سريلانكا أو جزيرة الياقوت

مصطفى محمد الطحان

سريلانكا أو جزيرة الياقوت

بقلم: مصطفى محمد الطحان

[email protected]


منذ مدة من الزمن.. بدأت أستعرض البلدان التي لم أزرها. فمع تقارب الأيام ونفاذ رصيدها.. والرغبة في الإطلاع على أحوال الناس.. كل الناس الذين خلقهم ربهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا.. وكيف يتم التعارف.. إن لم نقم بزيارة هذه الأقطار والتعرف على أهلها..؟

ولهذا اغتنمت فرصة الدعوة التي تلقيتها من إخوة أعزاء في سيريلانكا بمناسبة انعقاد لقاء للتجمعات الطلابية في منطقة جنوب آسيا في كولومبو عاصمة بلادهم.

وقبل السفر حاولت أن أقرأ كتاباً أو كتيباً عن هذه البلاد.. وعن المسلمين فيها.. ولكني لم أجد كتاباً باللغة العربية.. الأمر الذي زاد من رغبتي في هذه الزيارة.. بعد أن تحولت في نفسي من منطقة أزورها لأستكمل بها دول العالم.. إلى منطقة أستكشفها وقد تسعفني الأيام فأقدمها للمسلمين المهتمين بالتعرف على أحوال إخوانهم.. فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

أول ما لفت نظري وأنا أهبط في مطار باندرانايكا في كولومبو النظام المعمول به في كل ما يخص المسافر.. لوحات واضحة تعرّف القادم بإجراءات الجوازات.. والجمارك.. والخروج.. وسيارات الأجرة التي تنقلك إلى حيث تريد.. كل ذلك يتم في نظام وهدوء مع وجود موظف مختص جاهز لمساعدتك إذا أحتاج الأمر.

والمطار هو واجهة البلد.. تدخل منه.. وفي نهاية الزيارة تخرج منه كذلك.. فهو في البداية والنهاية يؤثر على انطباعك عن البلد الذي تزور.

وسيريلانكا أوسيلان أو جزيرة الياقوت كما أطلق عليها المسلمون، جزيرة كبيرة تقع في جنوب آسيا، مساحتها 65 ألف كم2، وعدد سكانها في حدود 20 مليون نسمة.. معظم سكانها من البوذيين.. وأقلية من النصارى.. وأقلية أخرى من في حدود 10% من المسلمين. والدول المجاورة لها هي الهند في الشمال، وجزر المالديف في الشرق.

والجزيرة بحكم موقعها كانت منذ القدم مركزاً للنشاط التجاري، تحمل السفن من شواطئها أنواع التوابل والأحجار الكريمة إلى العالم.. ويعتبر العرب من أوائل الأقوام التي كانت لهم علاقات تجارية مع سيلان.. كما اتخذها بعضهم موطناً لسكناهم.. تزاوجوا مع سكانها.. وأصبحت بالنسبة لهم موطناً ثانياً.. وأطلقوا عليها جزيرة الياقوت.. نظراً لوفرة الأحجار الكريمة في أرضها.

وبعد ظهور الإسلام.. والأخبار التي يرددها التجار العرب عن الدين الجديد.. وعن القيم التي ينادي بها.. مثل المساواة بين الناس.. والعدل الذي لا يفرق بين أسود وأبيض أو بين غني وفقير أو صغير وكبير.. أو بين مسلم وغير مسلم.. ازداد شوق سكان سيلان للتعرف على الإسلام.

ينقل  ابن شهريار في كتابه عجائب الهند.. أن أهل سيلان عندما سمعوا عن الدين الجديد أرسلوا رسولاً منهم إلى المدينة المنورة مركز الدولة الإسلامية ليتعرف على الإسلام.. ويعود بالأخبار الموثوقة عن هذا الدين الجديد.. ووصل الرسول والتقى بالخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. وأخذ منه تعاليم الإسلام.. وعاد ليبلغ قومه بما علم.. وأدركته الوفاة في طريق العودة.. فقام خادمه بتبليغ الدعوة إلى قومه أهل سيلان.. الذين أقبلوا بدورهم على الدين الجديد..

