اليمن

د. عثمان قدري مكانسي

اليمن

بقلم: د. عثمان قدري مكانسي  

نحن الآن في الإمارات ، شتاء عام ألف وتسع مئة وثمانين وستة، وقبل العطلة الانتصافية بأسبوع .   يرن جرس الهاتف ، والمتكلم أخي كمال من اليمن في صنعاء ، إنه مدرس يعمل وزوجته مدرسَيْن في المعاهد العلمية التابعة لتجمع الإصلاح اليمني، ،،، وهذه المدارس كثيرة تعد بالعشرات ، تدرس إلى جانب المناهج الوطنية المقررات الإسلامية ، من فقه وتفسير وسيرة وإسلام حركي ، والإسلام الحركي في مفهوم الناضجين من الإسلاميين : التعامل السليم اجتماعيا وثقافيا ، والسعي لإنشاء أسرة مسلمة ملتزمة بدينها، منفتحة على المجتمع الصغير أولا ، والكبير ثانيا .

وقد نجحت المعاهد في بناء جيل من الشباب المستنير كان في الثمانينات المدافع الأساس عن الإسلام في اليمن الشمالي ،حين كان اليمن الجنوبي يحكمه لشيوعيون ويهددون الشمالي ، ويسعون لضمه إليهم عنوة، وكان كذلك القوة الضاربة في القضاء على هؤلاء الشيوعيين عام أربعة وتسعين وتسع مئة وألف في حرب ضروس وحدت اليمن بشكل تام ، واعترف بفضلهم القاصي والداني ، والأعداء قبل الأصدقاء، ولهذا شدد الأمريكان على عبد الله صالح رئيس اليمن في احتواء هذه المعاهد ، وضمها إلى المدارس التابعة لوزارة التربية والتعليم ، وهكذا كان .. فالعرب أصحاب شهامة ونخوة ، يستجيبون لأوامر ـ عفوا ، أقصد لطلب كهذا بسيط من أحباب يريدون لأمتنا الخير ! ويرغبون أن نعيش في بلادنا كراما دون أن يتدخلوا في شؤوننا! إنما هي نصائح لوجه الله ! ! لا يريدون من تلك النصائح جزاء ولا شكورا ، ونحن نقدر حرصهم على خدمتنا ، فنسارع إلى تلبية الأوامر ـ أقصد المطالب النصائحية! ـ فلساني كثيرا ما يتعثر ، ارجو أن تعذروني ـ  دون تردد ، ولا تذمر ، وهكذا يحافظ الحاكم على كرسيه أ ن يقتلعه السيد فيخسره الشعب المصابر .

  دعانا أخي إلى قضاء العطلة  ـوهي أسبوعان ـ في رحاب اليمن " السعيد " وتذكرنا قول الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ   " لابد من صنعا وإن طال السفر " .  فشحذنا الهمة ، وقررنا ـ  إذا قدر الله تعالى ـ أن نكون عنده في اليوم الأول وأن نعود في اليوم الأخير من العطلة حتى نستمتع قدر المستطاع بهذه الرحلة ...

انطلقت بنا الطائرة اليمنية ظهر يوم الخميس ، من الشارقة في رحلة رائعة ، سارت فيها شرقا محاذية  شاطىء الخليج ، إلى رأس هرمز المتجه إلى إيران، ثم انفتلت إلى الجنوب فوق جبال عمان الخضراء السامقة، وتابعت محاذية ساحل البحر العربي، بارتفاع منخفض أتاح لنا التمتع بما نراه ، ثم اتجهت نحو الغرب غير مبتعدة عن الشاطىء ، إلى أن وصلت باب المندب ، فانفتلت إلى الشمال نحو مدينة الحديدة اليمنية على البحر الأحمر ، ثم بدأت تنخفض شرقا إلى مطار صنعاء ، وسمعنا قائد الطائرة يهنئنا يسلامة الوصول، ويطلب إلينا أن نربط الأحزمة استعدادا للهبوط .

وقبل أن نربط أحزمة الهبوط كنا قد ربطنا أحزمة المعدة ، فما قدمه الضائفون من طعام للمسافرين كان قليلا ، وكانت خدمتهم للمسافرين يدل على رقة حال شركة الطيران اليمنية  وفقرها ، ويساعد على ذلك الاستنباط  قِدَمُ الكراسي وتغيُّرُ لونها .

