرين الأول والجو لطيف .قال : ولكنك وحدك وسريرك مزدوج ، ولعلك تود مؤانسة ؟

 فهمت وقتها مراده ، وقلت :لا لا أريد فلست بحاجة .

 قال : ولكن عندنا أنواع ممتازة . قلت : أشكرك . مع السلامة.وأغلقت الباب ورأيته من ثقب الباب يمشي متمهلا ، فالتفت عائدا إلى سريري ، فطرق الباب مرة أخرى .

أهناك شيء آخر ؟ قال : لن تدفع الكثير ياسيدي .

أدخلته . كان أسمر اللون طويلا ، نحيفا جعد الشعر . سألته بالعربية : أأنت عربي؟ قال نعم ، ومن المغرب . ما اسمك ؟ قال سعيد . أمسلم أنت ؟ قال : نعم .

أتعلم أن ما تقدمه إليّ وتصر عليه زنا حرمه الله تعالى ؟! سكت .. أتعرف معنى " الديّوث ؟ ظلّ ساكتا . قلت عملك هذا دياثة . أتعرف عاقبة الدياثة؟  نظر إليّ ولمّا يجب. الحرمان من الجنة ، والوقوع في النار . وغضب الله تعالى .

قال : إن سيدي صاحب الفندق يأمرني بذلك ، وهذا عملي .

قلت : أما سيدي وسيدك الحقيقي فينهى عن هذا ويعدّه فحشاء ومنكرا .

قال : ياسيدي إذا لم أفعل ما يطلبه مني فسيطردني من العمل ، ولن أجد غيره إلا بشق الأنفس .قلت له : يا أخي ، إذا اتقيت الله ثم بحثت عن عمل شريف يسره الله عليك ، وبارك لك فيه.فالله تعالى يقول :" ومن يتق الله يجعلْ له مخرجا ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ".... وخرج من الغرفة مطأطىء الرأس دون أن يستأذن.

لم يكن الرقيق الأبيض - بل هو أسود- هذا في تلك الأيام في بلادنا . وإن وجد فعلى نطاق ضيق ، لا يكاد الناس تشعر به. ولكن في أوائل التسعينات كانت طوابير العاهرات  تقف في شوارع الفنادق في دبي في الإمارات – الديرة – من كل لون وجنس وتمر السيارات تنتقي ما يشتهي أصحابها ، والشرطة تنظم سوق النخاسة هذا ، أما الفنادق فحدّث ولا حرج . ... هذا ما يريده منا ويصدره إلينا الغرب المتحضر ، ويزينه لنا ويدفعنا إليه ، وترانا يعبد الكثير منا شهواته فلا يلقي للفضيلة بالا.

الزيارة الثانية

قررنا أن نقضي جزءا من صيف سبعة وثمانين وتسع مئة وألف في إيطاليا وقد قيل إن هذا الصيف حار في البلاد العربية ، لم نكن نعرف أحدا في تلك الديار ، وكان أخونا الأستاذ غسان الخليلي تاجرا للأدوات الصحية والبورسلان في عمان ، ويعتمد لتجارته في إيطاليا الأستاذ " رضوان الألتونجي" وزار المدن الإيطالية مرات عديدة سعيا في رزقه ، فأعطانا عنوانه واتصلنا به .

وهكذا كان وحلقت بنا الطائرة  الأردنية من عمّان إلى روما فوصلناها عصرا ووصل معنا حقيبة  زوجتي فقط ، أما حقيبتي فظلت في مطار عمان ثلاثة أيام أخرى ، وعلى شباك الشكاوى طلبنا الاتصال بنا في بولونيا حين تصل الحقيبة لنعود فنأخذها.

 كان الجو في روما يميل إلى الحرارة ، حين اتجهنا إلى الشمال قليلا قرب جبال الألب السويسرية . إلى مدينة بولونيا حيث الاعتدال الأكثر والازدحام الأقل .... كان " التيرمينال " محطة القطارات كبيرة تتوزع فيها السكك الحديدية توزع الشرايين في الجسم ، وفي كل دقيقة ينطلق منها إلى المدن الأخرى قطار أو أكثر .. كان هناك نظام وترتيب ، فأنت تستطيع اعتمادا على اللوحات المنبثة هنا وهناك أن تعرف القطار المتجه إلى المدينة التي تريد الانتقال إليها ، ومكان انطلاقه ولحظته ، والمحطات التي يقف فيها ، والزمن الذي يستغرقه الوصول إليها . أمر غاية في النظام والدقة، ويحضرني قول الأستاذ عادل فارس حين يتنقل في القطارات بين المدن الألمانية وحده وهو يجهل لغتها :كنت أقرأ ساعة الوصول إلى الهدف قبل الصعود إلى القطار فإذا توقف في الوقت المحدد في محطة ما أنزل فأرى نفسي في المكان الذي أريد. 