واستمرت الصلة بين مسلمي سيلان.. والمسلمين في المناطق الأخرى.. وعندما تعرض قومٌ من الديبال (بالقرب من كراتشي اليوم) إلى سفينة تحمل مسلمين من سيلان واستولوا عليها.. بعث الحجاج بن يوسف حملة عسكرية بقيادة محمد بن القاسم للدفاع عن مسلمي سيلان وكان من نتائج الحملة أن فتح الله على المسلمين بلاد السند.

وهكذا كانت العلاقات التجارية هي الواسطة المباركة التي عبر عليها الإسلام إلى أهل الجزيرة..

فقد كان أولئك التجار مثالاً للأمانة والوفاء والخلق الكريم.. وكانت هذا الأخلاقيات أعظم دعوة للإسلام بين سكان الجزيرة.

ولقد زار الرحالة المسلم ابن بطوطة سيلان في عام 1344م وسجل في كتابه المشهور خواطره حول هذا البلد.. فذكر أن كولومبو عاصمة سيلان كانت مدينة إسلامية.. وأن سكان البلاد كانوا يحبون الإسلام ويقبلون عليه.. ولو قدر للأمور أن تسير سيراً طبيعياً لكانت سيلان بكاملها دولة إسلامية.. ولكن الغزو البرتغالي للجزيرة قلب الأوضاع..

·        كانت البرتغال تسعى جاهدة إلى غزو البلاد الإسلامية.. وكان البحار الإيطالي فاسكودي غاما الذي قاد الحملة البحرية البرتغالية يتصور نفسه القائد الرسالي الذي بعثته العناية الإلهية ليركز راية المسيح فوق كل أرض تصلها سفنه.. وكان حاقداً على المسلمين بصورة خاصة..

ومع بداية القرن السادس عشر الميلادي بدأ نفوذ المسلمين في سيلان يتضاءل تدريجياً.. فقد احتل البرتغاليون البلاد عام 1505م الذين أبادوا قرى مسلمة بأكملها وحاولوا إزالة الوجود الإسلامي من الجزيرة.

·        وفي عام 1658م اتبع الهولنديون الذين احتلوا الجزيرة السياسة ذاتها تجاه المسلمين وأسسوا مدارس تبشيرية لنشر النصرانية في البلاد.

·        وفي عام 1716م احتلت بريطانيا الجزيرة.. وإذا كانت سياسة البطش والتعذيب والإبادة التي مارسها البرتغاليون والهولنديون ضد المسلمين قد خفت قليلاً.. إلا أن الإنكليز اتبعوا السياسة التعليمية ذاتها فأنشأوا عدداً كبيراً من المدارس بين عامي (1732 – 1746م) وفتحوا أبواب التعليم التبشيري لكل الطوائف والطبقات في سيلان.

لقد كان التعليم في خدمة التبشير.. الأمر الذي جعل المسلمين لا يقبلون على هذا النوع من التعليم.. واكتفوا بمدارسهم الخاصة التي كانت ملحقة بالمساجد، وتقتصر على تعليم القرآن ومبادئ الإسلام.

وفي الوقت الذي استفاد معظم سكان الجزيرة من الطوائف الأخرى من هذا التعليم التبشيري.. واحتلوا أهم المواقع والوظائف في البلاد.. إلا أن كثيراً منهم تركوا دينهم واعتنقوا النصرانية، الدين الذي يفرضه المحتل، وتبشر به المدارس التبشيرية..

جرى ذلك، بينما لم يترك مسلم واحد دينه.. لم يكونوا مستعدين لأن يقايضوا قيمهم الدينية ومعتقداتهم مقابل مكاسب مادية مهما كانت.

·        خلال الفترة 1881 – 1901م بدأ المسلمون يشعرون بحاجتهم إلى المعاهد والجامعات التي تجمع بين العلوم الحديثة والعلوم الإسلامية.. ولقد أسهم الشيخ محمد قاسم سدّي لبي الذي كان مصلحاً اجتماعياً نشيطاً.. وداعية مسلماً مرموقاً.. في الدعوة الواعية في أوساط المسلمين.. فأصدر صحيفة (صديق المسلم) باللغة المحلية (التاملية) التي بدأت تعنى بشؤون المسلمين وتشجعهم على الأخذ بالتعليم الحديث..