كان يجلس إلى جانبي في الطرف الآخر رجل من الإمارات ، عرفني بنفسه فقال : إنه تاجر عطور في دبي ، وكان من دواعي التعارف فضلا عن جلوسه قربي أنني أخرجت " حنجور  " عطر من مسك طيب ادّهنت به وقدّمته إليه ، فكان مهذبا، إذ أخذه مني فشمّه ثم ادّهن به ، وسألني عن ثمنه فقلت : عشرون درهما ، فأخرج واحدا بحجمه وفتحه ودهن كفي به وكان من العود الذكي الرائحة، وذكر أن ثمنه خمس مئة درهم. وأخرج ثانيا ضعف حجمه من العود نفسه قائلا : إنه بألف درهم. فلما سألته : أفي اليمن من يشتري عطورا بهذه القيمة أجاب : نعم وخاصة زارعو القات. قلت : ومن هم؟ قال : ما من يمني لا يمضغه ، وسوف تراهم حين ننزل يمضغون ، وما من زارع للقات إلا كان دخله السنوي بملايين الريالات، وكان الريال في تلك السنة أقوى من الريال السعودي.

  لم يكن في المطار سوى مدرج واحد وقفت الطائرة فيه ، ثم تقدّمت نحو بناء صغير أظن أن مساحته لا تتعدّى ألف متر مربع ، هو كل بناء المطار

نزلنا من الطائرة ، وتقدمنا إلى البناء ، وكان موظف الجوازات في مدخله ، وسألني إن كان معي دولارات فأفدته ، وسرت خطوات لأرى أخي وأولاده ينادوننا ، وعلى اليسار  القسمُ الثاني من البناء يجلس فيه المغادرون ،  هذا كل  بناء المطار ، فدلفنا من الباب الخلفي إليهم ورأينا أنفسنا في صنعاء

صنعاء

كان الجو لطيفا والسماء صافية ، ودرجة الحرارة لا تتجاوز الخامسة والعشرين  ونحن في فصل الشتاء ، كنت أصلي الفجر في المسجد القريب من دار أخي في هذه الزيارة وفي الصيف عام تسعة وثمانين ، فلا أجد تفاوتا يذكر في درجة الحرارة ، سوى أنني في الشتاء كنت أرتاح أكثر لارتداء معطف خفيف .

صنعاء في ذلك الوقت مدينة هادئة صغيرة، ليس فيها شارع معبد سوى شارع الستين وهذا اسمه على ما أعتقد، وفي وسطه نفق عميق يستوهب السيول المتدفقة القوية ، وكثيرا ما ترى معالم الشارع  مطموسة بالأتربة والأوساخ، أما الطرق الأخرى الرئيسة والمتفرعة عنه وعن غبره فترابية أو معبدة بشيء آخر عجيب ، أتدري ـ قارئي العزيز ماهيته ؟ ـ إنه علب المشروبات المعدنية الملقاة على الأرض التي داستها السيارات فمددتها ولصقتها بالتراب مع أكياس النايلون ، والورق المقوّى ـ الكرتون ـ وما يخطر ببالك ، وما لا يخطر من مزابل الإنسان،

أما المجاري فعلى سطح الأرض ، تخرج من الدور إلى منتصف الطريق وفد تكون أضيق من خطوة الرجل أو أعرض ، وعلى الناس أن ينتبهوا كي لا يقعوا في المحذور ! ، ويُعرف ما يأكله أهل كل دار مما يسيل في هذه المجاري الترابية من مخلفات الإنسان ، ، ترى الألوان متعددة ، أخضر وأصفر وأحمر ،، لا أريد أن أثير الاشمئزاز ، ولكن هذا أقل ما يُقال.

أغلب الشوارع قديمة ، والمحلات التجارية ، أو  قل الدكاكين بسيطة والحياة أقرب إلى البدائية ، ولعل صنعاء حين زرتها أول مرة  تشبه مدينة حماة السورية قبل ثلاثة قرون ، فالفرق الحضاري بين بلاد الشام واليمن كبير .  إلا أن زخرفة البناء من الخارج  متميزة ،  غزت صورها العالم وتميزت اليمن بها .