ركبنا القطار المتوجه إلى بولونيا، في الشمال الشرقي من البلاد، وهي تبعد أكثر من ثلاث مئة كيلومتر عن العاصمة... كان مسرعا في حدود اثني كيلومتر في الدقيقة . وكان أكثر الطريق أنفاقا ثم جسورا ، وأذكر أنه جازأحد الأنفاق الجبلية الطويلة في اثنتين وعشرين دقيقة . وقبل المغيب بساعة مررنا على الأرض المائية – سميتها بهذا الاسم لأننا قطعنا في حدود دقيقتين خمسة أنهار ، اثنان منها بعرض نهر دجلة ، واثنان يتجاوزان المئة متر عرضاً والخامس بعرض نهر بردى!!.. ألا تستحق هذا الاسم؟!.

كانت أكثر الأراضي الزراعية على جانبي الطريق وعلى مد النظر مليئة بعرانيس الذرة . ثم علمت أن إحدى شركات زيوت الذرة العملاقة تتكفل بشراء المحصول بسعر مغرٍ. وهي التي تمد المزارعين سنويا بالبذور والأسمدة ، وهي التي تحصد وتفرق الحب وتعبئه في الأرض نفسها . حتى إنها تساعدهم في أقساط الدراسة الجامعية لأبنائهم .ثم كعادتي رحت أقارن بين تسابق الشركات الأوربية – ولمصلحتها طبعا- إلى كسب المواطن الأوربي ليكون إلى جانبها وفي صفها ، وبين الضغط والجبر والتسلط الرهيب في بلادنا الذي –بجرة قلم –يفعل ما يريده المتسلطون لأن المواطن عندهم قطيع من البهائم يساق بالعصا ليس غير .

وصلنا أول الليل إلى بولونيا فاستقبلنا أحد مساعدي أبي عبده آلتونجي ، وآلتونجي باللغة التركية " صائغ الذهب وبائعه" وحملنا إلى النزل الصغير الهادىء على طرف المدينة . كانت الليلة هادئة ، والتعب باديا علينا فاستلقيت على السرير سريعا يساعدني على كسلي هذا فقدان الثياب ، ولن يكون بوسع أم حسان أن تفرض عليّ " الأتيكيت " الذي تنخر رأسي به كل ليلة قبل النوم .

عند الصباح جاء السيد رضوان يسلم علينا فتعرفت عليه ، فأستاذي " محمد سعاد سمان " حفظه الله تعالى درسني اللغة العربية في المرحلة الثانوية وحببها إليّ هو زوج إحدى أخواته، ووالد رضوان القاضي الممتاز في حلب يعد من رجالات البلد في منتصف القرن الماضي يعرفه القاصي والداني.  كنا بحاجة إلى الراحة فودّعنا على أن يرسل مساعده يعرفنا على البلدة فأشتري ثياباً وأعوض بعض ما فقدته مؤقتاً إن أحسنت الظن بشركة الطيران ، أو يكون التعويض نهائياً إن لم أحسن الظن بها .ولكن خدمة الطيران الإيطالي كات ممتازا ، فقد أُرسلتْ الحقيبة بعد أيام إلى روما ، ومنها إلى بولونيا ليريحوني من عناء السفر ذهابا وإيابا . قبل أن أستلم الحقيبة طلب الموظف فتحها ، فوجد لوحا من صابون " الغار " الأخضر االكبير ، فقال : ماهذا ؟! وكأنه اكتشف شيئا خطيرا . أهو ديناميت ؟! ضحكنا ، وأمسكت باللوح وقلت : هذا صابون مشهور في بلادنا . فضحك معنا .

