( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم )

من المعلوم أن الله تبارك وتعالى قد اختار للناس دين الإسلام دين ، وتعبدهم به لأنه الأنسب للفطرة التي فطرهم عليها والتي  بالتزامها يتحقق تكريمهم وتفضيلهم على كثير ممن خلق سبحانه وتعالى . والمتأمل في هذا الدين يجده متميزا باليسر مصداقا لقوله تعالى : (( وما جعل عليكم في الدين من حرج )) ، وهو يسر حاضر في كل ما تعب به  عباده بحيث لا يكلفهم إلا وسعهم ، وما يستطيعونه .

 ولا يوجد تكليف من التكاليف إلا ويجمع بين أداءين الواحد يكون عزيمة، والآخر يكون رخصة  تحقيقا لرفع الحرج عمن لا يطيق  أداء العزيمة فينال بأداء الرخصة نفس الأجر والثواب لا ينقص منهما شيء .

فإذا أخذنا على سبيل المثال لا الحصر عبادة الصلاة ،وهي تكليف من تكاليف الإسلام نجد  لها رخصا  في كل ما يتعلق بها من طهارة أو كيفة أداء حيث ينوب في التطهر لها التراب عن الماء ، وينوب في كيفية أدائها  عزيمة جمعها وتقصيرها رخصة  ، وعلى هذا المثال تقاس أمثلة أخرى  تتعلق بباقي العبادات ،ولا يقتصر اليسر في دين  الإسلام على العبادات دون المعاملات فهما فيه سيّان.

ومعلوم أن الناس كلما ابتعدوا عن الفطرة التي فطرهم عليها خالقهم سبحانه وتعالى، وقعوا في العسر، وكلفوا أنفسهم ما لا يطيقون ، وجعلوا حياتهم في غاية التعقيد، وحولوها من حياة سوية هادئة مطمئنة  سعيدة  إلى حياة منحرفة مضطربة شقية .

وتوجد أمثلة كثيرة  في كتاب الله عز وجل عن انحراف الناس عن الفطرة التي فطرهم الله عز وجل عليها ، ومن أمثلتها انحرافهم فيما يطعمون ويشربون حيث وسع عليهم ربهم في ذلك إلا أنهم يضيقون على أنفسهم حين ينصرفون عن الكثير الطيب الذي  أحله لهم من طعام وشراب ، ويتعاطون  القليل الخبيث  الذي حرمه عليهم، وهو مما يفسد عليهم فطرتهم التي فطرهم عليها والتي بها يتحقق تكريمهم وتفضيلهم على كثير ممن خلق تفضيلا .

ومن فساد فطرهم تقربهم بالذبائح لغير خالقهم سبحانه وتعالى ، وقد تعبدهم بأن يتقربوا بها إليه وحده دون إشراك غيره معه في ذلك، لأن الذبائح المتقرب بها إليه طيبة بينما المتقرب بها إلى غيره خبيثة ومحرمة  مصداقا لقوله عز من قائل : (( حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكّيتم وما ذبح على النصب )) فهذه كلها مأكولات خبيثة مفسدة للفطرة السوية ، وفيها مضرة ومعرة .

 ومما سجله التاريخ أن الناس في عصور خلت كانوا يذبحون على النصب ، وهو شرك منهم ، ويرشون عليها دماء الذبائح  ، ويلقون عليها لحومها ،فيأكلون منها ما يأكلون ،وقد يتركونها تتعفن  أو تأكلها الطير والسباع ، وربما أحرقوها ... إلى غير ذلك من العادات السيئة التي لا يقبلها الله عز وجل ،ولا يرضاها لهم حفاظا على فطرتهم السوية التي خلقهم عليها وحفاظا على كرامتهم الإنسانية .

ومما تعبدهم به سبحانه وتعالى لردهم إلى سبل الفطرة السوية التقرب إليه بالأضاحي التي تذبح باسمه دون شريك ، ويطعمونها طيبة مباركة منه لا يناله منها دم ولا لحم مصداقا لقوله عز من قائل : (( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم )) ، لأنه سبحانه وتعالى هو المنعم والمتفضل بها على الخلق ، فكيف يناله شيء منها ومصدرها منه ،وهي من عطائه وإنعامه الواسع ؟

ولقد بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة القصد من تعبد الخلق بهذه الأضاحي ،وهو نيلهم تقواه التي هي سبيلهم إلى التزام الفطرة السوية التي فطرهم عليها ، و التزام صراطه المستقيم كي يحيوا حياة طيبة في عاجلهم وآجلهم . وذكرهم بأنها من نعمه التي أنعم بها عليهم ، وجعلها  فيها بشارة لهم  إن هم أحسنوا بالتزام الفطرة التي فطرهم عليها في قوله عز من قائل : ((كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين)) .