كانت دار أخي في وسط المدينة كما قيل لي ، في منطقة تدعى" الأكمة"  في طريق داخلي أمام ثكنة عسكرية، وعلى بعد مئة متر من مسجد مشهور يعرف بجامع "هايل سعيد " ولعل أغرب ما رأيت حين أدخل المساجد السراويلات الداخلية تُرمى أمام الباب فإذا انتهت الصلاة عاد أصحابها فلبسوها ، والأعجب أن أصحابها لا يخطئون فيها وهي كثيرة ، ولا تسلني عن نظافتها ، فلا أريد أن أثير فيك الاشمئزاز تارة أخرى ، إن المسلم نظيف ، لقد كان الأحرى بهؤلاء أن يبدلوا ما اتسخ في بيوتهم، لا أن يزرعوها أمام المساجد !! وكل عمل المسلمين محسوب عليهم بدقة ، وهل هذا الأمر إيجابي ومعلم حضاري بارز يعطي صورة جيدة لمن يريد الدخول في الإسلام  أو يمنع طعن الشانئين المبغضين؟!

من أهم ما زرناه في صنعاء المسجد الكبير وهو داخل السور، رواقه كبير قائم على عمدان كثيرة، تقام فيه دروس الفقه والعلوم الشرعية على المذهب الزيدي بشكل متواصل فتراه ممتلئا في أكثر أوقاته، ويزيدون في الأذان بعد " حي على الفلاح" قولهم " حي على خير العمل" في كثير من المساجد ، وفي اليمن كثير من أهل السنة على المذهب الشافعي ولأن الصلاة هي هي لاتختلف – والحمد لله –يختلفون إلى المساجد كلها ، الشافعي والزيدي ويصلي بعضهم وراء بعض .ودخلت باب اليمن كثيرا ، فهو لب المدينة ومعلمها البارز، ومن أمامه يبدأ شارع عريض يخترق المدينة الحديثة، ولعله -كما أظن – يتصل بشارع هايل حيث أنشأ أبو عصام مطعما يهتم بالمطبخ السوري يقدم الوجبات الحلبية المشهورة وسماه مطعم الشهباء، كان السوريون وكثير من الذواقة اليمنيين يقصدونه، 

مأرب

خرجنا صباح يوم قاصدين سد مأرب القديم الجديد، فما إن غادرنا صنعاء بضعة كيلومترات حتى أوقفنا حاجز عسكري سلم علينا بأدب ، وجاست عيناه داخل السيارة ، وسمح لنا بالمسير، قلت لأخي : ليس في بلادنا ما يمنع أمثال هذا الحاجز بسبب وبدون سبب، فما بال هؤلاء القوم ؟ أتراهم تعلّموا منا؟ قال: لو كنا يمنيين لشددوا أكثر . لقد دخلنا حدود القبائل، ففي المدينة لا يسمح بحمل السلاح ، وبعد هذا الحاجز ترى الصغار قبل الكبار يحملون السلاح الفرديّ ـ المسدسات والكلاشنكوف ـ دون حساب ولا عقاب، ورأينا ـفعلا ـ على طول الطريق أبناء العاشرة يحملون السلاح في غدواتهم وروحاتهم .،شعرت ـ والله  ـبالعزة وأنا أنظر إليهم ، فكيف لو كنت أحمله؟!