كانت المدينة راقية البنيان قديمهُ ، ليس فيها أبنية شاهقة ، لكن النظافة والتناسق واضحان، ولا تجد فيها أُبَّهةً ولا عظمة ،إنما ترى جمال القديم ولطافة الحديث....

اليوم الجمعة ، والساعة قاربت الثانية ، قال مضيفي : بعد قليل تبدأصلاة الجمعة ، ونحن قريبون من المصلّى فهلم أعرفك على الإمام وعلى بعض المصلين . ... وصلنا متأخرين قليلاً حين دخلنا بناء في شارع رئيسي ّوصعدنا الدرج إلى الدور الثاني . ثم دلفنا إلى إحدى الشقق وكانت كبيرة تتسع لأكثر من مئتي مصلٍّ، ،، لم يكن الخطيب موجودا ... قالوا : الغياب ليس من عادته ، ولعل هذه أول مرة يغيب فيها ، انتظروه دقائق ، ثم تقدّمت إلى المنبر الصغير وهو دكّة مرتفعة قليلا ، وكانت الخطبة مرتجلة ، تحدّثت فيها عن العمل الإسلامي في بلاد الغرب، منبها إلى أن المسلمين هنا على ثغرة مهمة من ثغر الإسلام . ولما انتهينا من إداء الصلاة رأيت نفسي أعرف العديد من المصلين ،فسلم بعضنا على بعض بحرارة وشوق، وتعرفت على عدد آخر منهم صاروا إخواناً بعد ذلك وأحباباً .

كان الليل لطيفاً حلوا حين زرنا دار الأخ رضوان ، كانت تشبه الدور العربية،  وحديقتها داخلية مشرفة على مساحة واسعة من الدور الأخرى .وفوجئت بدخول الأخ الدكتور " ماهر قباقبجي " وكان إذ ذاك طالبا في كلية طب الأسنان،غير منتظم في الدراسة يهتم بالعمل في الدرجة الأولى لأنه متزوج وأب لثلاثة ذكور وكان ولداه إذ ذاك في الثامنة والسابعة من العمر، وولده الثالث طفلا صغيراً . كنت أعرف أن ماهرا في إيطاليا ، ولم أدر أنّه في مدينة" فُرّارة " القريبة من بولونيا فكانت المفاجأة سارّة . كانت السهرة ممتعة على طرف بركة السباحة الصغيرة، على شذا الفل والياسمين مع أحباب ترتاح إليهم ، وتأنس للحديث معهم.

تربية الأبناء

تربية الأبناء في الغربة تحتاج إلى جهد مضاعف ، فالأب والأم بالإضافة إلى وظيفتهما الأبوية  ينبغي أن يكونا الصديقين والمدرسَيْن والمربيَيْن . يضاف إلى ذلك الاهتمام – في مجتمع لا علاقة له بالإسلام ولا العروبة وأخلاقهما –بتأصيل العلاقة بين الأبناء والدين واللغة الأم – العربية – لغة القرآن والدين .

هكذا حاول أبو عبدالله" ماهر" وزوجته فقد أسمعنا الولدان شيئا من القرآن الكريم ، وحدّثانا بلغة عربية جيدة ... وأفلحت تربية الوالدين أولادَهما ، فهذا عبد الله عام ألفين بعد أربعة عشر عاما من ذاك اللقاء أراه شابا لطيفا ملء العين يقود مجموعة الشبان المسلمين في اتحاد الهيئات والجمعيات الإسلامية في إيطاليا ويشرف على حسن إدائها، ويثبت في ذلك جدارة يساعده في نشاطه زوجته الشابة سمية ، ولا غرو ففرخ البط عوّام كما يقول المثل .. الأب عضو فاعل في عديد من الجمعيات الإسلامية في أنحاء إيطاليا وأم عبد الله مسؤولة العمل النسائي في هذا الاتحاد كذلك.

