رحلتي إلى اليمن

رحلتي إلى اليمن

بقلم:ليلى العثمان

استقبلني فجر صنعاء موشي بلون الشروق الخجول، شعرت بنداوة السماء تمسح هم الرحلة الطويلة، توقظ النعاس الذي لم تتح له فرصة لنوم مريح. خوفان كانا يتناوبان علي ويقلقان بالي.هذا الخوف ناتج عن أمرين:أولهما قناعتي 'بفوضي وزارتنا العربية' وكثيرا ما اشتكي ضيوف الملتقيات الثقافية وغيرها في الوطن العربي من هذه الفوضي فينتظرون في المطارات حيث لايجدون

أحدا بانتظارهم. ماذا لو حدث معي وأنا المتعبة الجائعة العربية عن بلد لاتعرفني ولا أعرفها ­ إلا بالأسماء­؟ من سينقذني؟ وإن كان لي فيها أصدقاء فأنا لاأعرف عناوين بيوتهم، وبعضهم لدي أرقام هو اتفهم لكنني لا أجرؤ علي الاتصال فجرا لأزعجهم. سيتوجب علي إذن أن أتصل بالجهة الداعية­ مركز الدراسات والبحوث اليمني­ لكن المركز لم يفتح بعد وسأنتظر أكثر من ساعتين وسيفسد علي هذا الانتظار صباحي وربما الصباحات القادمة كلها!
ظللت بقلقي وأنا أنحدر من سلم الطائرة، وما أن نزلت الدرجة الأخيرة حتي صافحني اسمي مكتوباعلي لوحة يرفعها أحدهم ويهديني تحية الصباح وترحيب لطيف. شهق الفرح بداخلي وانتشرت أذرع الراحة تغذيني بعد جوع وتطرد القلق المسيطر.دخلت صالة الشرف، استقبال يفتح شهيتي أن أرتمي علي كل وجه لأشكره. كنت بحاجة  لفنجان قهوة تركية ينشط نعاسي ويتناسب مع فرحي، فالقهوة بالنسبة لي رفيقة الفرح، وحين فاحت رائحتها تنشقتها بشهية عارمة، لكنني ما استطعت إلا رشفة واحدة منها، فقد كانت 'سكر زيادة' ومنعني خجلي أن أطلب غيرها. تعلميات أبي الصارمة تلاحقني 'يا غريب كون أديب'.الخوف الثاني أنني دائمة القلق من لقاء المدن لأول مرة، الوهلة الأولي، النظرة الأولي، الإحساس الأول فالمدن كما البشر لها طبائعها المتناقضة، هناك مدن ترفضك ، وهناك التي تفتح ذراعيها باتساعهما وتسقطك في وسط القلب. هي تحب ، تحتوي أو ترفض ، تعد لك فراشا أو تتركك تنام عند عتبة الباب دون لحاف.هذا الخوف استعمرني منذ أن قررت السفر، وتمنيت بداخلي كثيرا أن لاتصد صنعاء عني بوجهها ولابعواطفها. فاستقبال المدينة إن كان كارها سيجعلني أبادله الكراهية­ وهكذا ما لا أريد­ واستقبالها المحب سيفتح كل قنوات الحب إليها.ركبت السيارة الشمس لم تشرق كاملة بعد، لكن ضفائرها البرتقالية بدأت تتناثر من خلف الجبال وتصب ذهبها علي أسطح البيوت الهاجعة ماتزال. الشوارع هي الأخري لم تستقبل ضجيج الأقدام والعربات وعيناي تتأملان ماحولي في 'لحظة حاسمة'.
***
عادة لا أحب المدن التي لابحر فيها، كان هذا أحد هواجسي، فالبحر، هذا العشيق النادر الدائم­ يأسرني. رائحة زفره تثير بروحي اشتهاءها للحياة رغم مصائبها، هو برأيي الرجل المتحرك، الثائر حينا، الحنون أغلب الأحيان. هون الخائن الغدار وهو الوفي المعطاء. وحيث يكون البحر يكون الحب، يكون الأمان. فكيف سأقضي أيامي في صنعاء التي بلا بحر؟ خشيت ألا أحبها وخشيت أن ترفضني، أن تتعالي علي وهي التي بلا بحر، أن تضغط علي روحي للدرجة التي أقرر فيها أن أعود من حيث أتيت، ولكن! يا لسعادتي فما أن جلست في السيارة ونسائم الصباح الباردة تلسعني حتي أحسست بذلك الشعور الرهيب، شيء مايغمرني بحنان عذب، شيء مايتسرب إلي سمعي وكأنه صوت أمي التي غابت دون أن أودعها، يهمهس لي: 'أهلا بك في قلبي' أحسستها بذراعيها تحتوياني وتلصقاني بصدرها. آه ما ألذ أن تحضنك أم لحظة وصولك ونعاسك. ما أشهي أن تحس قبلاتها تدفيء وجنتيك وقلبها المفتوح يتسع لك كلك، بهمومك الشاهقات التي لاتري، بأحزانك الدامعات عصية الهطول وبفراغ قلبك رغم امتلائه.