ليس من يحمل السلاح إرهابيا ،  إنما الإرهابي من يحظره على غيره ويذلهم  به ، ألم يكن أجدادنا يحملون السيوف في أغمادهافي حلهم وترحالهم ؟ ولا يستعملونها إلا في الوقت المناسب ؟ أليس من يكون السلاح رفيقه يمنع ذوي النفوس الخبيثة أن تعتدي عليه وتستخف به؟ وحين يكون نظامٌ لن ترى أحدا يجرؤ على إيذاء الآخرين . ومتى ظهر ـ ما يسمى إرهابا ـ في بلادنا وفي غيرها؟ إن نظرة سريعة تؤكد أن الحاكم المستبدّ حين يضيّق على الأمة ويسلبها حقها ، ويسومها الخسف ، ويذيقها الذل ألوانا ، تثور عليه وترفع السلاح في وجهه. وأكبر دليل على صحة هذا الرأي أن الأمريكي يشتري السلاح الذي يريد من مخازنها الموجودة في كل مدينة صغيرة أو كبيرة في أمريكا ، ويحمله ويتدرب عليه ولا يثور على مسؤوليه لأنه الذي ينتخبهم ، فيرفع من يشاء منهم، ويسقط منهم من يشاء ، وإذا شعر أن اختياره كان خاطئا غيّرهم بعد أربع سنوات . إنهم يسعون إلى رضاه ليختارهم دائما ، فلماذا يحمل السلاح في وجوههم؟!  أما حكامنا فإنهم يصلون إلى كراسي الحكم بالدبابة والانقلابات، ويكممون الأفواه ، ويسدون الآذان ، ويغطون على العيون ، والمواطن المثالي عندهم لا يرى ولا يمسع ولا يتكلم ، ويلتصقون بالكراسي وشعارهم <إلى الأبد يا سيد البلد> والويل لمن يحرك ساكنا ، ويسلبون وينهبون فكل شيء لهم !!! وتراهم يُمضون كل ما يريدون دون العودة إلى الشعب ـ مع قليل من الديكور المنافق كمجالس الشعب والأحزاب الهزيلة المؤلفة من وصوليين ، وقد يكون بعض هذه الأحزاب مؤلفة من الرجل وزوجته فقط ـ !!.

الطريق إلى مأرب عادي ملتوٍ ، ولعله بعد ثمان عشرة سنة دخل عليه التحسين ، ليس فيه ما يجذب الانتباه ، ولعل مسمارا أصاب إحدى عجلات السيارة ، وكنا لحسن الحظ أمام " بنشر " أحد مصلحيها فجاء غلامه وحلّ العجلة وقدّمها للمعلم الذي كان فمه منتفخا من طرفيه ، سلمنا عليه فلم يرد ، وكأنه لا يسمع، ضحك أخي حين سألته عن الورم  في فمه  وقال : هذا مسلطن ـسلطان زمانه ـ يمضغ القات ويحتسي الشاي معه . ... أخرج الرجل المسمار ولصق جلدة مكان الثقب ثلاث مرات ، فلم يفلح إلا في الرابعة،  قلت : لعله مبتدىء لايحسن الصنعة ؟ قال : بل هو منسجم  يحلق في ملكوت آخر ، وقد جرت العادة في مضغ القات أن يجمع المصلون العصر مع الظهر ليتفرغوا يوميا لهذا السم القاتل ، ولقد زرت بعض الإسلاميين في صنعاء فوجدتهم شريحة من شرائح المجتمع الذي يعيشونه ، يجتمعون على القات بعد جمع الصلاتين ، ويأخذون في الحديث والمناظرة . . وقد تجد شرطي المرور يفرض على السائق إتاوة يجمعها من هذا وذاك وهو عصبي المزاج ، فإذا بدأ يمضغ القات هدأ وسكن وعاد وديعا!

وصلنا مأرب القديمة بعد مسير أربع ساعات فكانت رجومَ أحجار مكوّمة هنا وهناك على مساحة من الأرض واسعة، تملؤها الأحجار الصغيرة فتذكرت قوله سبحانه وتعالى " لقد كان لسبأٍ في مسكنهم آية ، جنتان عن يمين وشمال " فأين هاتان الجنتان يا أبناء آدم؟ تكلموا ، أجيبوا . لن بنبسوا ببنت شفة،  لقد طواهم الدهر فصاروا في خبر كان أو سكون مجزوم به لا يريمون عنه ، أو جر إلى قعر جهنم بما كفروا نعمة ربهم.