فينيسيا

في اليوم التالي اتجهنا إلى البندقية " فينيسيا " بالقطار فلما قاربناها لاحت من بعيد مجموعة متقاربة من الجُزُر ... نزلنا من القطار ، والمحطة في أول المدينة كما يبدو ، ورأينا أقدامنا تشدنا إلى منتصف المدينة الرئيسي ،

الشوارع قنوات مائية ، والمواصلات فيها قوارب كبيرة تعادل الباصات ، وهناك الفوارب الصغيرة يستأجرها البعض " تاكسي" ، كما أن لكل بيت مصفات لسياراته المائية الخاصة، أما من أراد أن يركب العربة التي يجرها الحصان ، ويتنزه بين البيوت الأثرية أقصد " الجندول" - وهو قارب طويل مدبب من الطرفين ضيق يتسع عرضا لراكب واحد فقط- وجد صفا طويلا منها ينتظر السياح يجول بهم ، في شوارع البلدة وأزقتها بفن ومهارة دون أن يصطدم أحدها بالآخر، والظريف أنك تجد في هذه الشوارع والأزقة إشارات المرور التي تراها في أي مدينة ، فهذا شارع ذو اتجاه واحد ، وهذا ذو اتجاهين ،وهذا يُمنع إيقاف القوارب فيه .

وسط المدينة مزدحم بالسياح والمطاعم ومحلات بيع الهدايا. وكلها في أزقة ضيقة لا تتسع للعربات ولا الموتوسيكلات، كثير منها مسقوف يلطف الجو، يتخللها حدائق صغيرة معلقة وملاعب للصغار ، فإذا رغبت الانتقال إلى جو أرحب ومكان أهدأ أو أحببت أن ترى المدينة كلها عن بعد أخذت وسيلة مائية تناسبك، مخرت بها عباب الخلجان بين جزيرة وأخرى ، حنى يستقر بك الطواف على إحداهنّ، فتجلس في مطعم يقدم لك " البيتزا الإيطالية بالجبنة اللذيذة، ولكن حذار أن تتناول واحدة باللحم فهو على الأغلب لحم خنزير ، وهؤلاء الخنازير يتلذذون بلحمه ويفضلونه على على لحوم الأنعام.

قلت لرافع ألتونجي أخي رضوان ، وهو شاب لطيف المعشر لا يتجاوز الثالثة والعشرين : نود أن نستروح أسبوعاً في قرية هادئة على سفح جبل . قال وقعت على الخبير . متى تودان ذلك ؟ قلت: غدا إن أمكن. قال آتيكما في الساعة الثامنة صباحا.

كان للشاب مصنع للثريات ينتج أنواعا جيدة منها ، يوزع بعضها في إيطاليا ويصدر أكثرها إلى دول الخليج. نشيطا ممتلئا حيوية ،ذا أخلاق عالية ، يحب خدمة الناس ومساعدتهم ما أمكن. هذا الصنف من الناس في بلاد الغربة ليس بالقليل .

أزياجو

انطلق بنا في سيارته نحو جبال الألب قريب الحدود السويسرية ، ثم بدأ يصعد طريق الجبل الملتف ، وكان انحناء الطريق يمينا وشمالا وصُعُدا ملفتا للنظر. فنحن نعلو بسرعة ، والأرض تحتنا يزداد امتدادها ، وتصغر مرئياتها. .... وصلنا إلى بلدة " أزياجو " ونزلنا من السيارة لابسين المعاطف...

الجو ملبد بالغيوم ، والرذاذ يداعب وجوهنا .... وقفنا أمام نزل صغير ذي ثلاثة طوابق ، أمامه حديقة مسورة مرتبة .الطابق الأرضي للإدارة والجلوس والمطعم . وفي كل من الطابقين العلويين ست غرف مفروشة فرشا أنيقاً... غاب رافع عنا أسبوعا..

المنطقة كانت مرتفعة عن جهة الشرق التي جئنا منها ، لكنها كانت تبدو- وحولها الجبال المكسوة بالثلج على شكل دائرة شبه كاملة – مركز النتوء المرتفع نصف الدائري في وسط الطاسة الكبيرة المستديرة . وقد كانت الوالدة رحمها الله تصب علينا الماء الساخن في الحمام من طاستها المصنوعة من النحاس الرقيق المموج برسوم نافرة تدل على ذوق صانعها وشاريها .

يبعد المكان عن منتصف أزياجو مسيرة خمس مئة متر نقطعها مشياً فنشتري المياه الغازية والحلوى والفواكه ، أو نتعرف على البلدة الصغيرة الهادئة ، ثم نؤوب إلى حديقة قريبة من النزل أو إلى النزل نفسه لنجلس في حديقته الجميلة ، قتلاعب زوجتي صغار الأطفال،  ويداعبونها ببراءتهم الحبيبة إلى القلوب ، وكنت أشاركها مرة ، وأخلد إلى نفسي مرة أراقبهم من بعيد، أو أبدأ مشروع قصيدة .

