القرآن الكريم كما قدّمه الله عز وجل للعالمين 3

الحلقة الثالثة من أحاديث شهر الصيام

مر بنا في الحلقتين السابقتين أن الله عز وجل أخبر العالمين بأن القرآن الكريم هو تنزيل من عنده ، وهو حبله الممدود إليهم ليرفعهم إلى ما أراده لهم من علو درجة التكريم  والاستخلاف في الأرض ، وأنه نور به يطردون كل ظلمة تعترض سبيلهم إلى النجاة، وهو صراطه المستقيم .

وفي هذه الحلقة  إن شاء الله تعالى ،سنتناول تقديم آخر منه لكتابه الكريم انطلاقا من قوله عز من قائل :

((يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ))

وقوله أيضا : (( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا))

وقوله أيضا : ((  قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى ))

ففي هذه الآيات البيّنات يقدم الله عز وجل القرآن الكريم للعالمين بأنه شفاء . والشفاء في اللسان العربي هو البرء ـ بضم الباء وتسكين الراء ـ ، ويطلق أيضا على الدواء الذي يزيل السقم  أو العلة.  ومعلوم أنه لا يذكر الشفاء إلا ويقتضى ذلك أن تذكر العلة أو المرض ، ففي الآية الأولى من سورة يونس ذكر الله عز وجل أن الشفاء  يحصل  لما في الصدور ، وكأن هذا الذي في الصدور يعتلّ بعلة ، ولاشك أن المقصود هو القلب التي جعله الله عز وجل الأداة العاقلة مصداقا لقوله تعالى : (( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ))

ففي هذه الآية إشارة إلى أن القلب هو وسيلة الإدراك والتمييز والفهم ، والعقل من فعل عقل وهو ربط الدابة  بالعقال، وذلك بضم رسغها إلى عضدها لمنعها من الحركة ولتظل باركة . وقد استعير العقل للإنسان فقيل هو كائن عاقل يعقل غرائزه وشهواته ، وهو بذلك خلاف الحيوان، يدرك ذاته، ويميّز بين الأشياء  ويفهم ، وبذلك حاز الاستخلاف في الأرض ،وحاز التكريم والتفضيل على كثير ممن خلق الله عز وجل .

 ويطلق القلب في كتاب الله عز وجل على العقل . ومعلوم أن القلب هو العضو المزود لكل أعضاء الجسم بالدم لتؤدي وظائفها ، ومن هذه الأعضاء الدماغ مركز الإدراك والتفكير والتمييز ، وهو يتولى تنظيم وظائف باقي الأعضاء . ولولا ما يمد به القلب الدماغ من طاقة تحركه لما استطاع أن يشتغل أو يقوم بدوره المنوط به . والعلاقة بين القلب والدماغ علاقة جدلية قوامها التأثر والتأثير ، لهذا لا غرابة أن يجعل الله عز وجل في كتابه الكريم القلب يسد مسد الدماغ في الإدراك والفهم والتمييز . ويوصف القلب أيضا بأنه  مصدر العواطف والأهواء ، ولا شك أن الدماغ يشاركه في ذلك أيضا  مصداقا لقوله تعالى : (( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ))  والظن هو إدراك الشيء مع ترجيحه ، والهوى هو ميل النفس إلى ما تشتهي من شهوات مادية أو معنوية . والمحرك إلى الظن والهوى في النفس البشرية إنما هو مضغة القلب كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " . فبموجب هذا الحديث الشريف ، والرجوع إلى الآية الكريمة في سورة يونس يفهم أن القلب معرض لعلة معنوية، فضلا عن  كونه معرضا للعلل العضوية كسائر أعضاء الجسد ، والعلة المعنوية هي علة الفساد وهو عبارة عن خلل أو عطب أو اضطراب في الطبيعة السوية للأشياء .

ومعلوم أن الطبيعة البشرية قد خلقها الله عز وجل على الفطرة ، وهي النشأة الأولى السوية كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :

"  ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجّسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء "

وقال راوية الحديث أبو هريرة رضي الله عنه اقرءوا إن شئتم قول الله تعالى : (( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ))  ، ومعلوم أن الحنيفية في الدين هي صحته ، وهي ميل من الضلال إلى الهداية، ومن الشر إلى الخير ،ومن الفساد إلى الصلاح . واعتمادا على الآية الكريمة والحديث الشريف  نعلم أن الطبيعة البشرية السوية هي الفطرة إلا أن علة الفساد  قد تعتريها بأفعال تصدر عن الإنسان حين يعتري قلبه الفساد ، فينحرف عن الفطرة التي قوامها إيمان بالخالق الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد ، وإيمان بخلقه سبحانه الإنسان على هذه الفطرة وإيمان بعبودية مخلوقيته له جل وعلا . وكل انحراف في  هذه الأنواع الثلاثة من الإيمان  يفضي  بالضرورة إلى فساد القلوب الآدمية ، ومن ثم  إلى فساد الفطرة البشرية حيث تحل محل هذه الأنواع الثلاثة من الإيمان قناعات فاسدة ومنحرفة وهي بمثابة علل أو عيوب  تصيب ما في الصدور. ولقد مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه العيوب بما يعتري البهيمة من جدع وقد خلقت جمعاء ، فكذلك الشأن بالنسبة للإنسان  الذي يتعريه التهويد والتنصير والتمجيس  وقد خلق  مسلما لربه  موحدا لا يشرك بعبادة ربه أحدا من خلقه مهما كان .

ولقد بعث الله عز وجل كل الأنبياء والرسل بدين الإسلام الذي هو دين الفطرة والشاهد على ذلك قوله تعالى :

(( واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون فإن تولّيتكم  فما سألتكم عليه من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين )) .

 وقوله سبحانه وتعالى :

 (( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون )) .

وقوله تعالى أيضا :

 (( وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكّلوا إن كنتم مسلمين )) . وقوله أيضا :

 (( فلمّا أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله  آمنا بالله واشهد بأنّا مسلمون )) .

وقوله أيضا في الحديث عن ملكة سبأ :

 ((  قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين )) .

وقال أيضا  مخاطبا خاتم الأنبياء والمرسلين :

 (( قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونّن من المشركين )) .

 كما قال سبحانه :

 ((  قل آمنّا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيّون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون  ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ))

فهذه الآيات التي ذكر فيها الله عز وجل إسلام بعض أنبيائه ورسله بأسمائهم تدل على أن الإسلام هو دين كل الأنبياء والرسل صلواته وسلامه عليهم أجمعين كما جاء في آخر آية ، وأن الدين عند الله عز وجل هو الإسلام مصداقا لقوله تعالى : ((  إن الدين عند الله الإسلام)) .

ولنعد الآن إلى موضوع شفاء القرآن الكريم  لما في الصدور ، وقد تبين أنها تصاب أصلا  بعلة  ابتغاء غير الإسلام دينا أو بادعاء الانتماء إليه  دون الانضباط لشرعه ، وهي العلة التي لا شفاء منها إلا بالقرآن الكريم أي بالتزام ما نص عليه ليكون الإسلام هو الدين لا سواه ،وليعود الناس إلى الفطرة التي فطرهم الله عليها  مصداقا  لقوله تعالى :

 ((  فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) .

ولقد ذكر الله عز وجل  مع وصف القرآن الكريم بالشفاء أنه هدى ورحمة للمؤمنين ، وهو ما يؤكد أن المقصود بشفائه هو الشفاء المعنوي الذي يحصل بالعودة إلى الفطرة التي هي دين الإسلام القيّم .

وذكر سبحانه مرة أخرى أنه ينزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولكنه لا يزيد الظالمين إلا خسارا . وأي خسارة أكبر من ألا يتداوى الظالمون بالقرآن الكريم من علة قلوبهم وهي الانحراف عن الدين القيم وعن الفطرة إلى أعظم ظلم وهو الشرك بالله سبحانه وتعالى  مصداقا لقوله تعالى : (( إن الشرك لظلم عظيم )) لأنه ينسب ما لله تعالى  وحده لغيره من الشركاء، وليس لهم مما له سبحانه شيء . ومرة أخرى يذكر الله عز وجل أن القرآن الكريم هدى وشفاء للمؤمنين ولكن الذين لا يؤمنون  في آذانهم وقر وهو عليهم عمى ، ومعلوم أن الصم والعميان لا ينفعهم شفاء من الضروري أن يمر عبر الأسماع والأبصار ليصل إلى الصدور حيث القلوب لعلاج ما يعتريها من تنكب للدين القيم الذي هو الإسلام عند الله سبحانه وتعالى ،ومن تغيير للفطرة التي فطر الناس عليها .

وهكذا قدم الله عز وجل القرآن الكريم للعالمين كشفاء أو دواء لهم من أخطر علة على الإطلاق ، وهي أن يدينوا بغير دين الإسلام الذي رضيه لهم مصداقا لقوله تعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)) .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .  

وسوم: العدد 875