ورحم الله اباالعتاهية فقد أحسن إذ قال:

      لمن نبني ونحن إلى تراب         نصير كما خلقنا من تراب

لقد كانوا سادة في حياتهم يشار إليهم بالبنان، فأين هم الآن ؟

      نح على نفسك يامسكين إن كنت تنوح     لتموتنّ وإن عمّرت ما عمّر نوح

كان السد القديم إلى يسارنا حين دخلنا المنطقة، باقية آثاره على مر الزمان ينبىء عن حضارة متقدمة في عالم الزراعة والري والتجارة ، فقد كانوا يسيرون ليالي وأياما في ظل الخمائل والأيك "فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم، فجعلناهم أحاديث ، ومزقناهم كل ممزّق" نعم صاروا أحاديث للعرب منذ القديم إليّ حيث أحدثكم عنهم ، وحيث يُذكرون مثالا لمن يكفر النعمة ولا يحافظ عليها ، فشتتهم الله في جزيرة العرب وبلاد الشام ، حتى وصلوا إلى المغرب ،فكان البربر من نسلهم. وما أعظم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك "

وتمشي خطوات فترى السد الجديد ملاصقا السد القديم وملتحما به، وأعلى منه قليلا، قمته طريق يصل أوله بآخره ، تصعد إليه على درج وعلى جانبيه مساطب من أسفله إلى أعلاه، تكفل ببنائه الشيخ زايد بن سلطان أمير دولة الإمارات العربية المتحدة, فإذا وصلت قمته رأيت بحيرة كبيرة وراءه، فسيول اليمن مشهورة بقوة اندفاعها وكثرة مائها ، وحين يكثر الزائرون يفتح القيم على السد كوّة فيتدفق الماء عذبا رقراقا يملأ النهر الطبيعي المتشكل منذ القديم ويتقدم نحو رجوم المدينة المندثرة فيغيب في ثنايا الأرض الرملية أمامك بشكل يثير العجب.

حين علم بعض الأحباب بوجودي في صنعاء قصدوا دار أخي مسلّمين ومنهم إخوة لم أرهم مذ كنا في حلب ، أذكر منهم أخانا موجه الرياضيات حسن دشّق "أبا محمد " وعبد الماجد السيخ " أبا ياسر" والأخ الحبيب المهندس نادراً القرقناوي " أبا نجيب" وجميل أن ترى فجأة إخوة لك تحن إليهم وتشتاقهم ، وكانت ليالي وأماسيّ رائعة ، كما تعرفت على الأستاذ الداعية اليمني والأخ القائد" أبي أكرم " عبد الرحمن العمادي حفظهم الله جميعا.

الزيارة الثانية

كانت عام تسعة وثمانين ـ أي بعد ثلاث سنوات ونصف السنة ، فقد كانت في الصيف ولم تكن زوجتي معي ، فقد زارنا في الإمارات أختها الكبرى وزوجها رحمه الله تعالى وأولادها ، وكانت أختها الوسطى الدكتورة زينب تعمل في كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي، وهي الآن مدرسة في جامعة الشارقة وسأحدثكم في مذكراتي إن شاء الله تعالى عن طريف قدومها ، إلى الإمارات ورعاية الله تعالى لها في مسار حياتها فهي ـ والله أعلم ـ تحمل في صدرها قلبا نظيفا خاليا من الغش، قل أن يحمل أحد مثله هذه الأيام، ولا أزكي على الله أحدا, استأذنتهم في السفروانطلقت إلى عمان فاليمن.

لم ألتق كثيرا بالإخوة اليمنيين فلم يكن ما يستدعي ذلك ، لكنهم إن كانوا على شاكلة الأستاذ العمادي حفظه المولى فهم على قدر عال من الذكاء والفهم والإخلاص.