زوجتي تجيد استعمال الشوكة والسكين في طعامها ، وأنا أجيد استعمال أصابعي فيه ، ولا أشعر بلذة الاكل كما تريد هي،  بل كما أريد أنا ... ادّعت أن الناس ينظرون إلينا ونحن نأكل فينبغي أن نريهم أننا متحضران ، لكنني لم أقتنع ، فليس التحضر بطريقة الأكل أو اللباس، إنما بالتصرف الحسن مع الناس وإظهار الاحترام لهم ... وأن أحترم نفسي فبل كل ذلك ، فلا أشعر أن ما أتصرفه في بلادنا صحيحا يكون في غيرها خطأً .. مددت يدي إلى الدجاج أنثره بين أصابعي ، ثم ألتهمه بطريقتي التي اعتدت عليها أعجَبَهُم ما أفعل أم لم يعجبهم . ما لي ولهم!! وأصابعي أنظف من الشوكة والملعقة ، ولسوف أغسلها بالماء والصابون . لم يكن الناس ينظرون إلينا .. إن خجلنا يوحي إلينا بذلك، والحقيقة أن كل واحد مشغول بنفسه... ومنذ ذلك الوقت أفعل ما أريد ، وتفعل هي ما تريد ... علمنا بعضُ أهلينا أن نرضي الآخرين بالتخلي عن بعض خصوصياتنا ، وهذا على ما أعتقد نابع من الشعور بالنقص أمامهم...

ميلانو

حملنا رافع إلى بولونيا مرة أخرى لنستقل القطار إلى ميلانو مرورا بمدن عدة منها " بريشيا " التي سأكلمكم عنها لاحقا إن شاء الله فهي تستحق وقفة طويلة . وصلنا بعد العصر إلى محطة القطار الرئيسية في المدينة ، وكان في انتظارنا الأخ الدكتور منذر الأصيل ، جليسي على مقعد الدراسة منذ الصف الرابع الابتدائي في مدرسة العرفان في قلب حلب القديمة .

كان ترحيبه حارا .. أخذنا إلى بيته . تجاوز الأربعين ولمّا يتزوج بعد . إلا أنه كان منشغلا بالدراسة التي قضى في تحصيلها اثني عشر عاماً أنهاها فبل وصولنا بشهر، فقد كان عصاميّا يعمل ويدرس ، وكان ذا أخلاق ودين ، فهو لمعرفته اللغة الإيطالية جيدا يترجم الخطب والمحاضرات الدينية للزوار من العلماء والدعاة.... قدّم مسابقة للتوظيف فكان ترتيبه الثاني من ثلاثة وثلاثين كلهم إيطاليون .. قلت له فلن يأخذونك إذاً . قال : لِمَ ؟! قلت : أليسوا إيطاليين ؟ . قال : بلى ، ولكن ما علاقة ذلك ؟.قلت : هم إيطاليون ، وأنت غريب ، ولعلهم يريدون توطين العمل كما في بلاد العرب !.ففي دول الخليج مثلا ،حيث أعمل لا يلتفتون إلى الكفاءة والفهم والنشاط ، ويفضلون المواطن ولو كان حمارا ينقصه الذنب.  ففي منطقة دبي التعليمية في السنة نفسها صرفوا إداريا فلسطينيا ناجحا وهو في أوج عطائه ، فلما اعترض الغيورون من أبنائها على هذا الفصل المُخِلّ بالعمل وقالوا :إن هذا الرجل يقوم بعمل عشرة. قيل لهم : وظِّفوا مكانه عشرة!... قال منذر : لا ترى في إيطاليا ولا في أي بلد يحترم نفسه غير حب العمل ، وتقديم البارزين فيه دون النظر إلى مثل هذه التفاهات.ولم يمض شهر حتى كان الدكتور منذر يمارس عمله قبل الإيطاليين أنفسهم.