وفي هذه الأثناء نفى البريطانيون الزعيم المصري أحمد عرابي باشا زعيم الثورة المصرية ضد الاحتلال البريطاني في مصر إلى سيلان.. وقد أقام هناك من عام 1883 وحتى عام 1901م. وقد تعاون أحمد عرابي باشا مع سدّي لبي في تأسيس المدرسة الزاهرة عام 1892م، والتي تعتبر اول معاهد التعليم الإسلامية في سيلان.. وتحت تأثير عرابي باشا حاول سدّي لبي نشر وتطوير دراسة اللغة العربية بين المسلمين.

وفي هذه الفترة (أيضاً) زارت مجموعات من علماء جنوب الهند سيلان.. وعملت على نشر الوعي والتعليم بين مسلمي البلد.

استقلال سيريلانكا

حصلت سيريلانكا عام 1948م على استقلالها.. وأصبح للمسلمين دورٌ مهم في الحياة القومية، فهم يشاركون بدور حيوي في الحياة السياسية.. وفي المؤسسات التعليمية.. ويشغلون الكثير من الوظائف الإدارية بما فيها أعلى مناصب الدولة.

وللمسلمين محاكمهم الخاصة في الأحوال الشخصية.. ولهم برامج إسلامية في الإذاعة والتلفاز الرسمي والصحف.. وتعتبر أعياد المسلمين عطلات رسمية في البلاد. ومع ذلك فإن المسلمين ما زالوا يعانون من عدة مشكلات هامة:

·        يعانون من طغيان الفلسفة المادية التي أشاعها وثبتها الاستعمار الذي تعاقب على سيريلانكا خلال أكثر من 500 سنة.

·        ويعانون من ضعف الكوادر الإسلامية المثقفة التي تستطيع مواجهة التيارات المادية العاتية.

·        ويعانون من اللغة التاملية التي هي لغة مدارسهم وكتبهم.. بينما أصبحت اللغة السنهالية التي هي لغة الأغلبية البوذية هي اللغة الرسمية الشائعة في البلاد.. الأمر الذي فرض تحدياً آخر وهو تعلم هذه اللغة وترجمة الكتب الإسلامية إليها.

الجامعة النظيمية الإسلامية

منذ زمن بعيد كنت أسمع بالجامعة النظيمية.. ويكتب لي بعض طلابها ومدرسيها.. وكنت في شوق لزيارة هذا الصرح التعليمي الإسلامي.

تقع الجامعة في مدينة بيرويلا جنوب العاصمة على مسافة 55 كم منها.. ولقد تم اختيار هذا المكان لسعته.. وجمال غاباته.. وجمال شاطئه.. ولأنه المكان الذي استقبل أول مجموعة من الدعاة المسلمين.. وكانوا يطلقون عليه اسم (بربرين).

ومن الرجال بألف والحاج نظيم واحد منهم

وعند دخولنا إلى الجامعة (نحن وثلة من إخواننا السيريلانكيين) وجدناها على أرقى صورة.. تضاهي في مبانيها وقاعاتها ومكتبتها وأساتذتها ومساكن الطلبة فيها أرقى الجامعات في العالم..

كانت الجامعة حلم الحاج محمد نظيم محمد إسماعيل.. فقد كانت البلد بحاجة ماسة لمثل هذه الجامعة الراقية تدرس العلوم الحديثة والعلوم الشرعية في نفس الوقت.

ولتحقيق الحلم دعا كبار العلماء وخبراء التعليم وعقلاء المسلمين، وطرح عليهم فكرة إنشاء الجامعة فكونوا لجنة لدراسة هذا الاقتراح وقد توّجت هذه المجهودات بوضع حجر الأساس للجامعة النظيمية الإسلامية في التاسع عشر من رجب 1393هـ الموافق التاسع عشر من آب (أغسطس) سنة 1973م.