يقول أبوعصام ـ أخي  ـ : ألا تزور صاحبنا فلانا في " وادي النعيم"؟ قلت وقد شاقني الاسم : لم لا؟ فركبنا سيارته الدهرية " كريسيدا"  التي أكل الدهر عليها وشرب، ـ وليس فيها من مقومات السيارة سوى اسمها- لا أدري كيف تمشي وقد تقعقع فيها كل شيء وكان هديرها هدير دبابة، ومع ذلك فقد حاول اللصوص سرقتها مرتين وأنا في زيارته الثانية، وهي أمام بيته، دون أن يظفروا بها وقد رأيناها مفتوحة و" الدينامو " ملتويا –حاولوا سرقتها بين الظهر والعصر ، لكنهم لم يعرفوا أين مفتاحها الكهربائي السري، فباءوا بالخيبة ، ولعلهم لو استطاعوا فك اللغز لأراحوه منها ، ولكنّ عمرها طويل بين يديه . ...انطلقت بنا دبابته إلى الهدف المنشود ، وخرجنا من صنعاء، وسلكنا طرقا ملتوية ، ثم دروبا ترابية مهملة ، ثم بدأت تقفز على الأحجار الصغيرة ، وفوق الصخور الكبيرة، وترتفع تلا وتنزل واديا ، ونحن نميل يمنة ويسرة، نصطدم بالأبواب تارة وبالسقف تارة، تلبكت أمعاؤنا ، وهضمنا طعام الغداء فشعرنا بالجوع ، وما زالت السيارة تعلو وتهبط وتتلوّى بنا حتى وصلنا قرية في واد تسبح فيه الأحجار والصخور ،حتى قالت الوالدة رحمها الله تعالى ، وقد كانت معنا: أهذا وادي النعيم أم وادي الجحيم؟ ! وضحكنا ، فقد كان التعليق في مكانه، وكانت الرحلة الراقصة متعبة .

القرية صغيرة ، فيها مدرسة ابتدائية بحياة بدائية ، في قرية مازال أهلها يعيشون في مجاهل التاريخ، حياتهم صعبة ، ولئن اعتادوا عليها فلأنهم لا يعرفون غيرها ، أما الأساتذة فهم من البلاد العربية  المتحضرة ، ومن الصعوبة بمكان أن يتبدّى الإنسان بعد التحضّر، ولكن لقمة العيش مغموسة بالدم.   كانت حياة صاحبنا السوري صعبة للغاية،  لكنه وأسرته وطنوا أنفسهم على ذلك ، يقول : وهل بالإمكان أفضل مما كان؟ .

قضيت عيد الأضحى عند أخي مع الوالدة الحبيبة وعدت إلى عمّان ومنها إلى الشارقة و ما أحلى الرجوع إليها !

أما الزيارة الثالثة

 فقد كانت صيف عام ثلاثة وتسعين ، مع الزوجة ، وكان المطار أحدث من سابقه إلا أنه يتخلف بمراحل كثيرة عن غيره في البلاد العربية الأخرى

وكان الجو لطيفا ، فزرت وأبو عصام مدينتين اثنتين .

كوكبان

انطلقنا – على ما أعتقد - نحو الشمال الغربي في طريق أحادي ، وكل الطرق الخارجية اليمنية –تقريبا – أحادية، وبدأنا نصعد الجبال ، قال أخي: انظر إلى الأعلى فرفعت رأسي إلى قمة الجبل العالي جدا ، فرأيت بيوتا عالقة في السماء، قلت : كيف وصل هؤلاء إلى السماء السابعة؟ وكيف يعيشون فيها ، إني أراها محاطة من كل جوانبها بالفضاء الرحب ، فأين الطريق إليها ؟ ولماذا يسكنون في شاهق ؟ أليس لهم في الأرض المنبسطة فرج؟

كان أبوعصام يبتسم وهو يستمع إلى تساؤلاتي؟ نظر إليّ والسيارة ترتقي الجبل متمهلة وقال ستعاينها حين نصل إليها فاليمنيون كانوا أهل غزو وثارات ، ولم يكن أحد يتورّع أن يغزو المسلمين ـ وهو منهم ـ ليؤمن لقمة عيشه، وكان وازع الدين فيهم ضعيفا ، فلجأت كل قبيلة أوعشيرة إلى الجبال والتلاع تتخذها سكنا وملاذا. ... وظلت السيارة تجاهد في التسلق حتى حسبتنا في الطائرة، واقتربنا من البلدة التي أنجبت العلماء ،

تمتاز كوكبان بجامعها الذي بناه الأمير أسعد بن يعفر في القرن الثالث الهجري،وهو صورة مصغرة لمسجد صنعاء الكبير،في وسطه صحن حوله أربعة أروقة أكبرها القبلية، والقبلية مؤلفة من أربع بلاطات كبيرة وثلاثة صفوف من الأعمدة، يتوسط المحراب جدار القبلة، وباطن المحراب مطلي بالجص، تزينه عناصر زخرفيةعلى هيئة محارة ووريدات ثلاثية