صنعاء أحبتني منذ الوهلة الأولي­ لاحقا كتبها لي صديق بإهداء كتابه­ صنعاء دعتني بإصرار ورفق أن أحبها منذ أن بددت خوفي من الانتظار. استللت أنفاس الراحة، انتشر بصدري التفاؤل كرذاذ بارد. تأكدت أنني سأقضي لأيام سعيدة، وهيأت نفسي أن أرد جميلها منذ اللحظة الأولي، أن أنسف كل عوالق الهموم الباقية، أن أصفي ذهني ليكون مستعدا لاستقبال كل جديد من ثقافة ، سياحة، معرفة ومحبة يضا.
***
لم أفكر يوما بزيارة اليمن، حتي حين تسني لي أن أرافق ذات مرة بعيدة وفدا من رابطة الأدباء رفضت السفر، لا أدري لماذا­ وكم أنا نادمة الآن­ ولا أدري لماذا حين نفكر بالسياحة لانفكر بدون الجوار أو البلدان العربية البعيدة. لماذا نهرع إلي دول العالم ونصطفيها متصورين أنها الأجمل والأكمل والأوفي؟ ثم حين نزور بلدا لم نهتم ان يكون علي خارطة أسفارنا نفاجأ ونشعر بالأسي من تقصيرنا.هكذا جاءت الدعوة إلي صنعاء لتكون فاتحة خير، فرصة أن أري اليمن الذي لا أعرفه، فرصة أخري أن أشارك في ملتقي أكبر ضيوفه الكاتب الألماني الكبير­ غونتر غراس­ وفرصة أيضا لألتقي بأصدقاء من اليمن وآخرين كثير يلبون الدعوة مثلي من أرجاء الوطن العربي.اطمأننت أنني أحببت صنعاء اللحظة الأولي وهي أحبتني، فردت شراع روحي يحلق في فضائها وأنا أقطع الطريق إلي الفندق، رغم الإرهاق والنعاس والجوع كان حنان صنعاء يتبعثر علي فأدلل قلبي 'آه ياقلبي لاتحزن'.وصلت إلي الفندق­ تاج سبأ­ الذي ظللت أنطقه­ تاج محل­ فيضحكون عليٌ، وحين خرجت في اليوم التالي لأتمشي صباحا وأبحث عن مكتبة ابتعدت فضاع مني طريق العودة صرت اسأل المارة عن ­ تاج محل­ ولا أحد يعرفه حتي تنبه أحدهم وهو يغفر لي خطئي: 'أنت غريبة ، هو تاج سبأ' ورافقني حتي وصلت.كعادتي لايمكن أن أنام أو آكل قبل أن أفتح حقيبتي وأرتبها، ثم اندسست في الفراش وغبت في نوم عميق لم أصح منه إلا في الثانية عشر والنصف. ماذا ينتظرني في هذا الملتقي؟ بحثت عن الأخت الشاعرة أمل جبوري 'لم أكن أعرفها من قبل' هي المسئولة التي يجب أن أراجعها، استلمت ملف الملتقي والبرنامج والتقيت ببعض ببعض المنظمين: الشاعر علي الشلاه والشاعر اليمني­ الوديع­ أحمد العواضي وغيرهم ممن سخروا أنفسهم لخدمة الملتقي وللضيوف.عادة أكره الفنادق الكبيرة، أكره وجبات البوفية المتشابهة، لكن مايحدث أننا نخضع لهذه التقاليد الواردة، عادات استبدتنا وساهمت أن تفرض علينا قوانينها فرضينا بها، بل ربما حرصنا عليها بعد أن 'أترفنا النفط'. كان الجوع أخذ مني مأخذه ، فأكلت بشراهة ضاربة بالريجيم عرض الحائط.'باب اليمن' يفتح باب الحب والحسرة كنت قد وصلت صنعاء قبل الوفود كلها، ذلك بسبب أن الطائرة اليمنية تغادر من الكويت يوم 7/1 أو أن أغادر علي الطائرة الكويتية يوم 13/1 وتكون عندها قد بدأت فعاليات الملتقي. لذلك غادرت مبكرة وكان هذا من حظي لأكون حرة في الأيام الأولي، ألتقط ما أشتهيه من جولات في المدينة القديمة وأسواقها. ويا لتلك المدينة وأسواقها، فلا تلوموني إن كتبت بهذا العشق عن اليمن، ففي قراها البعيدة