الحلقة الخامسة من أحاديث رمضان، القرآن الكريم كما قدمه الله عز وجل للعالمين

مر بنا في حلقات سابقة أن الله عز وجل  يقدم كتابه الكريم للعالمين انطلاقا من بعض آياته  المتضمنة لوصف من أوصافه ، وسنحاول اليوم إن شاء الله تعالى أن ننطلق من قوله تعالى : (( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )) لنعرف كيف قدمه سبحانه وتعالى هاديا للبشرية . إن فعل هدى، يهدي، هدى ، وهديا ، وهداية له في اللسان العربي عدة دلالات أهمها الإرشاد، والتوجيه، والتوفيق ،والتسديد. وقد ذكر الله عز وجل أن القرآن الكريم يقوم بدور الهداية  إلى الصواب والسداد الذي هو الحق المناقض للباطل . وقد ورد في كتب التفسير أن التي هي أقوم هي السبيل الأصوب من غيرها من السبل ، وهي في نهاية المطاف سبيل الإسلام .

ولقد وصف الله تعالى كل ما أنزل من كتب قبل القرآن الكريم بنفس الوصف ، ذلك أنها كلها كتب هداية إلى التي هي أقوم ، فالتوراة كتاب هداية مصداقا لقوله تعالى : (( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور )) ، وقوله أيضا : (( وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل )).

ولقد بيّن الله تعالى كيف تحصل الهداية بما أنزل  سبحانه من كتب ، فقال جلّ شأنه  : ((  وقل للذين أوتوا الكتاب والأميّين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا )) ، ويتضح من هذا أن القرآن الكريم يهدي إلى الإسلام الذي هو الدين عند الله عز وجل من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . ولقد أثبت القرآن الكريم أن كل المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كانوا مسلمين ، فالله عز وجل يصف خليله إبراهيم  بأنه كان مسلما في قوله تعالى : ((  ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ))  وفي قوله أيضا: ((  إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون )). ووصف نوحا عليه السلام  بأنه كان مسلما في قوله تعالى وهو يعرض جداله مع قومه : (( فإن تولّيتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين )) . ووصف موسى عليه السلام بأنه كان مسلما في قوله تعالى : ((  وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين )). ووصف سليمان عليه السلام بأنه كان مسلما من خلال الكتاب الذي أرسله إلى ملكة سبأ  في قوله تعالى على لسانها : ((  قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان  وإنه باسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وآتوني مسلمين )) وفي قوله تعالى على لسانها أيضا : (( قالت ربّ إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين )). ووصف سبحانه عيسى عليه السلام بأنه كان مسلما في قوله تعالى : ((  فلمّا أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله  قال الحواريون نحن أنصار الله  آمنّا بالله واشهد بأنا مسلمون )) .

ففي هذه الشواهد من كتاب الله عز وجل وهو آخر ما نزل من عنده  سبحانه وتعالى دليل على أن الدين عنده جلّ شأنه هو الإسلام ،وأن جميع الرسل والأنبياء صلواته وسلامه عليهم أجمعين كانوا مسلمين، وأن ما أنزل  إليهم  كان هدى يهدي إلى التي هي أقوم وهو الإسلام . ومعلوم أنه لا هداية  للإنسان إلا بالإسلام الذي يدعو إليه القرآن الكريم ، كما دعت إليه من قبل الكتب السماوية السابقة .

إذا كان كل إنسان مهما كان اعتقاده لديه قناعة بأنه من المهتدين ، فإن قول الله تعالى : (( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )) يفنّد كل ادعاء يدعيه الناس بأنهم مهتدون بما هم عليه من أحوال لا توافق الدين الذي هو عند الله الإسلام كما يقدمه القرآن الكريم  . وقد يبدو للبعض أن يسوّوا بين الناس وهم على ملل ونحل مخالفة لملة الإسلام ، والحقيقة خلاف ذلك كما نص على ذلك قوله تعالى : ((  وإن أسلموا فقد اهتدوا))  . وقد يأتي أهل الملل والنحل الناكبة عن دين الله عز وجل من الأعمال ما يشبه ما يأتيه المسلمون من الأعمال التي أمروا بها في القرآن الكريم، لكن ذلك لا يعني أنهم مهتدون الهداية التي جعلها الله عز وجل في القرآن الكريم . وبناء على هذا فالناس بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى قيام الساعة صنفان : صنف المهتدين ، وصنف الضّالين ، والفيصل بين الصنفين هو كتاب الله عز وجل وقوله فيه : (( فماذا  بعد الحق إلا الضلال )) ، وقوله أيضا  : ((  من يهد الله فهو المهتد  ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ))  . ولقد جعل سبحانه وتعالى  هدايته وإرشاده في القرآن الكريم ، الذي هو وسيلة الهداية والإرشاد .  ومن علامة الهداية انشراح الصدر للإسلام مصداقا لقوله تعالى : ((  من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام  ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصّعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون )). فكلما  انشرح صدر الإنسان للإسلام وما يدعو إليه من قول وعمل ،كان ذلك دليلا على هدايته بينما إذا ضاق صدره  من الإسلام كان ذلك علامة  ضلاله.

وقد يصرح بعض الناس بإسلامهم لكن صدروهم  تضيق مما يأمر به الإسلام بواسطة  القرآن الكريم الذي جعله الله عز وجل  يهدي للتي هي أقوم  ، فما هؤلاء بالمهتدين ، وإن ادعوا الهداية . وقد  تصاحب ضيق الصدور من الإسلام علامات أخرى  ذكر منها الله عز وجل ما تشي به الوجوه  عند سماع القرآن الكريم في قوله تعالى : (( وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا )) .

و بناء على هذا يستطيع الإنسان قياس هدايته بانشراح صدره للإسلام الذي ينطق باسمه القرآن الكريم ، وبقبول تلاوته إذا تلي وارتياحه النفسي لذلك .

نسأل الله عز وجل في هذه الليلة المباركة التي تنزّل الملائكة والروح فيها أن يشرح صدورنا لدينه ، وأن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا وجلاء همنا ، وأن ينعم علينا بهداية من عنده لا نضل بعدها أبدا .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 877