ولقد حدّد رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي وتوجيه من رب العزة جل جلاله كيفية التقرب إليه جل وعلا بالأضاحي ، فبين أنواعها، وسنها، وحالها  لتكون خالية من كل عيب ،والوقت الذي تنحر فيه ،وما يقال عند نحرها لتكون خالصة لله تعالى دون ملابسة أدنى شرك  ، كما بين ما يؤكل منها، وما يتصدق به ، وما يدخر ، وأخبر بما فيها من أجر عظيم إذا ما أصاب الناس سنته الشريفة ، وأحسنوا التقرب بها إلى خالقهم سبحانه وتعالى .

حديث هذه الجمعة اقتضاه قرب  زمن حلول مناسبة عيد النحر حيث يجب أن يسبقها التذكير ليتم النفع  بما تحسن به هذه العبادة على الوجه الذي يرضاه الله تعالى لعباده المؤمنين . وأول ما يجب التذكير به ما نص عليه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من توجيهات خاصة بهذه العبادة التي ادخر الله تعالى لمن يؤديها وفق ما أراده ورضيه الأجر العظيم كما أخبر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف حيث قال : " ما عمل من آدمي عملا يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم ، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها ، وأن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفسا " وأية بشارة تعدل هذه البشارة من رسول اللرحمة صلى الله عليه وسلم ؟ وما ظن المؤمنين بأضاح يؤجرون عن دمها، وقرونها، وأظلافها، وأشعارها بحيث يجزون عن كل شعرة منها بعشر حسنات وفق المعيار الإلهي المضاعف  أضعافا كثيرة ؟

مما يجب به التذكير أيضا إلى جانب ما أمر به  رب العزة جل جلاله في الذكر الحكيم ، وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته المشرفة أن تسبق التقرب إلى الله عز جل بهذه الأضاحي نية بأنها خالصة له سبحانه وتعالى  دون أدنى شرك يلابسها ، وأنها من صميم ما تعبد بها عباده المؤمنين ، وأنها ليست مجرد عادة  أو لحوم تؤكل . ولا بد بعد هذه النية الصادقة والخالصة لله تعالى أن يكون اقتناؤها من كسب حلال طيب  لا يخالطه حرام ولا غلول ، ولا سرقة ولا سطو ... لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ، وألا يغالي من يبيعونها في أثمانها ، وألا يكون بيعها بيع احتكاك ، وفي المقابل لا يجب أن يستكثر من يبتاعونها أثمانها على الله عز وجل ، وأن يستحضروا ما خص سبحانه  به من يتقربون إليه بها من أجر عظيم  ذلك أنهم لو أنفقوا على نيله كل ما يملكون من مال ما أدركوا منه شيئا  ، وأن يطيبوا بها نفسا ، وأول ما تطيب به الأنفس الفرح باقتنائها عوض ما يصدر عن كثير من الناس من تضجر بسبب ارتفاع أثمانها مع أن الله تعالى لم يعسر على من لا يستطيع الحصول عليها ،وقد ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمته ممن لا أضاحي لهم وحازوا بذلك أجرها .

ومما يذكر به الناس أيضا التزام سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتصدق منها على المحاويج ، وفي ذلك مزيد أجر وثواب على ما  ادخر الله تعالى من أجر لمن يتقرب بها  إليه  .

اللهم إنا نسألك أن تبلغنا موعد سنة النحر ، وأن تتقبل  منا تقربنا بها إليك نية وعملا ، وأن تمنن علينا بأجرك العظيم الذي وعدت به عبادك المؤمنين بأداء هذه الطاعة  . اللهم عجل لنا بفرج من هم الجائحة التي حلت بالعالمين ، ونجينا منها بفضل العظيم ، وقنا كل شر مستطير ، ورد بنا إلى الفطرة التي فطرتنا عليها ردك الجميل يا واسع النعم والآلاء .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 937