الحلقة الرابعة من أحاديث رمضان، القرآن الكريم كما قدمه الله عز وجل للعالمين

مرّ بنا في الحلقات الثلاث الماضية أن الله عز وجل يقدم كتابه الكريم للعالمين في عدة مواقع منه ليتعرفوا عليه من خلال ما يجتمع لديهم مما يقدمه  لهم سبحانه وتعالى. وأشرنا إلى أنه قدّمه على أنه تنزيل من علو كي يسمو بالإنسان إلى مرتبة التكريم والاستخلاف  ، وأنه نور يضيء له  كي يهتدي إلى صراط الله المستقيم  ، وأنه شفاء لما في الصدور من علل النفس البشرية كي تلتزم الفطرة  التي فطرها الله تعالى عليها.

وسنحاول اليوم إن شاء الله تعالى الحديث عن القرآن الكريم كما قدمه رب العزة جل شأنه للعالمين انطلاقا من قوله تعالى :

 (( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر ))

إلى جانب تنزيل القرآن الكريم، ونورانيته، وشفائيته ـ إن صح هذا التعبيرـ ، ذكر الله عز وجل تيسيره . والتيسير في اللسان العربي ، وهو جعل الشيء سهلا  وعدم الكلفة في تحصيل المطلوب منه ، واليسر والسهولة نقيض العسر والصعوبة . واليسر المقصود في هذه الآية الكريمة هو يسر له غاية وهو الادّكار الذي يحصل بالذكر ، وهذا الأخير كما جاء في كتب التفسير، هو تذكر ما في تذكره  أو استحضاره جلب للنفع ودفع للضرر ، وهو أيضا الاتعاظ والاعتبار . ولمّا كان جلب النفع ودفع الضرر قد لا يتوصل إليه بيسر وسهولة ، ودونه  مشاق ، فإن الله تعالى جعل الوصول إليه ميسرا من خلال جعل اليسر في كلامه الدال على أيسر سبل تحقيقه من خلال تيسير ألفاظه وتيسير معانيه . ومعلوم أن الكلام إذا ما استغلق إما بلفظه أو بمعناه أو بهما معا ،شقّ على المتلقي إدراك كنهه ومقصده ، لهذا يسر الله تعالى كلامه الكريم ،لأنه رسالة لكل العالمين حتى لا يستغلق  شيء منه على أحد منهم . وقد جعل سبحانه بتيسيره مراتب لفهمه من أدنى درجات الفهم إلى أعلاها حسب عقول المتلقين ، وحسب قدرتهم على الفهم والاستيعاب والتدبر ، وقد قال سبحانه : (( فإنما يسّرناه بلسانك لعلهم يتذكّرون )) . ومن أسباب تيسير كلام الله عز وجل ليفهم جميع العالمين  إنزاله باللسان العربي ، وهو أفصح لغات البشر، وأسهلها ألفاظا وتراكيب ، وقد وصفه الله تعالى بالبيان في قوله تعالى : (( بلسان عربي مبين ))، وما كان مبينا، فهو ميسّر لأن غير المبين  يكون فيه عسر واستغلاق على الأفهام .ويسر كلام الله عز وجل بهذا اللسان يحصل من جانب الألفاظ  بسبب ما هي عليه من أعلى درجات الفصاحة التي هي من خصائص اللسان العربي المبين ، وهو ما يجعله خفيفا على الألسنة ، وسهل على التلاوة والحفظ والاسترجاع أوالاستظهار، ومن جانب المعاني ، وهو ما يجعلها  واضحة وسهلة الانتزاع من التراكيب ،حيث  يتولد بعضها عن بعض على قدر ما يكون فيها من نظر وتدّبر . ويسر أو سهولة القرآن الكريم إنما هي لأجل الانتفاع بالتذكّر بسبب يسر وسيلة تحصيله ، وقد ورد في التفسير أن قوله تعالى : (( ولقد يسّرنا القرآن للذكر )) تعني أن الله تعالى يسّره للمتذكّرين بالمعنيين السالفين ،تذكر ما فيه جلب للنفع ودفع للضرر ، والاتعاظ والاعتبار .  وكلمة " مدّكر " في قوله تعالى : (( فهل من مدّكر )) كما جاء في التفسير أصلها " مذتكر" ، من الذكر ـ بضم الذال ـ وهو التفكر في الأدلة ، فقلبت تاء الفعل دالا لتقارب مخرجيهما ، وأدغم الذال في الدال، ومثله قوله تعالى في سورة يوسف : (( وادّكر بعد أمة )).

