في فقه الموعظة والواعظين

وكان سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ،يعقد للناس مجلسا يذكرهم به بالله ، ويعظهم ، ويؤدبهم ؛ كل خميس .

فقيل له لو أكثرت فإننا يعجبنا مجلسك وحديثك، فقال : أخاف السآمة عليكم ، وأفعل معكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل بنا " كان يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا " حديث صحيح اتفق عليه الشيخان الأجلان ، البخاري ومسلم ، وحسبك فيما اتفقا عليه رتبة في التصحيح.

ويستحق هذا الحديث، حسب مقتضى حالنا تعلقين ...

التعليق الأول..

 هو لهؤلاء الذين ملؤوا صفحاتهم ومنابرهم بالمواعظ ، ينقلونها ، ويحولونها ويمطرون بها الناس صبحا وعشيا ..حتى غصت بها الصفحات ، وبعض الناس لا يكاد يتحدث إلا وعظا ، حتى أصبح الناس يمرون بعظاته المنقولة أو المصنوعة زاهدين ...

إن طرح الموعظة في غير زمانها ومكانها وسياقها ؛ فيه سوء تقدير من الواعظ، وإن الاستخفاف بالموعظة خطر على الموعوظين. فليقتصد الجميع، ليبقى للتذكير بالله وبكتابه وباليوم الآخر رونقه وهيبته بين الناس أجمعين ...

والتعليق الثاني ..

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعيش بين المسلمين سحابة يومه، يصلي بهم الخمس، وتكون له جلسات بينهم ، وحوارات معهم، فماذا كان يعلمهم غير الوعظ، الذي كان يتخولهم به، أي يعظهم به بين الفينة والأخرى، كما شهد به الحديث الصحيح ؟؟؟

سؤال يجب أن يشغل بال الذين نصبوا أنفسهم للناس معلمين. فإن لم يكن بأيدينا أثر رواية ، فليكن لنا تقدير دراية. فهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم ، الذين تخرجوا من المدرسة النبوية، بعقل جمعي متقارب ، وأرجع في تاريخهم إلى خطاب القائد الفاتح منهم يكلم الناس في أقصى المشرق، وإلى أخيه يكلمهم في أقصى المغرب؛ فأراهما يصدران عن مشكاة واحدة، ومعلم واحد، وفقه واحد.، وتقدير موقف واحد؛ ذلك هو التعليم الذي نفتقده اليوم في المعلمين والمتعلمين على السواء ، ونحن نعيش عصر التبادل اللحظي للمعلومات...

في نص الكتاب العزيز ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )

والآية نص على أن تعليم الحكمة قسيم لتعليم الكتاب، والواو في اللغة العربية لعطف المتغايرن، وللمفسرين في تفسير المراد بالحكمة " أقوال" ويبدو أنها تستحق الاهتمام والإفراد بمقال... والحكمة في أجمع تعريف لها: وضع الشيء في موضعه : وضع الكلمة في موضعها ، والعلم في موضعه، والرأي في موضعه. والسيف في موضعه. والعفو في موضعه . والإنسان في موضعه. وأظننا لو قمنا بالمقتضى، لكان حالنا جميعا غير الذي نرى ..جميع العلوم مؤطرة محدودة بالموضوع والمبادئ والقواعد والمناهج غير علم " الحكمة " فهو علم بلا حدود ...لا خريجين من مدرسته، بل يظل الحكماء تلاميذ فيه..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 916