العالم العلاّمة محمد البشير الإبراهيمي

المستشار عبد الله العقيل

(1306 - 1385ه / 1889 - 1965م)

مولده ونشأته

هو محمد البشير بن محمد السعدي بن عمر الإبراهيمي، مجاهد جزائري من كبار العلماء والدعاة وأفذاذ الرجال.

وُلد يوم الخميس 13/10/1306ه في بلدة (سطيف) ونشأ فيها وينتسب إلى قبيلة (ريغه) الشهيرة بأولاد إبراهيم بن يحيى بن مساهل. أخذ العلم عن الشيخ عبد العزيز الوزير والشيخ محمود الشنقيطي والشيخ حمدان الونيلي والشيخ الطيب بن مبارك الزواوي وغيرهم.

رحل إلى المشرق سنة 1911م، وأقام في المدينة المنورة إلى سنة 1917م ثم في دمشق إلى سنة 1921م. وعاد بعدها إلى الجزائر. وقد نشطت حركة زميله وصديقه الشيخ عبد الحميد بن باديس فأصبح له نحو ألف تلميذ وأنشأ (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) سنة 1931م وتولى ابن باديس رئاستها والإبراهيمي النيابة عنه.

نفيه واعتقاله

وقد أُبعد الإبراهيمي إلى صحراء وهران سنة 1940م، وبعد وصوله إلى معتقل الصحراء بأسبوع توفي الشيخ ابن باديس، فقرر رجال الجمعية انتخاب الإبراهيمي لرئاستها، واستمر في معتقل (أفلو) الصحراوي من سنة 1940م إلى سنة 1943م.

وبعد إطلاق سراحه أنشأ في عام واحد ثلاثًا وسبعين مدرسة وكتّابًا؛ وكان الهدف نشر اللغة العربية، وجعل ذلك عن طريق تحفيظ القرآن الكريم، إبعادًا لتدخل سلطات الاحتلال الفرنسي؛ وقد تسابق الجزائريون على بناء المدارس فزادت على أربع مئة مدرسة.

وفي سنة 1945م زُجّ به في السجن العسكري، ولقي تعذيبًا شديدًا من الفرنسيين، ثم أُفرج عنه، فقام بجولات في أنحاء الجزائر لتجديد النشاط في إنشاء المدارس والأندية والكتاتيب، ثم استقرّ به المقام سنة 1952م بالقاهرة. وحين اندلعت الثورة الجزائرية سنة 1954م قام برحلات إلى الهند وغيرها لإمداد الثورة بالمال والسلاح.

جهوده وجهاده

وفي فترة إقامته بالقاهرة كان يقيم المحاضرات في المركز العام للإخوان المسلمين ويحدّثهم عن الجزائر وأوضاعها والاستعمار الفرنسي وتسلّطه على الشعب الجزائري المسلم.

وحين حصلت الجفوة بين جماعة الإخوان المسلمين ورجال الثورة المصرية سنة 1954م حاول أن يبذل جهده للإصلاح والتوفيق ولكن الأمر قد تفاقم وعزّ العلاج. وقد عاد إلى الجزائر بعد انتصار الثورة الجزائرية.

إن العلاّمة المجاهد البشير الإبراهيمي من أفذاذ علماء الجزائر ودعاتها ومجاهديها وهو رئيس (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) بعد الشيخ عبد الحميد بن باديس.

وكان العلاّمة الإبراهيمي عالمًا في الفقه والتشريع واللغة والأدب، وخطيبًا مفوّهًا وشاعرًا كبيرًا يهزّ المنابر بجزالة ألفاظه، ويثير المشاعر بقوة أشعاره، إذا خطب فهو الأسد الهصور في زئيره والبركان الثائر في هديره، يأخذ بمجامع القلوب ويشد إليه الأسماع ويجلجل بكلمة الحق وينبري للدفاع عن الإسلام بقوة الحجة ونصاعة البرهان وجزالة اللفظ، وحلو البيان.

