التربية عند الإمام البنا الأسلوب والأثر 5

 (٥ /٦)

التوازن والاعتدال

وتبدّى ذلك أيضاً في توازنه واعتداله أمام تحديات جسيمة، وعقبات هائلة، من شأنها كسر الإرادات.. إما أن تدفع الإنسان إلى الانسحاب والعزلة إيثاراً للسلامة.. وإما أن تدفعه للارتطام والصراع.. يُسرع إلى الجرح قبل أن يتمّ البناء.. ولكن الرجل أبى أن يتورّط فيما تورّط فيه غيره.

تبدّى ذلك في أول حياته..

* يروي السيد حامد أبو النصر في مذكراته أنه كان مع الإمام البنا رحمه الله في مكتبه في المركز العام، فدخل عليه مجموعة من شباب الإخوان، وقد رفعوا في وجهه السلاح، وهم يطالبونه أن يُغَيّر من عمله السلميّ الهادئ المعتدل إلى الارتطام والصراع، أو أن يقدم استقالته! يقول السيد حامد أبو النصر: ففتح سترته وأبان عن صدره وهو يقول لهم: "ما كنت لأدع يقيني لشكوككم؛ لأنّ هذا الفكر الذي أنا عليه استقرأته من كتاب الله ومن سنة رسوله، وهو ما أورثني الاطمئنان واليقين والرضا والارتياح حتى لعذابات النتائج". ثم استطرد قائلاً: "ليس في كل الظروف مخاصمة الحاكم وإخراجه من الإسلام، فقد يقف الحاكم أمام عدو قوي للمسلمين يدفعه ويحول دون غايته، فمن الحُمق وليس من الدين أن يخرجه المسلمون وهو يحول بين وصول عدوهم إلى غايته منهم". وكان الحاكم في ذلك الوقت "علي ماهر باشا" أحد العلمانيين، ولكنه كان يكره الملك لاستهتاره.. ويكره الإنجليز لجبروتهم.. ويكره الأحزاب لانقسامهم وخلافهم.. فكان رجلاً مستقلاً، فرأى الإمام أنّ من الحُمق وليس من الدين أن يواجَهَ مثل هذا الرجل وهو يحول بين وصول عدوهم إلى غايته منهم... وقد تبدّى ذلك في أواخر حياته أيضاً.. عندما دخل عليه الإخوان بعدما عادوا من فلسطين.. أكثر من عشرة آلاف (10000) مقاتل بسلاحهم وكانت قد حُلّت الجماعة في ذلك الوقت بقرار من "النقراشي باشا".. وقالوا له: نتغدّى بهم قبل أن يتعشوا بنا فضيلتك، فأبى الرجل وقال: "أسلموا أكتافكم للسعديين.. فإنني لن أضيع الأمة من أجل الحكومة ولن أضيع الوطن من أجل الدولة".

 بذلك نأى بنفسه ودعوته أن يكون أداة صراعٍ داخلي.. فادّخر قوته للوطن ولخدمة قضايا دعوته الكبرى. وأيضاً أبدى توازنه واعتداله أمام أسئلة بالغة الحرج في ظروف بالغة القسوة والصعوبة.. ففي فترة حلّ الجماعة وقبل اغتياله بأيام قليلات.. في آخر حديث صحفي بينه وبين الصحافة المصرية في جريدة "المصري".. سأله المراسل: "نسمع أنه يجري بينكم وبين خصومكم مفاوضات من أجل رأب الصدع". وكان حينها بينه وبين الحكومة المصرية مفاوضات من أجل إلغاء قرار الحل وفض القضية ولملمة الأمور. فقال الإمام البنا –رحمه الله-: "عفواً يا سيدي.. يجري بيننا وبين الحكومة المصرية، وليس بيننا وبين خصومنا". حتى لا يُعجّل بخصومة حادة أو صداقة ضارّة.

 إنّ توازنه واعتداله هذا لم يأتِ من فراغ.. إنما من تزكيته لنفسه من الناحية العقلية والناحية الروحية ومن الناحية البدنية كذلك.

 وأيضاً عندما سُئل أسئلة حرجة في ظروف حرجة.. فسُئلَ عن رأيه في الخلافة وعن العالم. سُئِلَ من جريدة فرنسية عن موقفه من الخلافة .. فأجاب بشكل غير مباشر : "إن هدف الجماعة أن تظل بين صفوف هذا الشعب حتى يحصل على حريته كاملة، فإذا تحقق له ذلك فقد حققت الجماعة هدفها من احترام إرادة الأمة والحرص على وحدتها"، فعلقت الجريدة بقولها: "فأبدى براعته السياسية وقدرته على الاقتراب من الجماهير"، فبعقليته المرنة هو لم يجب في الحقيقة، ولكن أبدى براعته السياسية وقدرته على الاقتراب من الجماهير بتبنيه لقضاياها وجعل قضيته قضية الوطن والأمة، وليس الفصيل والجماعة، لأنه كان يدرك فعلاً ما من دعوة قامت إلا واحتاجت إلى الأمة، بل وكانت حاجتها إلى الأمة أكبر وأولى، لأن الجماعة إذا اختفت أو تقلص دورها، ظلت الفكرة تبحث عن من يدعو لها.

 وعندما سُئلَ عن موقفه من العالم.. فقال: "لست من غفلة ولا ضعف الإدراك أن أستطيع أن أتصور أن أعيش بمنأى عن العالم أو بمعزل عن تلك الوحدة العالمية التي تهيأ لها أهل الأرض جميعا، والتي بحت بها أصواتنا من قبل ". فعلقت الجريدة بقولها: فأبى الرجل أن يتورط فيما تورط فيه غيره. في تلك الثنائيات عن تقسيم العالم إلى فسطاطين دار الإسلام ودار الحرب.. فكانت إجابته هكذا واسعة فسيحة.

فسألوه فما عُدّتك في ذلك فقال: "اعتمد على نُبل الحُلَفاظ.. وصدق عهودهم، واعتمد على ميثاق الأطلنطي.. وعلى اليقظة في الضمير الإنساني.. وعلى التطور في التفكير العالمي". فعلق "روبير جاكسون" بقوله: "فرد إلى السياسة مادة الأخلاق". ومعروف أن الميثاق الأطلنطي يُقرر أمرين: حرية الشعوب وحقها في نوال استقلالها، وكذلك حقها في أن تختار أشكال الحكم الذي يلائمها

وسوم: العدد 882