وأحياء صنعاء القديمة ببيوتها الطينية المتلاصقة شبه كبير بالكويت القديمة. تلك البساطة في البناء، الروح الخالية من سيطرة الحديث التزويق المفتعل، ثوبها القديم يطغي بلونه ورائحته وعفويته. الاطفال يملاون الأزقة الضيقة يلعبون حفاة أحرارا من التجمد أمام الانترنت وغيرها من الألعاب التي فصلت أطفالنا عن حضن الأهل. حظائر المعيز والأبقار والدجاج قرب البيوت تفوح روائح خيرهم، والنساء جالسات علي دكة البيوت تواكب أنظارهم فلول السياح القادمين المنبهرين بكل شيء.تشبعت بهذا العطر الذي لايختلف عن روائح الكويت القديمة، ذلك الزمان الذي مضي وترك في العمق حناءه وأوشامه الجميلة وذكرياته. ليس المكان وحده بل هو الانسان اليمني الطيب الخلوق البسيط بساطة الماء في الجداول، المعبق طيبة كما الرغيف الساخن يخرج من قلب التنور. الانسان اليمني ظل نقيا لم تلوثه الحياة بعد، لم يكسر صلابة روحه الترف الزائف ولم يتغلغل حقد المدن الحديثة إلي قلبه فيفسد روحه المجبولة بالطيبة والتواضع والأمانة، ولست أبالغ في هذا فشعب اليمن الشقيق ليس غريبا عنا نحن الكويتيين، فمنذ أن وعيت وأهل اليمن يعيشون ويعملون في الكويت وكان لهم سوق 'سوق المهرة' الذي كنا لا نستغني عن الشراء منه حتى بعد أن من الله علينا بالخير، وكانوا مسالمين لم يحدث أن اشتكي أحد من وجودهم، لا مشاكل سياسية ولا أخلاقية، آمنون في وجودهم، ائتمنهم الكويتيون علي بيوتهم  وأموالهم، وقد عرف عن اليمني أمانته ووفاءه لكل بيت عمل فيه. هناك شيء ما يجذبك إليه وكأن ضفيرة من الاطمئنان تجدلك به. أحببنا اليمنيين في بلدنا، وهناك في اليمن أحببناهم أكثر، أحببنا الشعر اليمني وحفظناه واستقبلنا شعراءه الكبار في محافلنا الثقافية كالشاعر الراحل الكبير عبدالله البردوني. أحببنا الفن الشعبي اليمني ورقصاته المميزة، أحبننا الغناء اليمني بكبار مطربيه مثل أحمد قاسم، أبوبكر سالم، كرامة مرسال، عبدالرب إدريس وغيرهم.في اليمن لاتقابل وجها إلا وتحبه، يستقبلونك بابتسامات حقيقية تعكس فرح قلوبهم، لا يعرفون المجاملة في الحب ولا في التعامل، يفرحون بالضيف، يتحسسون مشاعره تجاه بلدهم، يسترسلون في الحديث فلا تحس حواجز سوداء أو بيضاء تفصلك عنهم. يحبون الكويت حبا حقيقيا بعيدا عن السياسات المدمرة المواقف الطارئة في جلساتنا مع كل الوفود العربية الأخري، يعبرون عن هذا الحب والتقدير ويعترفون بما أهدتهم الكويت من مدارس ومستوصفات ومستشفيات وجامعة وغير ذلك.وان كان العتاب قفز مني رغما أننا الكويتيون تأثرنا من موقف 1990، لكننا لانحمل حقدا ولاعقوقا تجاه اليمنيين، فالرابطة عميقة متجذرة والقلوب التي لايسكنها الشيطان لا تعرف الكراهية.لقد ظللنا الحب هناك، أحسسناه وحملناه معنا زادا، فرحا وحزنا أيضا لأننا بعد ذلك فارقناه، ولم تخجل العين من دمعتها لحظة الفراق.كانت الجولة الأولي في المدينة القديمة 'باب اليمن'، هذا الباب الذي كان 'الامام' يغلقه ويضع مفتاحه تحت رأسه وينام ولايهمه ان تعطلت حياة الناس وأرزاقهم.