( لعلكم تتقون أياما معدودات )

مما يلزم به الإيمان صاحبه الاعتقاد الجازم بأن لله عز وجل غاية من وراء كل شيء خلقه أو كل أمر شرعه . وانطلاقا من هذه القناعة الراسخة يجزم الإنسان المؤمن بأن لكل ما تعبّده به الله عز وجل غاية سواء أدركها ووعاها أم لم يدركها ولم يعها. وقد لا يدرك منها إلا ما شاء الله  له ، ويبقى خافيا عليه ما شاء سبحانه وتعالى لحكمة علمها عنده وحده  .

ولقد ورد في القرآن الكريم ذكر لبعض الغايات مما تعبّدنا به الله عز وجل مما شاء سبحانه الكشف عنه للعباد كما هو الشأن على سبيل المثال في قوله تعالى : (( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )) ،وبهذا عرفنا غاية من غايات هذه العبادة الموقوتة دون أن ندرك غيرها مما لم يصرح به الله عز وجل، واستأثر وحده بعلمه.

وعلى هذا المنوال نجد في القرآن الكريم ذكرا لغايات ما تعبّدنا به الله عز وجل من عبادات ومعاملات ، ومنها الغاية من عبادة الصيام كما جاء ذلك في قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات )) . وبموجب هذه الآية الكريمة تأكد أن الغابة من هذه العبادة هي تقوى الله عز وجل، وهي عبارة عن تجنب أو تحاشي غضبه وسخطه سبحانه وتعالى من خلال مخالفة أوامره و نواهيه التي هي مدار ما تعبّدنا به . والتقوى غاية كبرى تتفرع عنها غايات أخرى تتداخل فيما بينها ،وتتكامل لتصب كلها في الغاية الكبرى، ذلك أن لأوامر الله تعالى ونواهيه غايات  كلها تنتهي عند غاية التقوى ، لهذا يكثر في القرآن الكريم أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتقوى التي يرد ذكرها مقترنا بأمر أو بنهي مخصوص.

ومعلوم أن تقوى الله عز وجل لا يمكن أن تتحقق بطاعته في أمور ، والخروج عن طاعته في أمور أخرى كأن يطاع على سبيل المثال في عبادة الصيام ويعصى في عبادة الصلاة كما هو الحال عند بعض الناس الذين يصومون ولا يصلون أو يصلون عندما يصومون رمضان فقط ، فإذا أفطروا بعد شهر الصيام تركوا الصلاة . وتقوى الله عز وجل على الوجه الأكمل تكون بالحرص عليها في كل الأحوال التي يمر به العباد في السراء والضراء وفي السر والعلن ...

ولقد تقدم في ذكر الله تعالى الغاية من عبادة الصيام تذكير بأنها عبادة سبق إليها غير من وجه إليهم الخطاب بفعلها ممن كانوا قبلهم ليدركوا أنهم ليسوا أول من كلفوا بها  بل إنهم قد سبقوا إليها ، وليس لمن سبقهم إليها فضل عليهم ، فهم في ذلك سواء، وأنها ليست تكليفا شاقا قد خصهم به دون سواهم ممن سبقهم .  وبهذا يتقبل المخاطبون هذا التكليف بنفوس راضية مطمئنة بعدل الله تعالى في فرضه  على العباد على اختلاف عصورهم وعلى اختلاف ما خصهم به  سبحانه من رسالات . وإذا كان الصوم قد كتب على المسلمين في الرسالة الخاتمة كما كتب على من كان قبلهم ، فالغاية منه بالنسبة للجميع هي تقوى الله عز وجل فيما شرع لهم جميعا كل حسب ظروفه .

ولقد أفضى التدبر في الغاية من عبادة الصيام عند أهل العلم إلى أنها تحصل وتتحقق بإحداث توازن بين الروح والجسد  وهما مكونان في الإنسان . ولما كان بينهما اختلاف في الطبيعة ، فقد خص الخالق سبحانه كل واحد منهما بما يحقق وجوده ويصونه ذلك أن الجسد المادي جعل له غذاء من جنس طبيعته عبارة عن طعام وشراب ، كما جعل للروح غذاء من جنس طبيعتها وقد استأثر سبحانه وتعالى بعلمها . ومعلوم أنه يقع تدافع بين الروح والجسد حيث يسمو الإنسان بالأولى إذا ما زكاها إلى درجة التكريم  بينما ينحدر وينحط إلى درك الوضاعة إذا ما  دسّاها ، وتدسيتها تكون بتغليب شهوات الجسد بما يزيد عما يحقق حاجته منها .