أما حصن كوكبان فيرتفع ثلاثة آلاف متر عن سطح البحر، يحيط بالمدينة من كل الأطراف ، كان ارتفاعه حين فتح المدينةالقائد العثماني " سنان باشا" في القرن السادس عشر الميلادي ثلاثة وسبعين مترا، وعرضه ثلاثة أمتار، وكان للحصن أربعة أبواب ، فإذا أغلق الباب الرئيسي صارت المدينة جزيرة فضائية عالقة في السماء لا يصل إليها إلا الطير . وقيل : سميت كوكبان لأن قصر الحصن بني بالحجارة داخَلَها الفضةُوالياقوت والجوهر ، وكان الدر والجوهر يلمعان في الليل كالكوكب.

الطويلة

وصلنا إليها بعد مسير ساعة أو أقل وهي عاصمة منطقة المحويت ، كان أبو عصام يعمل مدرسا في معهدها سنتين ، وكان مدير المدرسة وإمام القريةرجلا في الخامسة والستين من عمره حفظه الله تعالى ، ذاهمة عالية ونشاط بادٍ ، بينه وبين أخي حب وود، استقبلنا بترحيب يدل على أخلاق راقية ، وصعد بنا بيته ولا أدري كيف وسعنا درج البيت ، فهو ضيق لولبي، وكان الرجل نحيفا طويلا، ومن حقه أن يكون كذلك لكثرة ما يصعد الدرج ويهبط،  تغدينا عنده الأرز المطبوخ دون لحم ، فلما شبعنا قدم لكل منا قطعتي لحم متوسطتين ، والتفت أخي بقول : لا يقدم اليمنيون اللحم مع الأكل ، إنما يقدمونه وحده وكأنه الفاكهة،  ثم يقدمون الشاي ومن بعدها الفاكهة.

أخذنا بعد ذلك إلى مكان عال مشرف على ما تحته ، كان منظرا رائعا بكل ما في الكلمة من معنى، فيه عظمة وجلال، فنحن على مكان مرتفع ، بل أعلى مكان في المنطقة، ومن تحتنا الجبال الأوطأ ، ثم التلال التي بدت وديانا تحتنا، ثم السهول والسهوب ، تمتد إلى ثلاثين كيلو متر تقريبا ، والقرى من تحتنا بالمئات تلمع تحت أشعة الشمس ، كأنها حبات اللؤلؤ، صورة بديعة تأخذ بالألباب ، وتسبح الله تعالى ، فتدفعك لا شعوريا إلى التفكير بعظمة الخلاق وجمال صنعه. رأيت مثل هذا في الباكستان، فأخذني جلال الصورة،  فلما رأيته هنا غطى على ذلك المكان ، فهو أكبر وأفسح.

وفي كل شيء له آية          تدل على أنه الواحد

وإني لأرغب أن أزور الطويلة ، وهذا المرتفع نفسه ، فقد ترك في نفسي ذكرى شائقة ، وحنينا مشوبا بالرهبة ، لا أستطيع التعبير عنه أكثر مما عبرت.

وفي الطويلة حصون متعددة كانت تحمي المدينة من الغازين الطامعين مثل حصن الشامخ وشمسان وحجر السيد ، رأينا أحدها من قريب ولم ندخله ،و ذُكر لنا الباقي دون أن نراها .

 كنا نود أن نكمل الإجازة الصيفية في اليمن ، فمنعنا من ذلك البراغيث والبرغش ، التي كانت تجتمع علينا من كل حدب وصوب ، وتعجبت من صبر الناس عليها ، وتحمل أذاها فأسرعنا بالعودة إلى الشارقة ، فهي أرحم .. وارتفعت الطائرة بنا قبيل الفجر فكانت الصورة رائعة، فالبحر قبل أن ترتسم الشمس على صفحة مائه ، كان يبدو لنا بحرا أحمر قرمزيا مثل لون الدم ثم صار ورديا ثم استحال لازورديا ثم اصفرّ ثم بدا ذهبيا ثم ازرقّت المياه ، فسبحان مصور الأكوان ومبدعها ، سبحان الله الخالق العظيم