حين دخلته شعرت بالفرحة، تذكرت 'سوق دعيج' و 'سوق واجف' في الكويت القديمة، وملأتني الحسرة علي تلك الأسواق التي أزالوها، وكانت تشبه هذا السوق رغم فارق المباني القديمة والآثار لحضارة أصيلة حافظوا عليها فصارت قبلة للسائحين من أرجاء العالم ومصدرا من مصادر اقتصاد البلد. وان كانت كل أسواق المدن القديمة تتشابه إلا أن هناك فروقات تترك لكل سوق خصوصيته المتفردة في بنائه وبضائعه.وسوق اليمن يشتهر بالفضة من مصاغات وأوان جميلة، وكذلك 'بالجنبيات' قديمها وماصنع حديثا منها، و 'بالشالات' المطرزة تطريزا دقيقا بألوان مدهشة ومنسجمة، بالبخور والمباخر وبالعسل 'الدوعني' ويحتار السائح ماذا يحمل معه. كل شيء يغري بالشراء حتي 'المكنسة الخوصية' البسيطة التي لم تسلم من رغبتي في اقتنائها فحملت واحدة معي.في السوق تتناغم أصوات الباعة، يؤهلون، يرحبون، يدعونك لدخول حوانيتهم دون أن يزعجوك بالإلحاح اللزج كما في بعض المدن الأخري.اليمني أبي النفس رغم حاجته للزبون، إن دعاك وتجاوزت حانوته لايغضب، وان دخلت عنده ولم تجد حاجتك يدلك بصدق علي حانوت آخر يبيع البضاعة التي تريدها. ولا يخلو طبع اليمني من الطرافة والفطنة فهو ذكي بالفطرة يفهم الإشارة بلبابة نادرة، وهو مثله مثل كل 'فحولات الرجال العرب' يعشق الجمال، يهدي كلمات الغزل الجميل لكن دون وقاحة ولا خروج عن الأدب، ولا يستغل الزحام لتمتد كفه بحركة شائبة.ما ضايقني في البدء أنهم حسبوني أجنبية فكان الغزل بلغات عديدة التقطوها من السياح ورفعوا سعر البضاعة، وما أن تكلمت العربية حتي تغير الحال وأرضي غروري.وفي السوق اليمني كما في الاسواق العربية القديمة الممتلئة بالسياح، الفصال في الشراء يجعل السعر غير ثابت، وان كان اليمني لايتهاون مع السائح الغريب إلا أنه مع العربي غير ذلك فهو كريم، وبعد أن تشتري حاجتك منه يقدم هدية صغيرة بحجمها، كبيرة في معناها.سوق 'باب اليمن' من الأسواق المذهلة التي لايمكن لك أن تمل منها أو تنساها، لا يمكن لشيء أن يعبر عينيك عبور الكرام، كل لقطة ترسخ جمالها في عدسة عينيك وأنت تلتقطها بعدسة الكاميرا، كل جماليات البناء يتشبع بها وجدانك العاشق لكل قديم لم يفسد.كل رائحة غريبة أو أليفة تفوح من الحوانيت، من الأرض المتربة، من الناس الذين يمرون تزاحمهم ويزاحمونك، روائح لاتثير التقزز والضيق، وبصدق أقول لم تلفتني ظاهرة الروائح البشرية في اليمن كما يحدث في المدن والبلدان الأخري، لم أنفر لأنني لم أشتم ما ينفر وإن كان الشكل الفقير ربما يوحي بذلك. حيرتني هذه الظاهرة، وان كان من السخف أن أتحدث عنها، إلا أنها ظاهرة أحسها غيري من الوفود.الزيارة لذلك السوق لاتشبعك، تجد نفسك مشدودا للتجول فيه ثانية. هناك أسواق أخري تعج في الليل بروائح الخضرة والفواكه والبهارات ولاتفقد فيها إلا مقاهي الرصيف التي تقدم 'الشيشة' ويبدو أنها لاتلقي الاهتمام الكبير من اليمنيين، وقد يكون القات هو الأثير بطقوسه المعتادة، لكن إلحاح من يطلبها يتحقق لأن اليمني صاحب المقهي البسيط لايريدك أن تغادر مقهاه ولك أمنية فيه لم تحقق.