ميلانو عاصمة الغنى في الشمال الغربي الإيطالي ، بل في إيطاليا كلها ، وهي مدينة صناعية كبيرة يكاد عدد سكانها يفوق الملايين الثمانية.تكثر حولها المصانع ، ويخترقها تحت الأرض خط المترو الذي يصل أطرافها بشبكة أنفاق كبيرة لا تقل عنها في روما. لم أشعر برغبة في البقاء بها لأن أسواقها – ونحن في الصيف – تغلق فبل غياب الشمس بساعة ، فترى الشوارع مقفرة إلا من مارة يسعون إلى كافتريا أو خمارة ، أو مسرح .. لكن المنطقة الخضراء حولها غنية بالبحيرات ، ومن أكبرها " ليكو دي جارا " قضينا فيها يوما ممتعا ، فقد كانت كبيرة عميقة ، استأجرنا قاربا يمشي بدفع الأرجل وقيادته سهلة ، وقريبا من البحيرة  تمتعنا ب " التلفريك " الذي حملنا إلى أعالي الجبل في قاطرة مغلقة شبيهة بالباص الكبير، وكان صعوده ونزوله بشكل عمودي تقريبا ومخيف . والتقينا في قرى الجبل ببعض العرب فكان سلام وتحية يدلان على الراحة النفسية التي يشعر بها من يلتقي بني وطنه في الغربة ... 

برج بيزا

ركبنا القطار إلى " جنوا " وسأحدثكم عنها بإسهاب ممتع إن شاء الله لأنها تستحق ذلك في حلقة قادمة ، ومنها انتقلنا شرقا إلى "كرارة " ولي فيها قصة غريبة أحدثكم عنها حين نذكر جنوا .. وصلنا إلى مدينة صغيرة فيها بناء عجيب مائل : إنه برج بيزا القائم في وسط المدينة ، يقع برج بيزا في مدينة توسكاينا بإيطاليا وهو منشأة معمارية جميلة وفريدة من نوعها، وهو مبني على طراز معماري روماني ومصنوع من الرخام الأبيض وعلى شكل أسطواني يتكون من ثمانية طوابق، نوافذه عل شكل قناطر .
أما سبب شهرة هذا البرج فبالإضافة إلى تصميمه الرائع هو بناء لا يقف بشكل عمودي مثل كل الأبنية، بل هو مائل بشكل ملحوظ، وسبب حدوث هذا الميل هو حدوث هبوط في التربة تحت جزء من قاعدة البرج، وظن الجميع أن البرج سينهدم إلا أنه بقي شامخاً حتى الآن.
وقد حاول المهندسون والمعماريون استدراك هذا الميلان ولكنهم لم ينجحوا تماماً، وفي عام 1275م تم استكمال الدورين الرابع والخامس في اتجاه الجهة المعاكسة لجهة الميلان لتعديل مركز الثقل ولكن الميلان استمر في الزيادة إلى أن بلغ الآن حوالي 18 قدماً.
ومن أجل المحافظة على البرج أقيمت عدة سقالات ودعامات حول الهيكل الخارجي كإجراء وقائي مؤقت لمنعه من السقوط.
ويحاول عدد كبير من أشهر المعماريين العالمين حل مشكلة البرج التي تعتبر من أصعب المشاكل الهندسية للمحافظة على شكل البرج المائل.

صعدنا إلى الطابق الأخير ، كان البناء من الداخل متسعا لا ينبىء خارجه عما بداخله، وكان عدد الداخلين في ازدياد، ولعل المسؤولين عنه منعوا من جاء بعدنا  من الدخول لظنهم أن الثقل إذا ازداد كان عاملا مهما في تفاقم الميلان.

برج بيزا ثانية

في شهر تموز من عام واحد وتسعين وتسع مئة وألف كانت العطلة الصيفية قد بدأت ولم أكن وزوجتي نرغب في السفر خارج الإمارات. فقد كانت آثار الحرب العراقية الأولى مخيمة على الأمة كلها ، والرغبة في التغيير فاترة .. رأينا الأهل السنة الماضية وحججنا، واعتمرنا مرتين بعد الحج ذهابا وإيابا إلى الأردن ... مضى هذا الشهر هادئا رتيباً... ودخل آب وازداد اللهيب ، واشتدّت الحرارة ، فعرضت على نصفي الآخر أن نهرب إلى مكان ما .. تركيا –مثلا- فلم تبد رغبة في الخروج من البيت بله السفر. ....