ولقد  يسّر الله تعالى كلامه لحثّ العالمين وحضّهم على الادّكار ، ولا عذر لهم في عدم الادّكار وكلامه ميسر. ومن أدلة تيسيره سهولة حفظ الصغار له، ذلك أنهم في ظرف حولين أو يزيد يحفظونه عن ظهر قلب، ويسترجعونه بيسر وسهولة . ولهذا درج المسلمون على تحفيظه لصغارهم  في سن مبكرة ، لأن الحفظ  هوأول مرحلة قبل مرحلة الادّكار . وقد يقول البعض أن الصغار أسرع حفظ لكتاب الله عز وجل ، وهذا أمر يشهد عليه الواقع، ولكن السر وراء ذلك ليس صغر السن فحسب بل  تيسير الله عز وجل لكلامه ، فالقضية قضية ما أودع الله عز وجل من بركة التيسير في حفظه واستيعابه وفهمه وتدبره . وهذا التيسير ليس قاصرا على الصغار بل هو في متناول الراشدين أيضا إذا توفرت  لديهم العزيمة والإرادة ، وتوفر كذلك  شرط التقوى لقوله تعالى : ((  واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم )) . ومما يعطل بركة التيسير التي أودعها الله تعالى في حفظ كلامه ارتكاب المعاصي ، ولا شك أن ما يجده الصغار من سهولة في حفظه ،هو أنهم لا يقعون في المعاصي التي يقع فيها الراشدون، والأقلام مرفوعة عنهم إلى غاية رشدهم . والمتنكب للمعاصي من الراشدين يجد في حفظ كتاب الله عز وجل من اليسر ما يجده الصغار . وحكاية الإمام الشافعي مع شيخه وكيع مشهورة حين شكا له سوء حفظه ،فنبهه إلى ترك المعاصي، وهو ما عبر عنه الإمام في بيتين من الشعر جاء فيهما  ما يلي :

شكوت إلى وكيع سوء حفظي  = فأرشدني إلى ترك المعاصي

وقال لي إن العلم نور           = ونور الله لا يهدى لعاصي

ولا شك أن كثيرا من الراشدين لا يبالون بالوقوع في المعاصي  ، وقد يستهينون بها ، لهذا يصلح قانون وكيع أداة للكشف عن مدى صيانة أنفسهم من المعاصي ، وذلك بقياس سرعة حفظهم لكتاب الله عز وجل أوعدمها . ويستثنى من ذلك من بهم علل أو بلغوا من الكبر عتيا وقد قال الله تعالى : ((  ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا )) ،ويجدر بالكثير منهم ألا يتذرع بذريعة صعوبة حفظ كتاب الله عز وجل وقد يسّره ، أو بذريعة عدم الأهلية أو القدرة على حفظه دون أن يخطر لهم على بال التفكير في عائق المعاصي الذي قد يكون هو ما يحول بينهم وبين حفظ ما يسّر الله تعالى حفظه . ولقد كانت معصية الإمام الشافعي رحمه الله مجرد نظرة خاطفة إلى ما نهى الله عز وجل النظر إليه . وكيف بمن يجول نظره الجولات الطوال فيما حرم سبحانه وتعالى أن يسهل عليه حفظ ما يسّر الله تعالى حفظه  ؟ وما قيل عن جارحة البصر يصدق على باقي الجوارح ، ذلك أنها كل ما تصان عن المعاصي تقع الاستفادة من بركة تيسير الله عز وجل لحفظ كتابه وللادّكار بعد ذلك اهتداء وتدبّرا .

ومما تجدر الإشارة إليه أن من بركة تيسير الله عز و جل لكلامه ما يحصل من يسر في استيعاب كل مال له صلة به كالحديث الشريف ، وباقي العلوم المتصلة به ، ذلك أن متونها  يسهل حفظها على من يتعاطاها ، وذلك من بركة تيسير الله عز وجل لكتابه . و تتعدى بركة التيسير إلى مختلف العلوم والمعارف التي فيها نفع وفائدة حيث يسهل حفظها  أيضا على من يشتغلون بها ، وذلك من بركة ما يسّر الله تعالى، وإنه لا سهل إلا ما يسّره سبحانه وتعالى . أما ما لا فائدة ولا طائل من ورائه ،فبركة تيسير الله عز وجل منزهة عنه . ومما يذكر أن أحبار اليهود، وقساوسة النصارى لا يحفظون كتبهم  بل يتلونها خلاف ما هو الشأن بالنسبة لعلماء المسلمين وحتى عامتهم، لأن بركة التيسير أودعها الله تعالى في رسالته الخاتمة التي حفظها مما أصاب سابقاتها من تحريف ، وبركة التيسير منزهة عما ناله التحريف .