معرفتي به

سعدنا به أوائل الخمسينيات حين كنا ندرس بجامعة الأزهر يحاضرنا بدروسه القيمة ومواعظه النافعة ويرشدنا لما يجب علينا القيام به كشباب مسلم يضطلع بمسؤولية حمل الدعوة، ويحمّلنا الأمانة باعتبارنا رجال الغد وأمل المستقبل، ويوضّح لنا الأخطار التي تحيط بأمتنا والاستعمار البغيض الذي أناخ بكلكله على أوطاننا فاستغل خيراتها ونهب ثرواتها واستذلّ شعوبها وغزاها بأسلحة الدمار العسكرية والغزو الفكري والتحلل الخلقي والتفسخ الاجتماعي وكان (رحمه الله) يُلهب حماسنا، ويستجيش مشاعرنا، ويُعبئ طاقاتنا، ويشدنا إلى العمل البنّاء والدعوة الحكيمة والموعظة الحسنة، ويطلب منا الصبر والمصابرة على وعثاء الطريق، وأن نتحلى بصفات الرجولة الحقّة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في أكثر من موضع مثل قوله تعالى: {في بُيُوتٍ أَذنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِ وَالآصَالِ رِجَال} (النور: 36).

وقوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} (يس: 20).

وقوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا} (الأحزاب: 21).

توجيهاته وإرشاداته

يقول: إن للرجولة ضريبة وعليها مسؤولية لأن الرجال هم القمم الشامخة والعلامات البارزة والأئمة الدعاة الذين يقودون الأمة إلى مواطن النصر.

ومن أجمل ما قال شعرًا في هذا المجال قصيدة أحفظ منها قوله:

لا نرتضي إمامنا في الصفّ                 ما لم يكن أمامنا في الصفّ

أي أننا لا نرتضي أن يؤمنا في الصلاة إلا الذي يقودنا في الجهاد.

يرى البشير الإبراهيمي أن أسلوب التربية هو أساس عملية التغيير سواء في النفس أو في المجتمع، وهو الأسلوب الملائم لمواجهة الاستعمار قديمه وحديثه، لأن الاستعمار يهدم والتربية تبني، والاستعمار يجتث وهي تزرع. وكان يرى أن التغيير ينبع من الداخل، بإعادة بناء كيان الإنسان النفسي والعقلي والوجداني على أسس صحيحة من العقيدة الحقّة والإيمان العميق والفكر المتبصّر، مصداقًا لقوله تعالى: {إنَّ الله لا يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} (الرعد: 11)، ويعتقد أن فلسفة التربية ذات نفس طويل، لكنه أكيد المفعول وبهذا يتفق في المنهج والأسلوب مع الإمام حسن البنا.

والتعليم عند الشيخ الإِبراهيمي ليس مجرد حشو لأدمغة التلاميذ بمعلومات كثيرة ينسونها بالسرعة التي تعلموها بها ولكنه فقه وعمل.

ومن أقواله

«إن شباب الأمة هو الدم الجديد في حياتها، فمن الواجب أن يصان هذا الدم، عن أخلاط الفساد، ومن الواجب أن يتمثّل فيه الطهر والفضيلة والخير.

وهذه الطلائع لا تحقّق رجاء الأمة إلاّ إذا انقطعت للعلم، وتخصّصت في فروعه، ثم زحفت إلى ميادين العمل مستكملة الأدوات، تامة التسلح، تتولى القيادة بإرشاد العلم، وتحسن الإدارة بنظام العلم، فتثأر لأمتها من الجهل بالمعرفة ومن الفقر بالغنى ومن الضعف بالقوة، ومن العبودية بالتحرر وتكتسح من ميادين الحق بقايا الدجالين ومن ميدان السياسة والنيابة بقايا السماسرة والمتجرين، ومن أفق الرياسة بقايا المشعوذين والأميّين».

آثاره ومؤلفاته

كان من أعضاء المجامع العلمية العربية بدمشق والقاهرة وبغداد، وله شعر إسلامي يعتبر ملحمة في تاريخ الإسلام، بلغ حوالي ستة وثلاثين ألف بيت، كان ينشره في مجلة (البصائر) التي كان رئيس تحريرها؛ وهو من خطباء الارتجال المفوّهين.

وقد طُبعت مقالاته في كتاب (عيون البصائر)، كما أن له كتبًا أخرى منها:

- (شعب الإيمان)

- و(الثلاثة)

- و(حكمة مشروعية الزكاة في الإسلام)

- و(الاطراد والشذوذ في العربية)

- و(التسمية بالمصدر)

- و(أسرار الضمائر العربية)

- و(الصفات التي جاءت على وزن فَعلَ)

- و(كاهنة أوراس)

- و(نظام العربية في موازين كلماتها)

- و(رسالة في ترجيح أن الأصل في الكلمات العربية ثلاثة أحرف لا اثنان)

- و(نشر الطي من أعمال عبد الحي)

- و(ملحمة شعرية)

- و(رسالة في مخارج الحروف وصفاتها بين العربية الفصيحة والعامية)

- و(الأخلاق والفضائل).... وغيرها كثير جدًا.