ولقد سعى واجتهد في تزويد هذه الجامعة في – السنوات التالية – بكل الوسائل العلمية الحديثة، وتقديم التسهيلات اللازمة لمتطلبات العيش الكريم للطلبة الدارسين حتى لا تكون أقل درجة من الجامعات الأخرى بأي حال، وقد تطورت الجامعة حتى أصبحت خلال فترة قصيرة من الجامعات العالمية، واستطاعت تخريج قيادات طلابية مؤهلة تأهيلاً يناسب مستوى العصر، وعلماء يقومون بترشيد الشعب المسلم متسلحين بسلاح العلم والتقوى، والجدير بالذكر أن خريجي الجامعة لهم دور ملحوظ في كل ميدان من الميادين الدعوية.

وفي عام 1955م تم إدماج الجامعة النظيمية الإسلامية مع الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد، باكستان، وبناء على ذلك فإن الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد تعترف بشهادة الجامعة النظيمية الإسلامية، ويستكمل بعض الطلاب الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد.

وفي عام 1996م افتتحت كلية أصول الدين والدعوة بالجامعة وفق المنهج الذي يدرس في الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد، ويقوم بالتدريس في هذه الكية الأساتذة المبعوثين من (جمعية اقرأ الخيرية) وغيرها، وخاصة من جمهورية مصر العربية.

وتأمل إدارة الجامعة إنشاء كليات أخرى في العلوم الإسلامية المختلفة لسد حاجات المسلمين في الجزيرة وخارجها.

والجدير بالذكر أن الجامعة النظيمية الإسلامية قُبلت عضواً في (اتحاد جامعات العالم الإسلامي) بالمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) بالرباط، المغرب، وبذلك أسهمت في فتح فرص كثيرة أمام خريجي الجامعة للدراسات العليا في الجامعات ذات العضوية في هذا الاتحاد، كما تساعد المنظمة الجامعة بتزويد مكتبتها بالكتب القيمة.

في ضيافة الجامعة

وبعد جولة في أرجاء الجامعة تعرفنا فيها على المدرسين وفيهم كثير من الإخوة والأصدقاء.. وعلى المكتبة المركزية التي تضم حوالي 25 ألف كتاب من كتب التراث الإسلامي باللغات العربية والتاملية والسنهالية والأردية.. وعلى مركز البحوث والنشر الذي يتولى نشر الكتب والمجلات والأبحاث الإسلامية في العلوم المختلفة.. وعلى معهد المعلومات التكنولوجية لتدريس الحاسوب لطلاب الجامعة وغيرهم.

ولقد ألقيت في طلبة الجامعة محاضرة عن الشباب المسلم ودورهم في بناء الأمة.. وبعد هذا الوقت الممتع الذي قضيناه في ضيافة هذا الصرح العلمي العظيم.. ودعنا الجامعة.. وانتقلنا إلى مكان آخر نزور المراكز والجماعات الإسلامية العاملة النشيطة في جزيرة الياقوت أو سيريلانكا كما أسموها في السنوات الأخيرة.

كلمة الأستاذ محمد الغزالي

وعندما طلب مني تسجيل كلمة في دفتر الضيوف زوار الجامعة.. وجدت كلمة قيمة سجلها الأستاذ محمد الغزالي (رحمه الله) أحببت أن أنقلها لأهميتها.

(جئت سريلانكا لأتعرف على أحوال مسلميها وأقف طويلاً أمام شؤونهم الثقافية والاجتماعية، ولكي أزور كذلك الجامعة التي أسست بجهود الأهليين وحماسهم الديني، وكان للحاج (نظيم) النصيب الأوفر في إقامتها ورعايتها، وأقرر أني شعرت بطمأنينة على مستقبل الإسلام هنا بعد ما لقيت الأستاذ عميد الجامعة وزملائه أعضاء هيئة التدريس وبعد ما أختبرت الطلاب وسمعت تلاوتهم للقرآن الكريم ورأيت إقبالهم الشديد على التزود بالمعرفة والاستزادة من منابع الثقافة الإسلامية، إنني أرجو أن يطّرد هذا النشاط وأن تتسع دائرته ولا تزيده الأيام إلا قوة وإثماراً وتحصيناً للعقيدة والتعاليم الإسلامية، وكما أرجو أن يشعر إخواني المشرفون على الجامعة أنهم قادرون على توسيع الرقعة الإسلامية مبنى ومعنى إذا مضوا في هذا الطريق بجد وثقة وتوكل على الله).

 

كولومبو – سيريلانكا

1/4/2004م