 رن جرس الهاتف ضحى أحد الأيام .... من المتكلم ؟ 

صوت نسائي يجيب : المنطقة التعليمية في دبي ؟... أستاذ عثمان ؟ قلت : نعم أنا الأستاذ عثمان ، تفضلي أيتها الأخت الكريمة.قالت : السيد مدير المنطقة يطلبك غدا العاشرة ، أرجو أن تكون في الموعد ..... مدير المنطقة الأستاذ حمد تعرفت عليه منذ ست سنين حين كان ولده تلميذا عندي ، وكان بيننا استلطاف . وهو رجل ذو أخلاق حميدة كاسمه.

كنت عنده في الموعد. قال نحتاجك يا أستاذ في مهمة إلى إيطاليا زهاء أسبوعين . في مدينة قرب برج بيزا مع فريق كرة القدم الإماراتي في المباريات العالمية  لمن هم تحت سن الثامنة عشرة ، بعض الأولاد يحملون مادتي العربية والإسلامية علك تساعدهم في أوقات فراغهم , وهناك مكافأة نقدية مجزية، وأنت موثوق عندنا .... قلت لنفسي : جاءك ما تريده دون عناء ، هذه أم حسان عازفة عن التحرك هذه السنة ، والسفر للرجال فقط. .... أشكرك يا أستاذ على حسن ظنك بي

كانت الموظفة حاضرة فأخذت جواز السفر ... ولم تمض أيام حتى كانت التأشيرة وبطاقة السفر جاهزتين واستقبلنا في روما مندوب فريق الإمارات إلى فندق قريب من الملاعب وكان لقاء طيب يدل على رغبتهم بوجودنا فقد كنا أربعة ، ثلاثة من سوريا للعربية والإسلامية والانجليزية والرياضيات والرابع إماراتي للفيزياء .... هناك واحد من الطلبة اللاعبين يحمل مادة التربية الإسلامية ، وثان يحمل العربية والإسلامية . حضر كلاهما درسا يتيما في الدين ، والآخر حضر نصف ساعة واعتذر أنه سيتدرب لمباراة الغد . جاءني في اليوم التالي كابتن الفريق يعتذر نيابة عنهما عن المتابعة لانشغالهم ... قلت كما تريدون.  ولكن لماذا طلبتم مدرسين ؟... ضحك ، وقال : وهل أعمالنا كلها مدروسة؟! نحن يا أستاذ ارتجاليون في كل شيء. وخجل أن يقول : أنتم تكملون "ديكور الفريق" .

المال عند أهل الخليج - والإماراتيون منهم – يحسبون المال فقط أسَّ النجاح!  لا تتعجل الدليل ،فقد خبرتهم ست عشرة سنة. كانت مجموعتهم الرباعية مؤلفة منهم ومن الألمان والسودانيين ونيجيريا – على ما أتذكر. .. وكانوا يعولون على الصعود إلى الدور الثاني أن يخسروا فقط أمام ألمانيا ، ويعوضوا بالنقاط أمام السودان ونيجيريا. .. فخسروا أولاً مع النيجيريين ، وسحقهم السودانيون سبعة /صفر ! وأجهز عليهم الألمان أربعة/  صفر. والعجيب أن حرب البلقان بين الصرب والمسلمين كانت على أشدها ، ومدرب فريقهم صربي!! ولا عجب فالوعي الديني والوطني ضعيف ، ففي عام ألف وتسع مئة واثنين وتسعين احتفلت أسبانيا بمرور خمس مئة عام على القضاء على المسلمين في الأندلس وشاركتها الإمارات احتفالها!!!... أما اختلاط الفتيان بنادلات الفندق فحدث ولا حرج .!!. استغل المدرسون الفراغ وزاروا روما وبرج بيزا والمدن القريبة منا . خطبت فيهم الجمعة ،وكنت إمامهم في الصلوات ، ولم أخرج من الفندق على مدى اثني عشر يوما إلا للتفرج على البلدة وشراء الهدايا ، ولم نتلقّ مكافأة على الرغم أننا طالبنا بهامراراً،ولعل خسارة الفريق مباراته يتحملها من كان مجيئهم شؤما عليهم !!.