قال الشيخ ابن باديس عنه:

«عجبتُ لشعب أنجب مثل الشيخ الإبراهيمي، أن يضلَّ في دين، أو يخزى في دنيا، أو يذلَّ لاستعمار».

من أقواله

«إن فرنسا قد جهلت أو تجاهلت أن أبناء الجزائر، كغيرهم من أبناء العروبة، قد انحدروا من أصلاب قوم كرام يأنفون الذل، ولا يصبرون على الضيم، بل كانوا يؤثرون الموت في عزة وكرامة، على الحياة في ذلة ومهانة. وإني أؤمن إيمانًا صادقًا أن لا بقاء للاستعمار في أمة مسلمة؛ لأن مبادئ هذا الدين، وتعاليمه، وتوجيهاته، خير دعامة للحرية، وأقوى حافز إلى الثورة ضدّ الذل والعسف.

إن الدين يأمرنا بالاتحاد، والتعاون، والتآزر، ويفرض علينا القتال والنضال، كلما خِيْفَ على حرّيتنا أن تُسلب، وعلى كرامتنا أن تُهْدَر، فكيف يتفق أن يكون للاستعمار بقاء مع هذه المبادئ العظيمة التي قرّرها الدين؟».

ويقول عن لقائه بأخيه الشيخ عبد الحميد بن باديس في المدينة المنورة:

«كنا نؤدي فريضة العشاء الأخيرة كل ليلة في المسجد النبويّ، ونخرج إلى منزلي، فأسمر مع الشيخ ابن باديس منفردين إلى آخر الليل، حين يفتح المسجد، فندخل مع أول داخل لصلاة الصبح، ثم نفترق إلى الليلة الثانية، إلى نهاية الأشهر الثلاثة التي أقامها الشيخ في المدينة المنورة، وكانت هذه الأسمار المتواصلة كلها، تدبيرًا للوسائل التي تنهض بها الجزائر، ووضع البرامج المفصَّلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت كلها صورًا ذهنية تتراءى في مخيلتنا، وصحبها من حُسْن النيّة، وتوفيق الله، ما حققها في الخارج بعد بضع عشرة سنة، وأشهد الله على أن تلك الليالي من سنة 1913 ميلادية، هي التي وُضعتْ فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي لم تبرز للوجود إلا في سنة 1931م».

نماذج من شعره

ومن أشعاره قوله في قصيدة (سكتُّ وقلتُ):

سكتُّ فقالوا: هدنة من مسالم

وبين اختلاف النطق والسكت للنهى

وما أنا إلاّ البحر يلقاك ساكنًا

وما في سكون البحر منجاة راسب

وقلتُ، فقالوا ثورة من محاربِ

مجال ظنون واشتباه مساربِ

ويلقاك جيّاشا مهول الغواربِ

ولا في ارتجاج البحر عصمة سارب

وقوله في قصيدة (الإسلام وفضائله):

شعارك الرحمة والسلام

الحق من سماتك الجليّةْ

والعقل منذ كنت من شهودِكْ

للعالمين واسمك الإسلام

العدل من صفاتك العليّةْ

والفكر بعد العقل من جنودِكْ

ذلك هو الشيخ المجاهد والعالم الجهبذ والداعية الحكيم العلاّمة البشير الإبراهيمي الذي شَرُفَتْ به ساحات النضال وميادين الجهاد يصول ويجول، يذود عن حمى الإسلام ويدافع عن حياضه ويربي جماهير الأمة على منهج الإسلام الحق وصراط الله المستقيم ويعطي الشباب المسلم من خبراته وتجاربه الشيء الكثير.

زيارتنا له

ولن ننسى له ونحن في فورة الشباب وحماس الفتوة كيف كان بالترحاب يلقانا مع رفقائه في الجهاد والنضال من شخصيات العالم الإسلامي الذين اتخذوا من القاهرة مقرًا، أمثال المجاهد التونسي الكبير محيي الدين القليبي والشاعر اليمني محمد محمود الزبيري والزعيم المغربي علاّل الفاسي والمجاهد الكبير محمد عبد الكريم الخطابي والداعية المجاهد الفضيل الورتلاني وغيرهم من القادة والزعماء الرجال.