ومن أجل تحقيق التزكية  من خلال السمو الروحي، شرع الله تعالى لعباده المؤمنين عبادة الصيام الكابحة لشهوتي البطن  والفرج طعاما وشرابا ووقاعا في وقت ومعلوم ومضبوط  حدده الله تعالى من طلوع الفجر إلى غروب الشمس يحقق هذه الغاية في أيام معدودات قوامها شهر كامل .ولقد جاء التعبير عن هذه المدة الزمنية في الآية الكريم بكلمتين في صيغة جمع  القلة هما "أيام " و"معدودات"  كما ذكر بعض أهل التفسير . ومعلوم أن المعدود هو ما كان قابلا للعد ،وهو القليل لأن الكثير لا يعد . والتقليل من أيام عبادة الصيام عبارة عن تشجيع العباد عليها لأنها لو طال زمنها لشقت عليهم ذلك ،خصوصا وأن هذه العبادة تتسبب في معاناة من أجل كبح جماح شهوات هي في منتهى الجموح والإلحاح .

ولقد اقتضت إرادة الله عز وجل أن  بلوغ التقوى من خلال هذه العبادة إنما يتحقق برجحان كفة الروح على كفة الجسد في أيام معلومات ، وهو رجحان من شأنه أن يعدل من رجحان كفة الجسد الملح في طلب الشهوات خلال باقي أيام الحول، وبهذا تكون عبادة الصيام عبارة عن دورة تكوينية لتزكية الروح تزكية تلازمها بعد انصرام أيامها المعدودات وكأنها بمثابة  شاحن يمدها بالطاقة اللازمة ، ولهذا يقبل المؤمنون على هذه العبادة ،ويتميز حالهم خلالها عن حالهم قبلها .

الداعي إلى حديث هذه الجمعة هو دحض محاولة تشكيك البعض في إقبال المؤمنين على هذه العبادة رغبة في تحقيق غايتها ، وذلك بالزعم أنهم يمارسونها كعادة أكثر مما يمارسون كعبادة ، ولذلك أنكروا عليهم مطالبتهم بفتح بيوت الله عز وجل من أجل أداء صلاة التراويح، وقد جعلها الله عز وجل عبادة ليلية موازية لعبادة الصوم نهارا لتحقيق السمو الروحي حتى لا يفتر عند الإفطار .  ولا يمكن اعتبار مطلبهم هذا رياء  كما زعم هؤلاء بل هو تعبير عن رغبة في السمو الروحي قد اعتادوا عليه كلما حل شهر الصيام  قبل أن يحرموا منه بسبب الجائحة التي حلت بالعالمين ، ولا يمكن اتهامهم باستهداف الدولة بهذا المطلب حسب زعمهم لأنهم يتفهمون جيدا سبب تعطيل صلاة التراويح إلا أن الذي فاجأهم هو حرمانهم من صلاتي العشاء والصبح ، وجعل وقتهما مشمولا بمنع الحركة عوض مراعاته مع أنه كان من المفروض أن يسمح بإقامة هاتين الصلاتين بدون صلاة التراويح كما سمح بأداة الصلوات الأخرى.

وإنه لمن الجهر بالسوء الذي لا يحبه الله عز وجل أن يوصف المؤمنون وهم يحرصون على اغتنام الأيام المعدودات بالتقرب إلى خالقهم سبحانه بأنهم عبّاد رمضان ، وأن عبادتهم فيه قد صارت مجرد عادة ، وأن الدعاة إليه يتاجرون بعبادة الصيام لأغراض دنيوية ، فكيف لا يقبل المؤمنون في هذا البلد المسلم أهله أبا عن جد منذ الفتح الإسلامي المبارك، والله تعالى يخبرهم أن الأيام المعدودات لشهر الصيام فيها ليلة العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر؟ وكيف لا يقبلون على عبادتي الصيام والقيام ، وقد أخبرهم رسوله صلى الله عليه وسلم أنهما تكفران ما تقدم من ذنب ؟ فأنى تعوض هذه الفرصة إذا ما ضاعت منهم ؟

اللهم إنا نبرأ إليك ممن يستهدف عبادك المؤمنين في هذا الشهر الفضيل بالتشكيك في عبادتهم لك وتقربهم إليك بما افترضته عليهم من صيام ورغبتهم فيه من قيام.  اللهم اجعلنا من عبادك المتقين الذين يلتمسون تقواك في عبادتي الصيام والقيام . اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ما تقدم من ذنبنا ، وأن تعتق رقابنا من النار .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 925