ولا بد من التنبيه إلى قول بعضهم أن الحفظ يعطل الذكاء ، لهذا يعترضون على تكليف الصغار في المؤسسات التربوية  بحفظ سور من كتاب الله عز وجل بذريعة صعوبة حفظها ، وفي هذا سوء أدب مع قول الله تعالى : (( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر )) . ولا نجد هؤلاء يعترضون على تكليف الصغار بحفظ  غير القرآن الكريم من أغان وأناشيد بما فيها تلك التي تكون بغير اللسان العربي، ولا تمت بصلة لثقافتهم ، ولا طائل من وراء حفظها . ومن سوء فهم هؤلاء لقوله تعالى : (( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر )) أنهم يتساءلون كيف يمكن أن يفهم الصغار ما يكلفون بحفظه من سور القرآن الكريم وهو شاق حتى على الراشدين ؟ لأنهم يجعلون فهمه على مستوى واحد لدى جميع الناس، وفي مختلف الأعمار مع أن الله عز وجل يسّر لكل إنسان فهم كتابه على قدر ما يسعه فهمه ، والصغار إنما يدربون على حفظ القرآن الكريم وهو أول مرحلة  إعدادا لهم لمرحلة الادّكار. ولقد ذكر العلامة ابن خلدون ما في تعليم وتحفيظ كتاب الله عز وجل من بركة ، وهي إشارة منه إلى بركة التيسير التي أودعها الله تعالى فيه .والواقع يؤكد أن من ينبغون من المتعلمين هم من فازوا ببركة حفظ كتاب الله عز وجل ، وإنهم يتفوقون في  مختلف العلوم والمعارف بفضل تلك البركة .

ومن الأدلة على أن الادّكار يكون على قدر طاقة فهم كل إنسان حكاية الأعرابي الذي اعترض على قارىء كان يقرأ  قول الله تعالى : ((  والسارقة والسارقة فاقطعوا أيديهما  جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ))  ،فجعل مكان قوله تعالى (( عزيز حكيم )) قوله (( غفور رحيم )) ،لأن الأعرابي الذي لم يكن يحفظ القرآن الكريم لم يستسغ ذلك ،لأن التذييل بغفور رحيم لا ينسجم مع سياق الآية وهو سياق  عقوبة أوحد السرقة . وعلى شاكلة هذا الأعرابي يحصل للعامة من فهم كلام الله عز وجل على قدر ما تستوعبه عقولهم ،وذلك بفضل بركة تيسير الله عز وجل للقرآن الكريم . وإن جميع عامة  المسلمين  يدركون عقيدة التوحيد من خلال سورة الإخلاص ، كما يدركون البعث من خلال سورة الفاتحة وهما بلسان عربي مبين ، وكثير منهم  لا يصلون إلا  بهاتين السورتين  بالرغم من أميتهم أو عجمة ألسنتهم  ولكنتها ،وذلك من بركة تيسير الله عز وجل لكتابه الكريم .

أما أهل العلم  والتدبر، فإنهم يقطعون أشواطا بعيدة في فهم كتاب الله عز وجل حيث يفضي بهم المعنى الواحد من معانيه إلى شتى المعاني ، وكل منهم له وسيلته في ذلك ، فقد يدرك أهل علوم اللغة أو علوم الآلة من معانيه ما لا يدركه غيرهم ، وكذلك الشأن بالنسبة لغيرهم من أصحاب مختلف العلوم والمعارف، لأن عجائب كتاب الله عز وجل لا تنقضي ، وذلك من بركة التيسير ، ومعلوم أنه من معاني البركة الزيادة .

اللهم أفض علينا من بركة ما يسرته  من كتابك الكريم حفظا وادّكارا وتخلقا ، وارزقنا حلاوة  حفظه وتلاوته وتدبره  ، ولا تجعلنا نجاوز حفظ أو تلاوة أو تدبر آية منه حتى ننال فضلها وبركتها ، واجعلها شفاء لما في صدورنا ، ولا تجعل لشوقنا إلى كتابك الكريم حدا أو نهاية ، واجعله أنيسنا  بعد موتنا ، وشفيعنا عند بعثنا وحشرنا، ورفيقنا إلى الجنة جودا وفضلا منك . وجنّبنا من المعاصي  ما يحول بيننا وبين بركة ما يسّرته من حفظه وادّكاره ، وجنبنا وقنا إياها  يا أرحم الراحمين ،يا رب العالمين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .   

وسوم: العدد 876