وكان طلاب البعوث الإسلامية بالأزهر يتحركون بالإسلام في أوساط طلاب الجامعات المصرية الأربع، ويؤكدون في علاقاتهم على معاني الأخوة الإسلامية الحقّة قولاً وعملاً مقدمين رابطة الإسلام على ما عداها من روابط الجنس أو اللغة أو الوطن أو القومية أو القبيلة، مقتفين أثر الرسول (صلى الله عليه وسلم) الذي جمع بلالاً وعمارًا وسلمان وصهيبًا وأبا بكر وعمر فكانوا الجيل الفريد الذي اجتمع تحت راية الإسلام تحقيقًا لقول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمِ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا} (آل عمران: 103).

وبهذه الأخوة الإيمانية وهذا الحب العميق فتحوا الدنيا كلها بإسلامهم وأقاموا أعظم الحضارات بجهادهم وحققوا التكافل بأخوتهم فأشرقت الدنيا بنور الإسلام وسعدت بتعاليمه وسادت بأخلاقه وفضائله.

وسرنا - نحن شباب الإِسلام - في الخمسينيات على هذا الطريق وانطلقنا بتوجيه أساتذتنا ومشايخنا نردد قول الشاعر المسلم:

أبي الإسلام لا أب لي سواه                         إذا افتخروا بقيس أو تميم

وانبرى الطغاة وعملاؤهم يكيدون للإسلام وأهله ويمكرون الليل والنهار لوأد هؤلاء البراعم الذين تفتّحت قلوبهم للإسلام ويضعون كل العراقيل في طريق الدعاة إلى الله ويحاولون بكل وسيلة إيقاف المدّ الإسلامي الذي انطلق بقوة من الجامعات والمدارس يتصدّى للاستعمار ورموزه، فكان ما كان من السجون التي فُتِحتْ، والمشانق التي نُصبتْ، والبيوت التي هُدمتْ، والأموال التي نُهبتْ، والأعراض التي هُتكتْ، مما يعرفه القاصي والداني عن طاغية العصر جمال عبد الناصر الذي أعلن الحرب على الإسلام ودعاته وتقرّب إلى الأعداء بالعدوان على أبناء جلدته وصدق فيه قول الشاعر:

عبيد للأجانب هم ولكن                       على أبناء جلدتهم أسود

وكان هذا الفرعون الصغير صاحب الوزر الأكبر فيمن سار على نهجه من الطغاة والبغاة وأشباه الرجال في البلاد العربية والإسلامية وغيرها.

وفاته

ومع كل ذلك ظلّ الإسلام وسيبقى، وظلّ الدعاة إلى الله يتحركون بالإسلام ويعملون في سبيل مرضاة الله، وكان من الأمثلة الصادقة للجهاد أستاذنا العلاَّمة محمد البشير الإبراهيمي الذي انتقل إلى رحمة الله في الجزائر وهو رهن الإقامة الجبرية في منزله وذلك يوم 20/5/1965م أجلْ.. وضعوا العالم العامل المجاهد العظيم، الإمام في الإقامة الجبرية؛ لأنه أصدر بيانًا باسم جمعية العلماء الجزائريين بعد الاستقلال يحذر فيه من المبادئ المستوردة، رأى فيه الرئيس الجزائري تعريضًا به وبنظام حكمه مما دعاه لفرض الإقامة الجبرية على الشيخ الإبراهيمي إلى أن توفي رحمه الله رحمة واسعة ووفق أحد تلامذته لإتمام مسيرته لخدمة الإسلام والمسلمين.

يقول الشاعر الإسلامي وليد الأعظمي في الترحيب به في بغداد:

باسم الأخوة أستهل كلامي

أبشيرنا بالعز جئت فمرحبًا

لازلت يا نعم الإمام منارة

لك في الأمور (بصائر) نفّاذة

أما البيان فقد ملكت زمامه

لله درّك من إمام ناصح

الله أكبر في الجزائر ثورة

وبه أفيض على الورى أنغامي

بك يا بشير النصر والإقدامِ

من نورها ينجاب كل ظلامِ

تسودّ منها أوجه اللّوَّامِ

ولبست تاج العزّ والإكرامِ

حُرٍّ أبيٍّ عالم مقدامِ

قامت على الآمال والآلامِ

رحم الله شيخنا المجاهد، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

وسوم: العدد 902