يا حرام!

خرج سليم مطرق الرأس، يتعثر بفردتي حذائه، نزل السلم الرخامي العريض، اصطدم بالبواب ولم يره، لم يلق عليه التحية التي تعود إلقاءها، سار في طريقه يعدُّ خطواته: واحد.. اثنان.. ثلاثة.. وفي ذاكرته تدوي كلمات المدير: لماذا تحسب للناس حسابا؟ من هم أولئك الناس؟ جرب أن تقع، بماذا سينفعونك؟ في الكثير الكثير سينظرون إليك مشفقين يقولون: يا حرام! ثم ينصرفون لشؤونهم، إذا كانت هذه الـ )يا حرام( تكفيك، فاشبع بها، دونك ذلك. يا حرام؟؟؟ هذه الكلمة ما تزال لعنة تطارده منذ طفولته الأولى، يهرب منها فتتبعه، لا تضل طريقها أبداً، تطلع له من تحت حجارة الدروب، تنطق بها أفواه عامة الناس وأفواه المثقفين، ويعود كلام المدير مدوياً من جديد: الشفقة أحطّ أنواع المشاركة والتعاطف، وأرقى أنواع الاحتقار. ألا يعرف سليم؟ بلى إنه يعرف منذ زمن بعيد، كانت هذه الـ )يا حرام( وما تزال حبلاً يطوق عنقه، طرفها الآخر مربوط إلى قاع الحياة، كلما حاول الارتقاء شدَّته إلى أسفل، وكلما حاول أن يطفو جاءته )يا حرام( جديدة، ألقت بثقلها على رأسه ليغرق في خزيه وهوانه من جديد. يا حرام.. لا شك أن كل المحيطين بفاطمة يقولونها كلما شاهدوها تلبس خلق الثياب، وتتفنن في إنجاز أنواع الطعام بأقل قدر ممكن من الكلفة، ويقولونها، كلما قارنوا بين أطفاله العجاف وأولادهم الممتلئين صحة وعافية ونضارة، ويقولها الباعة في الحيّ كلما تأرجحت دمعة بين أجفان أولاده أمام لعبة يعلم أن اقتناءها أبعد من مرمى أحلامه. لا شك أن فاطمة تكابر أمام الجميع، حين تتباهى بزوجها الشريف، إذ تستعرض النسوة ما يمتلكن من ثياب ومصاغ، وأنها تقاوم في نفسها اختناقاً عنيداً يمسك بزمام أوردتها وشرايينها، ويرفع ضغط دمها لتعيش في علة مستديمة. راح يمشي ويمشي على أرصفة الشوارع، ذاهلاً عن مرور الوقت، متأبطاً ذراع ظله الذي ترسمه أنوار المصابيح الواهنة على الجدران، يغربل ماضي حياته وينخله، لاستخلاص ركائز يستند إليها في المرحلة القادمة، وتعود صورة المدير، تقتحم عليه أفكاره بين حين وآخر، يراه شاهراً في وجهه إصبع التهديد: إذا وجدت نفسك غير كفء للمهمة، إذا قلت: لا أستطيع، فاعلم أن لدينا الكثير ممن يستطيع، لن أنتظرك طويلاً . راح يصارع ثوابته وقيمه، يراجع حساباته، هذا التحول يحتاج الكثير من الشجاعة والإقدام، ربما يتعرض للمتاعب، لكن، كل ذلك يهون أمام الهدف الذي لوح به المدير: المستقبل المترف، المال الذي سيشتري به فرحة أطفاله وسعادة فاطمة، فاطمة، التي تحول هدوءها إلى كابوس يعكر صفوه، ويقتل إحساسه بالرجولة، الرجولة، التي ستتجلى بأروع صور عنفوانها حين تمتلئ جيوبه بالأوراق النقدية، يرشّ منها على من يستحق ومن لا يستحق، يجعلها مخرزاً يثقب به عيون المشفقين حين يحيطونه بنظرات تقول: )يا حرام!(. هذا إذا قبل عرض المدير، أما لو رفض، فهو مضطر لمقارعة وحش مفترس، يتمثل في الطرد من الوظيفة، وفي أقل تقدير، إحالته إلى مكان هامشي تافه في تلك الإدارة حيث ينساه الجميع، ويستغنون عن وجوده. روح سليم، حياته الخاصة، جهد دوماً لجعلها بئرًا مظلمة بعيدة الغور، يدفن فيها آلامه دلواً دلواً، ثم يغلقها لينسى، ليظهر أمام الناس بوجه مرح، ذلك المرح المزيف والكياسة الحمقاء  ،كياسة طفل يخشى الدخول في أية منافسة؛ لاعتقاده أنه الخاسر حتماً، يحب كل الناس، يتسامح مع الجميع، رامياً بأحقاده إلى داخل نفسه خشية أن ينبذوه، ليعود إلى سابق عهده، شقياً لا يستحق أكثر من كلمة )يا حرام(، يعمل ويعمل حتى يحصل على الامِّحاء الكلي والذوبان في الجماعة، لا يطلب مكافأة عن عمل يعمله سوى القبول؛ قبوله بين الناس، والبقاء على الهامش، لا يطمح إلى أكثر من ذلك، يغلفه، يبطنه رعب من الإخفاق والفشل، يشغل نفسه بدراسة كل كلمة قالها، وكل حركة أتى بها، يتخيل تحليلهم لها ،ويشقى في سبيل أن يكون محبوباً، يخضع لرؤسائه ومرؤوسيه، يسعده أن يطلب منه تنفيذ أية مهمة مهما تكن تافهة. جميع فعالياته يبللها الإحساس بأنه مخطئ، وأن من يتعامل معهم يأخذونه )على قدِّ عقله( فيسعى إلى تبرير كل تصرفاته بشكل يثير الملل، ويجعلهم ينصرفون عنه، ويتركونه لعذاب الضمير. ما زالت إصبع المدير مشهرة في وجهه: إذا كانت هذه الـ )يا حرام( تكفيك، فاشبع بها، لا ،إنها لا تكفيه، لقد شبع منها حتى التخمة طوال حياته الماضية، والآن يجب عليه أن يتحول، ما دام الناس يسايرونه مشفقين، بينما يملؤه شعور بالإثم، فليظهر ما لديه، ليس في الأمر أي خطأ ،اكتسحته ثو رة مفاجئة، أطاحت بتواضعه الزائف، وقضت على مظاهر الطيبة والوَداعة، استنفرت  كلّ قوى الشَّر في داخله، كشفت غطاء البئر، بئر نفسه المظلم، فدخل إليها قبس من نور ونار، أشعل ما اختزن فيها من أحقادٍ تراكمَ الزمن عليها بثقله حتى أحالها إلى ما يشبه الفحم الحجري، توهج الفحم بلا دخان، صار قادراً على صهر أصلب المعادن، نعم، فليبدأ الآن، لينهض من رماده جمرة متوقدة، تحرق كل هوانه وضعفه، تصهر روحه الـمُهشمة، وتصوغه إنساناً جديداً بكل المقاييس. المرحلة الجديدة تحتاج ثياباً جديدة، أنيقة كتلك التي يرتديها ويزهو بها صفوة المجتمع، دخل محلاًّ لبيع الألبسة الجاهزة، تكسو جدرانه المرايا، تأمل صورته مليا؛ الوجه الذي لحست بياضه الشمس، فجعلته أحمر كالفطيرة، الصلعة التي ترتاح فوق جبينه العريض، الشعرات البيضاء في فـ وديه، معالم لا بأس بها، تصلح كمقومات لشخصية رجل مَهيب، انزلق نظره إلى أسفل؛ حيث أضلاعه الناتئة، وعظم الوركين البارز، قرر: ينبغي للرجل الوجيه أن يكون ذا كرش، يتصدر به المجالس، ولكن، من أين يأتي بكرش وجيه؟  *   *   * عاد متأخراً إلى البيت، استقبلته فاطمة بالفتور ذاته، قدمت له العشاء ذاته، وجد نفسه غير راغب في الزاد، ولا في الحديث، تركها واندسَّ في فراشه، ليدرس على مهل كل تفاصيل المرحلة المقبلة، لم تجد فاطمة في انشغاله ما يثير ريبتها، تناولت دواءها، واستسلمت للنوم، رنَّ في أذن ذاكرته صوت المدير: اسمع، في هذا البلد لا يوجد ماء على مستوى النظر، إما أن يهطل عليك من السماء، أو ينبع لك سيلاً يسري من تحت بساطك، في غفلة منك، أنا أريدك ماء، تهطل من السماء، تزحف من تحت البسط والسجاجيد، أريد الاعتماد عليك في كل شيء، خبرتك في الحياة عظيمة، لكنك تغطيها برداء شفيف من الخجل، تحرر من خجلك، تجد نفسك في الطريق إلى القمة، تسلكها بلا مصاعب. صحيح، كل  كلام المدير صحيح، كان سليم قبل الآن يرى تيار الماء قبل وصوله إلى بساطه، يرقبه وهو يسري من تحت البساط حتى يغرقه، يبتسم له ببلاهة من عرف قدره ورضي به، دون أن يقاوم أو يفعل شيئاً لإيقاف جريانه، يرتجف من البرد، متصنعاً التواضع، أهو التواضع أم الوضاعة؟ اكتشف الآن أن الأمر سيان. تأخذه العزة برجولته أحياناً، رجولته الضائعة في زحام الحياة، فيفرغ جام نقمته على فاطمة، تتلقى ثورته بمثل ما يتلقى قدره، بصمت وصبر ونظرة مستفهمة ناقمة، ثم تهرب منه إلى داخل نفسها كما يهرب، تنطوي وتبالغ في الانطواء، تشغل نفسها بالتفاني في خدمة أولادها ورعايتهم، مستغنية بهم عن  كل صديقة أو جارة. طلب من المدير مهلة للتفكير وتدبر الأمر، ترك مديره يشهر في وجهه إصبع التهديد: إذا كنت لا تستطيع، لدينا عشرات الرجال يتمنون هذه المهمة، لن أنتظرك طويلاً . سحب نفسه وراح يفكر في هذا التحول الكبير، يحتاج الكثير من الجرأة، ربما يتمكن من تلقي نظرات الدهشة من عيون الناس ولكن  ،كيف يواجه فاطمة؟ زوجته التي عاشت معه الفقر والإهمال، تحملت منه كل شيء، ابنة خاله التي رعت طفولته وشبابه، سهرت قرب وسادته باكية عشرات الليالي، أيام كان فتى يافعاً، يهرب من ظلم أبيه، ويأتيهم مستجيراً طالباً الحماية والمأوى، يحتضنه خاله بكل حنان ومودة، تداوي فاطمة جراح روحه بدموعها و بسماتها، تنشر في نفسه بذور التفاؤل وحب الحياة. إذا تمكن من مواجهة فاطمة، كيف يواجه والده؟ ذلك الجبار الذي لا يساوم ولا يناقش، بل لا يسمح بالتكلم في حضرته، أو رفع النظر إلى وجهه، قواعده الأخلاقية جبال لا تخترقها الذرائع، ولا تهزها الزلازل، طالما عاقبه على ذنوب لم يرتكبها لمجرد الشبهة، بغية إرضاء الضمير الاجتماعي لسكان القرية؛ لئلا يقال: إنه يرضى عن ذنوب أولاده. ماذا سيقول له لو سأله من أين لك هذا؟ لو نظر في عينيه، إن نظرة واحدة صارمة من عيني ذلك العجوز، الواسعتين الجاحظتين، كفيلة بسحب اعترافاته من داخله وإلقائها على الأرض، كفيلة بتعريته حتى لا يجد ستراً، سيضربه والده في هذا العمر، سيضربه حين يعلم دخيلته، وسيكون محقّاً لو فعل. بين أحلام اليقظة وكوابيس النوم، استكانت نفس سليم حتى الصباح، لبس ثيابه على عجل، غادر البيت بلا إفطار، بلا كلمة الوداع التي اعتادتها منه فاطمة كل يوم، راح يتسكَّع في الشوارع عله يصل إلى قرار حازم يواجه به المدير، تتجاذبه قوتان متناقضتان، متساويتان في الشدة، متعاكستان في الاتجاه، مرة يمد خطوته مسرعاً تدفعه أطياف الثراء، صور المال يجري بين يديه، يرفعه بركلة واحدة من قاع الحياة إلى سطحها الجميل الواسع، وأخرى يتراجع، تضيق خطوته، إذ يفكر في العبارات المناسبة لطلب الاستقالة ،والاكتفاء بنظافة اليد. وصل دائرته متأخراً عن موعده اليومي، أثار انتباهه التر قبُ الصامت الذي قوبل به، خال الجميعَ عارفين بما عزم عليه، بلغة الصمت ذاتها تساءل فتش في العيون فما عثر على إجابة، اتجه إلى مكتبه وجلس ذاهلاً، جسده هنا، وعقله مشتت هنا وهناك، مدَّ يده إلى الأوراق المكدَّسة أمامه، فاجأته برقية تستدعيه للحضور بسرعة إلى منزل والده المريض، الذي يطلبه بإلحاح. سنوات طويلة تفصله عن آخر زيارة إلى القرية، حيث خرج مطروداً، لا يعرف لطرده سبباً، كل ما يذكره ضحكة صفراء شامتة من عيني )نظمية( زوجة أبيه، وغضب ما بعده غضب، صبه الأب على رأسه محذِّراً إياه من العودة، وإخوته الذين تجمعوا حول أمهم، يراقبون المشهد بحياد تام. حمل سليم البرقية، ودخل بها مكتب المدير ليطلب إجازة، قدمها بصمت، حصل على الموافقة وانصرف، أخبر زوجته أنه مسافر، اندسَّ في أول حافلة، ومضى تذهله المصادفة التي جعلت والده يستدعيه في هذه اللحظة الحاسمة، جلس في مقعده يفكر في الماضي البعيد، وفي الساعات القليلة الماضية، يفكر في وجه أبيه حيث سيمثل أمامه بعد قليل، ستجبره نظرة من عينيه الحادتين على الانسحاب من كل وعوده ونواياه، أخيراً قرر: ها هو ذا القدر يأمره بالبقاء في موقعه، فليقدم استقالته معتذراً عن المهمة الموكلة إليه، وليبحث عن عمل آخر، يعينه على مواصلة الحياة بالمستوى المعتاد ذاته. الطريق طويل طويل، يفترشه الرعب، الصحراء ممتدة على الجانبين، تتراكض فيها ظلال الغيوم البيضاء المقطعة، الهاربة من أسر الجبال الساحلية، كأنها الأشباح تختاره من بين ركاب الحافلة، تلوح له مهددةً متوعدة، وهو مستسلم لها يتابعها بعينين خائفتين، تقفز به بين الماضي والحاضر والمستقبل، ثم تجندله أمام قسوة أبيه، وضحكة صفراء على وجه نظمية، تذكر قصة )ذي النون(، أوشكت السفينة التي تحمله على الغرق، اقترح الحكيم إجراء قرعة لمعرفة الرجل الخاطئ من بين الركاب، القرعة ترسو عليه ،ستغرق السفينة من جريرة خطاياه، ألقي في اليم، ابتلعه الحوت. لا شك أن سليماً هو الخاطئ بين هؤلاء الركاب، وليس ثمة حكيم يجري قرعة ليلقي به في بحر الرمال، ستغرق الحافلة بمن فيها، ستتناهبها الأشباح. أغمض عينيه يغالب شعوراً بالألم العظيم، الحافلة تبطئ سيرها، يقرأ على جانب الطريق: )منعطفات خطرة(، هل هنالك أشد خطراً من هذا المنعطف الذي يقف سليم حياله الآن، وقد تعطلت محركات فكره وإرادته؟ الحافلة تمشي ببطء أكثر، يقرأ على اللافتة: )أفضلية المرور للغير( طوال عمره يمشي على حذر، يتوقف عند المفرق تاركاً أفضلية المرور للغير، منفذاً لوائح غير مكتوبة تفرض عليه الانتظار وإضاعة الفرص، ها هي ذي آخر لائحة تصفعه اليوم في الصباح، ليتنحى عن وظيفته تاركاً أفضلية المرور للغير، لشخص يقدر على الهطول مطراً من السماء، أو يسيل من تحت البسط والسجاجيد. ها هي ذي حماة، تبدو من البعيد، مسطحة مجعدة مثل آثار الحروق على ساعديه، دقَّ قلبه بعنف، تناهبته أحاسيسُ شتى، تتفاوت بين الحزن والفرح، بين التوق العارم والنفور، بين الوجد والحقد، هنا ترقد ذكرياته، وأحلاها على نفسه، هناك على البطاح البعيدة، تنهض ذكريات الطفولة الشقية، لم يكمل الطريق إلى قلب المدينة، بل نزل أمام محلج القطن الكبير، راح يتمشى ببطء، متلفتاً إلى كل شيء. كما نزل من الحافلة الأولى قبل دخولها إلى حماة، نزل من السيارة الأخرى على مشارف القرية، راح يعيد بفكره الصيغة النهائية التي توصل إليها، الصيغة التي سيقدم بها اعترافاته بين يدي أبيه؛ كعهده معه ،سيعتذر عن طول الغياب، ويضع نفسه وماله بين يديه وتحت تصرفه، سيعترف له بما كان من نواياه وينسحب، تاركاً أفضلية المرور للغير. الطريق إلى القرية يمرُّ في المقبرة، الشواهد تنتصب على جانبيه مذكرة بمن يرقد تحتها، بعضها ينبطح أرضاً، وبعضها يوشك أن ينبطح، البغال والحمير والأحصنة الهرمة سائبة هنا، ترعى ما ينبت من الأعشاب بين القبور، وتطرح فضلاتها على ما درس منها. 

      قريب من هنا وجد ذات صباح صيفي النمرود, ذلك الكلب اضخم الشرس الذي يقتنيه آل البعجوري, وجده ممددا على الأرض, تحاشاه ومر بغنيماته على مبعدة, في المساء عند عودته من المرعى رآه في المكان ذاته, في نومته ذاته, لم ينبحه ولم يشتت غنيماته  كدأبه كل يوم, في الصباح التالي وجد وضعه ثابتا لم يتغير, هل يعقل أن يموت من يحمل له في عينيه كل هذا الرعب؟ دنا منه بحذر, دنا أكثر, وأكثر, لم يتحرك من مكانه, لكن بطنه بدا منتفخا بشكل كبير, دنا أكثر, جاسه بعصاه فلم يتحرك, تيقن من موته فانهال عليه ضربا بالعصا, أفرغ كل ما كان يحتقن به قلبه من الرعب ومن الحقد على جثة الكلب, ظل يضربه حتى انكسرت العصا, في الأيام التالية حول كل دروبه لتمر بقرب تلك الجيفة, متجاهلا نتن رائحتها, مراقبا الديدان تسعى بين أحشائها, حتى لم يبق منها سوى العظام, وظل على دأبه حتى تبعثرت العظام ومات الخوف في قلبه, ولم يبق من النمرود سوى الذكريات المؤلمة.

دخل القرية، طالعته وجوه يعرفها، وأخرى جديدة، تحمل ملامح كان يعرفها في أيامه الغابرة، ثلج الزمن هطل على مهل، واستقر على الرؤوس واللحى، تابع المسير، يلقي التحية على المارة حيناً، ويغفل أحياناً، مستسلماً للشرود، عاوده الرعب القديم، رعب الطفل اليتيم المهدد دوماً بالعقوبة، حثَّ الـخُطا ليمثل أمام القاضي، يلتقي قدره، ويريح أعصابه من عقاب الانتظار، باب الدار ما زال كما هو، ألواح خشبية متباعدة، تسمح لفراخ الدجاج بالمرور بينها، دخولاً وخروجاً بلا حواجز، الجدران الواطئة المسورة للدار مثقلة بحطب القطن المسود من القدم، دقَّ الباب بيد مرتجفة، وانتظر، لفحته رائحة المنزل العتيق، رائحة، هي مزيج من روائح التين المجفف، وأوراق التبغ والكشك، تختلط بها، بل تغمرها، رائحة أقراص الجلّ المكوّم، في فناء الدار، تحت شجرة الكينا الكبيرة، مرصوفة على شكل قبة مجوَّفة، تحتضن خمّ الدجاج، هذه الروائح، جعلت الماضي بكل تفاصيله ودقائقه يعود إلى ذاكرة سليم، فيسقط ما تبقى لديه من شجاعة ليتحطم على الأرض الإسمنتية المشققة. تراكض بعض الأطفال داخل الدار، نظروا إليه من شقوق الباب ورجعوا، بعد قليل خرجت نظمية ،زوجة أبيه، فتحت الباب مرحبة مهللة، استقبلته بحرارة أجفلته، ما تزال نظمية بقوتها وعنفوانها، برغم ظهور بصمات الزمن على وجهها وأسنانها، مشى خلفها مسلوباً كمن يمشي في نومه، قادته إلى )الإيوان( الكبير، ثم إلى غرفة والده، تلك الحجرة التي كانت في الماضي محرمة عليه، وعلى أخته بديعة ،دخل الحجرة مستطلعاً، وتوقف لدى الباب تشله المفاجأة. في الزاوية المظلمة من الحجرة فراش رثّ، يتمدد عليه حطام إنسان، لم يستطع النهوض للترحيب به، فأطلق صوته المرتعش: أهلاً بالغالي، أهلاً بولدي وحبيبي... كنت أخشى الموت يا ولدي قبل رؤيتك، الآن لا بأس عليَّ لو متُّ، تعال أيها الغالي، اجلس هنا، هنا قربي، دعني أنعم برائحتك... - أشعر بدنو الأجل يا بني، سأترك إخوتك صغاراً، سامحني يا بني، لا تهمل إخوتك، أوصيك... قالها الأب وهو يذرف الدموع، الطاغية الذي كان يوماً... يوما؟ بل دهراً بطوله وعرضه، يخيف الموت ولا يخاف، كان جسد سليم يتخدر تحت ضربات هاتين اليدين العجفاوين حين تنهمران عليه مثل مطر السماء، بينما تطلق عيناه الواسعتان الشرر، شرراً يحرق قدرة سليم على التألم والشكوى، إنه الدهر. انحنى سليم على يدي العجوز، يشبعهما تقبيلاً ولثماً، وقد انتقلت إليه عدوى البكاء، توقف ليتأمل اليدين اللتين انسحقت تحت وقعهما أجمل لحظات طفولته، أدهشه الفرق الهائل بين ضخامة الكفين ونحافة الساعدين، رفع رأسه، التقت عيناه بعيني نظمية الصفراوين الحاقدتين، هرب الحقد منهما ليسكن محله ذلّ وانكسار، حقدها الآن ما عاد يخيفه، تذكر كلام المدير: كن مطراً ينهمر من السماء، أو سيلاً من تحت البساط، لا شيء عند مستوى النظر، لا بأس، سيسري الآن تحت البساط، ثم يعود فينهمر مطراً من السماء. تمالك نفسه، أمسك أعصابه ،وبدأ يسأل عن حال أبيه، بادرته نظمية: لا طحين في بيتنا، ولا سكر ولا زيت، إخوتك، أولادي، الكبار تزوجوا، لا يكاد واحدهم يكفي بيته، الصغار كما ترى في بؤس وفاقة، الأرض بعنا قسماً منها للإنفاق على زواجهم، إيراد الباقي لا يكفينا. غاصت الكلمات في مسمعه بين شهقات العجوز، وصوت الزوجة، اتخذ قراراً لا رجعة فيه، استأذن والده وخرج، راح يجوب دروب القرية متأملاً الوجوه التي ضاعت بين نظراتها المشفقة طفولته، )يا حرام( لن يسمح لأحد بقولها أمامه بعد اليوم، لن يسمح لأذنيه بسماعها، لن يسمح لأي وجه بالتعبير عنها في حضرته، تلمس جيبه، راتبه الشهري بكامله هنا، أجرة بيته لم يدفعها بعد، لا بأس، سيتدبر أمره بعد العودة، احتفظ لنفسه بمبلغ يكفيه نفقة الرجوع إلى بيته، وتقدم إلى الساحة. دخل دكان القرية، اشترى كيساً كبيراً من الطحين، وصفيحة من السمن، وكل الأشياء التي ذكرتها نظمية، ثم اشترى علبة سكاكر، نقد البائع الثمن تحت النظرات المندهشة، وطلب منه إيصال مشترياته إلى بيت أبيه، حمل علبة السكاكر، ولحق بالحمالين. استقبل موكبه بالكثير من الغبطة والسرور، دمعت عينا نظمية الصفراوان، تجاوز بمشاعره المشهد ،وراح يوزع السكاكر على الصغار من إخوته، وأولاد إخوته، ومن حضر من أطفال الجيران، نظر إلى أبيه ،رأى في عينيه استجداء لم يدرك كنهه، سأله: أتأكل الحلوى؟ هزَّ رأسه بالموافقة، كفَّ سليم عن التوزيع، وأعطى ما تبقّى في العلبة للعجوز ذاهلاً : هذا المارد الجبار يطلب سكَّرة أسوة بالأطفال؟ أين الثابت وأين المتحول في العلاقات الإنسانية؟ في القيم الاجتماعية؟ في أصول التربية؟ اكتشف، أن لا شيء ثابت أبداً، كل الثوابت يمكن أن تتحول وتنهار. سقطت فجأة كل القيم التي فرضها عليه خوفه من هذا الأب دفعة واحدة، تخلص من سيطرة الأب، من سيطرة الضمير، من خشية الناس، من الحرص على السمعة الحسنة، انبثقت اللامبالاة من جيوب خفية في نفسه، وانداحت كل فعالياته. هذا الذي يطلب بعينيه حبة سكَّر أفهمه فيما مضى أن الاعتراف، مجرد الاعتراف، بالجوع عيب، بل عار يتنافى مع الرجولة، وأنك حين تطلب من أحد لقمة، مهما كان ظرفك، ومهما تكن دوافعك ،إنما تخبر ذلك الشخص بأنك لا تساوي أكثر من ثمن هذه اللقمة، ها هو ذا الآن يأكل أمام الأطفال قطع السكر بشراهة، متلذذاً بكل قطعة منها، أين ذهب بتلك التعاليم؟ الزملاء، الجيران، المدير، الحاج محمد، أولئك الذين يحسب حساباً لأقوالهم، لو تغيَّر، فلن يعيقوا تغيُّره، لا بدَّ أن يخلع رداء التواضع والكياسة، وينهمر عليهم مطراً من السماء، ماذا ستكون ردود أفعالهم؟ لا شيء، سيبتعدون عنه ريثما يأخذ شكل القالب الجديد الذي اختاره لنفسه، ثم يرجعون ،سيستعطفونه، ويستجدونه قطعة سكر، الدنيا هكذا. وفاطمة؟ ستتمرد عليه، لكنها حتماً ستفرح بالحياة الناعمة الموعودة، وتنسى قيمها؛ كما نسي هذا العجوز، وستخرج من إطار كلمة )يا حرام(. رمى علبة السكاكر الفارغة على الأرض، وأعلن عن عزمه على العودة، شهق العجوز، وانتحبت نظمية: بهذه السرعة؟ لم نشبع من رؤيتك بعد، أشواقنا إليك عمرها سنون طويلة لا تطفئها هذه الزيارة القصيرة، تأملَ وجه نظمية العنيد، وعينيها الذابلتين، تذكرَ المكائد التي عاش رهناً لها حتى فرَّ من منزل والده ولم يرجع، شدَّ قامته معززاً عزمه على السفر، قبل يدي العجوز بحركة مسرحية، خالية من أية عاطفة، وغادر واعداً بعودة قريبة. خرج مثقل الرأس من الصواعق التي انهالت عليه، متلاحقة تفصل بينها فواصل زمنية غير كافية لاستعادة الوعي ودراسة الملابسات، مشى على الدروب متمهلاً، توقف في الساحة ينتظر سيارة تقله إلى المدينة، ما زال منزل نعيمة مفتوحاً على الساحة، ما زال ينجب الأطفال والأخبار والمكائد. تأخَّر )الباص(، ترك سليم الساحة ومشى على الطريق الزراعي خارجاً من القرية؛ حيث تتموج الأرض الفسيحة بهضاب جرداء، يا لهذه الأرض كم تبتلع من الجبابرة، ومن مكامن الرعب! تابع المسير، تتقافز أمام مخيلته أشباح الطفولة وخيالاتها من بين تلك الهضاب: صورته مع أخته بديعة، في الصباحات المبكرة، ذاهبين إلى مضا رب البدو أمام المغاور، يسوقان عدداً من رؤوس الغنم والماعز، يرتجفان تحت لسع ريح كانون الشمالية، الشمس تشرق من خلف الجبال ضعيفة مريضة، تنشر أشعة واهنة، تتكسر فوق البرك المغطاة بطبقات كثيفة من الجليد، يبكيان معاً، يدسان أيديهما الصغيرة في جيوبهما، بينما تتجمد أقدامهما العارية من الجوارب، داخل الأحذية البلاستيكية المبللة، حيث تتحول بفعل البرد إلى جلاميد فاقدة الإحساس من الخدر، على الطريق، وفي معظم الأيام يمر فارس اسمه مختار، في جولة لتفقد أراضيه المزروعة، يمتطي صهوة جواد أشقر، يتوقف بالقرب منهما، يترجل يشتم أحد اً ما، قد يكون أباهما، ثم يدعوهما إليه، يحتضنهما بفروته الدافئة، يرتجفان تحتها، يلوذان بساقيه طلباً للمزيد من الدفء، بينما يضرب الحصان الأرض بقوائمه ضجراً، ويصلصل بعقود الخرز والفضة، كم عشق سليم هذه الصلصلة التي تمنحه إحساساً بالدفء والأمان، لذلك اشترى لفاطمة  يوم زواجه منها عدداً من الأساور الذهبية، بمبالغ وفرها من مرتبه، حين كانت الرواتب تكفي الحاجة وتزيد، ألبسها إياها لتمنحه بصلصلتها الإحساس ذاته بالأمان، وأين منه الأمان؟ باع الأساور مثلما اشتراها ،واحدة إثر واحدة، تحت ضربات الحاجة والغلاء، ضاع الذهب، وضاع معه الأمان. بعد ذلك كان يسكت عن البكاء، وربما يبدأ حديثاً مع أخته بديعة تحت فروة مختار، يفتح الرجل فروته، ويطلقهما موصياً إياهما بالركض السريع، يرقبانه حتى يغيبه الدرب مع حصانه الأشقر، يوصلان غنماتهما إلى مضارب البدو، ويعودان ركضاً كما أوصاهما مختار، لكن البرد لا يرحم، يعاود غزو الجسدين الضعيفين، يجمد أنفيهما، ودموع عيونهما، ولا يعفّ عن أصابع الأيدي والأرجل، يعودان للبكاء في طريق العودة، وربما دخلا بعض بيوت الشعر، يستدفئان على وهج نار ضعيفة، تشعلها خاتون، لتخبز عليها طعام الإفطار. هنا، وفي كلِّ مرة، كان قلبه الصغير يوشك على التوقف حين تهاجمه كلاب المرعى، يصرخ مستغيثاً، يأبى صوته الخروج من الحنجرة، يخنقه الرعب، تركض خاتون، تهش عنه الكلاب، تمشي معه خطوات حتى تبلغه مأمناً ثم تعود. هذه هي الأرض، ممتدة كما كانت، لكنها تبدو اليوم كجسد غزاه الجدري، وترك على إهابه حفراً وندوباً سوداء، كانت في الماضي مواقد للنار وأثافي، نزعت الخيام، ورحل أصحابها هرباً من زحف الإسمنت، حتى عيون الماء لم تسلم من الجدري، ها هي ذي، تبدو أجراناً فاغرة، تنطق حجارتها البيضاء بالعمى، دالة على حياة مرت من هنا في عصرٍ ما، وانطفأت شعلتها في غياب سليم. ترك المغاور وتابع السير باتجاه الغرب، هنا )البريز( نقطة تقاطع سواقي الري القادمة من نهر العاصي، كان يمر به في الماضي، يسبح في مياه الساقية، ثم يستلقي على العشب، يتأمل غيوم الربيع البيضاء، وأسراب الطيور المهاجرة في رحلتها السنوية، يحلم أن ينزل إليه طائر الرخّ الأسطوري، الذي قرأ عنه في قصص السندباد, يحمله بعيداً بعيداً إلى أرض ليس للظلم فيها أثر، ها هو ذا الرخ ينزل عليه اليوم بصورة المدير، سيحمله إلى حيث ينسى الفقر والعوز، ولا يسمع كلمة )يا حرام(. السواقي جافة، ما حاجتها في أرض زراعية اجتاحها الإسمنت؟ لم يبق من السواقي سوى مسيل صغير، كسول، رائحته آسنة، ربما كان أحد المجاري المكشوفة التي تشكو منها أطراف المدن بشكل دائم ،تنشر استغاثاتها في زوايا الصحف وبرامج الإذاعة، جلس، يسترجع المزيد من الذكريات، حطت أمامه ذبابة على كومة رطبة من الوحل الأسود، غرست ممصاتها عميقاً داخل الكتلة لبضع ثوانٍ ثم طارت، حطَّت على مقدمة حذائه، مسحت وجهها بذراعيها، نفضت جناحيها وطارت ثانية، حلقت قليلاً في الهواء، ثم حطت على أرنبة أنفه. فكَّر سليم: ما ضرَّ هذه الذبابة من القذارة التي ولغت فيها؟ ها هي ذي تعتلي قمة أنفه، تختار من الأماكن أرفعها وأسماها، لا تشعر بأي ذنب أو خجل. غادر مجلسه وقد تلقى من الذبابة درساً جديداً، فـلتموتي هنا يا ذكريات الطفولة التعيسة، لتحترقي، وليتبعثر رمادك في هذي القفار، ها هو ذا سليم، ينبعث من الحريق سليماً معافى، نضا عنه ثواب الهوان والضعف، ولبس عباءة الكبرياء الجريح، كفاكِ يا ذكرياتُ تعذيباً لنفسه، وسَحقاً لروحه، كفاكِ ! التحول الكبير عاد سليم إلى دائرة عمله قاطعاً إجازته، اتجه فوراً إلى مكتب المدير، وقف أمامه بلا تحية، ولا استئذان، صالب ساعديه فوق الطاولة كمن يستعد للقيد، قائلاً : هذا أنا، أمامك ضع قيودك في يديّ، ستجدني رهن مشيئتك، ابتسم المدير بسمة عريضة، ربت على كتف سليم: حسناً يا سليم، كنت أعلم أنك عاقل، لن تضيع هذه الفرصة من يدك، أنت الأكثر كفاءة بين الموظفين، والأرجح عقلاً، اجلس هنا، لست الآن موظفاً يقف أمام المدير، أنت منذ اليوم معاوني، وشريكي ، ومدير مكتبي. بسرعة، كما أمره المدير، سوى معاشه التقاعدي، استقال من الوظيفة، ورجع فتعاقد مع الإدارة للاستفادة من خبرته، كتب تصريحاً قدَّمه للمحاسب، يخولُ فيه زوجته فاطمة قبض راتبه، في بداية كل شهر، لأنه سيكون مشغولاً، أو مسافراً معظم الوقت، وهو لا يريد أن تبقى زوجته بلا نقود. ألقى أوامره على الموظفين: لتنقل هذه الطاولة من هنا، لتخرج هذه الخزانة، جاء العمال، غيروا ترتيب الأثاث كما أمر، أدخلوا خزانة، أخرجوا أخرى، أبعدوا طاولة، بدّلوا ستارةً أو كرسياً، جلس سليم خلف مكتبه يعتصر رأسه بين راحتيه، مكباً على كتب القانون، يحفظ منها ما يناسب موقعه الجديد، ويستذكر ما نسيه. مرة أخرى زعق ملقياً أوامره: هذه الطاولة لا تناسبني، أخرجوها من هنا، وهاتوا بدلاً منها الطاولة ذات السطح الرمادي، نهضت سلوى من خلف الطاولة المقصودة على مضض، بعد أن أفرغت كل الدروج من الأوراق التي تخصها، جلست إلى طاولتها الجديدة تفكر في الأمر: أي بلاء نزل على رأس سليم؟ معاون المدير؟ يا لسوء ما بشّرت به الإدارة! يا لسوء ما طرأ عليه من تحولات! هل سيتمكن من التلاؤم مع قميص لم يفصَّل على مقاسه؟ استقرت الطاولة الرمادية أمام سليم، فرش تحت زجاجها خارطة الوطن، وزع حولها صور أولاده، مع بطاقات عليها صور الزهور والبنفسج التي يحبها، أسند رأسه إلى راحتيه، وراح يحِّدِّق بصور أطفاله، لا بأس برؤيتهم هنا تحت لوح الزجاج، سيغيب عنهم كثيراً، أما فاطمة.. رنَّ جرس الهاتف ليقطع عليه تأمله، استدعاه المدير: ماذا يا سليم؟ عملك في منصبك الجديد لم يبدأ بعد، لماذا تخيف الموظفات، وتزعجهن؟ منذ أول ساعة لك تأتيني الشكوى منهن جميعا؟ ظننتك تفهم أساليب الإدارة، لا تخيب أملي بك يا سليم، ارجع إلى مكانك، ولا تكرر هذا الفصل التافه مرة أخرى. أي فصل تافه؟ سليم ما قصد إغاظة سلوى، ولا إخافة رشا، ولا إغضاب سميرة، كل ما في الأمر أنه أراد اعترافاً منهن بسطوة مكانه الجديد، تحدَّت كل واحدة منهن أوامره، وتجاوزته لتؤكد له حظوتها لدى المدير، أمسك كباسة الورق، ضغط عليها محاولاً ضم بعض الأوراق في مصنف صغير، لم تستجب الآلة الصماء ليده المرتعشة، رمى بها جانباً، شتمها متهماً الإدارة باقتناء الأدوات الفاسدة، تقدمت سلوى وعلى وجهها بسمة استصغار، أمسكت الآلة برفق، ضغطت على الأوراق فاستجابت لها ،وضعت الأوراق أمام سليم: تفضل يا أستاذ، الآلة في غاية الجاهزية، لكنها تحتاج من يحسن استعمالها. لفَّه الخزي، لكنه تظاهر بالهدوء، فتش بين الأوراق المتراكمة على مكتبه، فتح أبواب الخزانة، نبش محتوياتها، أغلقها بعصبية ظاهرة وزعق: أين مصنف القرارات؟ عاد للبحث من جديد، سخط، ثار ،هدد، توعد: سأخرب بيوتكم لو ضاع هذا المصنف، دنت هيام بهدوء يفوق هدوء سلوى، مدَّت أصابعها الأنيقة بين ركام الأوراق، المبعثرة بفوضى أمامه، سحبت المصنف المطلوب، ناولته إياه: يا أستاذ! إذا كنت جديداً على المنصب، فاصبر حتى تتعلم ما يقتضيه منك منصبك، لا تؤنب أحداً على أخطائك وتقصيرك. تركته وانصرفت، أعلن عن صداع يدكُّ رأسه، أغلق باب غرفته وراح يقلب الأمـر على كل وجـوهه ،))المال والنسوان أجمل ما في الدنيا((ماذا تحمل ابنتك من شهادات؟ -        إجازة جامعية. -        أي الوظائف ت ريد؟ -        لا يهم، المهم أن تجد عملاً يطعمنا خبز اً. -        هل سبق أن تقدمت بطلبك إلى غيرنا؟ -        لا، لم نطلب من أحد غيركم، وعدني السيد المدير.. -        وبماذا وعدته أنت؟ فتح الباب مرة أخرى، دخل شاب حليق الرأس والوجه، أشار إليه سليم بالجلوس. -        ما طلبك يا بنيَّ؟                                                             -        أنا جندي ،أخدم في مكان بعيد عن أهلي، أريد الانتقال إلى ثكنة قريبة، لأتمكن من متابعة تجارتي في أوقات الفراغ.. رنَّ الهاتف، قطع رنينه استرسال الشاب في الكلام، رفع سليم السماعة، أسند ظهره إلى الكرسي، وراح يتكلم بصوت ناعم هامس، لكنه واضح: -        ألو  ... -        أهلاً أهلاً، أين أنت يا رجل؟ لم تترك لي رقم هاتفك ولا عنوانك لأتصل بك، طلبك حصل على الموافقة. رنَّ الهاتف الثاني، رفع سليم السماعة، السماعة الأولى ما تزال في يده، الرجل الخمسيني والشاب يفتحان أعينهما وآذانهما لالتقاط كل نأمة: -        ألو  ... -        أهلاً وسهلاً، أهلاً بالسيد وابن السيد، لا تسأل عن طلبك الذي تقدمت به إلينا، عيب أن تسأل.   ... -        طبعاً طبعاً، هل يرد لمثلك طلب؟  ... -        لا حاجة للشكر يا رجل، المسألة بسيطة لا تستحق. سأوصله إلى مكتبك، انتظرني. -        أعاد السماعة الثانية إلى مكانها، وعاد للأولى: -        عفو اً.. كان معي على الخط الثاني رئيس مكتب الـ... سنكمل حديثنا، طلبت منا نقل رئيس الدائرة الـ.. رنَّ الهاتف الثاني مرة أخرى، اعتذر سليم من محدثه، أعاد السماعة الأولى ورفع الثانية: -        ألو  ... -        أهلاً بست الستات.  ... -        وحياتك أنا لا أعرف المزاح، ستكونين في الموقع الذي تشائين، متى تشرفين مكتبنا؟  ... -        نحن بانتظارك. وضع السماعة، تنفس الصعداء، تأمل السقف قليلاً، التفت إلى ضيفيه كأنه فوجئ بوجودهما، نقّل نظره بينهما جيئةً وذهاباً، توقف عند الشاب: -        ماذا تريد يا بنيَّ؟ -        أريد الانتقال من الثكنة التي أخدم فيها، إلى مكان قريب من بيت أهلي. -        هل تقدَّمت بطلبك إلى جهة ما؟ -        لا.. ولكن... -        هل طلبت وساطة من سوانا؟ هل دفعت مالا؟ -        لم أدفع، لكني على استعداد للدفع إذا ضمنت النتائج. -        كم ستدفع. -        كل ما تطلبون. -        حسناً، سنتفق على مبلغ تدفعه حين تأخذ الموافقة على نقلك بيدك. -        اتفقنا. نهض الشاب، صافح سليماً ووضع أمامه مغلفاً صغيراً، غطى صورة البنفسج المطلة من تحت زجاج المكتب، أملاه اسم معلمه، ورقم ثكنته، ثم انصرف راضياً، ترك سليم المغلف حيث وضعه الشاب، غير مكترث به، التفت إلى الرجل الخمسيني الذي بادر بالاعتراف: -        أريد عملاً لابنتي التي تحمل إجازة جامعية، نحن في حاجة ماسّة إلى عملها، أنا مريض، وإخوتها صغار، و.. -        يكفي، يكفي، ماذا كنت تعمل قبل الآن؟ -        كنت سائقاً على سيارة نقل كبيرة، أصبت بأزمة قلبية، لم يسمحوا لي بعدها بالجلوس خلف عجلة القيادة. -        هل ... -        لا، لم نتقدم بطلب لأحد، ولم ندفع مالاً . 12 -        هل ستدفع الآن؟ -        اطلب. -        سأطلب ... وضع الرجل مغلفاً آخر أمام سليم، أصغر من المغلف السابق، غطى به صورة زياد ذي الشهور الخمسة، حجب الضحكة البريئة التي أطلقها زياد في دكان المصور قبل أيام، أثقلها بالمال، وانصرف من فوره، قام سليم، أغلق الباب بإحكام، وراح يدور حول نفسه يقفز عالياً في الهواء، يرقص، يضحك فرحاً بما جناه، ثم عاد للجلوس في مكانه متعجباً من ذكائه الذي نبع فجأة، وانساب سيلاً أمام الرجلين، لم يلاحظ أحد منهما أن إصبع سليم كانت تستقر على قاطعة جهاز الهاتف بعد رفع السماعة مباشرة ،ليقطع بها الخط على المتكلم قبل التلفظ بكلمة )ألو(، وأن كل تلك المكالمات وهميّة، كما لم يلاحظا - وأنى لهما ذلك؟- إن الشخص الذي رنَّ الهاتف هو نفسه يعيد طلب الرقم متعجباً من انقطاع الخط بهذه الصورة السريعة. قادم أنا، قادم يا فاطمة، سأعيد إلى ساعديك رنين الأساور الذهبية، وإلى وجهك بسمة الفرح ،خرج من مكتبه، وسار في الطريق إلى بيته هرولة، المال هنا، على صدره من الجهة اليسرى، فوق القلب تماماً، لن يخجل بعد اليوم من خباز ولا سمان، لن يستدين أية سلعة، منذ اليوم، سيحصِّل في يوم واحد ما كان يقبضه من رواتب في شهور، أين كانت كل هذه الطاقات؟ شعر أنه خرج من جلده، كأنه ليس الرجل الذي كان أمس، بل رجلاً آخر، قوياً جريئاً، سعيداً، يسعى في إهاب سليم، انتهى زمن البؤس وطأطأة الرأس في أثناء المسير، مشى سليم يخاطب نفسه، ويجيب بصوت مسموع حتى وصل إلى أول الحارة. مرَّ على دكّان السمان لم يدفع قسطاً من ديونه  كما تعوَّد، بل دفع المبلغ المرقوم، وطلب من السمّان إغلاق الدفتر معلناً: لا ديون بعد اليوم، تركه ودخل دكان الخباز، فاللحام، وأخيراً ذهب إلى صاحب البيت، كانت شعلة الفرح تزداد توهُّجاً في نفسه كلما أغلق أمامه دفتر جديد، وأخيراً دخل البيت. نادى فاطمة كما لم ينادها من قبل، بصوت عال يجلجل بالحبور، جاءته مستفسرة، أخرج الملف من جيبه، أفرغه من أوراقه على مهل أمام ناظريها، رمى بالأوراق إلى أعلى،  فتناثرت حولها مثل رفّ الحمام، راح يثرثر ويرقص ويغني، وفاطمة تقف بحياد تراقب ما يجري، مشدوهة، صامتة، أمسك يدها بقوة، احتضن  كتفيها، ضمَّها بقوة إلى صدره حتى تفرقعت عظامها: قـبَرنا الفقر يا فاطمة، رحل شبحه الأسود من زاوية بيتنا، صرنا أغنياء يا فاطمة. فجأة، وكما يقطع صوت انفجار مفاجئ ضجة السوق، قطع عليه صخبه وفرحته سؤال ألقت به فاطمة: من أين لك هذا يا سليم؟ أهو مال حلال؟ حلال؟ سليم لم يسأل نفسه؛ ولا خطر السؤال على باله، ولكن بما أن السؤال قد طرح، فلا بأس من بعض التفكير، حلال؟ طبعاً حلال، أليس هذا المال ثمناً لأتعابه؟ لولا وساطته، من أين لابنة ذلك الكهل بالعمل الذي يطعم خبزا؟ كيف يحصل ذلك الشاب الحليق على فرصة لمتابعة تجارته؟ حلال؟ طبعاً حلال، يفيد من جاهه، بل يفيد من ظلّ أصحاب الجاه ويستفيد، حلال؟ طبعاً حلال، لا تعودي لمثل هذا السؤال المحبط يا فاطمة، حلال، وما يعنيك في الأمر؟ ما دمت ستقفزين إلى سطح المجتمع ،لتقفي في صف الأغنياء. ابتلع سؤالها، لا يريد لانتصاره أي شرخ، أسرعي يا فاطمة، البسي خير ثيابك لنذهب إلى السوق ،فغرت المرأة فاها، وراحت تتأمله بدهشة من قمة رأسه إلى أخمص قدميه كأنها لم تفهم ما قال، كأنها لا تدرك معنى كلامه. -        أسرعي يا فاطمة، ألا تسمعين؟ سنتناول غداءنا في أفخم المطاعم، هيا قبل عودة الأولاد من مدارسهم. -        أفضل ثيابي؟ كأني أملك ثياباً لأجري مفاضلة بينها. أحس سليم )بجردل( من الإهانات واللعنات السائلة، تنسكب على رأسه، وتسيل على مهل لتغرق  كامل جسده وروحه، ما أصبرك يا فاطمة! كيف تحتملين كل هذا الحرمان؟  -        البسي ما تشائين، لا بأس يا فاطمة، تعالي نشتري ثياباً جديدة. -        منذ سنوات لم أغادر البيت، لا أملك من الثياب ما يصلح للخروج، اذهب أنت، اذهب وحدك. ذهب سليم إلى السوق، تجول في شوارع الصالحية والحمراء، أذهله ارتفاع الأسعار، منذ متى لم يشتر ثياباً جديدة لفاطمة؟ حاول التذكر، ما أنجدته ذاكرته بشيء، شعر بالمزيد من التقصير وتأنيب الضمير ،يا حرام! كم هي مظلومة هذه المرأة، يا حرام! ها هو ذا يقولها بنفسه، ولا يدري كم ردَّدها الجيران والأهل، يا حرام! منذ متى لم تخرج للنزهة؟ ولم تسافر لزيارة أهلها؟ سليم منقطع عن أهله منذ صباه الأول، لا يشعر أن له أهلاً ينتمي إليهم. أما فاطمة وأهل فاطمة؟ يا حرام! ما ذنب الخال الذي رعى طفولته، وكان له رداء ووقاء؛ ليحرم من رؤية ابنته؟ انتبه إلى نفسه، ها هو ذا يردد: يا حرام! يبدو أن هذه الـ )يا حرام( سربال سوء يتسربل به سليم منذ طفولته، لم يكتف به وحده، بل جرَّ فاطمة إلى ظله، ليكلأها به، بئس الرداء، وبئس الستر: يا حرام! قرر سليم: سنسافر إلى البلد في الصباح، لن نؤجل السفر مهما كانت الأسباب، المال وفير، اشترى ثياباً لنفسه، وللأولاد، واحتار في ثياب فاطمة، هل يشتري لها مثل ثوب ميسون، أم ثوب سوزان؟ ثوب عفاف، أم ثوب سلوى، كلهن جميلات أنيقات، لكن فاطمة أجملهن، لذلك ينبغي أن تكون أكثر أناقة منهن جميعاً، لكنه لا يعلم ما يعجبها من الثياب، وما لا يعجبها، أنهى حيرته بشراء أربع قطع من القماش الثمين، ولتفصلها فاطمة كما تشاء. فرح الأولاد بالهبات الغزيرة المفاجئة كما فرحت فاطمة، لكن فرحتها لم تدم على وجهها سوى لحظات، عادت بعدها لاستجوابه: أهو حلال يا سليم؟ ضاق ذرعاً بها، وبأسئلتها، لكنها محقة فيما تقول، الحرمان نَخر جسدها حتى العظام، بل نَخر العظم أيضاً، وإلا، فما سبب هذا الوجع في مفاصلها؟ من أين جاء؟ الأمر واضح، لقد تسلل إليها من قلة التغذية، ومن الرطوبة التي تقاسمها منزلاً لا تدخله شمس الشتاء، ولا نسمة الصيف، وهي سجينة تقبع فيه رهينةَ ثيابها المتهالكة العتيقة، لا تخرج أبداً، يا حرام! لم لا تحتجين يا فاطمة؟ لم لا تطالبين بحقوقك؟ ها هي ذي حقوقك ترتمي على قدميك دفعة واحدة، تشبعك حتى الترف، بلا مطالبة ولا سؤال، ألا تشكرين؟ لن تشكري، ألا تصمتين وترضين؟ لك الحق كل الحق يا فاطمة، من تسكن هذا الجحر المظلم، محرومة من نور الشمس لن تفرح بثوب جديد، أو وجبة دسمة، لا بد من تبديل المنزل، فكَّر سليم: هل يستأجر منزلاً آخر؟ في أي حيّ؟ تلمس جيبه، المحفظة متخمة بالأوراق النقدية، والخير آت  كالمطر، لا حاجة لاستئجار منزل آخر، ودفع مبلغ  كبير للمالك في أول كل شهر، أسعار البيوت الصحية مرتفعة جداً، الشراء أحسن، أكثر ضماناً، الأمر محتاج إلى رزم إضافية من النقود، ليس في الأمر مشكلة، لينتظر بعض الوقت. لقد وقع على سوق من أغنى الأسواق حركة وبركة، لا تحتاج التجارة فيه إلى جهد أو رأسمال ،بضاعتها الكلمة، وتمسيح الجوخ، لا يهم إذا كانت الكلمة صادقة أم كاذبة، كل الكلام يباع بالمال، وكل الأكاذيب قابلة للتصديق، الوساطة هي الوسيلة الوحيدة للحصول على أي شيء، فرصة عمل، توقيع معاملة، تزوير، شهادة دراسية، جواز سفر ،تأشيرة للدخول أو الخروج، رخصة قيادة سيارة، أو عربة طنبر، دقّ على صدرك، وانظر بعينين مزرورتين إلى الأوراق التي أمامك، ثم أعط وعداً مخلخلاً، رجراجاً: -        سوف نرى... قلها بحزم )سوف نرى( وسترى النقود تدس في درج مكتبك، في جيوبك، الهدايا تصلك إلى بيتك من كل صنف ولون، أشياء تحتاجها، وأخرى لا حاجة لك بها، وزعها، أهدها إلى ناس يحتاجونها ،اصدُق مرة، واكذب مرات، تكفي كلمة صادقة واحدة لتغطي عشرين كذبة. المظاهر أمر مهم جداً في هذا السوق، جمع سليم مبلغاً من المال، واشترى بيتاً واسعاً في أحدالأحياء الراقية، من هناك سيكون الكذب أجمل، ويكون البيت باتساعه وفخامة أثاثه أدعى لتصديق كل  كلمة يقولها، وكل وعد. فتح عينيه وأذنيه على أقصى اتساعها، شحذ كل قواه الفكرية والنفسية، وتهيأ للانقضاض على كل نأمة تخدم فكرته، المال، يجب الحصول عليه من كل الطرق، وبأقصى سرعة، كفاه فقراً ونظافة يد، ماذا جنى منها طوال تلك السنين؟   الغزو دخل المكتب صباحاً قبل موعده المعتاد، قبل الكرسي قبل أن يجلس عليه، مسح الطاولة بمنديل ناعم، رتب ما عليها من أدوات، ثم اتخذ مكانه بانتظار الرزق. فتح الباب، دخل رجل وسيم، يدفع أمامه كرشاً سميناً فخماً، ألقى تحية مقتضبة، وجلس بصمت. -        أهلاً بك، المدير لم يحضر بعد. -        سأنتظره. -        ماذا تشرب؟ -        هل سيطول انتظاري؟ -        ربما. طلب سليم القهوة، وراح يتفحص الرجل باهتمام، هذه الخواتم الذهبية، يؤازرها الكرش الكبير، تدل أن الرجل ممتلئ، من أين الطريق للدخول إلى شخصية كهذه؟ أين أبوابها؟ أين مفاتيحها؟ كيف يعرف إذا كان الرجل نظيف اليد أم لا؟ مطر من السماء، أم سيل تحت البساط؟ أيهما أجدى؟ المطر على رأس رجل كهذا لا ينفع، لديه ألف مظلة، السيل أضمن للسلامة، تسلل سليم من تحت بساط الزائر، وابتدأ بالمسكنة، اشتكى من ضآلة الرواتب، وقال: إن الحياة أصبحت مستحيلة، نظر الرجل إليه باستعلاء، وردَّ بكلام يخرج من أطراف أنفه: ليست مستحيلة إلا على الأغبياء، أما الشاطر فيعرف دائماً كيف )يدبر رأسه(. ها ... الرجل إذن من الذين )دبروا رؤوسهم( جيد، بل ممتاز، ولكن، هل دبر رأسه بمفرده؟ أم رأسه ورؤوس من خلفهم؟ المعنى: أهو زبون دسم؟ أم جبان لا يمد رجليه إلا على )قدّ بساطه(؟ -        أنا لا أشكو الفقر، أعرف كيف أدبر رأسي، أحوالي مستقرة دائماً، ولكن، لدي مشاريع تدرُّ أرباحاً هائلة، مع وقف التنفيذ، قال سليم: -        مع وقف التنفيذ؟ لماذا؟ أجابه الرجل: -        لأنها... لأنها  كثيرة، أولادي صغار، وليس لدي أحد أستطيع الاعتماد عليه, وأنا في حيرة من أين أبدأ. -        كلانا يشكو من العلة نفسها، أنا أيضاً أبحث عن يد أمينة أسلمها أموالي. ها ... الرجل دسم إذن، هذا هو الطلب، عزّ الطلب، هيا يا سليم، اضرب ضربتك. هنا دخل الآذن يعلم سليماً بحضور المدير، انصرف الرجل بعد مصافحة حارة لسليم، ووعد بعودة قريبة. ما عادت الدنيا تتسع لسليم وفرحته، قام يتمشى في غرفته جيئةً وذهاباً، يراجع كل كلمة وإشارة دارت بينهما، وتزداد دهشته لسرعة تواتر الأحداث، من أين له هذه النباهة؟ أهذا هو سليم؟ حتماً لا، الشخص الجديد لا يحمل من سليم إلا بقايا الشكل الخارجي، من أين تأتيه هذه الأفكار النارية؟ كيف تصيب أهدافها في البؤرة الحية بلا أخطاء؟ الرجل ذو الكرش يرغب في استثمار أموال سرقها من مكان ما، لا يجرؤ على الجهر بها، ألا يقولون: إن السارق من السارق كالوارث عن أبيه؟ سيقول لفاطمة لو سألته: بأن هذه الأموال حلال، حلال مصفى لا تشوبه شائبة. الزبائن، زبائن سليم أصبحوا أرفع شأناً وأعلى مستوى، يجب عليه إعادة النظر في وسائله، الكذب مع هؤلاء كالسير في حقل ألغام، الموت المفاجئ في كل خطوة، مدَّ شبكة ناعمة من خيوط المعرفة والزمالة، ومن تبادل المصالح والمعلومات ،ربطها بكل الدوائر والإدارات، جعل عقدها من المستخدمين وصغار الموظفين، وضع تسعيرة لكل خبر صادق يأتيه، وكل إشاعة، انهمرت عليه الأخبار، راح يتشدق بها في المجالس، يهمس بها قبل إعلانها بأيام، وربما شهور، يتبادل جلساؤه نظرات شك متسائلة: من هذا؟ ماذا يعمل؟ أهو مدعوم؟ من يدعمه؟ يحكي سليم، ويسترسل في الكلام، فكَّت عنه عقد الدونية والخجل، فانطلق غير مكترث بأحد، يحصد الأوراق النقدية حصداً. في الحارة انتشر الخبر، سليم وفَّى كل ديونه في يوم واحد، اشترى ثياباً لزوجته، وأولاده كأنهم في عيد، غرق الحي في دوامة من الأسئلة والأجوبة العبثية، وأخيراً جاء جواب هامس كمَّ الأفواه جميع اً: حصل سليم على منصب كبير، أصبح بموجبه مدعوماً، يحلُّ ويربط، أصبح شخصاً تطلب شفاعته في  كل ميدان، تزاحمت على بابه الأقدام، تزاحمت المطالب والهدايا، وفاطمة، تنظر شزراً إلى كل شيء، يدور على لسانها سؤال  واحد: أهذا حلال؟ تجلد به سليماً في كل لحظة فرح، تعريه أمام نفسه، وتعيده إلى وضاعته وهوانه. يثور في وجهها حيناً، يضربها أحياناً، تتلقى ثورته وضرباته بصبر حتى ملت السؤال، وأدركت أن لا أمل في إصلاحه، صارت تتحرك أمامه بصمت مطبق، شفتاها لا تنفرجان أبداً، تقدم له طعامه ليأكله وحيداً، تناوله ثيابه، وتحبس أولادها في غرفتهم؛ لتبعد عن مسامعهم ثوراته، يصرُّ أحياناً على دعوتهم لمؤاكلته، يطرقون بنظرة كسيرة، ويجيبون كأن بينهم اتفاقاً مسبق اً: لسنا جائعين، ما عادوا يستجيبون لمداعباته، ولا يشتكون له همومهم، صار بينهم كالغريب الدخيل. تقلَّصت لحظات الفرح في المنـزل، وهرب الشعور بالأمان، وأي أمان أمام شكوك فاطمة واتهاماتها؟ هراء، سليم ما عاد يبحث عن الأمان، بل صار يصنعه ويصدِّره للناس، يتوسط من أجل هذا، يسير بمعاملة مستعصية لذاك، يرافق مديره إلى سهراته الحمراء والخضراء، يجتذب الحضور بدعاباته ومرحه ،وحين تنتهي السهرة يعود كل منهم إلى منزله. أما سليم؟ البيت الذي تسكنه فاطمة تحول إلى سجن لا يطاق، جلادوه في أعلى درجات الجاهزية؛ ستة أزواج من العيون تنظر إليه نظرات إدانة، تستجوبه بصمت، ترميه بسهام التهمة والازدراء، تعري روحه، ينتفض مدافعاً عن نفسه، يأمر هذا وينهى ذاك، يفسد عليهم متابعة برامج التلفزيون، ينسحبون بلا احتجاج، آخذين معهم ستة أفواه ختم عليها بخاتم الصمت، يصرخ صرخة سيد البيت، ينادي فاطمة، يدعوها إلى فراشه انتقاماً، تأتيه جسداً بلا روح، كأنها تؤدي واجباً مقيتاً فرض عليها، تنهار أمام برودها قواه، فيطردها من غرفته، تنسحب ولا تلتفت، أي منزل هذا؟ يدعوها لمرافقته إلى سهراته، تتجاهل دعوته، يلحُّ عليها آمراً، تجيبه بعبارة واحدة تكررها في كل مرة بلا زيادة ولا نقصان: لم يعودني أبي على مثل هذه السهرات، وتنصرف لعملها. فنادق المدينة على اختلاف درجاتها ارتادها سليم، ليقضي فيها ليلة تلو ليلة، ما عاد يطيق البيت ،يعود إليه مدفوعاً بالحاجة إلى تبديل ثيابه، وتنسيق هندامه، في الفنادق لا يمكنه ذلك، خزانته في المنـزل تغصُّ بالألوان والأصناف، على طاولته تتزاحم أواني العطر على اختلاف مصادرها وأشكالها، أحذيته مرصوفة بإتقان في الدروج المخصصة لها، لكل بزة حذاء يناسبها، وربطة عنق تعلم كيف يختار ألوانها، ويجيد تنسيقها، تعلم كل ما يلزمه لحياة الترف، إلا مراضاة فاطمة. صبر كثيراً، حاول كثيراً، بلا فائدة، إلى متى؟ هذا شيء شائن لرجل )مهمّ ( مثله، لا بد من حلٍّ، همس في أذنه بعض المخلصين: تزوج من امرأة أخرى )موديرن( تكون لك مثل حقيبة اليد التي تتباهى بها ، تتأبط ذراعها، ترافقها إلى سهراتك واجتماعاتك، تكون لك واجهة مضيئة، جواز مرور إلى كل مصلحة هي لك، فكَّر سليم: وأية امرأة؟؟ لا بد من البحث، وعلى مهل يجب أن تكون صفاتها مناسبة لمكانته. ))المال والنسوان أجمل ما في الدنيا(( ها هو ذا المال يأتيه سيلاً طاغياً، أما النساء؟ كيف السبيل لاستمالتهن، وهو رجل )لبخة( لا يتقن من فنون الغزل حتى إلقاء تحية لطيفة، أو امتداح ثوب ورائحة عطر؟ زواجه من فاطمة تمَّ بشكل تقليدي، اقترح خاله فوافق، وتمَّ كل شيء بهدوء، لكنه الآن يكره فاطمة. تبّاً لها، ولعينيها الواسعتين في وجهها المستدير الهادئ، تباً لوداعتها التي تماثل وداعة بقرة حلوب، تجود ولا تنتظر مكافأة، من أين لها كل هذا الخنوع؟ ألا تشعر بإنسانيتها؟ ودَّ لو تتمرد عليه، لو تغضب أو تعاتب، لكنها راضية دائماً، باردة دائماً، هذه الحالة أقرب للموت منها إلى الحياة، شيء لا يحتمل، فليتمرد سليم، لم لا يتمرد؟ منذ طفولته ويفاعه تعامله فاطمة كما تعامل الأم ابنها المريض، كأنها بكل لمسة تقول: يا حرام! انتهى الآن زمن )يا حرام!( ما عاد سليم مريضاً، كبر الطفل يا فاطمة، آن له الخروج من عشّك البليد، سيطير بعيداً، بعيداً جداً إلى حيث لا تعلمين، ويتركك لوداعتك وبرودك. سيبحث عن النساء ،ليفجِّر كل ما قمعته من طاقاته، لديك أولاد خمسة، أفرغي عليهم سيل حنانك وبلادتك، دونك أولادك، أغرقيهم بكلمة )يا حرام( وملحقاتها... منال لا بد من البحث؟ وعلى مهل؟ جاءه صوت هامس: العروس موجودة، منال ألا تعرف منال؟ تساءل سليم؟ من لا يعرف منال؟ أخوها يشغل منصباً كبيراً في مدينة حلب، قل: في يديه مفاتيح حلب، أخوها الثاني ضابط كبير، عمها أكبر تجار البلد، اسمه على كل اللوحات الإعلانية في الشوارع ،عاد سليم يسأل: من هي؟ منال الكنز الذي ينتظرك، فتاة تجاوزت مرحلة الشباب بقليل، حظها ضئيل من الجمال، لكنها تملك منـزلاً مفروشاً في )باب مصلى( ورصيداً في البنك، متدربة على محادثة المسؤولين، سيدة صالونات من الطراز الأول... هنا توقف سليم عن الأسئلة، أمسك بتلابيب محدثه: هيا، لن أتركك قبل أن تخطبها لي. تأبط ذراعه ورافقه إلى بيته، حيث تسكن فاطمة، تلقته بنظرة متسائلة باردة من عينيها الواسعتين، وبقيت على صمتها، سليم ما عاد يهتم باتهاماتها، لبس خير ثيابه، تعطر بأثمن ما يملك من عطور، ثم عاد فأمسك بذراع دليله، هيا... مكالمة هاتفية قصيرة من أبي معاذ، دليله إلى العروس المنشودة، أخبرها فيها أنه قادم برفقة عريس، ثم تمَّ كل شيء بهدوء، تساءلت أمها، كما تساءلت أخواتها اللاتي سبقنها للزواج، أحطن بها، محاولات إدخال الوساوس إلى نفسها، أليس هذا العريس طامعاً بمالها؟ نهضت بكتفها، قلبت شفتها استنكار اً: -        فليطمع كما يحلو له، وسامته تشفع له، وهو صادق، قدم لهم نفسه بكل بساطة، ثم إن أبا معاذ محطُّ ثقة، لن يغشَّها. عبر الهاتف أخبرت أبا معاذ عن مخاوفها، والوساوس التي تثرثر بها أخواتها، طلب منها أبو معاذ أن تقرر بنفسها، بعد اجتماع قصير مع العريس، قال لها: إن القرار بيدها وحدها، لا دخل لأمها وأخواتها فيه، ترددت منال في قبول عرضه، صحيح أنها بلغت من العمر ما بلغت، لكن انتماءها إلى عائلة كبيرة ،ومكانتها الاجتماعية، حال دون ضلوعها في مغامرات كهذه، لم تخرج مع أي رجل منفردين حتى في مراهقتها، أتفعل ذلك الآن؟ طمأنها أبو معاذ: الأمر عادي، بل أقل من عادي، ألا تخرجين إلى السوق وحدك؟ حسناً، أعطني موعداً لخروجك، وأنا أتكفل بالباقي. نزلت إلى السوق خائفة، تتجاذبها الظنون، وتدخل بها كل مدخل، تخال كل من في السوق عالماً بما هي مُقدمة عليه، سيصل الخبر إلى البيت قبل وصولها، ستقوم ثورة في البيت، تنتهي بنبذها حقيرة ذليلة ،وحبسها في غرفتها لا تخرج منها أبدا؛ لأنها، - تعلم ما سيقولون - لم تحترم سنها ولا مكانتها، تصرفت بطيش المراهقين، ركضت وراء العريس. استدارت تريد العودة، وقفت لتقطع الشارع إلى الرصيف المقابل، لكنها لم تفعل، توقفت أمامها سيارة سياحية صغيرة، أنيقة، فتح الباب، ونزل منه أبو معاذ، أشار أن تفضلي. صمت حذر، مثقل بالترقب على جو السيارة، كسره أبو معاذ. -        والآن، أين تريد أن نشرب قهوتك يا سليم؟ -        الخيار ليس بيدي، اختاري يا آنسة المكان الذي يريحك. -        أنا؟ لا أدري.. لا أدري، لا خبرة لدي بأماكن شرب القهوة. -        أنت يا سليم صاحب الدعوة، الخيار بيدك. دار سليم بالسيارة حول التمثال الذي يرفع مشعل النصر في دوار الصالحية، سليم مثله الآن، يرفع مشعل نصره بيده، لن يفلته ولو قطعت ذراعه، لن يسمح لكل قوى الأرض بالوقوف في طريق انتصاراته ونجاحه، ليس هنا فحسب، بل في كل ميادين الحياة. أبو معاذ مرة أخرى، أزاح حاجز الصمت، حدثها عن سليم وأحلامه في زوجة المستقبل، عن معاناته مع زوجة فلاحة بلهاء، لا تتناسب مع روح العصر، ولا تعرف كيف ترتقي معه في سلم الحياة ، كلما حاول التقدم شدَّته إلى الوراء، امرأة متخلفة، خلقت والفقر صنوين، أنهى الثلاثة شرب القهوة، قال سليم: هيا يا آنسة يجب أن تعودي إلى البيت لا أرضى أن تتعرضي لكلمة لوم، أو نظرة متسائلة تجرح إحساسك الرقيق بسبـبـي، خطبتنا لم تأخذ بعد شكلها الرسمي، أنا حريص على شعورك. فتح حقيبة يده الصغيرة، جحظت عينا منال أمام منظر الأوراق النقدية، المرصوفة داخلها كأنها في بنك، سحب ورقة ذات الخمس مئة ليرة، وضعها على الطاولة، وانصرف لم ينتظر استرجاع باقي المبلغ من النادل. تساءلت في نفسها عن رجل يدفع خمس مئة ليرة ثمن ثلاثة فناجين من القهوة، ويحمل في حقيبة يده كل هذه الأموال: هل جاءها طامعا؟ ماذا تملك لإثارة مطامع مثل هذا الرجل؟ كل ما تملكه منـزل صغير، هل يحمل الزوج منـزل زوجته فيسرقه ويفرّ به؟ الأمر واضح، أمها وإخوتها لا يريدون لها الزواج، خوَّفوها من سليم كما يفعلون مع كل خاطب، سليم إنسان مظلوم، رجل ثائر، شهم، لم يرضخ لظلم زوجته الفلاحة المتخلفة، ترك لها بيته ومعاشه، إن كان طامعاً فهو لا شك طامع بعيشة تحافظ على  كرامته، منال لا تبغي أكثر من ذلك، رجل يثور لكرامته لا بد أن يدافع عن كرامتها، عن إنسانيتها المهدورة تحت حوافر الزمن والتقاليد، وأوامر العائلة العريقة، ها هي ذي أولى تباشيره تظهر الآن، يريدها أن تعود بسرعة إلى البيت حفاظاً على شعورها من نظرة متسائلة. ستخرج إذن، حان وقت خروجها من القوقعة الكلسية، من رقابة الأهل، إلى بيت زوج محب، أنيق ،يبحث عن دفء الأنوثة، وعذوبة الحديث، ستتخلص من حرائق القلب والجسد، وتعيش الأمان الذي افتقدته طوال حياتها، في ظلِّ رجل حريص على حمايتها، كانت سعادتها بإنهائه لتلك الجلسة أضعاف سعادتها بلقائه، الرجل يخشى عليها من نظرة متشككة وهي ما تزال في بيت أهلها، علاقتها به لم تأخذ الطابع الرسمي بعد، كيف به حين تصبح زوجته؟؟ سيقف - بلا شك - سوراً منيعاً ضد غطرسة أخيها وأوامر زوجته، سيحول بينها وبين العبودية لرضى الأم التي لا يرضيها إلا رضى أولادها الذكور، وهم لا يرضون إلا إذا كانت زوجاتهم راضيات، سيكون لها خير عون في مرضها - وما أكثر أمراضها - إذ تقع طريحة الفراش فيغلقون عليها باب غرفتها، ويستقبلون ضيوفهم في البهو الكبير، يتسامرون، يأكلون ،يشربون، تصل إلى مسمعها أصوات ضحكاتهم وصدى أحاديثهم غير واضحة، كما يصل إليها صوت المذياع والتلفزيون، ترى الأضواء )مشعشعة( حتى ساعة متأخرة من الليل، ولا أحد يفتح باب غرفتها أو يسأل عنها، اعتادوا مرضها  وغيابها عن مجالس أنسهم، تسمع صليل الملاعق وقعقعة الأطباق من نافذة غرفتها التي تشارك نافذة المطبخ في الإطلال على الشرفة، تشم رائحة الطعام حين يطبخ، وحين يسكب، الكل في غفلة عنها، يقدمون لها الأكل حيناً، وينسون أحياناً، كانوا، يعتذرون لها عن النسيان بكثرة المشاغل، في هذه الفترة حتى الاعتذار حذفوه من قائمة حقوقها، هل لعانس مريضة حقوق؟ أيام الشقاء انتهت، لن تسمح، كما لن يسمح زوجها لأي أحد بالانتقاص من حقوقها، ستأتيهم زائرة، في المناسبات فقط، ستباعد بين زياراتها، وتقلل مدة مكوثها عندهم، ستكون زوجة رجل مهم ،ستعتني بزوجها وبيتها، لن يعنيها بعد اليوم منصب أخيها الكبير، ولا النجوم المتراكمة على أكتاف الثاني، لا حاجة لها بأموال عمها، سليم ينفذ أعماله بنفسه، لن يدفع بها إلى الدوائر والمكاتب لتستغل أنوثتها في تسيير معاملاته كما يفعلون، ستكون امرأة كما تتمنى وتشتهي. سليم يحمل في حقيبة يده من النقود ما يكاد يشتري منزل أهلها، ما عليها إلا أن تملأ كل دقيقة من يومه وثانية بحنانها المكبوت، وأنوثتها الطاغية، حتى لا يستطيع الاستغناء عنها طرفة عين، سيحزن  كثيراً لو مرضت، ويفتقدها لو وقعت طريحة الفراش، فيسرع بإحضار أمهر الأطباء لعلاجها، راجياً أن تعود إليها عافيتها؛ لتعود إليه السعادة، لن تدعه يألف غيابها حتى لا يألف مرضها، سليم هو الدواء لكل داء، والمنقذ من كل مأزق ومطب. طرق سليم الباب، أذهلته المظاهر الاحتفالية التي استقبل بها، والمبالغة الشديدة في الضيافة والكرم ،شعر بالارتباك، بل الاختناق ،أتراه يستحق كل هذا؟ لو عرفوا حقيقته ما قدَّموا له نصف ما قدَّموا. أجلسوه في البهو الكبير، وجلسوا حوله، أمها، أخواتها، أزواجهن، أخوها نزار وزوجته، الكل صامتون ينتظرون كلامه، خفض رأسه، أحسَّ بالدم دفاقاً يكاد ينفر من صدغيه، ينشر إحساساً بالخدر في وجنتيه. أبو معاذ دائماً، هو حصان السبق، افتتح الحديث مخلصاً إياه من براثن الحصار الرهيب، تحدث أمامهم عن سليم كما تحدث قبل قليل أمام منال، واعداً أن يكون سليم أحد أفراد هذه الأسرة، ويُخضع  كل إمكانياته وأمواله لهم ولمصالحهم. تكلم بعدئذ سليم مصدقاً على أقوال صديقه، كان خلال حديثه يرفع حاجبيه، يعقدهما، يزور بعينيه، يلوي بطرف فمه لليسار، يدعم كلماته بإشارات من أصابعه، يقبض يده، يبسطها كمن ينثر بذاراً في أرض بور، كل ذلك في محاولات منه لتصديق ما يقول، لكن صوتاً حادّاً مؤلماً كان يصرخ في داخله: كاذب، أنت كاذب، فاطمة ليست كما تدَّعي، فاطمة لا تعرف الحقد أو الأنانية، فاطمة تملك من الحنان ما يغرق العالم، أنت، أنت الخائن، كرهتها، سئمتها، أزعجتك وقفتها الجادّة في وجهك، وحرصها على العيش الشريف. صمت سليم، تكلم إخوة منال وأمها، خرج شبح آخر من داخل نفسه، خنق الشبح الأول وألقاه أرضاً، داس بقدميه على صدره، ووقف يسأل هازئ اً: العيش الشريف؟ أي شرف هذا؟ هل تعني أن الشرف مرادف للجوع والفقر والحرمان؟ مرادف لداء المفاصل؟ أم إنه ترجمة عملية للغباء؟ لن يكون سليم بعد اليوم غبياً، لن يسمع كلمة )يا حرام!(. يا حرام، لو تعلمين يا منال مصيرك، لا، لن تعلمي، افرحي الآن وتمتعي، السعادة ومضة، والشقاء لن يهرب منك، لم الاستعجال؟ هيا، مارسي كل ما يمكنه إثارة الحبور في أغوار يأسك، هيا، افرحي وانتعشي، لتسمُ روحك بفعل الحب حتى تجتاز طبقات الغيوم، وتصل إلى زرقة السماء، تلمسها لمساً. تحدث سليم، وتحدث أبو معاذ، انتهى الكلام باتفاق جميع الأطراف على المهر والمصاغ والسكن في منزل منال، ثم حدد يوم الزفاف في الأسبوع القادم. بعد ذلك، انتحى سليم بعروسه في ركن هادئ، راح يحدثها همساً، سألته عن زوجته: أهي جميلة؟ فكَّر: )تقدم يا سليم، اسحب خيطها من داخلها، اجعلها تصنع شرنقتها بنفسها تسجن فيها، ولا تعود ترى أحداً سواك( أجل يا منال، كانت جميلة بيضاء كالرخام، باردة كالرخام، أنا لا أحب البيضاوات. -        هل تملك قواماً رشيقا؟ بعد خمس ولادات هل يبقى للمرأة قوام رشيق؟ اسمعي يا منال، الجميلات من النساء يصلحن للفرجة، حين يكون الرجل ماراً في الشارع، يرى امرأة جميلة ينظر إليها مسبحاً مولاه، لكنه لا يتجاوز الشارع حتى ينساها، أما السمراء التي تشتعل أنوثة وجاذبية، وتتدفق حناناً وحبّاً، مثلك أنت، هذه المرأة صعب على الرجل أن ينساها، أو يتناساها، هذا النوع يستوطن القلب والعقل معاً، هل فهمت دخيلتـي يا حبيبتـي السمراء؟ في الحقيقة، لم تفهم منال شيئاً مما يقصده سليم، لكن اللعبة انطلت عليها، صارت تنظر إلى المرآة بعيون جديدة، أعجبها شكلها، ذابت هياماً بالرجل الذي منحها هذه الثقة بنفسها، وراحت تنتظر اليوم الذي ستعوضه فيه عن كل ما فاته من العواطف، ستحرره من جمود زوجته وبرودها، ستثبت للجميع أن الجمال جواز مرور مزيف، لا يوصل إلى السعادة. عاد سليم إلى بيته، يستذكر طوال الطريق ما أسمعه لمنال، ويعجب لنفسه من أين تأتيه الكلمات: حبيبتـي السمراء، القوام الرشيق، الأنوثة المشتعلة، يتخيل عينيها تشعان فرحاً، وهي تنظر إلى شفتيه، تنتظر كل كلمة منه؛ كمن يقف أمام جهاز لتقطير ماء الزهر، يعدّها نقطة نقطة، ومنال، تنتظر كلماته؛ لتشربها بكل حواسّها كلمة كلمة، وهو، إذ رأى اشتعالها، وهيامها، راح يقطر كلماته، ينتقيها، يفرزها في دماغه، يصوغها بإتقان، ينقِّطها بتقتير واضح، مستدراً المزيد من احترامها وكلفها. أخرج رزمة المفاتيح من جيبه، فتح الباب على مهل، دخل مخمناً أن فاطمة نائمة منذ الغروب، لكنها في تلك الليلة لم تنم، كأنها أدركت بغريزة الزوجات ما حصل، كانت جالسة تنتظره، اتجه كعادته إلى الخزانة لتبديل ملابسه، فاجأته فاطمة، وقفت بينه وبين الخزانة، تفرست فيه طويلاً ثم سألت: -        أين كنت؟ -        كنت؟ هل يعنيك أمري؟ -        أين كنت يا سليم؟ -        لا شأن لك بي. -        أنا زوجتك، أم أولادك. تراجع الرجل القوي خطوة للوراء، وأفاق الطفل اليتيم من سكرات الموت، وقف سليم الرجل ،يحدق في الشامة الكبيرة المستقرة على عاتق فاطمة، تماماً بين العنق والكتف، تأملها كأنه يراها للمرة الأولى، شعر بشيء من القرف، ما أشبه هذه الشامة بالقرادة! انتفض الطفل مدافعاً، متذكراً حين كان يمرر أصابعه فوقها بنعومة حين يرتمي على صدر فاطمة، كم كانت تمنحه شعوراً بالأمان، تاق إليها، همَّ بالارتماء على صدرها كسابق عهده، أوشك أن يقترب، نظر إلى عينيها، ما تزال نظرتها الحادة تنتظر إجابة عن سؤالها، نهض الرجل، شدَّ الطفل من مؤخرة ثوبه، طرحه أرضاً، واستعد لمواجهة المرأة المطيعة بصفعة تعيدها إلى خنوعها، عاد الطفل الباكي ليقف فاصلاً بينهما، ليحمي المرأة - الأم من الظلم ،ليدرأ عنها عقوبة لا تستحقها، استحيا الرجل، أمسك يد الطفل واتجه إلى الخزانة صامتاً، لبس منامته، واندسَّ في فراشه، انتهت المعركة بين الرجل والطفل في نفس سليم بسلام؛ تعادل سلبـي بلا أهداف، نـزل الاثنان تحت اللحاف يتهيآن للمعارك القادمة، بينما انسحبت فاطمة يائسة، باتت في غرفة أطفالها مؤرقة حتى الصباح، يبدو أنها ستبقى أم أولاده، لكنها لن تكون بعد اليوم زوجته، عطره، لباسه ،الانفعالات التي تعكسها قسمات وجهه، كلها دلائل تشير إلى أن زوجة أخرى ستحتل مكانها، لكن من هي؟ ما أوصافها؟ بأي المغريات اصطادته، أم اصطادها؟ هل ترضى الأخرى بالمال الحرام؟ أم إنها تشجعه على مغامراته؟  تساؤلات أرقت فاطمة في الأيام التالية، فلتسهر فاطمة مع حمقها وبلادتها، ما عادت تشغل أي جزء من تفكير سليم، سحبها من حياته، بل طردها وطرد معها ذكريات الألم والقهر المرتبطة بها، طرد أولاده الذين يذكِّرونه بماضيه، يعيقون تحركه كما تعيق قشرة البيضة حركة الصوص المتكور داخلها، فقست البيضة، خرج الصوص للدنيا، وتربى في مدجنة المدير، حقنه مديره بأنواع من الهرمونات، اختزلت مدَّة نموه، وأحالته بأقصى سرعة، ديكاً شرساً، يقف على القمم، يصيح في الفجر ليوقظ الناس، وأيّ ناس؟ الناس المسخّرين لخدمته وتقديم كل ما يشتهي على أطباق من )الكريستال(، أين أنت يا فاطمة؟ هل رأيت أو سمعت ديكاً يحن للعودة إلى قشرة البيضة؟؟ لا حفلَ، ولا ضجَّة، حضر سليم مع أبي معاذ، حضرت أم منال وأخواتها وأزواجهن، المجموعة نفسها التي كانت يوم الخطبة، زاد عليها عدد من نساء الجيران، وجهت دعوة إلى أخيها في حلب، وإلى الآخر ذي النجوم، دعوة أخرى إلى عمها بطل اللوحات الإعلانية، اعتذر الجميع بسبب المشاغل ،لكنهم أرسلوا هداياهم الثمينة. تأبط سليم ذراع عروسه وخرج، ركبا مع أبي معاذ في سيارته متجهين إلى منـزل منال الذي سيكون بيت الزوجية، حين وصل، أوشك أن يعتقد بصحة كل ما قاله لمنال من الكلام المعسول، يشعر أنه بدأ يحبها فعلاً، وأنه سيكون أمامها شخصاً آخر، لا علاقة له بسليم، الطفل الذي يتململ بين يدي فاطمة، مات الطفل الآن، صار سليم رجلاً، رجلاً من خيرة الرجال، لا يقلّ أبداً عن خلطائه، سيحب منذ اليوم منال، من أجل الرجل الذي سيكونه، ليس من أجل أخيها أو عمها وما يملكون من أموال ونفوذ، سيحبها من أجل منال، وسليم. منال امرأة شقية، حُرمت الكثير الكثير من ملذّات الحياة، بل كادت تحرم الحياة نفسها، حين تتنبه إلى السنوات، تنسحب منها كما ينسحب طريق اسفلتي جيد التعبيد من تحت عجلات سيارة متينة ،يقودها شاب أرعن، ارتمت على أعتاب الحياة الزوجية لاهثة خائرة القوى، باستماتة مدنف يتمسك بالحياة، برجاء فتاة دميمة تتمسك بالحب أطبقت يديها على سليم، منحته كل ما يمكن لامرأة سريعة المنال أن تمنح، ألجمت لسانها لعلمها أن الرجال يكرهون الثرثارات، عاشت معه صامتة لا تحدثه بشيء، بل تنصت لكل ثرثراته, لا تطلب منه حاجة، تجلس قبالته، تراقب كل حركة من حركاته وكل سكون، مستعدة دائماً لتلبية مطالبه، زها سليم، انتفخ زهواً، بفحولته التي ظهرت أمامها كما لم تظهر من قبل، أصبح السيد هنا، الآمر الناهي، المتحكم بكل كبيرة وصغيرة، يفتح خزانة ملابسها، يأمرها بارتداء هذا الثوب وخلع ذاك ،يختار ألوان )ماكياجها( وتنفذ طائعة راضية، لم يسافرا من أجل شهر العسل، ما الحاجة إلى السفر ،العسل هنا في جرارها الملأى في هذا الاشتعال الذي لا ينطفئ، داخل منـزل مقفل لا يطرق بابه أحد ،يختال بين الحجرات كما يحلو له، يناديها فتركض ملبية، سعيدة بهذا الزواج المتأخر، سعيدة بانضوائها تحت لواء رجل وسيم ،سعيدة  بلقب )سيدة( بعد أن كانت كلمة آنسة تنـزل على مسمعها كالشتيمة. نسي سليم في حمأة العيش معها أسرته، نسي نفسه وعمله، استغرقته السعادة بها حتى أخذته من الحياة أو كادت تأخذ منه الحياة. وذات يوم... كان معها في غيبوبة الحلم حين طرق الباب، سمعت منال صوت الجرس كما سمع سليم، لكنهما تجاهلا، لا يريدان زيارة أحد، عاد الطارق يدق الباب بقوة، ثم بقوة أكبر وأكبر، يبدو أنه عنيد لا ينفع معه الـ )تطنيش(، أو أن أمراً مهمّاً حصل، لن يسمحا لأي شيء بتعكير صفوهما، عاد الطارق اللحوح يدق الباب حتى جمع الجيران، استفزَّ الصوت أعصاب سليم، فركض غاضباً، وفي نيته طرد الطارق كائناً من يكون، فتح الباب فإذا به أمام أبي معاذ، أبو معاذ.. كلام آخر هو صاحب المنة في هذه السعادة التي يحياها، لا بد من استضافته. دخلت منال المطبخ، تحضر القهوة بسرعة لتختصر الزيارة، وانفرد الرجلان.. بادر أبو معاذ: ما بك يا رجل؟ كأنك لم تتزوج قبل الآن؟ ألم تشبع بعد؟ ماذا فعلت بك منال؟ يا حرام.. يا حرام! سرقتك من نفسك وعملك، أهذا هدفك يا سليم؟ هذه غايتك من الحياة؟ يا حرام.. يا حرام! هكذا يا سليم؟ قال أبو معاذ: تزوجتها لتجد المأوى، فنذرت لها عمرك؟ هل يستحق ما تأخذه منها هذا الثمن؟ لو نفد صبر المدير على غيابك، واستغنى عنك في إدارته، هل ستنفق على زوجتك من مرتبك التقاعدي؟ احترق سليم بنار الخزي، شعر بنفسه عارياً تماماً أمام أبي معاذ، ما عاد يستطيع رفع بصره إلى وجه الرجل، ظل على إطراقته يستمع للتأنيب، جاءت منال تحمل القهوة، جلست بينهما بادية المرح، أرادت أن تشكر أبا معاذ على منته، لكن الغضب، والصمت الذي يرين على المجلس منعها من الاسترسال، شرب الرجلان القهوة كأنما يشربانها من مراسيم العزاء، وضع أبو معاذ فنجانه وهب واقفاً، بتحية مقتضبة ودع سليماً وزوجته ثم انصرف، ظلَّ سليم على جلسته غارقاً في الوجوم، ارتمت منال على كتفيه تغازله، شعر بالقرف، أبعدها عنه بحزم، عادت تكرر غزلها، صرخ غاضباً أن: اسكتـي، ضحكت بأعلى صوتها ،ثم عاودت الهجوم من جديد، انفجر في وجهها، دفع بها إلى خارج الغرفة، وأقفل الباب، وقفت بحذاء العتبة تدقُّ الباب بأظافرها، بلحن موسيقي كمن ينقر على دفٍّ، كبح سليم جماح غضبه، بدَّل ثياب البيت بسرعة متجاهلاً إغراءاتها، واستفزازها، وانسلَّ إلى الشارع. يا حرام يا سليم! هل عدت إلى الذل والقهر؟ هل كان حصاد الأيام الماضية برقاً خلبياً ما أومض حتى انطفأ؟ هل عاد الغباء ليخيم على كل أفعالك بظلامه؟ فاطمة بكل جمالها ورجاحة عقلها لم تستطع يوماً حبسك عن غايتك، كيف تمكنت منك هذه الدميمة؟ أين طموحك؟ أين ذكاؤك؟ ساقته قدماه إلى حديقة عامة، جلس على أحد مقاعدها الخشبية، احتضن رأسه براحتيه ودخل في حالة غريبة، لا هي بالنوم، ولا باليقظة، امَّحى الزمان والمكان من خياله، وتوقف عن التفكير، دارت عقارب الساعة، لا يعلم كم دارت، بعد حين، شعر بيد تربت على كتفه، رفع رأسه، كان الظلام يخيم على المكان، ونور المصابيح الشاحبة، المتناثرة بين الأشجار لا يكفي ليتبين سليم وجه الرجل الذي أيقظه، فرك عينيه، لكن الرجل لم يعطه مهلة للتفكير والاستكشاف. -        هيه .. أنت .. أليس لك بيت تنام فيه؟ -        بيت ..؟ -        ألا تعلم أن التشرد مخالفة يعاقب عليها القانون؟ -        التشرد ..؟ -        قم أيها المتشرد، الحدائق وجدت لغير هذه الغايات، اذهب إلى بيتك، أو تفضل معي إلى قسم الشرطة. -        الشرطة ..؟ متشرد يا سليم؟ تملك بيتين وزوجتين، تهرب إلى الحديقة لتسمع من الشرطي أنك متشرد؟ هل تذهب مع الشرطي أم تأوي إلى أحد البيتين؟ الفرصة أمامك، أيهما تختار؟ منال؟ تلك الصحراء الرملية التي لا ترتوي؟ أم فاطمة، ولِمَ المقارنة؟ أأنت الآن في حاجة للتفكير بالنساء؟ كل ما تحتاجه مكان تهرب فيه من ملاحقة الشرطي لتنفرد بنفسك، وتفكر بطريقة تكسر بها طوق العزلة الذي أدخلت رأسك فيه دون أن تدري. صفعته كلمة يا حرام إذ ألقى بها أبو معاذ، كما سبق أن صفعته إذ ألقاها المدير، خرج في المرة الثانية إلى الشارع ذاهلاً كما خرج في الأولى، فتح عينيه، تفحص المكان جيداً، لا يدري كيف ومتى وصل إلى هذه الحديقة، شبك كفَّيه خلف ظهره، ومشى على غير هدى. قادته قدماه إلى منزل فاطمة، فتش جيوبه بحثاً عن المفاتيح، ارتدَّت يداه خائبتين، هل يبيت ليلته على السلم؟ أم يطرق الباب؟ ليطرق الباب، ما أحوجه الآن إلى لمسة فاطمة، وحنان فاطمة! ما أحوجه لبسمة الصغار وضجَّتهم بعد سجنه الطويل مع منال! استجمع أطراف شجاعته وطرق الباب. كانت فاطمة مؤرقة، تجلس وحدها بين أطفالها النائمين، تشغل نفسها برتق بعض الثياب، حين سمعت طرق الباب وجَفت، أنصتت، عاد الطرق من جديد، خشيت أن يستيقظ أحد الأولاد فيريعه هذا الطارق المتأخر، مشت على أطراف أصابع قدميها، أشعلت مصباح السلم ونظرت من العين الساحرة، أدهشتها أن ترى زوجها بعد كل هذه الأيام، وفي هذه الساعة المتأخرة، فتحت الباب بسرعة، وأشارت عليه بالدخول، قادته إلى غرفته مشيرة عليه بالتزام الصمت خوفاً على هدوء الأولاد. - اشتقت إليكم يا فاطمة. - هل تزوجت؟ هزَّ رأسه بالإيجاب مطرقاً من الخجل. - كنت أظن ذلك، إياك أن يعلم الأولاد شيئاً من هذا الموضوع، لا أريد أن يفقدوا احترامهم لك. - أنت العقل كله يا فاطمة، أنت الحنان والفضيلة مجتمعة. - كفى كلاماً، ولكن قل لي: هل تبت عن أكل المال الحرام؟ - أجل. - هل عدت إلينا كما كنت؟ - سأحاول. - مرحباً بك، سأوقظ الأولاد ليفرحوا بعودتك.. - لا.. دعيهم نياماً، سيروننـي في الصباح، أنا محتاج لك أنت يا فاطمة. - هيا تكلم، سأسمعك، هل أنت مريض؟ تأملت ثيابه المعفَّرة، وهيئته المتعبة، توقفت طويلاً عند عينيه المحمرتين، وجسده الهزيل كأنما هدَّه زحار مزمن، قدَّرت أنها أخطأت الطلب، الرجل متعب مرهق، وهو في بيته يجب أن يرتاح، تركته واتجهت إلى خزانة الثياب، ناولته منامته، وذهبت إلى المطبخ تعدُّ عشاء خفيفاً، حين عادت وجدته مستلقياً على السرير، عازفاً عن تناول أي شيء، الإرهاق على وجهه لا يخفى، أحضرت غطاءً دافئاً، غطت به الجسد  كعادتها، وجلست على طرف السرير، تمسح رأسه بيدها كما كانت تفعل، لم يستطع مقاومة ضعفه واضطرابه، انهال على يدها تقبيلاً، واستسلم لنوبة حادة من البكاء. -        أتبكي يا سليم؟ لم يِجب، ما استطاع النطق؛ ظلت جالسة قربه تواسيه حتى هدأ. -        أين أسكنت زوجتك يا سليم؟ -        في بيتها. -        هل أعلمتها أنك هنا؟ -        لا، خرجت مغاضباً، لم أخبرها عن وجهتي. -        أهي قريبة من منزل أهلها؟ -        لا، لا عليك منها، دعينا من ذكرها. -        اذهب إليها الآن، أو طمئنها بالهاتف أنك بخير، لا تتركها نهباً للقلق والخوف. -        فاطمة، أنت تدافعين عنها؟ هل نسيت أنها ضرتك؟ -        هي امرأة ضعيفة وحيدة على كل حال، سيقلقها غياب زوجها. ها هي ذي فاطمة، تخاف عليه، تخاف على أولادها، تشفق على ضرتها، أي ملاك أنت يا فاطمة؟ ملاك؟ بل أية غبية حمقاء، لا تعرف درب مصالحها؟ برغم كل هواجسه ومخاوفه، برغم الثورة التي أشعلها أبو معاذ في أوصاله، استسلم للنوم، نام نوماً طويلاً عميقاً كأنه لم ينم منذ شهور، ما أحوجه للأمان، والابتعاد عن المشاريع التي أرقته وحرمت على عينيه النوم العميق! في الصباح، فتح عينيه بصعوبة، ما تزال آثار الإرهاق ظاهرة على وجهه، تلفَّت حوله بحثاً عن نفسه، محاولاً تذكُّر ما حصل بالأمس، تساءل: كيف وصل إلى بيت فاطمة؟ وأجاب نفسه: فاطمة هي الوطن الذي لا مناص من العودة إليه، هل يضيق الوطن بمواطنيه؟ قد يهاجرون، أو يغضبون فيشتمون ،يبتعدون لفترات تطول أو تقصر، وحين يعودون، يجدون الوطن فاتحاً صدره لاستقبالهم، كريماً يقدم لهم خيراته، ولا يعاتب على شيء، وفياً يحتفظ لهم بأجمل الذكريات وأدقّ تفاصيل لحظات الهناءة، فاطمة هي الوطن، هي الدفء حين يسود الكون الصقيع، هي الأم والأخت والزوجة، هي الأمان حين يضيع الأمان. حين غادر السرير، كانت الشمس في رأد الضحى، الأولاد في مدارسهم، خرجوا بهدوء بعد أن أخبرتهم فاطمة أن أباهم عاد متعباً، ومن حقِّه الراحة والنوم الطويل، ما أروعك يا فاطمة! الثياب مغسولة مكوية، طعام الإفطار جاهز، الحمّام جاهز، ما عليه الآن سوى الإسراع بالخروج للالتحاق بعمله، لاسترضاء المدير حرصاً على استمراره في منصبه. لم ينتظر عودة الأولاد من مدارسهم، استحمَّ على عجل، تناول بضع لقمات، وذهب مسرعاً واعداً فاطمة بالعودة في نهاية الدوام، نبهته إلى أنه أب، وأن من واجبه الحفاظ على صورة الأب - القدوة في عيون أولاده. الأولاد؟ الأب – القدوة؟ أي تفاهات تتمسك بها فاطمة؟ أهمُّ من الأبوة، ومن المثاليات كلها ما تصبو إليه آماله، نزل إلى الشارع، شهور مرت لم تطأ قدمه أرض هذا الشارع، هنا ولد أول أمجاده، هنا لمعت الشرارة الأولى لاشتعال طموحه ونشاطه، أحسَّ بالشوق إلى كل بلاطة من الرصيف وكل جدار ،ولكن ليس الآن وقت العواطف الأيام تسابقه حتى توشك تسبقه، أسرع يا سليم، يكفي ما ضاع منك. دخل الإدارة، اتجه رأساً إلى مكتب المدير، أحسَّ ببرودة محبطة، شعر نفسه غريباً وسط الوجوه المتسائلة، استقبله المدير بعتب، ثم لوم وسخرية حادَّة: ما هذا يا سليم؟ ما شاء الله، ما شاء الله، أين كنت؟ لا تفتح فمك، أعرف كل شيء، إذا كان طموحك ينتهي بين ذراعي زوجتك الجديدة فاشبع بها، دونك ذلك، اشبع بها، قِّدِّم لي استقالتك ،وسأقبلها؛ لأتركك تنعم بالزواج، كأنك لم تتزوج قبل الآن، صحتك ذابت في حمأة هذا الزواج اللعين، أم إنك واقع في معركة الضرائر؟ لم يجد في ثنايا أفكاره كلمة واحدة تصلح للاعتذار، أطرق برأسه وانسحب، جلس إلى مكتبه ،طالعته من تحت الزجاج صورة أزهار البنفسج، سحب ملفاً غطاها به، زهور البنفسج متواضعة حمقاء مثل فاطمة، لكنها طيبة ناعمة، كشف الملفّ عن صورة أولاده، جمع إرادته ودفعها بعاطفة الأبوة، وهمَّ بالخروج للاستفسار عن حالة أولاده. قطعت عليه مشروعه إحدى الموظفات بنقرات خفيفة على الباب، ثم دخلت بهدوء، نظرت إليه متفحصة هيكله باستهجان، من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، أخبرته أن شاباً يتردد على الإدارة ويسأل عنه بنقمة واضحة، أخرجت من جيبها ورقة مدعوكة، فردتها وقرأت: اسمه عفيف، مجند يطلب نقله. -        ماذا قلت له؟ -        طلبت منه الانتظار ريثما تعود. -        حسناً فعلت. خرجت الفتاة وأغلقت الباب خلفها، حاول سليم التذكر فما استطاع، أي عفيف هذا الذي سأل عنه؟ تقول: إنه مجند في الجيش يطلب التوسط من أجل نقله، ما أكثر طلاب الوساطة! ما إن استلم سليم هذا المنصب حتى فاق عددهم قدرة ذاكرته على التسجيل، اقتنى دفتراً صغيراً من التي تباع على )البسطات( لتسجيل أرقام )التلفونات(، وراح يسجل الأسماء فيه حسب تسلسلها بالأحرف الأبجدية، جاء وسأل؟ حسناً، ليأت مرات أخرى ويسأل حتى يسأم، فيقلع عن السؤال، أو تنتهي خدمته في الجيش ولا يعود محتاجاً للوساطة، أما ما دفعه من مال، فيحاول استرداده إن كان من الشطار. سليم في يومه الأول بعد إجازة الزواج الطويلة جداً، ترى من أخبر كل هذا العدد من الناس بقدومه؟ ما كاد يغرق في تفكيره حتى طرق بابه، ثم عاد فطرق مرات ومرات. أمضى سحابة يومه في قيام وقعود، لسانه ما نطق بغير أهلاً وسهلاً، تشرفنا، الله يبارك فيك، عقبى لأولادكم، مع السلامة، الحاج محمد كلت ساقاه من الذهاب والعودة، حاملاً على كفِّه صينية القهوة، داخلاً بالفناجين ملأى ،عائداً بها فارغة.. أخذه الزحام من نفسه، نسي في غمرة الاستقبال والوداع كلّ شيء، نسي منال، لكن الهدايا، وكلها مغلفات تحوي نقوداً، تراكمت على طاولته من ذوي الحاجات، حتى انقصم ظهر الحاج محمد من التعب، ما كادت الساعة تدق الثالثة بعد الظهر حتى أعلن بكل وقاحة أمام سليم وضيوف سليم بعزمه على الانصراف. حينها، نظر سليم إلى ساعة يده، انتقلت العدوى إلى الضيوف، نظر كل منهم إلى ساعته، وعلم الجميع أنهم أرهقوا الرجل بتمديد دوامه ساعة إضافية، وهو ما زال في حاجة إلى الراحة، اعتذر الزوار وغادروا المكتب، تاركين سليماً مع المغلفات الحبلى بالأوراق النقدية، وقائمة جديدة بأسماء ذوي الحاجات وحاجاتهم، نادى الآذن: يا حج محمد! جاء الرجل بخطوات حانقة، وقف بالباب ينتظر الأمر: لا تذهب يا حج محمد، لي معك كلمة صغيرة، سحب سليم ورقة من أحد المظاريف، ناوله إياها، تهللت أساريره ومضى شاكر اً، قدَّر سليم: الحاج محمد رجل مطاوع، خدوم، سأدخره لحاجات قادمة، سينفعني كثيراً في زحمة هذا العمل. جمع المغلفات، وضعها في جيوبه، فانكشفت صورة ابنه زياد من تحت الزجاج، ما زال الطفل يبتسم ببراءة، تذكر ما كان يفكر به، أقفل الدرج وخرج يسابق الريح.  قرع الباب وانتظر، مفاتيح هذا البيت لا يدري أين أضاعها بعد زواجه بمنال، قرع الباب مرة أخرى وانتظر، فتحت فاطمة الباب، نادت الأولاد فتجمعوا ليحيطوا به، كان فرحهم بعودته يشوبه الكثير من الحذر والخوف، عانقهم جميعاً، وزع القبلات بلا حساب، احتضن زياداً بحنان كبير، حمله بين ذراعيه وقذفه عالياً في الهواء، ثم تلقفه بحركة حلوة جعلت ضحكاته تتجاوز المنـزل خارجة من النوافذ، تراجع الخوف من العيون، فراح يسألهم عن حياتهم ودروسهم، لكن فاطمة بقيت بعيدة تنظر بارتياب. وزع عليهم الخرجيات، لم تكن نقوداً معدنية صغيرة كما تعودوا، بل أوراقاً كبيرة، أخذها الأولاد بفرح، مهللين مرحبين، تقدمت فاطمة، أبعدتهم عنه، أدخلتهم غرفتهم بحجة أن أباهم متعب من العمل، يجب أن يتركوه ليرتاح، صرامة وجهها لم تترك له مجالاً للاختيار، انساق أمامها إلى غرفته، لحقت به وأغلقت الباب، بسرعة أخرج المغلفات من جيبه، فتحها واحداً واحداً، جمع محتوياتها في رزمة كبيرة وضعها بين يدي فاطمة، لكنها لم تفرح كما فرح الأولاد، لم تلمسها بيدها، بل نقَّلت النظر بعينين مزرورتين بين الرزمة وعينـي سليم: من أين كل هذه النقود يا سليم؟ هي نقودي.. لك.. لكم.. -ليست نقودك يا سليم، إنها تعادل  رواتب سنة كاملة لموظف مثلك، من أين جئت بها؟ اللعنة، ما تزال فاطمة على غبائها، ما تزال تحافظ على قيمها البالية، التي ما ورثتها سوى الفقر والعوز، لم يجب عن أسئلتها، لم يرفع نظره إلى وجهها، لا بد من إقناعها أن ما يفعله صحيح، يناسب روح العصر والمرحلة، مثله مثل مئات الناس الرافلين في أثواب النعيم، سليم يشعر أنه ليس أقل منهم شأناً، وأن لأولاده الحق في عيشة رخية، متمتعين بكل ما يتمتع به أقرانهم في هذا الحي الراقي. -        هي نقودي، أكسبها بتعبـي وجهدي، بذكائي أقطفها من أشجار الغباء، التي تعطي مواسمَ متجددة كل يوم. -        أي غباء يا سليم؟ غباء من تعني؟ -        غباء الناس الذين يملكونها ولا يحسنون التصرف بها، يريدون قضاء حاجاتهم عند أصحاب النفوذ فيوسطونني. -        لا يحسنون التصرف وأنت تحسن؟ يريدون قضاء حاجاتهم وأنت تستغل حاجاتهم لتبتزهم؟ -        فاطمة… صرخ في وجهها، إن لم تقلعي عن ترديد هذه اللازمة سأشوه وجهك، أولادي يستحقون العيش الكريم. -        العيش الكريم يكون بمال كريم، ليس بأموال قذرة مسروقة. استفزه موقفها، وحِدَّة كلماتها، أثارت أعصابه ودفعته للجنون، انهال عليها ضرباً بيديه، طرحها أرضاً، وراح يكيلها ركلاً بحذائه، تلقت ضرباته بصبر الجبال، تراجع نادماً، أحسَّ بالخزي يأكله أكلاً، فتح الباب وهمَّ بالخروج، استوقفته. سليم! خذ أموالك معك، لا حاجة لنا بها. جمع نقوده حانقاً، أودعها جيبه، صفق الباب خلفه بشدة، ونزل إلى الشارع، يقولون في الأمثال: صعب أن تمد يدك فلا يضع لك أحد فيها شيئاً، لكن الأصعب أن تمدها ملأى فلا يأخذ منك أحد شيئاً، راح يتسكع في الشوارع تائهاً ضائعاً، مشرداً، إلى أين يذهب؟ من يكلم؟ لمن يستمع لا أحد، هل يعود لمنال؟ اللعنة على منال، وعلى أبي معاذ أيضا. دخل أحد المقاهي، أخذ طاولة بعيدة، جلس إليها يكلم نفسه، المقهى يغصُّ برواده، الصخب سيد المكان، سليم لا يرى أبعد من دخان سيكارته، بعد خروجه من هنا إلى أين يذهب؟ طردته فاطمة من جنتها، ومنال تنتظره مشرعة أبواب جحيمها، المدير يشهر سبابته: إذا كان طموحك ينتهي بين يدي زوجتك الجديدة قدِّم استقالتك، سأقبلها على الفور، طموحه؟ إن لسليم طموحاً لا تحده حدود، يسير بقوة الصواريخ البالستية الذاتية الدفع، لماذا توقف؟ هي استراحة، ولكن هل يجب أن تطول؟ لا.. حتماً لا، الحركة يا سليم الحركة، ما بقي من العمر مقدار تضيعه في الانتظار والتفكير، هيا، قم وامض في طلب الرزق. الرزق؟ ها هي ذي رزم الرزق في جيبه ،مكدسة لم تقبلها فاطمة، ماذا يفعل بها؟ هل يأخذها لمنال؟ لا، منال لها شأن آخر، الحل الوحيد هو إيداعها أحد البنوك، الوقت مساء، المصارف أغلقت أبوابها، ليس الآن إذن، في الغد، حسناً لينتظر إلى الغد، أما اليوم.. ترك المقهى واتجه إلى الفندق، حجز غرفة لنفسه ووقف م تردداً، رجل يملك في هذه المدينة منـزلين وزوجتين ينام في الفندق؟ عجباً.  الزمن يجري، يركض، لا وقت للتفكير، اركض يا سليم، سابق الزمن، لا تتوقف أمام هذه الأمور التافهة، النساء دائماً هكذا، ناقصات عقل، ضيقات أفق، دع فاطمة ومثالياتها، اترك منال لاشتعالاتها،  وامض في سبيل مجدك، مجدك الذي وضعت منذ شهور لبناته الأولى، هل تتوقف عن إتمام بنيانه؟ معدة سليم تتشنج، عصاراتها تصرخ مطالبة بالطعام، نزل إلى المطعم، تناول وجبة سريعة خفيفة ،وعاد إلى السرير، ترك أفكاره جانباً واستسلم للنوم، يجب أن يرتاح تأهباً للمهمات الصعبة، لائحة طويلة بالمطالب التي قدمها أصحاب المظاريف ذات النقود، تقبع في جيبه منتظرة الحلول، الحلول هناك، في مجلس المدير، بين أصدقائه وسماره، حصة المدير محسومة منذ البداية، والباقي لسليم، الصدق يا سليم ،الصدق، بعد طول غيابك لا ينجيك إلا الصدق، لو استطعت إنجاز معاملاتهم الآن لكسبت ثقتهم ،سيكلفونك بعدها بالمزيد من طلباتهم، مشفوعة بالمزيد من المال، المال يا سليم. حين صحا من نومه كانت المدينة تغرق في أجواء الليل الصاخبة، المحلات التجارية تتراقص فيها الأضواء الملونة، مرابع السهر تفتح أبوابها بإغراء لا يقاوم، سليم يعرف أين يجد مديره، مديره الذي لا يستغني عنه إلا في العمل، لذلك غذَّ السير إليه، وانَخرط في سهرته، مجالس الأنس دائماً ظمأى لنكاته، الندماء في حاجة لمن يضحكهم، إن لم يجد ما يرويه لهم جعل من نفسه أضحوكة، مادة للتهريج، لا بأس، ليضحكوا ما شاؤوا، ما دام سيجنـي ثمن إضحاكهم مالا يعلمون مقداره من الأموال. في ذلك المساء، جلست فاطمة مع أولادها، رأتهم يسترقون النظر إلى وجهها المتورم المنقوش بالكدمات، ما زالت عبثاً تحاول إبعادهم عن الخوض في الحديث عما جرى، الرعب الساكن في العيون أطلَّ برأسه العنيد، مستفسراً متسائلاً، لا بدّ  من الإيضاح: -        ألن يعود أبي إلينا؟ - أحقاً يا أمي لن يعود؟ لماذا اختصمت معه؟ - هل سافر مرة أخرى؟ لِمَ لم يودعنا؟ تركتهم فاطمة يضطربون في بحر الأسئلة والتكهنات، وذهبت لإحضار العشاء، فكرت طويلاً فيما يمكن قوله لهؤلاء الأبرياء، هل تكذب؟ كذبتها لن تطول، سيكبر الأولاد ويكتشفون الحقيقة بأنفسهم ،ربما يكتشفونها قبل ذلك، ينقلها لهم أحد ضحايا سليم بشكل يؤذي أرواحهم الطاهرة، فيجرهم إلى هاوية الرذيلة، أو، في أحسن الأحوال يزجُّ بهم في ظلمات العقد النفسية، والأمراض الاجتماعية التي لم تجد لها علاجاً، الوقاية خير من العلاج، يجب أن تبدأ منذ الآن. حين انتهت من إعداد وجبة العشاء، كان جوابها جاهزاً، خرجت إليهم بطبق الألومنيوم الكبير، وقد رصَّت عليه ما استطاعت من الصحون، رأت الوجوم يسيطر على الوجوه مانعاً الأولاد من اللعب أو الكلام، هذا الجو الخانق انتقل بالعدوى إلى الصغير زياد، راح يبكي بقهر، متألماً من لا شيء، وضعت الطعام وابتدأت بتناول أولى اللقيمات وحدها، بينما ظلَّ الأولاد في أماكنهم لا تبدو عليهم الرغبة في الزاد: -        تعالوا يا أولاد، هيا إلى الطعام. -        لماذا أغضبت بابا؟ -        سأحكي لكم بعد العشاء، هيا، بسم الله الرحمن الرحيم. تناول الجميع عشاءهم بصمت، حاولت فاطمة اختراقه مرات لكنها فشلت، في النهاية أخبرتهم أن أباهم ركبه الشيطان، يأمره بجمع المال الحرام، وأنها لا ترضى أن تأكل معهم من المال الحرام حتى لا يحرقهم الله بالنار يوم القيامة. -        هل تقصدين الخرجيات التي أعطانا إياها؟ -        نعم، هي مال حرام. -        ما العمل الآن؟ -        سنصلي جميعاً، وندعو الله أن يخلصه من الشيطان، ليعود إلينا نظيفاً مثلما كان. جمع الأولاد النقود وأعطوها لأمهم، ثم استغرقوا في صلواتهم حتى أخذهم النوم إلى عالم الأحلام الجميل. توالت الأيام رتيبة متشابهة مثل قوالب )البلوك(، يصحو سليم صباحاً، يتناول فطوره في المطعم، ثم يذهب إلى عمله، يستقبل، يودع، يجامل، يبتسم، يقبض النقود، ثم يذهب إلى المصرف لإيداعها، يعود لفندقه، يرتاح قليلاً ثم يخرج مسرعاً، يسهر مع شلة  المدير، يسامرهم، يضاحكهم، يتعشى معهم، يقضي مصالح هذا وذاك، يقبض عمولتها، يأخذ حصته ويعطي الباقي للمدير، ويعود لفندقه، حين يشعر بالحاجة إلى استبدال ملابسه يذهب إلى فاطمة، يترك لها ثيابه المتسخة ليعود بثياب نظيفة أنيقة، يغضُّ الطرف عن نظراتها الصامتة، عن صمتها الصارخ، عن اتهاماتها التي لا يجد حيالها ما يدافع به عن نفسه، ويخرج حانقاً، ثم ما يلبث أن ينخرط في أجوائه لينسى كل شيء. تلاحق رنين الهاتف يطارد أبا معاذ، في بيته، في عمله، في مقهاه: أين سليم؟ خدعتنا يا أبا معاذ ،أهذا هو صديقك المخلص؟ يترك ابنتنا بعد شهور من زواجه بها ويهرب؟ أي خلاف جرى بينهما؟ أي عذر ينتحله صاحبك؟ لعن أبو معاذ سليماً وزوجة سليم، راح يبحث عنه في كل مظنة حتى وجده، أمسك بتلابيبه معنفاً مؤنباً، يسأله بكل مقدس أن يراعي حرمة الصداقة التي تربطهما، يناشده الحفاظ على مكانته عند منال وأهل منال. سليم بات يشعر في قرارة نفسه أن منال هي أكبر ذنب ارتكبه في حياته، هي المرأة التي جعلته يتخلى عن طموحه، وعن بناء مستقبله كما تخلى عن أولاده وماضيه، منال حوَّلته إلى فحل، مجرد فحل، وأغلقت الباب دون باقي فعالياته، الآن تحرر منها، أيعود إليها؟ هل يعود عبد إلى الرقّ بعد العتق؟ ما شأنه بأبي معاذ؟ لينطح الجدار أبو معاذ، وليتحمل جريرة هذا الزواج وحده، لن يعود لمنال، سيهرب منها. المال والنسوان ))المال والنسوان أمتع ما في  الدنيا((لِمَ لا تأكل؟ ألم يعجبك طعامنا؟ -        بلى، ولكن هل سآكل وحدي؟ -        من تريد أن يأكل معك؟ -        أبي وبقية الأسرة. - أبوك في فراشه لا يستطيع النهوض، أنا وإخوتك سنأكل فيما بعد، تفضل كُل، لا بد أنك جائع الآن. - جائع؟ الآن؟ قالها في سره، الآن تخافين عليَّ من الجوع؟ ألم أكن جائعاً ما عشت معك؟ نظر إلى الأطباق، اختار أكبرها وأغناها باللحم، حمله مع ملعقة ودخل به غرفة العجوز، جلس أمامه يطعمه بيده، لقمة لقمة كما الأطفال، لحدسه أنه لن يحظى من هذه الوليمة بنصيب، والأب يكاد يغمى عليه من هول الفرح، راحت دعواته لسليم بالتوفيق تتسرب من فمه الممتلئ، تتدحرج على الأ رض أمام سليم، يحطمها الخجل، خَجَل العجوز من تقصيره السابق، فلا تجد طريقاً يوصلها إلى السماء. اجتاحت القرية عاصفة من الأسئلة، تناثر غبارها في كل درب وساحة وحاكورة: ماذا يعمل سليم؟ لِمَ جاء؟ هل يملك هذه السيارة؟ هل صار من المترفين؟ سنستفيد من عودته؟ الوضيع.. جاء ليتباهى علينا؟ يبدو أنه شبع الخبز، صار من أهل النعمة، انظروا ما أطيب قلبه! غادر القرية مطروداً، وعاد محملاً بالهدايا، جاء يطلب رضا أبيه ليزيد في رزقه… أما عساف، فقد وقع الخبر عليه وقعاً آخر، يختلف عن وقعه على الجميع، احتبس نفسه في غرفته، وراح يضرب أخماساً بأسداس، لا بد من الولوج إلى دخيلة نفسه للتعرف على دوافعه، هل جاء لينتقم؟ ممن؟ على من سيغدق خيراته؟ وعلى من سيصب نقمته؟ دارت دوامة الأسئلة حول بيت العجوز، عصفت به، تسلقت الأبواب والنوافذ، لكن أحداً من أهل القرية لم يطرق الباب للسؤال عن سليم، أو السلام عليه، ظلَّ يدور بين جدران الدار كاظماً غيظه: حسناً أيتها القرية المشؤومة، سأعرف كيف أجعلك تركعين صاغرة تحت قدميَّ هاتين. مطر من السماء أم سيل من تحت البساط؟ لن يسيل تحت بساط هذه القرية، سينهمر عليهم من السماء، القرية لا تريد؟ حسناً، لا بأس من زخات متفرقة هنا وهناك. ترك عطاياه، ترك السماط ممدوداً حيث تحلقت حوله نظمية وأولادها وزوجاتهم وأولادهم، خرج ليجوب طرقات القرية، مفكراً  باحثاً من أين سيبدأ؟ أين يهطل بأولى زخاته؟ هل يهب للمسجد فرشاً جديداً من السجاد ليكرسه الناس بين الأتقياء، ثم يفعل ما يفعله أصحاب السمعة بعد ذلك؟ أم يوزع هباته على الناس؟ هل.. هل.. هل.. كل هذه الأساليب مكلفة، وقد لا تجدي نفعاً، سكان قريته يعرفهم منذ زمن بعيد، ويعرف كيف يعبرون عن مشاعرهم, يوم احتجوا وغضبوا من إقامة مشروع حفر البئر الارتوازي في الحي الغربي، حُفرت البئر، مُدَّت الأنابيب إلى كل الأحياء والبيوت، وما يزال الناس يشربون ماء البئر الغربي، لكنهم، حين يمرون به، يشيحون بوجوههم حتى لا ترى أعينهم الحيّ الغربيّ يحتضن البئر، سيشربون مطره، ويغضون أنظارهم عن مصدر تلك الأمطار، لا بد من هجوم كاسح، يكون له على القرية وقع العاصفة، يترك فيهم أثراً كالوباء، يرسخ في ذاكرة القرية، ويكون لسكانها تأريخاً تبدأ به الأحداث وتنتهي عنده. قادته خطواته الحائرة إلى حارة أم سلطان، تأمل البيوت والأولاد الذين يلعبون في الأزقة، ما كان له في طفولته ملعباً كملاعبهم، أيامه في القرية بدقائقها وثوانيها كانت مكرسة للقهر والعذاب، يبدأ عمله منذ الفجر، قم يا سليم، لا سلم الله فيك عظماً ساعد أختك في حلب النعاج، ثم أوصلها إلى المرعى قبل أن يسرح أبو غنام بقطيعه، يقوم متكاسلاً، يفرك عينيه المحترقتين من شدَّة النعاس، يساعد أخته، ثم يجري بالغنمات. مشى بين الأزقة مستسلماً لتداعيات الماضي حتى كاد ينسى المهمة التي جاء من أجلها. توقف في حارة العتر، هنا، كانت امرأة شابة تجلس في دكان، تبيع السكاكر والألعاب والكبريت واللبن، كان اسمها تفاحة، كان سليم يأخذ بعض القروش من أخته بديعة ليشتري بها قطعة جبن من عند تفاحة، يأكلها مع رغيفه في الطريق إلى المرعى، فكَّر: أما تزال تفاحة تجلس في هذه الدكان؟ تقدم خطوات، الدكان مفتوحة، دخل الدكان لشراء علبة تبغ، فوجدها، وجد تفاحة كما كانت، لم يتغير فيها شيء، إلا أنها سمنت وثقلت حركتها، وتركت السنون على وجهها بعض الأخاديد. -        أهلاً بالأستاذ. قالت تفاحة، تفرست بوجهه قليلاً، كأني أعرفك. - أنا سليم. - سليم؟ كم كبرت وتغيرت يا سليم، كدت لا أعرفك، تعال اجلس وحدثنـي. تنهد سليم بارتياح، ها هو ذا يتلقى أول اعتراف بإنسانيته هنا، تفاحة – دون سائر الناس – تدعوه للحديث، تفاحة، لا بد أن لديها مفاتيح كل شيء، بعد كل السنين التي سلختها في الدكان، لا بد أنها تعلم ما يُخفى في القرية وما يعلن، تفاحة، أجل سيهطل بأولى زخّاته في دكان تفاحة. -        حدثني يا سليم. -        عم أحدثك يا تفاحة؟ -        عن كل شيء، أين أنت؟ ماذا تعمل؟ لماذا عدت بعد طول الغياب؟ -        مهلاً يا تفاحة، سأحدثك، لن أخفي عنك شيئاً. تحدث سليم، حاك عشرات الأخبار، ألقى في تلك الدكان كل ما تمخض عنه خياله المجنون، صور لها نفسه بصورة لا يرقى إليها ملك من الملوك، وقدم لها إمكانياته بكل تواضع، فكَّرت المرأة: هل تصدقه؟ لا بأس ستجرب، ابنها ضرار أنهى خدمة العلم، وهو لا يحب العمل، لذلك يقضي وقته بالتسكع، هل يمكن إيجاد عمل له وهو لا يحمل شهادة؟ -        ماذا تريدين له من الأعمال؟ في أي دائرة؟ -        ابنـي لا يحمل شهادات. -        هل يريد ابنك عملاً في محلج القطن مثلا؟ أم في مصنع الزيوت؟ أو معمل الغزل والنسيج؟ -        لا.. لا، ابنـي كسول بطبعه، لن يصبر على العمل المضنـي. دخل الدكان رجل يريد شراء بعض الحاجات، تبعه رجل آخر وآخر، اشترك الجميع في حديث هزلي مع المرأة تلقته وردَّت عليه بطريقة أراحت سليماً، وأكدت ظنونه، عرفتهم تفاحة بسليم، أنهوا هرجهم وغادروا، سألها سليم: هل يريد ابنك أن يعمل في... وضع  يده على فمه، قال كلمته هامساً، دعمها بإشارة إلى جانب خصره، ابتسمت بسرور ابتسامة عريضة كشفت عن أضراسها الذهبية على جانبـي فمها، لا بأس، قال سليم: ليجهز أوراقه ،ولينتظر عودتي من دمشق. غادر الدكان فرحاً، بل يكاد يطير من الفرح، راح يردد مهنئاً نفسه: )برافو( يا سليم )برافو(، الحظ يمشي أمامك مثل حمل وديع، بل مثل كلب وفيّ, ها هي ذي تفاحة تستمطر أولى زخاتك، دائماً أنت ذكي رائع يا سليم، تهبط عليك الفكرة المحرقة كالوحي، في الوقت المناسب تماماً، بل في الوقت المستقطع. سليم يحتاج إلى ركائز في هذه القرية، يحتاج إلى رجال يرافقونه في كل درب، يجرح بأيديهم ويداوي بيده، يضرب بأيديهم ويربت على الظهور والأكتاف بيده، أولاد تفاحة سيكونون خير قاعدة، إخوته لا يصلحون لذلك، قرر منذ البدء أن يتجاهل وجودهم، وجودهم كان الكارثة الكبرى في حياته، لولاهم ،لولا أمهم، ما كان لكلمة )يا حرام( أن تطلع له في كل الدروب، ما كانت لتتنـزل عليه مثل ظلمة الليل، تحجب عنه الحياة ومتع الحياة. ابدأ يا سليم بالصدق والطيبة أولاً، ثم احشر بين كل وعدين مئة كذبة، طبق قانونك هنا بشكل عملي، هنا في هذه القرية الرابضة تحت أطباق الكرى، ما زال أهلها يدورون حول أهدافهم، يناطحون *** الجدران حتى تكلَّ قرونهم، ولا يتعبون فكرهم بالبحث عن أبواب، بيدك مفاتيح كل أبوابهم يا سليم ،افتحها، أدخل بعضهم واترك الباقي يتناطحون خارجاً، أو ليناطحوا ما يناطحون، بحثاً عن رضاك. عاد إلى منـزل أبيه، جلس إلى جانب فراش العجوز، يحدثه ويستمع لأحاديثه، كان في الماضي يشعر أن بينه وبين أبيه حاجزاً صلداً، تعجز أقوى الأصوات عن اختراقه، العجوز يمنحه الرضا، يبسط كفيه ويدعو له بالتوفيق، يسامحه على سنوات القطيعة، كأن سليماً هو من تسبب بها، السماح؟؟ ما أمرّ السماح! لكنه سيسامح، ليخلق بينه وبين هذه القرية نوعاً من السلام، لا سلام المحبين، بل سلام المنتقم، القادم من ظلمات القهر ليسفّهم الملّ تلك التلة في شرق القرية، من يملكها؟ -        أية تلة؟ -        رأس الشردوب. -        رأس الشردوب؟ رأس الشردوب تلّ صخري، لا شجر فيه ولا زرع، لِمَ تسأل؟ الشردوب يا بنـي أرض مشاع، لا أظنها ملكاً لأحد، جدّك، أبي، لا يذكر أنها زرعت يوماً أو سُكنت. -        أريد أن أبنـي فوقها قصراً، اذهب يا ضرار في الصباح إلى دائرة المالية، واسأل عن مالكها، ثم تعال إليَّ بالخبر اليقين. ستجد عندهم هناك سجلات فيها خبر كل شبر من هذه المنطقة، اطلب بياناً بالعقار، و... قطع سليم كلامه، مدَّ يده إلى الجيب الخلفي لبنطاله، سحب رزمة من الأوراق النقدية، أكبر حجماً من قبضة يده، فردها أمام الجميع، سحب منها ورقتين من ذوات الطرابيش، ناولها لضرار، وأعاد الباقي إلى جيبه بهدوء. اسمع يا ضرار، ربما يطلبون منك نقوداً، وقبل أن يطلبوا، أعط وعداً لمن سيستخرج لك البيان أنك سترضيه، ادفع لهم ما يطلبون، المهم أن تأتينـي بالبيان غداً. انقطعت الأنفاس أمام هذا المشهد، جحظت العيون حتى كادت تخرج من محاجرها، تلعثمت الأفواه، نضب فيها الريق، أخذ ضرار المبلغ غير مصدق، تأملها، قلبها بين أصابعه، ثم دسَّها في جيب سترته، وأحكم إغلاقه، ألف ليرة؟ مبلغ يعادل مرتب شهرين لموظف عادي، ألف ليرة؟ مبلغ كبير، كبير جداً على شاب عاطل عن العمل مثله، ما يزال في حوزة سليم الكثير الكثير من هذه الأوراق، سليم إذن صادق في كل ما قال. انفضَّت السهرة، لا يعلم أحد كيف انفضَّت، لكن، كان هناك قاسم مشترك بين الجميع: من أين لسليم كل هذا المال؟ كيف سينفقه؟ ماذا نعمل لنكون الأوفر حظاً بين الذين سيستفيدون منه؟ أوى الجميع إلى مخادعهم، وظلت هذه الأسئلة تؤرقهم حتى… حتى متى؟ نظمية قررت أن تتودد إليه، وتظهر له من الحب مالا تظهره لأولادها، لتكفِّر عن ماضيها، وعن عشرات الحكايا الملفَّقة التي بات سليم نتيجتها سجين الظلمة والجوع، في بيت المؤونة، ستحبه وتحبه حتى يصدق حبها، وينسى أحقاده، سليم طيب لا يحمل أي حقد، لو كان حاقداً لما لبّى نداءها وعاد، لو كان حاقداً لما جاءها بكل هذه الهدايا، سليم مسامح كريم، من العار مقابلة سماحة نفسه بغير المحبة والعرفان. أما تفاحة، فكان قرارها يقضي بالالتصاق بسليم، وتقديم كافة الخدمات له، لاستمالته عن منـزل أبيه، عن طريق تذكيره بالماضي المهين، هل يعقل أن ينسى سليم أيام الشقاء؟ أما ضرار، فلقد نام لابساً سترته، لتبقى النقود على صدره، فكَّر وأطال التفكير، أمه تريد له وظيفة، ولِمَ الوظيفة؟ لن تأتيه الوظيفة بهذا المبلغ في ثلاثين يوماً، لا، لا يريد وظيفة، سيعتذر في الغد عن طلب الوظيفة، ويطلب من سليم أن يرافقه، أن يكون تابعاً له، يقوم على خدمته بالمجان ليتعلم منه، بينما راح العجوز يبتسم من فراشه الرث، مبتهجاً مهنئاً نفسه بتحقيق أكبر حلم من أحلامه، هذه النقود الكثيرة أين سينفقها سليم؟ على من؟ هل سيجد في الدنيا أحقّ بها من أبيه؟ سيجلب إلى بيت أبيه الكثير الكثير من الطعام، سيأتي إخوته مع أولادهم، ستجتمع كل ذريته على طعام واحد، ويجلس العجوز في الصدارة، باعتباره الكبير، صاحب البيت وصاحب الولائم، سيأتي الأولاد كلهم، إن لم يكن حباً بأبيهم أو أخيهم سليم، سيأتون ليملؤوا بطونهم بالطعام الدسم، المجاني، وسيجلس العجوز بينهم راضياً، بل سعيداً، وتتحقَّق دعوة أمه، )الله يستر آخرتك يا ولدي( هذا هو الستر يأتي، بعد أن وصل إلى قاب قوسين من الفضيحة أو أدنى، يتجلى بقدوم سليم، بعودته غانماً، خيِّراً معطاء. استلقى سليم في مضجعه الوثير، فوق فراشين من الصوف مدَّتهما نظمية، أحدهما فوق الآخر لإكرام الضيف الكبير، أخرجت من خزانتها أثمن ما تملك من بياضات وأنظفها، لينام سليم قرير العين مرتاح الجسد. في الصباح نزل ضرار إلى المدينة، ذهب رأساً إلى دائرة المالية، دخل الديوان بخطوة ثقيلة واثقة، واضعاً يده على جيب سترته، مستمداً القوة من النقود التي يحمل، سأل أول موظف، أشار إليه: اسأل زميلي، سأل زميله، لم يرفع رأسه ،بل أشار إلى الثالث، توقف ضرار، يبدو أن المسألة ستطول، بحث عن الآذن، سلم عليه، صافحه بحرارة كما أوصاه سليم، دار حديث ساخن بين جيب الأول وجيب الثاني، اتفق الرجلان بموجبه، وأشار الآذن: اتبعنـي. سار ضرار خلفه إلى الديوان، دخله مرة أخرى، دنا الآذن من الموظف الأول، قال له بصوت مسموع: الأستاذ ضرار يهمني أمره، أريد منك تنفيذ طلبه على الفور. قام الموظف من خلف مكتبه، صافح ضراراً بحرارة شادّاً على يده: -        أهلاً وسهلاً بالأستاذ ضرار. -        أريد بعض المعلومات، لا، أريد معرفة كل شيء عن رأس الشردوب، وأريد بياناً عقارياً.. -        أمرك أستاذ، على رأسي تفضَّل اجلس، اجلس مكاني ريثما أبحث لك في السجلات. بهت ضرار، ما هذا الانقلاب المفاجئ؟ كل هذا تصنعه النقود؟ حقاً، حين تتكلم الجيوب تخرس الأفواه، هذه حكمة سليم، تقدم ضرار، جلس على الكرسي بشموخ، جاء الآذن على عجل، قدَّم له القهوة، بينما ركض الموظف إلى الغرفة الثانية، ثم عاد بدفتر كبير جداً سجَّل فيه كل ما يتعلق بعقارات القرية وما حولها، فتحه أمام ضرار، بقي واقفاً وراح يشرح ويشرح ريثما ينتهي ضرار من شرب قهوته، العقار يعدُّ من أملاك الدولة، مصلحة الحراج هي الحارس الوحيد لهذا العقار، لا يمكن بيعه أو البناء عليه، السفح الذي يلي القمة ملك للبلدية، داخل في المخطط التنظيمي، يمكن التحايل على المخطط وشراء السفح من البلدية، أما القمة فلا... طلب ضرار بياناً رسمياً بالعقار، توقف الموظف: البيان العقاري يستخرج من الدائرة العقارية، لكن أمره سهل، الموظفون هناك أصدقائي، أشـار ضرار: إلي بالبيان، استأنف الموظف، بإمكانك البقاء هنا ،والانتظار ريثما أعود إليك بالبيان المطلوب، يا عبدو هات كأساً من الشاي للأستاذ ضرار، فكَّر ضرار: الدوائر العقارية ستلزمنا لأكثر من هذه الغاية، لا، سأذهب معك، وسنشرب الشاي هناك. في الدائرة العقارية حصل كما حصل في المالية، أجلس ضرار خلف مكتب فخم، قدمت له الشاي بينما غرق الموظفان في عمل حثيث لاستخراج البيان المطلوب، وإلصاق الطوابع عليه، ثم قدمت لضرار في مغلف أنيق، نقد ضرار الموظف الأول ربع المبلغ الذي يحمله، أخذ الأوراق، وضعها في جيبه، بينما قبل الموظف النقود قبل أن يتقاسمها مع زميله، ثم ودع ضراراً شاكراً، عارضاً تقديم المزيد من الخدمات. أملاك الدولة، المخطط التنظيمي، بناء مدرسة، كل واحدة منها عقبة كأداء، تستعصي على أي مغامر، أما سليم... عاد إلى العاصمة، فتح عينيه وأذنيه ومنخريه، راح يتقصى أخبار اللجان والإدارات التي يجب عليه استرضاؤها للحصول على رخصة البناء، فكَّر: هل يستعين بمديره؟ لا، لو طلب معونته لطلب الآخر أن يكون شريكه في القصر، الصفقة غير مجدية، سليم لا يريد شريكاً في قريته حتى لو كان مديره، يجب أن يظهر أمام أهل القرية بمظهر الرجل القوي العظيم، الذي يتبعه المديرون ويرجون رضاه، لا يجب أن يأتيهم بمديره ليقول لهم: أنا تابع لهذا الرجل، لو فعل، لتراكض عسّاف وشلته، فأحاطوا بالمدير، إحاطة النشوة بمجلس أحمر، لن يلبث أن يبتلعه، ويلقي بسليم على قارعة الإهمال، ليعود إلى ظلّ كلمة )يا حرام(. )أفضلية المرور للغير( عبارة قرأها عند تقاطع الطرق،  حولت مرور العربات  إلى طريق فرعي ريثما تجري بعض الإصلاحات على الطريق الرئيسي، هذا كان في الماضي، الماضي الذي لن يعود، سيأخذ سليم الطريق الرئيسي دائماً، لن يعطي أفضلية المرور للغير مهما تكن الأسباب والنتائج، قرر أن يصبح صاحب الأفضلية في كل مرور، عبر كل الدروب، المسموح منها والممنوع، لن يكون للغير مكان في سلم أولوياته أبد اً. في وزارة الزراعة ثمة رجل مهم، ذو اسم كبير رنان، هو صديق مديره، وأحد أفراد الشلة التي انضم إليها سليم، هذا باب مفتوح، الرجل يزور مدينته أحيان اً بصفة شخصية، وأحياناً بصفة رسمية للتفتيش، استغلَّ سليم إحدى زياراته الشخصية، وحوَّلها إلى شبه رسمية، حين علم بموعد الزيارة دعاه للغداء في مطعم فخم، ثم دعا باسمه، وبشكل سري مدير الزراعة ومعاونيه، ورئيس مخفر الحراج المكلف بحراسة ممتلكات الدولة في قريته، كانت الوليمة مفاجأة سارة للرجل ولكل المدعوين، تناول الجميع الغداء، ثم دعاهم سليم إلى جولة في الطبيعة والهواء الطلق، يطلعهم فيها على أجواء قريتـه، اقترح عليهم تسلق التل للتمتع بمنظر الغروب، تحت سمع ونظر عساف، وشلة عساف، كان ضرار يدور حول الجمع، ثم يعود ليلتصق بسليم، شأنه شأن أي تابع وفيّ، انتهت النـزهة، انفضَّ الجمع، ورجع سليم، يفرك كفيه جذلاً، لقد وصل إلى مبتغاه. غصة صغيرة آلمته، أخبرته تفاحة أن أخته بديعة ماتت وهي تضع مولودها الخامس، لك رحمة الله يا بديعة، لا شكَّ أن زوجها قد تزوج بامرأة أخرى، لعلها تعامل أولاد بديعة بمثل ما كانت تعامله نظمية ،قرر إغماض عينيه عن تلك المظالم، حرم على نفسه زيارة تلك القرية، ولم يزورها؟ ليلتقي بخاله فيذكره بأيام البؤس والحرمان؟ سليم الآن سيد، لن يسمح لأي إحساس بالنيل من تلك السيادة. من عساف؟ من عساف؟ سؤال طرحه أحد الأغراب على ضرار، التفت ضرار بشدّة، راز الرجل بنظرة متفرسة من رأسه حتى قدميه، صعوداً ونزولاً، ثم تركه وانصرف، ألا يعلم الغريب من عساف؟ هل يجهل قدر عساف إلا كلّ جهول؟ عساف: ذلك الذي يشير بإصبعه إلى الأشياء في بيوت أصحابها، فتأتيه طائعة. عساف: يملك حق التدخل في شؤون جميع سكان القرية وزوارهم، ولا يملك أحد الحق في توجيه أي سؤال له مهما كان موضوعه. عساف يسخر من الجميع، بل يهزأ ليضحك بعضهم على بعض، ولا يعترض أحد على قول له أو فعل. عساف وحده من يستقبل الأغراب في بيته، ولا يجرؤ أحد من سكان القرية على طرق بابه. عساف، هو الشخص الذي يمرُّ به كل معلم يتم تعيينه في المدرسة قبل البدء بالعمل لينال عنده القبول، وإن لم يفعل، راح الأولاد يكيدون له المكائد، ويقابل بالنفور والازدراء من كل الناس، لا يعرف لذلك سبباً، كما لا يعرفون، حتى يسأم فيترك القرية. عساف رجل يدعي من الكرامات ما لا تعرفه الأساطير، من يرضه، يمش بين الناس وقد غفرت ذنوبه. يرى الناس حماقاته ولا يملكون حق النقاش، ويحجب رضاه عمن لا يعجبه، فتلتصق به الذنوب والعيوب كما تلتصق حبات السمسم على جسم بزاقة سقطت سهواً على بيدر السمسم، يتحاشى الناس سلامه وكلامه، يتحاشون مجالسه ودروبه، مشفقين على أنفسهم أن تصيبهم عدوى شؤمه، فتجرهم للوقوع في مثل جحيمه. يوحي للناس أنه مطلوب من قبل دوائر الأمن جميعا, وأنهم يحن يزورون القرية باحثين عنه وعن أخباره واجتماعاته والرجال المحيطين به, لن يروه, لأنه يقرأ عليهم من التعاويذ ما يحجبه ويحجب منزله عن أبصارهم, كان يقف وسط الساحة, فيتراكض رجال الأمن بأسلحتهم وجاهزيتهم القصوى, يتراكضون من أمامه ومن خلفه وكأنه لا يرونه, يوصي رجاله بألا يكلموه حين تأتي دوريات الأمن, وما أكثرها, لأنه محجوب عنهم ما لم يسمعوا صوته, فيلتزم الجميع بوصاياه, يمسكون قلوبهم بأيديهم حتى يعود الجنود الى سياراتهم ويغادرون القرية فاشلين في مهمتهم, بعض مريدوه يقسم أنه سيصعد عمود الكهرباء ويمسك بيده كوابل التوتر العالي وهو على ثقة بأنها لن تؤذيه, اذا كان ذلك بأمر من عساف. أهو شيخ؟ تساءل الغريب، أعنـي: هل هو رجل دين؟ لا، لا، لكنه عالم بكل كتب الفقه ،مداخلها ومخارجها، قديمها وحديثها، حتى إسناداتها وتسلسل العنعنات في بعضها. أهو زعيم سياسي؟ لا.. لكنه عالم بكل خبر يذاع في وسائل الإعلام قبل أن ينتشر بين الناس ،عالم بكل العلاقات الدولية والقطرية، يعلم عن رجال السياسة أشياء لا تعرفها زوجاتهم. أهو كاهن أو ساحر أو مشعوذ؟ لا.. لكن كلامه ونظراته الثاقبة، تدعمها استماتة مريديه في طاعته وخدمته تؤكد لك أنه أكثر من ساحر.. وأكثر من مشعوذ. أهو تقيّ؟ لا.. التقوى لا تعرف طريقاً إلى قلبه أو أعماله، لا يتورع عن فعل أي شيء ينافي التقوى والإيمان والحشمة، لكنه يفعل ما يفعل مخفوراً بطوق من أزلامه، يكتمون أسراره، ويشيعون بين الناس عكسها، لا يلتزم بأي طقس من الطقوس التي يمارسها رجال الدين إلا إذا كان هو قائدها، ويعلم مسبقاً الفوائد التي سيجنيها من ممارستها – لهذه الأسباب، وغيرها كثير، لا تسأل أيها الغريب، لن تصل إلى إجابة تريحك أبداً، ربما كان عساف هو كل هؤلاء مجتمعين، اخطب ودَّه أو ارحل عن دياره قبل أن يطالك أذاه. سليم يعرف من عساف؟ وماذا يكون؟ سليم ليس غريباً، لذلك قرر استجرار عساف وشلته إليه، ليبنـي لنفسه زعامة فوق زعامتهم، وقوة فوق قوتهم، لن يناور، ولن يتصدى، في الحالتين سيخسر، قرر فتح جيوبه لهم على مصاريعها، هذا هو الطريق السليم لامتلاك ناصيـة الجاه الذي يحلم به، لمحو كل أثر لكلمة )يا حرام(، استقر في نفوس هؤلاء الناس، سيهطل عليهم مطراً من السماء، بل غضباً، وينبع لهم قاراً من تحت بسطهم وسجاجيدهم. في الصباح التالي صحا سكان القرية على صوت الجرافات، تمهِّد تلة الشردوب، عيون عساف الخفية أحاطت بها، أعلمت عسافاً أن الجرافات ملك لمؤسسات الدولة. اتخذ قراره بسرعة، سليم يجب أن يكون لنا، أن يكون جسراً، نمشي على ظهره لنصل إلى غاياتنا، نتخذ اسمه درعا؛ نحتمي به إذا داهمتنا الخطوب، أغطيتنا القديمة بليت، والناس ما عادت تأمن جانبنا، ما زالت أعمالنا التي عملناها في العقد الماضي من السنين ماثلة في الذاكرة. في الظهيرة توقفت الجرافات عن العمل، اجتمع العمال لتناول الغداء، اندسَّ بينهم بعض من رجال عساف، ممن حضر بداية العمل، وباركهـا، دعاهم سليم للمشاركة في الطعام، كان طعاماً دسماً، مجلوباً من المطاعم، مغلفاً بالورق الرقيق الأنيق. بعد تمهيد التلّ بدأ حفر الأساس، العمال يحفرون هنا، الشاحنات تفرغ حمولتها من الحديد والإسمنت و الحديد القوي المبروم هناك على مقربة, ضرار وحده لا يكفي لحراسة كل هذه الأموال، لا بد من حارس آخر يشاركه المهمة، دقَّ نبهان على صدره بكف مبسوطة قائلاً : أنا.. أنا أصلح لهذه المهمة ،سأتفرغ لها، استلم نبهان الحراسة، بينما ضاع ضرار في سعي محموم بين القرية والمدينة، لإحضار المزيد من الإسمنت والخشب والرمل، وكل ما يلزم لبناء كبير. بعد أسبوع واحد، اكتملت قواعد القصر الكبير، دعا سليم عسافاً وبعض رجاله للغداء فوق البلاطة الأولى، ثم تلا غداءه ذاك وجبة غنية من الحلويات احتفالاً بالمناسبة، في حين كان بناء آخر، يشبه قصر سليم، لكن بحجم مصغر، ينهض على الطرف الآخر من الوادي، في الأرض التي يملكها شعلان، سُقف بالحديد المبروم. أسرَّ ضرار في أذن سليم بخبر البناء الآخر، فكَّر سليم: شعلان أخلص رجال عساف لعساف ،مكاشفته بالسرقة أمر مستحيل، سيثير عداوة شعلان وعساف معاً، ستثور كل القرية في وجهه، وسيطرد منها كما سبق أن طرد منها كثيرون غيره، بعد أن سلبوا كل ما يملكون فيها. لذلك، ابتسم سليم لضرار ، قال له: هنيئاً لشعلان، لولا أنه محتاج للحديد ما أخذه من عندي، البلد تعيش الآن أزمة حقيقية في مواد البناء، الفرق في ثمن )كيلو( الحديد بين المؤسسة والسوق السوداء عشرات الأضعاف، الخير حولنا  كثير، دعه يأخذ ما يشاء، ولكن تظاهر بأنك لا تعلم شيئاً، حتى لا يتجرأ غيره فيأخذ علناً ما أخذه هو في السرّ . تابع العمال عملهم بنشاط واضح، الشاي والقهـوة والمرطبات لا تنقطع عنهم، طعامهم دسم دائماً، مجلوب من مطاعم المدينة، أجورهم تصلهم كاملة قبل أن ينفضوا عنهم غبار الإسمنت، في مدَّة قياسية، انتصبت الأعمدة، واستوى فوقها سقف كبير، يتسع لكل سكان القرية لو اجتمعوا عليه. ضرار يراقب بعينـي ثعلب، كلَّ شاردة وواردة، وصل الخبر إلى رجال البلدية، رجال البلدية يعلمون أن أحداً لم يطلب رخصة للبناء فوق هذا المكان، ويعلمون أن الأرض التي قام عليها البناء تابعة لمصلحة الحراج، ولا تملك البلدية حيالها حق التدخل، لكنهم جاؤوا، فرادى في أول الأمر، ثم مجتمعين فيما بعد ،يحشرون أنوفهم للفوز بجزء من الغنيمة. حين استوى السقف، وتمَّ إعداد السلم الحجري العريض الموصل إليه، فوجئ الناس بسيارة شاحنة، محملة بالكراسي، نزل عمالها بسرعة، رتبوا مجلساً يضاهي بفخامته أرقى المطاعم، بعد ساعات، توقف رتل من السيارات الصغيرة، نزل منها رجال في غاية الأناقة والوجاهة، اتخذوا ركناً قصياً من السطح، وانهمكوا في إعداد الشواء، لتغرق القرية في سحابة من رائحته الساطعة. وقف الناس يتفرجون عن بعد، ما علموا إلا بعد نهاية المسرحية، أن الضيوف هم أعضاء المجلس البلدي، وعدد من كبار الموظفين في المحافظة والوزارة، كان بين المدعوين رئيس البلدية الذي فاجأه الموقف، فراح شعوره يتأرجح بين العار والفخار، يزهو بمجالسة المسؤولين، ويخجل من تفوق سليم عليه ،أين منه طفولة عاشها سليم؟ اتجه رئيس البلدية بعد انتهاء الوليمة إلى سليم، استأذنه بحديث على انفراد، انتحى به ركناً من السطح، وراح يتحدث هامساً، ما كان يقصد مساءلته عن البناء غير المرخَّص، بل ليعرض عليه تعديل المخطط التنظيمي للقرية، ليحتوي في صورته الجديدة أرض سليم فيما يحتوي، فيسهل بعد ذلك استخراج رخصة بناء، وترتد عنه عيون الحاسدين كليلة خاسئة. كان الرجل يتكلم بحماس، يداري ارتباكه ببسمات مصطنعة، يقاوم الخجل المسيطر عليه من رهبة الموقف، قلبه يخفق بشدّة، أوصاله ترتجف، يحاول السيطرة على انفعالاته فتخذله قدرته، يملأ نفسَه شعورُ مسخ يتطاول على العمالقة، يتخيل المجد الذي اكتنفه وأحاط به كما تحيط سحابة رائحة الشواء بالأنوف المتحلقة حول مشروع القصر عن بعد، تستكشف، تتشهى، ويتحلب الريق في الأفواه. كان ريق رئيس البلدية يتحلب لسبب آخر، غير اشتهاء اللحم، حلمه يدور في أفق بعيد، طريقه واضح، يقدم الخدمات لسليم، يعدّل له مخطط القرية، يعطي لقصره رخصة رسمية، ثم يجعل هذا المعروف مطية لمطالب يحتاج تنفيذها لدعم كبير، لن يلقاه إلا عند سليم، الفرصة المواتية جاءته من تلقاء نفسها ،جاءته إلى مكتبه متمثلة بدعوة حملها له ضرار، لتناول العشاء عند معلمه، الفرصة رفعته للجلوس على مائدة واحدة مع رجال ما كان يحلم بمحادثتهم، أو رؤيتهم عن قرب. أصغى إليه سليم بكثير من التذمر، ما كاد ينهي الحديث عن المخطط حتى اعتذر منه مؤنباً، مقاطعاً حديثه الذي لم يبتدئ الجزء الهامّ منه بعد، لينصرف إلى ضيوفه الكبار، تراجع الرجل لاعناً نفسه وسوء تصرفه، متحيناً فرصة أخرى تتيح له الحديث مجدداً مع سليم ليطلب منه ويطلب، حتى يسود أهل القرية بمجد يستمده من سليم، يقارع به عسافاً وأزلام عساف، الذين غابوا عن هذه الوليمة، لأن الدعوة لم توجه إليهم، سيسحب من أفواههم اعترافاً بجلالة قدره ورفعة مكانته، وليكفّوا هم الهزء به والضحك على سيرته وأفعاله. عاد رنين الهاتف أكثر إلحاحاً، يطارد أبا معاذ، يطالبه بوضع حدّ  لهذه المهزلة. أين سليم؟ ما الذي أغضبه من منال؟ لماذا تركها؟ لماذا تزوجها إن لم يكن في نيته الاحتفاظ بها زوجة؟ هل أخطأت لنقوِّم اعوجاجها؟ هل أخطأ سليم ويخجل من الاعتذار؟ راح أبو معاذ يبحث عن سليم حتى لقيه: اسمع يا سليم، إذا لم ترجع إلى منال ستؤلب عليك أهلها جميعاً، لا طاقة لك بمواجهتهم يا سليم، سيموّل عمها صاحب اللوحات الإعلانية كل مشروع غايته الانتقام منك، سيدعمه أخوها وأخوها.. فكَّر سليم: هذا باب جديد للرزق، لم لا تدخله يا سليم؟ هيا، الفرصة أمامك، لا تضيع وقتك فيما لا فائدة منه، أخوها في حلب، أخوها ذو النجوم، عمّها التاجر الكبير لن يتركوها لعبة بين يديك، تهين كرامتهم بها، لا مصلحة لك في عداوتهم، الخير كل الخير في اتخاذهم أصدقاء، نعم أصدقاء أعزاء ،ألست نسيبهم؟ ألست حامي عرضهم؟ -        أين منال الآن؟ -        في بيت أهلها. -        بيتها أم بيت أهلها؟ -        في بيت أهلها. -        هيا ،اتصل بها، واطلب منها العودة إلى بيتها لنتفاهم على انفراد. -        ماذا تقول؟ القيامة قائمة هناك، وأنت تريدها على انفراد؟! -        هيا، ارفع سماعة الهاتف، قل لها أي شيء، أخبرها أني أريد رؤيتها في البيت وحدها، لتخرج بأية ذريعة، هذا شَرطي، أو.. اذهب أنت ومنال وأهلها إلى الجحيم. بعد مكالمة قصيرة بالهاتف، خرجت منال وحدها، أخبرت أمها أنها ستتفقد أثاث بيتها، لم تنتظر من أمها ردّاً، بل خرجت على الفور. -        تفضل، منال تنتظرك كما أمرت. -        في بيتها؟ -        في بيتها كما طلبت. -        وحدها؟ -        أجل، هيا، قم بنا إليها، منال في بيتها، وأهلها لا يعلمون، خرجت خلسة. -        منال زوجتـي يا أبا معاذ، سأذهب إليها وحدي. -        سأذهب معك، لأصلح بينكما. -        لن يذهب معي أحد، لا تتدخل يا أبا معاذ بين رجل وزوجته، لسنا متخاصمين. ترك سليم أبا معاذ، وذهب وحده، الطريق إلى رضا منال يعرفه جيداً، لكنه سيعلمها في غفلة عن  كل الناس  كيف تمشي في كل الطرق لتصل إلى رضاه، رضاه دائماً مقترن بمصالحه. طرق الباب بهدوء، طرقه بشدّة، ثم بشدّة أكثر وأكثر، تعالت دقاته سريعة عنيفة على الباب حتى  كاد يحطمه، مما جعل منال تركض بين خزانة ثيابها وطاولة زينتها، ما توقعت قط أن تجد سليماً وحده، غسلت وجهها لتمسح عنه آثار البكاء، منعاً لنظرة شامتة في عين الطارق، حاولت إصلاح زينتها ببعض اللمسات، لكن شدة الطرق على الباب لم تستمهلها، فتحت، فإذا بها أمام سليم وجهاً لوجه، غارت في عقلها كل عبارات اللوم والعتب، وقفت مشدوهة تنتظر. -        اشتقت إليك يا منال! -        وأنا أيضاً، أحرقنـي انتظارك. -        هيا بنا لنعوِّض ما فاتنا. نعوّض ما فاتنا؟ هل فات منال شيء سوى ما يحصل في غرفة النوم؟ هل أثار نفور سليم إلا شعوره بأنه تحوَّل إلى تيس لا تتعدى مهمته ما يحصل في تلك الغرفة؟ أسرعت تبدِّل ثيابها لتلبس أجمل ما في خزانتها من )الدانتيلا(، وتضمخ جسدها بكل أنواع العطور. -        ماذا تفعلين؟ -        أجهِّز نفسي كما ترى. -        بل جهِّزي نفسك لشيء آخر، سنسهر عند أمك اليوم، ما أخبار أمك؟ -        هل جئت تصالحنـي، أم تصالح أمي؟ -        جئت لأني مشتاق إليك، لكن الواجب واجب. -        دعك اليوم من أمي. -        بل سنذهب إليها، لتعلم أنا حبيبان لا نَختلف أبداً، أنت مثل القمر يا منال، يظهر كل يوم بجمال جديد، أنت الجديدة دائماً على قلبـي وإحساسي. -        لماذا تركتنـي إذن؟ -        أما قلت: إنك كالقمر؟ ألا يختفي القمر في نهاية كل شهر ليشتاقه الناس فيعود أكثر جمالاً وشباباً وضياء؟ أنت اليوم أجمل من كل يوم مضى. -        القمر يستمدُّ نوره من الشمس، أنا أستمدُّ نوري منك، ابقَ معي الآن في البيت. -        لا، سنسهر عند أمك، لنؤكد لها، ولكل من يحاول التدخل بيننا أننا حبيبان دائماً. صمتت منال، خابت آمالها، شعرت بالمرارة تكوي حلقها، لا بدَّ من الرضوخ لرغبته حتى لا يعود للهجر، رمت ثيابها )الدانتيلا( على السرير، وعادت لثيابها الرسمية، جهَّزت نفسها بسرعة، ووقفت تنتظر أوامره بشعور إنسان نظيف، يساق قسراً إلى شهادة الزور. خرج يتأبط ذراعها، مثل أي عروسين، يغازلها، يضاحكها، وهي حزينة مقهورة، لا تكاد تستجيب له، وقف أمام منـزل أهلها، استوقفها ليشرح لها شعوره حين طرق هذا الباب أول مرة، كيف كان الخوف من الفشل في استرضائها يرجف يديه ويلعثم كلماته، رفع يده إلى مفتاح الجرس، راح يضغطه ويوالي الضغط، بطريقة جعلت رنينه موسيقا، فرحت لها منال، وركضت أمها تستكشف سرّ هذه المعزوفة الغريبة، حين شاهدته يتأبط ذراع منال ذهلت، تراجعت خطوة للوراء، فركت عينيها لتتأكد أن ما تراه حقيقة، اندفع سليم إليها، يقبل رأسها بينما تحتضن يده كفَّ منال. نسيت منال خيبتها، واندمجت في هذا المشهد العاطفي، أخذ يد حماته وسار بها إلى داخل المنزل ،تمدد على الأريكة العريضة كأنه واحد من أفراد الأسرة، وهو الذي لم يدخل هذا البيت بعد أن أخذ منه منال، أجلس منال قربه، احتضن كفيها وراح يداعب خصلات شعرها، استسلمت بكليتها له، نسيت  كل معاناتها في غيابه، نسيت شكواها أمام أمها وإخوتها، نسيت الشيخ صالح الذي ذهبت إليه برفقة عمتها زينب، عساه يعيد إليها زوجها بسحره وشعوذته. بلا مقدمات، طلب سليم الغداء، بهتت حماته، جحظت عيناها، لكنها – أمام السعادة التي رأتها ترفُّ على وجه ابنتها، ذهبت صامتة إلى المطبخ، لحقت بها منال، ثم تبعهما سليم على الفور، طلب منها الانتظار في غرفتها، ريثما يعدُّ الغداء مع منال، استجابت الأم الواقعة تحت تأثير الذهول لما رأت ،انسحبت بصمت، جلست في غرفتها تستمع إلى الضحكات العالية المنطلقة من المطبخ، بعد قليل جاء سليم يحمل صينية الطعام، تتبعه منال، حاملة كيس الخبز وإبريق الماء، راح يطعم منال بيده لقمة لقمة ،ناسياً ما كان من خلاف بينهما طوال أكثر من شهر. بعد الغداء طلب الشاي، ذهبت الأم إلى المطبخ ونادت ابنتها: -        ما هذا الذي أراه يا منال؟ متى تصالحتما؟ -        تصالحنا؟ نحن لم نَختصم يا أمي. -        ما سرُّ غيابه الطويل عنك وانقطاع أخباره؟ -        لم أسأله بعد. -        سأسأله أنا، بنات الناس ليست لعبة في يديه. -        أرجوك يا أمي، سليم يحبنـي كما ترين، أنا أحبه أكثر، لا تفسدي بيننا. -        ماذا أقول لإخوتك؟ -        لا تقولي شيئاً، لسنا في حاجة لمن يصلح بيننا، نحن حبيبان كما ترين. عادت منال إلى سليم، وبقيت الأم تجترُّ غيظها، متنصتة إلى الضحكات المتلاحقة، يطلقها سليم، فتتبعه منال، في النهاية استسلمت للأمر الواقع، مضمرة الخوف في قلبها، وذهبت إليهما تحمل صينية الشاي. تناول سليم الشاي، شاكراً بعبارات تفيض فرحاً وحبوراً، صبَّ الشاي في كأسين، ناول الأول لحماته، واحتفظ بالثاني لنفسه، احتجَّت منال: -        وأنا؟ أين كأسي؟ -        أنا كأسك وخبزك يا منال، سنشرب معاً من كأس واحد. جلسا يشربان الشاي، بيده مرة، وبيد منال مرّة أخرى، يتضاحكان كعاشقين مراهقين؛ كأن ما كان بالأمس ليس حقيقة. نظر إلى ساعة يده، الساعة تشير إلى أن وقت السهر قد حان، المكوث هنا مضيعة للوقت، وضع الكأس من يده، نهض قائماً، سوى ثيابه وأشار إلى منال: هيا. -        إلى أين؟ سألت الحماة بدهشة. -        إلى بيتنا. -        انتظر حتى يحضر بقية أفراد الأسرة. -        نحن مشتاقان يا حماتي الغالية، يا أجمل حماة، لا يمكننا الانتظار، هيا يا منال. قفزت منال من مكانها كالضفدعة، وتأبطت ذراعه. -        جاهزة دائماً يا سيدي، قالتها بحبور، كمن يؤدي تحية عسكرية. -        تصبحين على خير أيتها الغالية. قالها سليم، وانحنى يقبل يد حماته، تبعته منال، ثم خرجا يهدلان في الشارع مثل زوج من طيور الحمام، تبعتهما الأم بنظرها حتى غيبهما المنعطف، رجعت تحلل وتفكِّر غير قادرة على إيجاد تفسير لما رأت. أمام الباب توقفا، فتحت منال الباب وأشارت: تفضل يا سيدي، دفع بها إلى الداخل، وتراجع خطوة، اسبقينـي أنت، لدي مهمة لا بدّ من إنجازها، اسمعي، إذا طرق الباب لا تفتحي، ولو كان الطارق أحد إخوتك، أريدك وحدك، الليلة لنا. لم ينتظر جوابها، بل سحب الباب، أغلقه خلفها، وسار في الطريق مسرعاً ليلحق بالشلة التي لا بدّ أنها اكتملت الآن، تيسك يا منال صحا من سكرته، لن يذوب بعد الآن في حرارة جسدك، تريدين فحلا؟ حسناً ادفعي الثمن. دخلت منال منـزلها، احتارت ماذا تفعل، هل ترقص أم تغني فرحاً بعودة سليم؟ المرارة في حلقها تمنعها من ذلك، سليم عاد، وأية عودة؟ كأنه عاد لأمها، لكنه عاد، هل ترتب المنـزل وتنظفه لاستقباله؟ سئمت أعمال البيت والنظافة، سئمت كل شيء، ما عادت تريد إلا الأمان بقربه، أي أمان؟ أوصلها إلى الباب وهرب، كأنها لا تعرف الطريق إلى بيتها، إلى أين ذهب؟ قامت بفتور تجهز العشاء، أفكارها مثل )بندول( الساعة تهوي بها مرة لليمين فتفرح وتغني، تسارع بإحضار الأصناف والأطباق، تتخيله يمشي في الطريق مسرعاً إلى لقائها حاملاً الهدايا والاعتذار، جالباً من السوق كل ما تحتاجه سهرة طويلة ينيرها الغرام، ثم يميل بها )البندول( لليسار فتتراجع خائبة، توشك الدمعة أن تطفر من عينيها، لو أنه ينوي العودة لما تركها تندسُّ وحدها في ظلمة الدار، ليهرب عن الباب كأنما يغلقه على عاهة يخشى افتضاحها بين الناس، تعود لتستعرض الساعات القليلة الماضية، التي أمضاها في الدوران حولها، كأنه عاشق سدم، كأنها آلة مقدسة، يخشى عليها من مسِّ يديه. بين المطبخ وغرفة النوم كانت منال تتأرجح في اضطرابها، حتى تجاوز الليل نقطة المنتصف، جهَّزت وجبة خفيفة من الطعام، وجلست تنتظر عودة سليم. كانت تشعر شعوراً حاداً بانعدام الأمان في حياتها، تبحث عنه، تحاول استثمار ما بقي من عمر خصوبتها، التي تتوهج الآن ما قبل الانطفاء، عساها تنجب ولداً يملأ حياتها ومجال اهتمامها، يتيح لها ممارسة الأمومة كامرأة سوية، العمر يتقدم بها، وهي تدرك أن كل دورة طمث تسقط ورقة من أوراقها التي تحتمل الربح، تجد نفسها تركض مسرعة باتجاه سن اليأس، كل شهر تضعف فرصتها، فتلهث بين العيادات النسائية والقابلات العربيات، تأخذ الأدوية والإرشادات، وتعود إلى بيتها لتواجه سليماً. لتقلق منال كما يحلو لها، لتنتظر كما تشاء، لن يعود سليم من سهراته بعد اليوم إلا قبيل الفجر بقليل، يعود بادي التعب والإرهاق، ينام بكامل ثيابه، يصحو بعد ساعات قليلة يذهب إلى عمله تاركاً منال تأكلها حرائقها، توقعها في دوامة محيرة من الأسئلة الجدلية، مع نفسها، ومع المحيطين بها، كل يوم يوصيها وبحزم، ألا توقظه مهما كانت الأسباب، يرى، ويغض النظر، ثياب )الدانتيلا( وقمصان النوم المطرزة والمزركشة تلبس كل يوم منها حلة جديدة، عساها تلفت انتباهه، أو تثير فيه شيئاً ما، دون جدوى، يراقب بسمتها حين تتيبس على فمها، يراقب اشتعال الشهوة في عينيها حين تطفئه الدموع ،بحذر أرنب وخفّة ثعلب، يمسك خيوط اللعبة جيداً، يتركها تتصارع مع نفسها حتى اللحظة ما قبل الأخيرة. صارت تجلس الساعات الطويلة، لكنها ما أفلحت في اعتماد خطة مجدية، ندمت، لامت نفسها غاية اللوم لمنعها أمها من مساءلته، رجتها يومذاك ألا تتدخل، أفهمتها أنهما حبيبان، لا يختلفان أبداً، لو أنها تركتها تناقشه وتشترط عليه الشروط لكانت اليوم على غير هذه الحالة، صارت تخجل الآن من العودة إلى أمها، وإدخالها فيما رفضت في بداية الأمر دخولها فيه. اكذ ب   قيل لسليم: اكذب واكذب واكذب، حتى يصدقك الناس، بعد ذلك اكذب واكذب واكذب حتى تغدو أكاذيبك قانوناً يمشي بمقتضاه نظام الحياة من حولك، اصنع لنفسك غطاءً إعلامياً يقيك جرأة  كل جريء، فلا تلمس منطقة نفوذك بعوضة. بعقله المنفتح تلقى الوصية، صنع لنفسه غطاءً إعلامياً أكثر بريقاً من وشاح أية راقصة، سهر معها ذات يوم برفقة مديره وشلته الراقية، جند في سبيل ذلك جيشاً من الإعلاميين النشطاء، ابتدأهم بتفاحة وابنها، ثم تبعهما كل من تغدى على مائدة سليم، وغادرها مبشوماً من كثرة الدسم، يمتدحونه ويسمع لمدائحهم، ينتفش مثل ديك الحبش، وينتفش بعد كل سهرة يقضيها مع المدير وشلة المدير، يستبق فيها الزمن، يأتيهم بما قبل الأخبار، كبر كرشه في أثناء ذلك، عظام وركيه البارزة اختفت، ضاعت بين طبقات اللحم والشحم، عموده الفقري الذي كان شبه مستقيم، انحنى من وسطه باتجاه الأمام، تراجعت كتفاه للخلف حتى صار يشكل مع الكرش البارز المتدلي ما يشبه معدة كبيرة عملاقة، قادرة على هضم كل شيء، من مواد البناء حتى أدوات ومساحيق التجميل، مروراً بالمخدرات والسكائر المهربة، انتهاء بالأسلحة المرخصة وغير المرخصة، المستوردة والمسروقة التي تتوزع بين عساف وزبانيته، يدفعون له ثمنها الرضا، يدعمون برضاهم غطاءه الإعلامي، يسبحون بحمده ويمجدون، ولا تملك الأصوات في القرية إلا أن تردد خلفهم: آمين، يجلس قبالة عساف في لعب الورق، من ذا الذي يحوز هذا الشرف إلاه؟ سليم هنا لا يحتاج للكذب بلسانه، أفعاله دائماً تنطق بما يريد قوله، ضيوفه، السيارات التي تقلهم، الموائد التي تفرش لهم، ثم تترك بقاياها التي تكفي لإشباع أسر بكاملها، الأموال التي يبعثرها يميناً وشمالاً ، كل هذه الأركان شهود تشهد بلا كلام أنه أصبح من الطبقة العليا، ربما أعلى من العليا بقليل، صحيح أنه لا يشغل منصباً مهماً معروفاً، لكن أصدقاءه يتناثرون في كل وزارة وإدارة حتى صارت كلها في يده، أو هكذا خيل له، فنقل هذا الخيال لأصدقائه المقربين، صدَّقوها، وهم جالسون في أماكنهم، يراقبون تطور حاله عن كثب، يقرؤون لوحات السيارات التي تتوقف أمام قصره، أو يجلسون في مجلسه مع ضيوفه، يستمعون إلى ما يدور فيها من أحاديث ومناقشات، بإذن مسبق منه، إذ يسمح لعدد ضئيل منهم كل مرة بدخول مجلسه، يختارهم ممن يملكون آذاناً مرهفة، وعيوناً مفتحة محملقة، وأدمغة متعفنة، لا يمكنها رؤية أبعد من المنظور المباشر، ولا تحليل كلمة واحدة لتقرأ من خلالها ما وراء الواقع، فتكتشف أنه وزواره مجموعة لصوص يتوزعون في هذه الإدارة أو تلك، مهمتهم مسح الجوخ، لمن يشغِّلونهم، ويتقاسمون معهم الغنائم، يخرج الضيوف من مجلس سليم، من مضافته، ليوزعوا نشرات أخبارهم بالصوت والصورة على كل مجلس ودرب وتنور. إلا عسافاً، عساف هو الوحيد العارف بالحاضر والماضي، المتنبئ بالمستقبل، عساف أدرك منذ البداية أن كل أمجاد سليم مبنية على أركان من الملح، ستبقى صامدة حتى ينـزل عليها مطر السماء، أو يهدمها سيل من تحت البساط، هي كالعشب الذي ينمو ويمرع على سطوح المنازل الطينية، ما إن تسطع عليه شمس الربيع يومين متتاليين حتى يجفَّ ويغدو هباءً، لذلك لم يترك عساف أية فرصة تفلت من يده، استغلَّ كل دقيقة في عمر هذا المجد الزائل لمصلحته ومصلحة مجموعته. سليم يعلم، كما يعلم كل فرد في هذه المنطقة أن رضا الناس هنا مرتبط برضا عساف ،وأن آراءه وأحكامه التي يطلقها على هذا وذاك تتحول إلى صفات ثابتة تلتصق بالمرء أكثر من اسمه إلى أن يشاء عساف، لذلك ترك سليم عسافاً يتدخل في هندسة بناء القصر كما يحلو له، بل وكَّلهُ بمتابعة أعمال البناء في غيابه، سليم مرشح للسفر إلى خارج البلد، في جولة على عدد من المدن الأوربية برفقة مديره، سيضطر للغياب كثيراً، عساف لم يقبل هذه الوكالة، رفضها بشدة، رشق سليماً بنظرة حمراء، صعدها من قدميه حتى رأسه وأعاد النظر: سليم باشا، يبدو أنك كبرت كثيراً حتى تطاولت علينا، هل تحتاج من يذكرك بنفسك من كنت ومن تكون؟ أطرق سليم، راح يعتذر ويلحف في الاعتذار مؤكداً أنه ما قصد من كلامه سوى إكرام عساف، عساف لا يريد إكراماً من هذا النوع، يعرف دائماً كيف يتدخل في كل شاردة وواردة من شؤون الناس هنا، يستطيع في كل الظروف فرض رأيه في أكثر الأمور خصوصية لأي شخص في القرية، لا يعترضون ولا يتذمرون، لا يرفضون له اقتراحاً، ولا يجادلونه في رأي، أما أن يعمل بنفسه عملاً لمصلحة أحد من الناس، فهذا هو المستحيل. اعتذر سليم من عساف، ظلَّ يسترضيه حتى رضي، فرح سليم، مدَّ يده إلى جيبه، أخرج كل ما فيها من أوراق نقدية، كان ينوي دفعها ثمناً لبقية مواد البناء اللازمة لقصره، وضعها بين يدي عساف حلاوة الصلح، تأملها عساف بعين الزاهد المترفع، لم يأخذها، بل سأله: أهي دفعة واحدة لن تزيد؟ أم إنها قسط شهري؟ فهم سليم أن الرجل يطالبه بإتاوة شهرية، حسناً سيدفع ما دام الدفع طريق السيادة، لِمَ لا يدفع؟ عساف يرفع من يشاء إلى مرتبة القديسين، ويجعل من يشاء شيطاناً رجيماً، لا تملك القرية في الحالتين إلا أن تقول: آمين، تقطع كل أنواع التعامل مع المغضوب عليه، تترك ممتلكاته مشاعاً بين أيدي صبيانها حتى يضيق به المقام فيهاجر، أو يسترضي عسافاً حتى يرضى. سليم لا يريد النزول إلى درك الشيطان الرجيم، جاء ليبني لنفسه عزاً وجاهاً، كل جاه هنا يمر من تحت يد عساف، بل من بين ساقيه، لا بأس، سيعمل كل ما في وسعه للحفاظ على هذا الجاه الذي أنساه فاطمة وأولادها، صرفه عن منال وقهر احتراقها، جعلها تراجع كل كلمة صدرت منها بحثاً عما جعل سليماً يتحول بهذا الشكل المفاجئ ولا تهتدي، التجأت إلى عمتها زينب، حكت لها بكثير من المبالغة والتفاصيل عن حبِّ سليم لها، وطرقه المذهلة في اجتياح كيانها، شرحت لها كيف غاب عنها طويلاً ثم عاد، عاد وحده مدفوعاً بالشوق إليها، والآن، ها هو ذا يدخل ويخرج، معظم الأيام إلى بيتها  كمن يدخل كهفاً، لا يعرف، لا يهمه أن يعرف من يشاركه المبيت فيه، يسافر، يمضي أيام العطل ونهايات الأسابيع لا تدري أين، لا يدور بينهما حديث سوى: أعطني ثيابي، حاضر، أعطني الشاي ،حاضر، ينام ويصحو، يغيب ويرجع، لا يراها ولا يشعر بها. رفعت العمة يدها مقاطعة، وقد ظهر الاهتمام على وجهها: -        اسمعي، هل قلت: إنه ينام هنا في بيتك؟ -        أجل يا عمتي، لكني أقسم أنه لا يراني، يتعامل معي كما يتعامل مع فراش فندق، يلبس منامته النظيفة الموضوعة فوق السرير، ثم يندسُّ تحت اللحاف، لا ينسى أبداً أن يوصيني بألاّ أوقظه مهما كانت الأسباب، ينام يا عمتي وأبقى مؤرقة تأكلني نيراني كل يوم حتى الصباح. -        لا بدَّ أنك محجوبة عنه. -        ماذا تعنين يا عمتي؟ -        هنالك أحد ما، عمل لزوجك سحراً جعله يقف أمامك فلا يراك، ابحثي في ثيابه، في أشيائه الخاصة، لا بد أن تعثري على )الحجاب( ولكن ريثما يتم لك ذلك، هيا بنا إلى جارتنا أم سلوى لتقرأ لنا الفنجان، فتكشف المستور. أمسكت أم سلوى الفنجان المقلوب بين أصابعها الثلاثة، راحت تديره متأملة تأمل الدارس الفقيه ،تراوح النظر بين قعر الفنجان ووجه منال، التي بلغ بها الخوف والتحفُّز أقصى مبلغ، وبدأت: -        الفنجان يا بنتي لا يصدق دائماً، لكني في حرج من إعلامك ما أراه مكتوباً في خطوط البن.. -        هيا قولي، أريد معرفة كل شيء. -        الخطوط الأولى يظهر فيها شخصان، أنت وشخص آخر، يبدو أن عتاباً أسود يدور بينكما. -        لم نتعاتب. -        العتاب ظاهر، سحابة سوداء ما تزال تسكن في نفس كل منكما. -        صدقت، سليم منصرف تماماً عنـي، أتمنى عتابه ولكن... فرحت أم سلوى، اجتاحتها موجة من البشر، نطقت منال بما تبحث عنه أم سلوى، زوجها ملّ منها بعد هذه الضبابة من السعادة، لو تعلمين يا سلوى.. -        هنا يبدو فأر، الفأر شخص يسعى بالنميمة، يجركّما إلى ما لا تريدانه. -        أبو معاذ، ليس سواه من يسعى بيننا. معلومة جديدة قيمة، حصدتها أم سلوى، هل بنى أبو معاذ هذا البيت ليعود فيهدمه؟ لماذا؟ أتراها وعدته بعطية ما، ثم أخلفت وعدها، فعاد لينتقم؟ ر بما. -        هنا خروف، الخروف نذر، هل نذرت نذراً يا منال ولم تؤده في حينه؟ نذر؟ فكّرت منال بعمق، ثم تذكرت، نعم نذرت هدية لأبي معاذ، لكني نسيت، أنا لا أتراجع عن نذر نذرته، لكني نسيت، سأخرج من هنا فوراً لأرسل لأبي معاذ هديته الموعودة، ماذا بعد؟ المسألة صارت شبه واضحة في خيال أم سلوى، ستفي منال بنذرها، فيعود أبو معاذ كسابق عهده، صديقاً ودوداً، سيضغط على سليم ليعيد المياه إلى مجاريها، هذا ما لا تريده أم سلوى. أدارت الفنجان بين أصابعها تبحث بين رسومه عمّا تضرب به ضربتها التالية.. -        هذا طريق، طريقك سهل مفتوح، حياتك ميسّرة يا منال، ولكن.. هناك شخص سمين، أبيض ،أنثى حاقدة تسدّ عليك الطريق، وتمنع عنك السعادة. -        زوجته، إنها زوجته بلا شك، سأجبره على طلاقها. ابتسمت أم سلوى بدهاء، ستدور معركة بين منال وزوجها، تنتهي بما تريده أم سلوى، المعركة ستنجلي حتماً لصالح الزوجة والأولاد، لن يطلق أم أولاده، لو أراد ذلك لطلقها قبل زواجه بمنال، بقي في جعبة أم سلوى سهم واحد ،سهم يشتعل نار اً... -        انظري.. يا لطيف.. يا لطيف.. انظري إلى المثلثات المتناثرة على جدار الفنجان، يا ساتر يا لطيف.. اللهم احمنا وعافنا يا رب. نظرت منال إلى قعر الفنجان وجدرانه، لم تفقه شيئاً، ناولته لعمتها، نظرت العمة، تأملته بصمت ثم أعادته إلى أم سلوى، وقد عمل الرعب عمله في قسمات الوجهين معاً. -        ماذا تعني المثلثات يا أم سلوى؟ -        هذه حروز، خصمك يحاربك بالسحر، يسخّر الجن لحربك، هذه الحروز كتابات وضعت في طريق سعادتك، كلما أزحت واحداً منها ظهر لك الآخر، اللهم احمنا وعافنا يا رب. وضعت أم سلوى الفنجان في الصينية، نظرت إلى وجه منال الذي امتقع من الخوف، وظهرت عليه أمواج عصبية حادّة، ستحتار منال في علاج كل هذه العقبات، ستعالجها حتماً بطرق تسرع بزواجها نحو النهاية المفجعة، وترتاح أم سلوى حين تكفّ ابنتها عن الحلم بعريس دسم عاشق مثل عريس منال، ينسى زوجته الجميلة وأولاده ليعتكف في محرابها، لملمت منال أطراف خيبتها، وأنهت الزيارة بصورة مفاجئة، توقعتها أم سلوى. عاد سليم إلى منال ذلك اليوم كعادته، بعد انتصاف الليل بقليل، أدهشه أنها تنام بكامل ثيابها ،أيقظها، عيناها جمرتان متورمتان، وجهها يطفح بالتعاسة، لابد أن شيئاً ما حدث، ما  كنهه؟ يجب أن يعرف. -        منال، أنت تنامين بهذه الثياب؟ لا أصدق، هل كنت في سهرة متأخرة؟ -        أهلاً سليم، لم أكن في سهرة، زرت في النهار عمتي زينب، ذهبنا معاً إلى جارتها. -        منذ النهار وأنت في ثيابك الرسمية؟ ما عهدتك تخالفين قواعد الأناقة مهما كانت الأسباب. -        آسفة ،سأستبدل ثيابي حالاً . فتحت خزانتها، وراحت تفرز الثياب بهدوء يائس، بينما يراقب سليم وجهها في المرآة الكبيرة، الحزن ساكن مقيم في روحها، يفرد بضاعته على مساحة عينيها، يجثم بثقل على خطواتها وحركات يديها ،يمنعها من الثرثرة التي تحبها، بل يحرم عليها الكلام.  -        منال، دعينا من الخزائن والثياب، أنت لي، أحبك في كل الأشكال، لا أشعر برغبة في النوم ،أطفئي الأنوار وتعالي نسهر كالعشاق. بهتت منال، توقفت مكانها تستعرض كل ما سمعته من عمتها زينب، ومن أم سلوى، هذا حجاب ،أنت محجوبة عنه، يراك ولا يراك، ها قد زال الحجاب من تلقاء نفسه، وعادت لحظات الهناءة، أي طالع حسن حلّ على منال هذه الليلة؟ تذكرت: الخروف نذر، أوفي بنذرك، لقد وفت منال نذرها، أرسلت لأبي معاذ هديته الموعودة قبل عودتها للبيت، يبدو أن كلام أم سلوى صحيح كله، انزاحت عقبة من طريق هناءتها، ولكن بقيت عقبات، كيف السبيل لإزاحتها؟ -        منال، حبيبتـي، أأنت مريضة؟ -        مريضة؟ ثقبت رأسها هذه الكلمة، متى كانت صحتها أو سقمها يثير اهتمام أحد؟ فكّرت هل تخبره أنها مريضة ليجلس قربها ويرعاها؟ أتراه سيشفق عليها، أم ينفر منها كما تنفر أمها وإخوتها بذريعة أن مرضها آت من أسباب نفسية تخلقها هي، بسوء أخلاقها، وقلة صبرها، تصنعها من الحقد المتراكم في قلبها على كل الناس، الذين طالوا ما قصرت يدها عن نواله. -        تعالي، اجلس هنا قربي، هاتي يدك، لا أجد حرارة زائدة، أنت بخير يا حبيبتي، اخلعي هموم الدنيا من رأسك واسعدي معي. ما هذا الكلام؟ أحقاً عاد إليها سليم؟ هل تعاتبه؟ هل تقول له: إن غيابه غيب عنها السعادة والإحساس بالحياة؟ لا، لن تضيع هذه الليلة في نبش ما مضى، ها هو ذا يعود من تلقاء نفسه، ستؤجل العتب إلى وقت آخر، وتستسلم لهذه الدفقة المفاجئة من السعادة. في الصباح تمسكت به: هل ستعود؟ أجل يا منال، سيعود ليقبض ثمن اقتنائك في بيت الزوجية ،انتظريه في المساء، سيغدق عليك مالا تحلمين به من العواطف والاهتمام، ظلي على غبائك يا منال، افرحي بعودته، لا تحاسبيه على الغياب والإهمال، اسعدي به، تظاهري بالسعادة أمام الجميع، ابتلعي شقاءك بصمت، حبة حبة. قبل عودته الأخيرة من القرية، أخبر سليم عسافاً بأنه سيسافر إلى أوربة برفقة مديره، هذه فرصة ثمينة، ينتظرها عساف منذ زمن طويل. ليس هناك أفضل من سليم، يجسد الآية الكريمة }كمثل الحمار يحمل أسفار اً{ بعد هذا الدرس الخصوصي الذي تلقاه ساخناً، تعهد بعده لعساف بدفع جزية شهرية تستمر طوال استمراره بالتمتع برضا عساف، ورضا، بل قبول أهل القريـة، عساف بحاجة للاتصال برجالات يتناثرون في المحافظات داخل القطر، وفي بلاد خارجه، اتصالاً لا يثير شبهة، ولا يلفت انتباهاً، يحمّله على ظهر رجل غبـي، نظره محاصر بين رضا عساف، والمجد القائم على ذلك الرضا. في رحلته الأخيرة إلى القرية أخذ منال معه، ليعرفها على أهله، واعداً إياها بمفاجأة كبيرة سوف تسعدها، جلست قربه في الحافلة يكلؤها الصمت، منال لا تريد مفاجآت، لا تريد التعرف على أحد ،لها في الحياة مطلب واحد، يعرفه سليم جيداً، لكنه يضنّ عليها به، أية مفاجأة سوف تسعدها إذا حرمت الأمومة ؟؟ نزلا معاً في المدينة، اشترى سليم ما اعتاد شراءه من مؤن وهدايا لأبيه وأسرة أبيه، أخذ سيارة أجرة ملأ صندوقها بكل تلك الغنائم، واتجه إلى القرية، هناك، استقبل موكبه بما اعتاد الاستقبال به، حفاوة وترحيب وسعي حثيث لتوفير الراحة والغذاء المناسب لشخص كبير، عرفهم بمنال، استقبلوها ببرود، ثم ما لبثوا أن أدمجوها في مجتمعهم فرحين بها فرحتهم بسليم، ليتزوج سليم بمن يشاء، جميلة كانت أم قبيحة، ما دام يأتيهم كل مرة غانماً محملاً بالهدايا. قبيل الغروب خرج سليم مع منال للنزهة، أخبرها أنه سيطلعها على الطبيعة الجميلة لقريته، لترى في أية جنة أمضى زوجها طفولته، طاف بها بين بساتين والده وإخوته، أطعمها التفاح من أشجار عساف ورجال عساف، قطفته بيدها، لأول مرة ترى منال أشجار التفاح وتقطفه بيدها، الهواء النقي والخضرة الجميلة فعلا في نفسها ما فعلا، فطارت بينها، كفراشة مرحة، تتنقل من أيكة إلى أخرى، من زهرة إلى أخرى حتى أتعبها المسير. أرادت الجلوس على التراب من أجل الراحة، منعها سليم، مبدياً من المودّة كل ما تفتقد له، واعداً إياها براحة في مكان أجمل، حملت أتعابها سعيدة وسارت خلفه، سارت طويلاً حتى تآكلت قدماها من التعب والغبار، من الأشواك التي أدمتهما، ظل يمشي وتتبعه متحملة أوجاعها ، مستمتعة برفقته حتى وصلا إلى تلّ الشردوب، هناك توقف، فتوقفت، بل جلست على الأرض، قرفص قربها، تغمر وجهه السعادة. -        منال انظري هناك. -        تعبت يا سليم، أرجعني إلى البيت أرجوك. -        لن تعودي قبل أن أفَي بوعدي. -        أي وعد؟ -        أما وعدتك بمفاجأة سوف تسعدك، انظري هناك في أعلى التلّ . -        لا أرى سوى بناء غير مكتمل، لكنه بناء كبير. -        هو ذا، ما ترينه فوق التل قصري، بدأت بناءه قبل أشهر، حين يتم إنجازه سأهديه لك. -        تهدي إليّ هذا القصر؟ قصر في الطبيعة لي أنا؟ -        هل تظنين أنه  كثير عليك يا حبيبتي؟ القصر وصاحب القصر ملك يديك، لكن صبرك قليل، أنا متعب دائماً، مرهق يا منال، وقتي وجهدي موزع بين عملي المضني ومتابعة أعمال بناء هذا القصر، وأنت حزينة دائماً، غاضبة دائماً، هذا سرّ بعدي عنك، هل أحظى بمعذرتك الآن؟ -        أرني هذا القصر، أريد أن أراه. -        لكنك متعبة. -        لن أشعر بالتعب وأنت معي، أنا آسفة لكل ما بدر مني. أخذ يدها وسار بها إلى القصر، تنقلا بين غرفه وساحاته، أطلعها على مشروع البستان الذي يحيط بالقصر، والساقية التي تجري بين يديه، راحت تحلم وتحلم، موزعة أحلامها في كل ركن وزاوية، وسليم يتفرج عليها، ضاحكاً في سره من غبائها وسطحية تفكيرها. لقد صدّقته، بسرعة صدّقته، وحلمت بدعوة أمها وإخوتها لقضاء الصيف القادم عندها، في قصرها، ستكون السيدة، وهم الضيوف. عند المساء، تجمعت معظم نساء القرية في منزل العجوز، جئن للاحتفاء بمنال، الكل ينادينها: يا عروس! فرحت بهذا اللقب كما فرحت بالقصر، دارت في السهرة أحاديث وغناء ورقص، أحاطت بها نسوة من القرية لم تعرف أسماءهن، حاصرنها بكثير من الأسئلة التي تدور حول أهلها وأوضاعهم، عن سكنها، عن عنوانها وعنوان أهلها، سئلت هناك عن كل ما لا تتوقعه، أجابت عن كل الأسئلة برحابة صدر، تباهت على الجميع بمنصب أخيها في حلب، ورتبة أخيها الآخر في الجيش، زهت بكونها زوجة لسليم، اختارها مفضلاً إياها على كل بنات القرية، بعد أن جرب الزواج من القروية فما أسعدته، ولا استحقت قصره هدية يقدمها لها. غرفت منال في سهرة النساء، بينما ذهب سليم إلى عساف، ودّعه وعاد لينام باكراً، أمامه تعب  كثير، سيسافر مع مديره، سيركب الطائرة للمرة الأولى، لذلك سلم مقاليد العمل في القصر لضرار، وحَمَل عدداً من الرسائل مع أرقام هواتف أمره عساف بإيصالها إلى أشخاص يسكنون المدن التي سيزورها، وإحضار أجوبتها، مع ما يرسلونه من أشياء، حذّره بشدة من الاطلاع على تلك الأشياء، أو قراءة الرسائل، أمره بالتكتم والسرية المطلقة في أداء العمل، لأن هذه المهمة ستكون بمثابة اختبار لأمانته. حنى رأسه لأوامر عساف وطار، بينما راح ضرار يراقب العمال، يسرع وتيرة العمل، العمال ينفّذون بدقة كل ما يأمرهم به عساف، بفتح باب هنا، ونافذة هناك، حتى جعل للبناء مداخل ومخارج سرية لن يتسنى لصاحب القصر نفسه أن يحفظها مهما كرر المحاولات. بسرعة قياسية صار البناء جاهزاً، حين جيء بالبلاط لفرش الأرض، اقترح عساف حفر أنفاق في أرض كل غرفة، ثم سقفها وتبليط الأرض بشكل عادي لا يثير الانتباه، سأله أحد العمال عن تفسير ذلك، فزجره بعنف: ألا تقبض أجرك كاملاً ؟ إياك أن تتدخل فيما لا يعنيك  لكن اسمع أيها الغبي، ألا ترى القصر مبنياً على أرض هشّة؟ لو تجمعّت مياه الأمطار تحت البلاط لأضعفت أساسات القصر، هذه الأنفاق مهمتها تصريف مياه الأمطار، هل فهمت؟  ضرار لا يرقى في حسبان عساف إلى أكثر من مرتبة كلب، لا هو بالقديس، ولا هو بالشيطان؛ اذهب، تعال، خذ، هات، ويبقى عساف هو المهندس الحقيقي لكل ذلك المشروع. خارج البناء، في الباحة الواسعة، اقترح عساف بناء مصطبة، لتكون محطاً للسهرات الممتعة، تذكّر بالماضي والحياة الريفية البسيطة، بعيداً عن قيود البناء الحديث وتعقيداته التي تشعر الإنسان كأنه في سجن، جيء بقوالب من البلوك، بنيت بشكل مصطبة مفرغة من الداخل، بناها عساف بنفسه، وترك مهمة كسوتها بالطين والجبس لأخلص خلصائه شعلان، تم ذلك تحت حراسة خبيثة، تمنع كل عين طفيلية من التجسس والتقاط المشاهد، في حين بات ضرار في المدينة، ليتابع بعض المعاملات المتعلقة بمؤسسة الريّ، هدفها جرّ قناة من مياه الشرب، لتزيين قصر سليم. لم تكن حراسة المكان بالمعنى المعروف للحراسة، بل بإشغال سكان القرية بما يلهيهم عن البناء وما يجري فيه، بشكل يجعلهم يدورون في دروب القرية ناسين سليماً وقصر سليم. أرسل أزلامه أول الأمر لاستكشاف سهرة الرجال وسهرة النساء، في أي منزل يجتمع كل منها ،ألقى أحدهم حصاة كبيرة على سطح منزل النساء، أتبعها بثانية وثالثة، بينما ألقى آخر حصاة على سطح منزل الرجال، أتبعها بثانية وثالثة، راح الرجال يتبادلون النظر وجلين، لم يلفظ أحدهم بكلمة ،الحصاة في عرف القرية إشارة من فتاة، تستدعي بها حبيبها ليقوم من بين الساهرين، فيوافيها إلى عشّ الغرام، من الرجل المقصود؟ من الفتاة؟ ابنة مَن من الحاضرين؟ أخت من؟ ربما  زوجـة من؟ الشيء نفسه حصل في مجلس النساء، من المدعوة للغرام؟ من الداعي؟ لم يجرؤ أحد من الرجال على الخروج، وكذلك النساء، خوفاً من الاتهام، بعد لحظات عادت الحصى تطرق السطوح بإلحاح أكثر، تجرأ كبير الرجال، فتح الباب وخرج منه مستطلعاً، تبعه جميع الساهرين، من لا يخاف على زوجته خاف على ابنته، من لا يخاف على أخته خاف على زوجته أو ابنة عمه، من لا يهمّه أمر أحد خاف على حبيبته من الافتضاح، بقيت النساء واجمات خائفات، فزعت الفتيات من الفضيحة، زمجر الرجال وانتشروا بين البيوت ،استظرف بعض الشبان هذه اللعبة، فراح يبحث عن الفاعل، متحيناً أية فرصة ليلتقط حصاة فيقذف بها على أقرب سطح إليه، وهكذا، استمرت لعبة البحث عن الجاني طوال الليل، حبست البنات في أكثر الغرف ظلمة، وضعن تحت مراقبة العمات والجدّات، بينما استمرّ الشبان يتضاحكون خلسة ويرشقون المزيد من الحصى، لاعنين بصوت مرتفع كل قليل الأصل. في تلك الليلة بات ضرار في المدينة، أنهى معاملة قناة الريّ، واشترى ما يلزم لإشادة بركة تزيينية، تفرش بالسيراميك الأزرق، تقوم في وسطها نافورة مزركشة، واشترى بعد ذلك من )البازار( عدداً من طيور البط والإوز، والأسماك أيضاً، لتسبح بين البركة والساقية، مكملة حلم سليم، بامتلاكه بستاناً تحيط به ساقية، تجري خلف سياج من الزيزفون مثل بستان خالد السكّر، الذي كان يعتبره في طفولته جنة من جنات ألف ليلة وليلة. لم يطلع ضرار على مراحل بناء المصطبة، ولا علم ما خبؤوه فيها بين قوالب البلوك حين عاد إلى القرية، وجد المصطبة جاهزة، مفروشة بحشايا جلدية وثيرة نظيفة، مثل مقاعد السيارات، ذات مساند مريحة، في الوسط منها، صنعوا طاولة صغيرة من أجل كؤوس الشاي، جهّزت من البلوك أيضاً، وزخرفت بالجبصين، بينما بقي جوفها فارغاً مثل أجواف المقاعد، لا يعلم سوى عساف وشعلان ما تحتويه. سليم ساوره شك في وجود رصيد حقيقي لمنال في البنك، لذلك وهبها مبلغاً من المال، وأشار عليها بإيداعه في حسابها ضماناً للزمن، أعطته دفترها، ولكن... حين كشف عن الرصيد، وعرف أنه لا ينقض وضوءاً، ولا يفسد صلاة، شعر بخديعة كبرى، ما كان الكلام الذي قاله أبو معاذ يوم أشار عليه بالزواج من منال سوى )سيناريو( اتفق عليه مع أهلها لإيجاد عريس لها، وأي عريس؟ لا بأس يا منال ،ستدفعين ويدفع أخوك الكثير الكثير، حتى يوازي ما تدفعونه الرصيد الذي كان يحلم به سليم، سليم لا يمكن أن يخدع أو يغرر به، أعطى لموظف المصرف ورقة نقدية، ليضيفها إلى حساب منال، وضم الباقي لحسابه هو، الآن فقط علم لماذا تستميت منال في طلب رضاه، الجواب واضح؛ لأنها مخادعة، تخشى انكشاف أمرها، عاد للتفكير، ألا يمكن أن يكتشف يوماً ما أن البيت الذي تسكنه وتدّعي ملكيته خديعة أخرى؟ لن يصبر، سيكتشف ذلك بنفسه. فتش في الأدراج، أخذ إيصالات الكهرباء وذهب إلى البلدية، من هناك، أخذ رقم العقار واتجه إلى الدوائر العقارية، اطمأن بأن ملكيتها للبيت ليست مزيفة، البيت هبة من أمها، ولكن.. من أين يأتيه الأمان؟ ما المانع أن تسترد الأم هبتها بعد أن تزوجت منال؟ لا، زوجها أحق بالاستيلاء على أملاكها من أي شخص آخر، عاد إلى منال كما تتمنى أن يعود، وكما يعرف هو كيف يعود، أعادها إلى أيام زواجها الأولى، اعتذر لها بأن أشياء لا يعرف كنهها خارجة عن إطار إرادته، لا يستطيع إدراكها، أو مقاومتها، تبعده عنها غصباً.  كان يعلم مدى إيمانها بالشعوذة والمشعوذين، فلتذهب إليهم، ولتشتر منهم أطنان التمائم والحروز ،المهم أن توقع له تنازلاً عن ملكيتها للبيت، وهذا ما حصل. هدأت نفس سليم واستكانت، بعد امتلاكه لمنزل منال، خرج من الدوائر العقارية مفكراً، عند أي من الزوجتين سيبيت ليلته؟ من منهما ستذهب معه إلى المطار؟ فاطمة؟ زمان طويل مضى لم ير فيه فاطمة، ولا رأى أحد أولاده، فاطمة هي الأصلح في ظرف كهذا، منال لا تفقه من أمور الحياة شيئاً، ربما لا يهمها سوى جسدها وما يتعلق به، النساء في أوربة كثيرات رخيصات سمع عنهن الكثير، والآن هو على مقربة من التأكد بنفسه، سليم لا يشعر الآن بالحاجة إلى منال، فاطمة غذاء الروح ،والأولاد... أين الأولاد؟ طرق الباب وانتظر، ثم عاد للطرق من جديد، كان الوقت عصراً، لاشك أن الأولاد في البيت بعد عودتهم من مدارسهم، طرق بعنف أكثر، فتحت الباب سامية، ابنته الكبرى، تأملته بنظرة تنطق بالرعب. -        كبرت يا سامية وأصبحت صبية حلوة. -        ماما ليست هنا. -        أين ذهبت؟ انتظرت الفتاة قبل أن تسمح له بالدخول، كانت تتأمل صلعته وكتفيه، كرشه الذي انتفخ حتى ما عاد الباب يتسع لدخوله، بحثت سامية في كل تلك الأماكن عن الشيطان الذي يركب والدها ويأمره بجمع المال الحرام، وقف سليم يتأمل طولها الفارع، المشابه لساق نبتة قمح ضعيفة، وبراعم أنوثتها التي بدأت أولى وريقاتها بالظهور في الصدر، لام نفسه على الإهمال والتقصير، اعتصره إحساس رهيب بالذنب، مرت بضع دقائق في صمت.  انتبه سليم إلى أنه يقف أمام باب بيته، وابنته تفرد ذراعيها على قائمتي الباب كأنها لا تريد أن يدخل، أحسّت به سامية، هي فعلاً لا تريد أن يدخل، وحدتها مع إخوتها الصغار صعّدت خوفها منه إلى الذروة، لو دخل، سيدخل شيطانه معه، ربما يتركه هنا ليركب شخصاً آخر ممن في البيت، قد يكون أمها، سامية لا تطيق العيش ساعة واحدة بعيداً عن أمها ليبق إذن مع شيطانه خارج البيت، لا أحد يريده هنا، من دعاه للعودة؟؟ -        ما هذا يا سامية؟ كأنك لا ترغبين بوجودي؟ -        بل.. كلا... نعم... أريد. تلعثمت الفتاة، ما عادت تعرف كيف تتصرف؛ هل تسمح له بالدخول مع شيطانه إلى البيت؟ هل تتركه يوزع المال الحرام كما في المرة الماضية؛ لتذهب البركة من البيت، وتأتيهم مصيبة يدفعون ثمنها المال الحرام، وفوقه ما يملكون من مال حلال؟ لكن كيف تصرفه؟ هو أبوها على كل حال، فاطمة دائماً تأمر أولادها بالصلاة والدعاء له، عسى أن يتوب الله عليه، ويذهب عنه الشيطان. -        أريدك أن تلحق بأمي. -        أين أمك؟ -        في المشفى. -        أي مشفى؟ ولماذا؟ -        أخي زياد سقط عن سلم المدرسة، أخذوه إلى المشفى بالأمس. -        وأنتم؟ كيف تعيشون؟ -        أنا أعرف كيف أدبر أمور إخوتي في غياب أمي، الجيران يساعدوننا. ترك  سليم الباب، ونزل السلم راكضاً، ظلت سامية تراقبه حتى توارى، أغلقت الباب وتنفست بارتياح، همّ كبير انزاح عن كاهلها، ما كانت تستطيع حمله وحدها. وصل سليم إلى المشفى خارج الوقت المسموح فيه بالزيارة، فرش طريقه بالأوراق  النقدية، وزعها على البوابين والحراس، وراح  يركض في الممرات والردهات، حتى وصل إلى حيث يرقد زياد، انكّب عليه يشبعه لثماً وتقبيلاً، امتزجت دموعه بدموع الصبـي الذي أدهشته المفاجأة، استيقظ في نفسه الخوف من الشيطان الذي يركب أباه، اختلط ببقايا خوفه من حادث الأمس، فانَخرط في نوبة بكاء حادّة، صارخاً طالباً الحماية من أمه. اقتربت فاطمة من الطفل، أمسكت يده تهدّئ من روعه، تمسح بيدها الحانية على وجهه وصدره حتى سكنت ثورته، ابتعد سليم، وقف على الشرفة مديراً ظهره، يجلده الندم، والألم كقاتل فوجئ في مكان جريمته، أولاده كلهم، من سامية حتى زياد الصغير يخافونه، يرتعبون من رؤيته، صار بالنسبة إليهم غريباً، لا يريدونه، ماذا جنيت يا سليم؟ بسرعة ترك الشرفة وسعى بين غرف الإدارة، كلم الأطباء والممرضات، اطلع على الصور الشعاعية، دفع حلاوة السلامة، وزعها بين الجميع حين تأكد أن ما أصاب ابنه لا يعدو رضوضاً بسيطة ستشفى من تلقاء نفسها، أخرج الطفل من المستشفى، وصحبه مع أمه إلى البيت، فرح الأولاد بعودة أمهم ،وبسلامة زياد، بقي سليم خارج إطار احتفالهم وفرحهم، كان وجوده لا يعني لهم شيئاً، تمدّد زياد على فراشه، وجلست فاطمة قرب وسادته ممسكة بيده، كان طوال الوقت محموماً خائفاً يهذي، الكل مشغول به إلا الأب الذاهل، أحسّ نفسه ثقيلاً منبوذاً كأن سوراً من أسوار التاريخ يفصله عنهم، لا يرونه، ولا يحسونه به، لا يريدون التواصل معـه بأي شكل. فاطمة أيتها القديسة ما بقي لسليم في دنياه سواك ،أنت واحة الأمان، أنت صلة الوصل بين سليم وكل القيم النبيلة والسامية، لابد أنك تحتفظين ببعض الودّ والدفء، تعالي، امنحي للقلب الشريد شيئاً من الطمأنينة والعزاء. دخل غرفته، ونادى فاطمة، أجلست سامية ابنتها الكبرى في مكانها على وسادة زياد، وذهبت تلبـي نداءه، حاول التخفيف عنها، نقل لها ما قاله الأطباء عن حالة زياد، وأن ليس هناك ما يخيف أو يقلق، استمعت إليه وعيناها ترشقان الباب بنظرات وجلة، مستعجلة انتهاء حديثه لتعود إلى أولادها ،مدّ يده إلى كتفها، سحبها ببطء فوق ذراعها، ثم صدرها، نظرت إلى يده متابعة حركاتها باستنكار، أعادت النظر إلى عينيه مؤنبة زاجرة، أحسّ سليم بأنه أتفه من مشى على وجه الأرض، خيل إليه أن أصابعه تزحف كالديدان على فاكهة مقدسة، سحب يده على الفور وتمنى... تمنى لو تغور به الأرض فينزل بين طبقاتها حتى يلامس نواتها الملتهبة، يذوب هناك ويتناثر بخاره في  كل اتجاه بحيث لا يبقى منه لحم ولا عظم. محاولة أخيرة، سهم أخير بقي في جعبة سليم، سيرمي به قبل أن يخرج، إلى أين سيذهب لو خرج من هنا؟ إلى منال؟ اللعنة على منال، اللعنة على جسدها الملتهب الذي يتحكم بعقلها وكرامتها ،ويسحب ظله على كل فعالياتها، سليم بات يشعر بالقرف من استماتتها في التفنن لإيقاد شهوته، كل جهودها تأتي بنتائج عكسية لما ترتبه وتسعى إليه، سيطلق سهمه الأخير هنا، عساه يحظى بإذن بالمبيت هذه الليلة بعيداً عن منال. اسمعي يا فاطمة، قال سليم، أوشكت أن تسأله قبل أن تسمع شيئاً: هل أقلعت عن اقتناص المال الحرام؟ لكنها صمتت، ففي عرض حديثه سيلقي بالجواب، أخبرها أنه مسافر إلى خارج البلد في مهمة رسمية، طلب منها أن تسجل قائمة بكل ما تحتاجه وأولادها من أشياء موجودة هناك، وأنه يريد أن تأخذ الأولاد لوداعه في المطار، لتكون وجوههم آخر ما ينطبع على عينيه من صور الوطن، وهي فرصة لهم، يشاهدون فيها المطار، ويخرجون في نزهة نادرة. -        وزياد؟ -        سيتعافى بعد يوم أو يومين، صحته بخير الحمد لله. -        سأعود إليه الآن، متى ستسافر؟ -        بعد أيام ثلاثة. -        حسناً. تركته وحيداً في غرفته، وعادت لأولادها حزينة، لكنها حازمة كعهدها دائماً، اتخذت مجلسها قرب رأس زياد، الذي غفا بهدوء، وانتظمت  أنفاسه، وزعت أولادها على مضاجعهم، وأطفأت المصابيح، لم يجد سليم بدّاً من المغـادرة، شعر بغربته تزداد قتامة في هذا البيت، غريب هنا كما هو غريب عند منال، لا، ليس غريباً عند منال، بل أسيراً مطالباً بإتاوة لا تقدر إنسانيته على دفعها. اكتشف أن فاطمة تعامله بشكل رسمي، تؤدي تجاهه واجباً تفرضه عليها تقواها، هي تقية دائماً، تعرف الحقّ والواجب، لكن العواطف لم تخضع يوماً لحقّ أو واجب، شعر بأن نفسه بقعة دنس، تلوث طهارة هذا البيت، جرجر حمولته من الكرب والضيق وانسحب بصمت، اتجه إلى المكان الذي يشعر أنه يليق به، عاد مخذولاً للتمرغ على سرير منال. باءت كل محاولاته لاستمالة فاطمة وأولادها بالفشل، حتى في المطار ما استطاعت رؤيتهم للطائرات عن قرب، وانبهارهم بكل شيء هناك، أن تلغي الحواجز بينهم وبينه، ولا أن تختزل مسافتها  ،كانوا يلتفّون حول فاطمة ممسكين بثوبها، توزع حنانها عليهم بالتساوي، ناسين أن لهم أباً، جاؤوا إلى هنا من أجل وداعه، سيذهب في سفر قد يعود منه، وقد لا يعود، ظلوا كذلك حتى اللحظة قبل الأخيرة، أمرتهم أمهم بوداعه، تحلقوا حوله خائفين، تمنى لو تطول هذه اللحظة حتى تشمل الدهر، تمنى لو يحدث أي طارئ يلغي فكرة السفر، أو يؤجله، لا فائدة من التمني، أقلعت الطائرة، عادت فاطمة بأولادها إلى حياتهم الآمنة الدافئة، وطار سليم. كانت أول رحلة له في الجوّ، لكن قهره وإحباطه، ذكرى أولاده يعاملونه كالغريب ضيعت عليه متعة السفر، ظلّ معتكر المزاج، متمنياً الموت حتى عاد مرة أخرى إلى الأرض، سمع المضيفة تردد بلغات عدة ، كلمات تهنىء المسافرين على الوصول بالسلامة. في أول مدينة زارها رمى بذكرياته، بل صار يضحك من حماقاته، لم يحبس روحه في محراب فاطمة طالباً رضاها؟ الدنيا تحوي الكثير الكثير من أصناف النساء، متشابهات ومختلفات، في كل المدن مقاهٍ وساحات يمشي فيها الناس، ويأكل الحمام الحبّ من أيديهم آمناً، في كل المدن شوارع مزدحمة وأسواق شعبية ونوافير ماء، ليس في دمشق وحدها، الإنسان هنا طير حرّ، يفعل كل ما بدا له بلا رقيب، هناك حصار دائم على كل نظرة وفكرة وخطوة، إلى الجحيم يا ساحات وشوارع الوطن إلى الجحيم يا فاطمة ،أهلاً بملذات الحياة تجري أنهارًا من حوله، يحتار من أيها يبدأ الاغتراف. في الليل عاد سليم لنفسه، صحا من انبهاره، تذكر الأمانات التي يحملها، فرز الرسائل التي بحوزته ،والعناوين المسجلة على دفتره، أمسك جهاز الهاتف في الفندق، وتراكضت أصابعه فوق أزراره. ردّ عليه كل الذين اتصل بهم بحفاوة لم يتوقعها،  طلب إليهم الحضور لاستلام أماناتهم فما تأخروا ،شعر أنه أهم بكثير من مديره، بل إن أهميته في هذا البلد تفوق أهمية الإدارة التي أرسلته ومديره في هذه المهمة الرسمية. وأنه يصلح للعمل سفيراً ناجحاً، ألم يؤد الأمانة كما أمره عساف؟ أخذ الرسائل، أوصلها، استلم الردود عليها دون أن يقرأ حرفاً واحداً مما كتب فيها، اعتبر نفسه ناجحاً بامتياز، وأنه يستطيع ترك الإدارة كلها والتفرغ لعمل السفير المتجول. معظم الذين تلقوا الرسائل دعوه إلى زيارتهم، لبى دعوة الجميع، اصطحب مديره إلى عدد منها ليكسر بأسه، ويريه بأم عينه أنه أكثر أهمية منه ومن إدارته، أخذ منهم ما يريدون إرساله إلى عساف ،مع مبالغ نقدية مغرية، منحوها له مقابل أتعابه أودعها كلها في مصارف الدولة المضيفة، وعاد نظيف اليدين كما ذهب. كان مديره يتابع لقاءاته بحذر، سأله وألحف بالسؤال: من هؤلاء يا سليم؟ سليم لا يدري ،ماذا تحمل هذه الرسائل يا سليم؟ سليم لا يدري، هذه الصناديق التي يدفعون بها لك، لمن ستوصلها؟ تذكر سليم أن هذه المهمة اختبار لأمانته، رأى نفسه في موقع الاختبار، هل يختار المدير؟ أم عسافا؟ طبعاً عساف هو الأرجح كفةً لدى سليم، كان ميزان سليم مقلوباً، فلم يعطه الجواب الصحيح، ما علم أن عسافاً يريده مع مديره في إدارته، يريد هذه الصلة بكل الإدارات والوزارات، ولو كذباً، لأنه يعرف كيف يفرز ما يأتيه من الأخبار ليعزل صحيحه عن كاذبه، عساف كلفه بإيصال هذه الرسائل لعلمه أنه ذاهب في مهمة رسمية، لن يدققوا في تفتيش حقائبه على الحدود الدولية، مهمته الرسمية تحميه، سليم يحلم بالاستقالة من إدارته، ليعمل سفيراً خاصاً لعساف إلى كل دول العالم، وعساف يتخذ المهمات الرسمية مطية لمراسلاته. في أثناء رحلة العودة، كان الخوف بادياً على وجه المدير، طلب من سليم قراءة بعض الرسائل، رفض سليم بشدّة، هذه خيانة، لا يمكنه التفريط بقيراط واحد من ثقة عساف مقابل كل أموال المدير ،فليغضب المدير، المدير مدير هناك، في إدارته، أما عساف فآثاره تبدو واضحة المعالم في كل مدينة زارها سليم ،والتقى فيها أصدقاء عساف، عساف يملك نفوذاً أوسع، هل ينتقم المدير منه فيقيله من إدارته؟؟ ليفعل إن شاء، سعيد موجود، هو أخو زوجته، وأوسع نفوذاً من المدير، لم الخوف؟ لم التنازل أمام المدير؟ استحضر صورة منال في ذهنه، تفنن في مغازلتها، حملها في خياله وطار بها إلى حيث تحبّ، وسليم يعلم جيداً ما تحب، لكنه لا يعلم ما أصابها في غيابه، إذ ما كادت تستقرّ في بيتها بعد عودتها من القرية حتى تدفقت عليها أمواج الضيوف، كلهم أقارب سليم، كلهم قادم إلى العاصمة لمتابعة معاملة، أو زيارة صديق، أو ما شابه من أسباب، ينزلون في بيت سليم، ما على منال سوى الإنفاق والعمل، صبرت منال ،غالبت نفسها بالصبر منتظرة عودته ،ما علمت أن شبكة الأسئلة التي أحيطت بها هناك، كانت استطلاعاً لمعرفة كل منفذ لسليم يمكنهم الاستفادة منه. استقرّ تفكير سليم على موضوع واحد لا يبرحه، قطع بقية الطريق يرسم ويلوّن في تفاصيله حتى اكتملت لديه الصورة، لابد من السفر إلى حلب لزيارة سعيد، وطلب العمل لديه، منال هي صلة الوصل. سليم لم يحضر هديه لمنال، وهو العالم بولعها بالهدايا، لابأس، في البلد عشرات المحلات تبيع الهدايا، سيشتري لها هدية من الزقاق نفسه الذي تسكنه، سيخبرها أنها من أوربة سيقدم لها مع هديته قبلة، فتصدقه على الفور، هو يعرف ثمن منال، إن لم توافقه على زيارة بيت سعيد، سيأخذها معه ،وينزلها في فندق، ألا يرضيها ذلك؟ سيرضيها حتماً، أما فاطمة؟ لتحترق فاطمة. أمضى سليم ليلته الأولى عند منال، فرحت به وبالهدية )الأوربية( استمرت فرحتها طوال الليل، مصادفة، كان بيت منال يوم قدومه خالياً من الضيوف، وكعادتها منال لم تشأ أن تقطع على نفسها متعتها بوجود سليم، نسيت، أو تناست أسراب الضيوف الذين استوطنوا بيتها، آكلين شاربين نائمين مع زوجاتهم وأولادهم، راكضين بين بيتها وبيت أهلها، لم تسلم منهم مكاتب عمها ولا متاجره، وصلوا إلى مكان عمل أخيها الضابط، عقدوا صحبة مع حاجبه، لم يعلم، كما لم تعلم منال شيئاً عن بنودها، لا بأس، كل شيء يهون عندها ما دام سليم قد عاد، عاشقاً راغباً مثلما كان، لابد أن يتدخّل من تلقاء نفسه لحلّ أزمتها مع أقاربه وأهل قريته. في الضحى، حمل سليم كل ما جاء به من الأمانات وذهب إلى القرية، أدهشه هناك اكتمال قصره ،والساقية التي تدور حول القصر خلف سياج من شجيرات الزيزفون، تماماً مثلما كان يحلم، صورة عن بستان خالد السكّر، اتسعت دهشته لتتحول إلى ذهول، أمام المصطبة، تذكّر أنه شاهد نسخة عنها في  كل بيت دخله وكل مكتب، عند الناس الذين أرسله إليهم عساف، تمنى حينها لو يبنـي في قصره مصطبة مشابهة، لكنه شعر الآن كأنه النبيّ سليمان، حضر أمامه العرش الذي حلم به قبل أن يرتدّ إليه طرفه، وماذا بعد؟ جاهٌ ما حصل عليه رجل قبله، ولن يتاح لرجل من بعده، هنيئاً لك يا سليم، ردّدها مئات المرات في أعماق قلبه، يكـاد يطير محلقـاً مع مصطبته في سـماء القريـة، لِمَ لَم  يذكر )ود الريس( الجاه في روايته؟ ما دار في خلده أن عرشه لم يطر، حتى لو خفّ وزنه وصار أصغر من بعوضة، قوالب البلوك التي تشكّل المصطبة، مع الإسمنت الذي يغلفها لن تطير، ستنوء بثقل ما ينطوي عليه جوفها من أسرار مكتوبة على أوراق  وجداول منظمة أدق تنظيم، بالإضافة إلى أوزان ما تحتوية المصطبة من أسلحة وذخائر، تمنى سليم لو يطير، لكن هيهات. أفرغ حمولته من الزاد والحلوى بين يدي عساف ورجاله، تمنى له أنه جاءهم بأضعاف أضعاف هذه الكمية، هؤلاء المخلصون يستحقون كل شيء، كل شيء على الإطلاق، سهر معهم حتى انتصاف الليل على المصطبة، القصر ما يزال خالياً من الأثاث، فكّر بصوت مسموع: بأي نوع من  الأثاث سنفرش هذا القصر؟ كان الجواب جاهزاً قبل السؤال: عند مسعود ستجد كل شيء، قم يا خالد، اذهب إليه الآن، دهش سليم: الآن؟ أجل، الآن، مسعود يعرف ما تحتاجه بيوت كهذا البيت أثاثاً لفرشها، سيكون غداً صباحاً كل شيء جاهزاً، ما عليك سوى دفع النقود. النقود؟ هذا أسهل شيء يمكن لسليم فعله، ولكن حان الآن وقت النوم، نهض عساف متمنياً لسليم نوماً هادئاً في منزل والده العجوز، الأب مازال يرقد في زاويته، مريضاً مهملاً تفرحه الهدايا والنقود التي يلقيها سليم بين يدي زوجته نظمية، تسكتها عنه إلى حين، يغدق رضاه على سليم دون حساب ،ولا مكيال، لا يرضيه إلا أن يمدّ فراش سليم قرب فراشه. وقف سليم وسط الساحة تخنقه السعادة والرضا، بل الامتنان، لكن رجال عساف أتوا على كل ما جاء به من زاد وحلوى، لم يتركوا قطعة واحدة يرضي بها العجوز، كيف سيواجه أباه الآن بيدين فارغتين؟ استدار ملتفتاً إلى الداخل، تسمّر في مكانه مستغرباً ما يجري، كان الرجال يهيئون مضاجعهم، فرش من الإسفنج الخفيف مع بطانيات أخرجوها من داخل الغرف، فرشوا بعضها في باحة الدار، وبعضها الآخر حملوه إلى السطح عبر السلم، سينامون هنا إذن؟ لا بأس، ليناموا حيثما شاؤوا، تمنى لو ينام معهم لينجو من عتب العجوز، إذ يدخل عليه فارغ اليدين. جاءه صوت عساف من البعيد، مع السلامة يا سليم، تصبح على خير، كان صوته قوياً حازماً صارماً لا يترك مجالاً للمناقشة، خرج من داره كالمطرود ،لابد له من رتق موقفه أمام أبيه بالأوراق النقدية، سيفرح العجوز، لكن سليماً لا يحب أن يفعل، يشعر دائماً أن كل مبلغ يعطيه لهم إنما يسلخه من جلده، يناوله لأبيه مكرهاً، يتلقاه الأب راضياً، تأخذه نظمية. ومرارة القهر تكوي حلقها، فتعود لتوغر صدر العجوز مجدداً ضدّ سليم، إذ تنقل له كل ما تراه وتسمعه عن كرمه أمام عساف ورجال عساف، تحكي له أن سليماً أعطى مفاتيح القصر لهم، يطعمهم فيه، ويدفع لهم ما يشتهون، مفضلاً إياهم على  إخوته, بات سليم في منزل والده، وبقي أمام عينيه سؤال أرقه: هل سينام عساف مع رجاله في دار سليم؟ عساف ينام حيث تغيب شمسه، لا أحد يملك حق نقاشه بأي شيء، حتى زوجته، لا يحقّ لأحد سؤالها عن عساف وأماكن وجوده, وإلا!! التهمة جاهزة...التعامل مع المخابرات وتقصي الأخبار من أجل كتابة التقارير. منزل عساف قلعة محصنة تحصيناً جيداً، بأسوار منيعة، وأركان متينة، محرمة تحريماً قطعياً على كل أهل القرية من رجال ونساء، عساف أحد أبناء القرية، ولكن... كيف استطاع الحصول على هذه الحصانة؟ لا أحد يعلم، من أين يستمدّ القوة في موقفه؟ لا يهمّ، أهل بيته لا يزورون أحداً من القرية، ولا يزارون، لا يعيرون لأحد رغيف خبز، ولا... لا... هذا خطأ، هم يستعيرون أحياناً، وربما يستدينون النقود، لكنهم لا يردون عارية، ولا يسدّون ديناً، لا يجرؤ أحد على مطالبتهم، يستقبلون ضيوفاً من خارج البلد، يأتون بسياراتهم يدخلون بها البوابة الكبيرة ثم تغلق خلفهم، لا يراهم أحد من الجيران، ولا يرون أحداً، أولاد عساف الثمانية محجوزون خلف الأسوار، كبارهم لهم عالم خاص، يسافرون يقضون شهوراً متواصلة في مدن أخرى، عند أصدقاء وصديقات، يأتي أولئك بالمقابل لقضاء مُدد مماثلة في ضيافتهم، البنات والشباب على السواء، الصغار من أولاده يذهبون للمدارس كما يذهب بقية الأولاد في القرية، لكنهم لا يلعبون مع أحد، لهم حظوة خاصة عند المدير والمعلمين تجعلهم يمضون دقائق الفرصة بين الدروس في غرفة الإدارة، أو يرافقون المعلم المناوب في جولة بين التلاميذ في الباحة، يتحدثون كالكبار، يتصرفون كالكبار، كأن الطفولة بكل مغريات اللعب والصخب فيها لا تعرف طريقاً إلى نفوسهم، كأنهم ولدوا عجائز. بات سليم ليلته مؤرقاً، أهذا هو المجد الذي يحلم به؟ أن يبني لعساف وكلابه قصراً في أعلى قمة من قمم القرية، ليعيشوا فيه، يفعلون ما بدا لهم، ويخرج هو، مطروداً لينام عند والده العجوز؟ هل سيظلّ ينفق عليهم مثل تنابل السلطان؟ لا بد من وسيلة يستعيد بها قصره، لكن أية وسيلة؟. صحا من النوم ضحى اليوم التالي، كانت نظمية زوجة أبية قد أعدت وجبة سخية لطعام الإفطار ،لا يعرفها بيتها إلا بوجود سليم، وجلست في باحة الدار تنتظر استيقاظه، والده أحسّ بأرقه، لذلك كتم سعاله في الفجر، وخرج يتسند على الجدران، ليتركه ينام كما يحلو له. تناول بضع لقيمات على عجل، وخرج يتفقد قصره، دار حول بيوت القرية على مهل باحثاً في ثنايا عقله عن وسيلة يسترد بها قصره الذي ما سكنه بعد، مرّ على الحارة الشمالية، هنا كان يسكن عبود المجنون، ليس مجنوناً فحسب، بل أبكم أيضاً، لا يحسن لفظ كلمة واحدة، كان يضع عوداً من أعواد الحطب بين أسنانه ،يركض أصابعه عليه، يصدر من فمه أصواتاً مضطربة كأنما يعزف على مزمار، لحنه قريب من لحن: )سمعت عنين الناعورة( يكرره دائماً ولا يملّ، يمدّ يده إلى الناس طالباً بعض النقود، إن أعطوه رفع يده إلى رأسه شاكراً، وإن منعوه، رفع طرف ثوبه حتى يغطي به رأسه ويكشف عورته، تصرخ النساء مذعورات، فيغادر المكان ضاحكاً، ترى، أين أنت يا عبود؟ تساءل سليم، ألم يكن عبود سعيداً في حياته؟ بلى، إنه لسعيد، لا يزاحمه أحد على شيء، ولا يزاحم أحداً، يغني، دائماً يعزف ويغني، ما عنده قصور يطرد منها، ولا أموال يدفعها إلى من لا يحبهم، لا مطمع له في جاه يبنيه على قمة هذا التلّ المشؤوم، سيسأل تفاحة عن عبود المجنون، توقف، شعر بحنين غامر إلى اللحظات التي كان يمنح فيها لعبود بعض زاده، يأخذه منه شاكراً، في كل هذه القرية لم يعامله أحد بإنسانية تعادل إنسانية عبود، حين جلس سليم إلى تفاحة في دكانها نسي عبود وما كان من ذكراه، لو سألها لأخبرته أن عبوداً مات مقتولاً بالرصاص، كانت دورية الشرطة تتعقب بعض المجرمين الفارين، وسط ليل مشحون بالخوف والتوتر، ركض عبود أمام الدورية، أمروه بالتوقف، لم يتوقف، هددوه بإطلاق النار، لم يتوقف، أطلقوا النار سقط عبود قتيلاً، وفرّ رجال عسّاف. قلبُ سليم مَشحَرةأين عساف؟ -        في القصر ينتظرك، الكل هناك بانتظارك. -        لماذا؟ -        مفاجأة.                                                             أطلق الرجل صفيراً حاداً قوياً، تجاوبت أصداؤه بين جدران القرية ومغاورها، ثم تابع سحب سليم إلى القصر، بسرعة مذهلة، تراكض الناس، تجمّعوا، طلع عليهم عساف بموكب يشبه الاحتفالات الرسمية، كان سليم قد وصل حينها إلى منتصف باحة القصر، وقف مشدوهاً، محتاراً في تفسير ما رأى، تقدم عساف على مهل، فضّ مغلفاً من ورق الهدايا الملون أخرج منه عباءة ثمينة، فردها بين يديه ،وألبسها لسليم على مهل، في طقوس تشبه تتويج الملوك معلناً للجميع أن سليماً هو سيد القرية منذ اليوم، لديه تحلّ المشاكل جميعها, صفق الجميع بحرارة وانهالت المباركات. في غمرة هذه الموجة من المجد، نسي سليم ما كان من ظنونه قبل قليل، شمخ برأسه كحصان جموح يعرض في )البازار( راح يمشي مختالاً بعباءته الطاووسية الجرارة أمام الناس، ثم توقف ليتأملهم، كان بين الحشد إخوته وأولادهم، أعمامه، جيران أبيه، وكل من كانوا بالأمس يهزؤون بفقره وضعفه، شعر الآن أنه يستحق لقب )سيدّنا( بجدارة، لقد وصل بذراع عقله إلى سدّة المجد التي يستحقها. التفت ببطء، نادى على الملأ: هيا يا ضرار، اسكب القهوة المرة للجميع، وأنت يا رسلان اشتر لنا خروفين وكيساً كبيراً من الأرز، ستتغدون جميعكم عندنا اليوم، أهلاً وسهلاً . اختلطت الأصوات، تمازجت العبارات، الناس بين مندهش مما يرى ويسمع، ومستخفّ بكل شيء، لكن الجميع تربطهم مصالح مشتركة، بدؤوا بالدوران حول سليم وتمسيح الجوخ مهنئين مباركين، عالمين بكرم سليم وجوده، عالمين بيده كم هي طويلة في كل وزارة وإدارة. أمضى سليم سحابة يومه رائحاً غادياً في ردهات القصر، ساحباً خلفه ذيول عباءته الجديدة، يكنس بها البلاط اللامع النظيف، متنقلاً من مصطبة إلى مصطبة، من أريكة إلى أخرى جاهلاً بالأرائك والمصاطب وما تنطوي عليها، فرحاً بالجاه الذي انسكب عليه فجأة مثل مطر السماء، خصّه وحده، وحده دون سائر الناس، جعل كل المحيطين به، بمن فيهم عساف يعترفون له بالسيادة، المال؟ أجل إنه المال، هو السلطان الذي أركع عسافاً وكسر بأسه، المال أمره هين، خذ يا عساف، خذ كل ما تطلبه  وما لا تطلبه، وزعه على أزلامك، أنفق منه على العاهرات، المهم أن تظل هنا، تسبح بحمد سليم وتقدّس. بعد ذلك نسي سليم زوجته منال، تركها وحدها في خدمة ضيوفه، الرائح منهم والغادي، بينما تفرغ هو لمجالس المجد على المصطبة، تبتلع قهرها، لا تشكو إلى أحد، تخجل من أمها فلا تطلب عونها، ألم تطلب الأم التدخل ووضع الشروط، فمنعتها منال بحجة أنها وسليم حبيبان لا يختلفان؟ ولكن، ليس الخجل فحسب هو ما يمنع منال من اللجوء إلى أهلها، بل الخوف الذي يبلغ حدود الرعب، من العودة إلى بيت ما خرجت منه إلا بعد أن كرهت كل )طوبة( في جدرانه وكل بلاطة، ما غادرته حتى كادت الوحدة تقتلها، إذ تحولت غرفتها هناك إلى ما يشبه سقيفة مهجورة، لا يدخلها أحد، ولا يطرق بابها ، تنام، تصحو، تمرض، تشفى، لا أحد يهتم بها أبداً، انتقلت من ذلك المنفى الموحش إلى كنف  زوج محب، بل عاشق عابد، يعاملها كما يتعامل فنان خبير مع تحفة نادرة، الآن تركها، لا، لم يتركها، لابد أنه يعيش أزمة حادة في مشاعره وعواطفه، وأن هذه الأزمة هي التي حالت بينهما. سليم لا يدري، من أين له بالمعرفة؟ لا يعلم سليم كما لا يعلم أحد كيف يفكر عساف، ولا كيف ينفذ مريدوه أوامره قبل أن يلقيها، فمنذ غادر القرية مطروداً من بيت أبيه لم يعد، بقيت في خياله ربوعاً غبية لا يحمل لها إلا الحقد، ولا ينوي تجاهها إلا الانتقام جاء ليذل ناسها ويسفَّهم الملّ، ليسقيهم الهوان مع طعامه، استقبله أبالستها على أكف الأحلام، أعطوه ما فاق خياله، منحوه الاعتبار والسيادة، رفعوه فوق رؤوسهم ثم.... تلك الليلة التي أمضاها سليم مؤرقاً في بيت أبيه، سهر فيها عساف حتى انبلاج الفجر، أشار بعبارات مقتضبة كعادته، تلقاها مريدوه، بعقول منفتحة، ترجمها كل عقل إلى لغة عملية مختلفة عن الآخر، لكنها تصب  كلها في خانة البيان المعلوم. قال عساف: سليم وصل إلى القمة، وما بعد القمة إلا الانحدار، انتبهوا، يجب الاستفادة من كل نفوذه في العاصمة، ومن كل درهم لديه، الأوراق الخضراء اصنعوا لها أجنحة لتطير إلينا، أصدقاء سليم ،معارفه، أساتذته في المدينة ومستخدموه، استفيدوا منهم كلهم، اجعلوه جسراً متحركاً يوصلنا إلى.... إلى أين؟ ليس هناك مكان محدد، أصدقاؤنا في كل شبر من هذا البلد الكبير، يجب أن يستفيدوا من نفوذ سليم، حتى إذا وصلنا إلى ما نبتغي، تركنا الجسر خلفنا ليجرفه الطوفان. وهكذا، تحول رجال عساف إلى براغيث، استوطنوا بطانة عباءته الجديدة، سكنوا في ثناياها، بين خيوطها، صاروا يتنقلون معه، يذهبون حيث يذهب، يتساقطون في دروبه، يؤدون مهمة موكلة إليهم، ثم يعودون إلى عباءته ولا يشعر، يفاجئونه في كل المواقف، يظهرون له في منزل منال، وفي سهراته مع المدير، يمدون أيديهم إلى جيوبه بلا استئذان، يأخذون المال بلا عدّ ولا ردّ، يلبسون ثيابه، يستعملون أدوات بيته، تعترض منال فيقمعها، يغازلونها، يستفزونها، يتحرشون بها، يسخرون، يتحسّرون على سليم، يندبون لها حظه البائس الذي أجبره على تحمّل قبحها، يبررون له كثرة الأسفار واللجوء إلى القرية هرباً من نحسها ودمامتها، كل ذلك على مسمع سليم، حين تشكو له يأمرها بالتزام الصمت،  أخبرته بتحرشاتهم وبذاءاتهم، قال لها: حين يزورني من لا يروق لك، اذهبي إلى منزل أهلك، وهكذا امتلك رجال عساف بيتين سائبين بكل ما فيهما من أثاث وأدوات، يجتمعون، يتشاورون، ويستقبلون أتباعاً )لعسّافين( آخرين من داخل البلد وخارجه. آمنين المراقبة مجتمعين بعباءة سليم، يتصلون بالرؤوس الكبيرة التي تمسك خيوط اللعبة الخفية بأصابعها، يسافرون، يمنحون المال والخطط، ثم يعودون، عابرين دروبهم على ظهر سليم، شاغلين فكره بالسيادة التي سكبوها عليه من حيث لا يدري، وألزموه بالعمل المضني في سبيل الحفاظ عليها، فيجري سليم، لاهثاً بين إدارته وسهرات مديره، يركض ويركض بين المكاتب، يقبض العمولات، غثها وسمينها، ليسد أبواباً للإنفاق، فتحت مجدداً ما كان يحسب لها حساباً. طال مكوث منال في منزل أهلها، أصبحت لا تغادره إلا إلى بيت عمتها زينب، تخرج معها للطواف على العرافات والمشعوذين، يصنعون لها الحروز والأحجبة، يخيطون لها التمائم والرقى في رقاع مختلفة، هذا ضعيه تحت وسادة زوجك، هذا بين ثيابه، هذا ذوّبي حبره في ماء حمامه، رشّي الآخر في طريقه، أحرقي آخر عند باب الدار... كل التمائم والرقى، كل مشعوذي البلد وعرافاته، لم تفلح مجتمعة في إعادة سليم إليها، قررت: لابد من زيارة زوجته الأولى، وليكن ما يكون. بحثت عن أبي معاذ، دليلها الأول، شكت له ما تعانيه، أبو معاذ يعلم عن أحوال سليم ما لا تعلمه منال، ويدرك أن كل جهد يبذل في سبيل استعادته ما هو إلا قبض الريح، أبو معاذ مطلع على الحمأة التي غطس فيها سليم، مطلع على تاريخ عساف وجماعته، الملطخ بالدماء، يعرف مدى غدرهم، ويعرف أن سليماً لن يخرج من بين أيديهم إلا ميتاً أو مفلساً، هم لا يثقون بأحد، حتى لو أفنى عمره في خدمتهم، يقال: )إن الكلب لا يعض ذيله( أما هؤلاء فلا يتورعون عن عض كلابهم في الأذناب والرؤوس، لا يسلم منهم عرض ولا مال، فهل يسلم دخيل جاء ليتبجّح عليهم بماله وجاهه؟ لن يسلم، أبو معاذ يوقن أنه لن يسلم، إيمانه بذلك لا يتزعزع، حين تنتهي حاجتهم لشخص ما، ثمنه رصاصة واحدة، إلا إذا رأوا أن لديه بقية باقية من مصالحهم، حينذاك لا يقتلون، يثيرون حوله زوابع من الفضائح الأخلاقية، وهم أبرع من يغزل وينسج الفضائح، تجعله في عزلة عن الناس، يتمنى الموت ولا يلقاه، يبذل لهم ما تبقى لديه من جهد ومال، على أمل نوال الرضى، ثم يلفظ الروح بعيداً شريداً مثل كلب مريض. أبو معاذ لم يخبر منال بشيء من هذا، بل استمع إليها منصتاً حتى أنهت شكواها، طلبت منه إيصالها إلى منزل ضرتها، أعطاها العنوان مفصلاً، ولاذ بالهرب. هرعت منال إلى عمّتها، أقحمتها معها في هذه المغامرة المجنونة، مشت معها تستمد كل واحدة منهما الشجاعة من الأخرى حتى وصلتا إلى البيت، طرقت منال الباب وانتظرت، كان خيالها يشتعل نيراناً، تحاول تخيل المرأة التي نفر منها سليم، لابد أنها باردة بليدة، لا، ها هي ذي منال، شعلةُ جسدِها لا تنطفئ. عطشها لا يرتوي، برغم ذلك نفر منها، لابد أن منزل فاطمة قذر، ينضح بالضجة والفوضى، منزل منال مرتب مثل علبة المصاغ، كل ما فيه جميل أنيق، لكن سليم هجره وهجرها، وجاء أقاربه وأهل قريته فاقتحموا المنزل وحولوا نظامه خرابا, لابد أن فاطمة امرأة فظة، كثيرة الشكوى، كل الرجال ينفرون من كثيرة الشكوى، فاطمة فلاحة بلهاء، هكذا أخبرها أبو معاذ، لا تأتلف مع الحياة الراقية، لا تتناسب مع روح العصر... فتح الباب.... أدهش منال، بل راعها، ذلك الهدوء الملائكي الطاغي على وجه فاطمة، يعطيها وقاراً تخضع له أعتى القلوب، والرضا الذي يستوطن ملامحها، عذوبة صوتها، لطف دعوتها. -        أهلاً وسهلاً، تفضلا. -        مساء الخير يا... يا مدام، قالت منال متلعثمة. -        من أنتما؟ -        ضيوف. -        أهلاً وسهلاً . أدخلتهما غرفة الاستقبال، أمرت ابنتها سامية بإعداد القهوة، مرت بضع دقائق بصمت, كانت كل من الضيفتين مرتبكة متوترة باحثة في شتات فكرها عن كلمات تبدأ بها حديثها، بدأت عمتها، تكلمت عن الطقس وتقلباته، عن الغبار الذي يتسلل من الأبواب المغلقة والنوافذ، عن جهودها المضنية للحفاظ على نظافة بيتها، وأسماء مواد التنظيف التي تستخدمها، حين انتبهت إلى أن فاطمة صامتة طوال الوقت، تردُّ بإشارة رأسها: نعم، لا ،صمتت خجلى، نظرت إلى منال تستنجد بها، كانت منال أشدّ ارتباكاً منها في أي موقف صادفها خلال حياتها. دخول القهوة مع سامية أنقذ الموقف، قدّمت سامية القهوة، ووقفت تنتظر أن تعرفها أمها بالضيفتين، أشارت فاطمة: اذهبي يا سامية إلى غرفتك، انتبهي إلى دروس أخيك. كان الحزم واضحاً في  كلماتها وتعابير وجهها، خرجت سامية بلا سؤال. -        والآن، هل يمكنني التعرف على ضيفتـيّ؟ من أنتما، وما سبب هذه الزيارة؟ غصّت منال بريقها، شعرت بعجزها عن ابتلاع رشفة واحدة من القهوة التي قدّمت لها، تمنت لو يزلزل البناء فتغور بين ركامه، أو تحترق، تتبخّر فتسري من النافذة المجاورة. ولكن، أين المفرّ، فاطمة تجيل النظر بين المرأتين منتظرة إجابة عن سؤالها، أطرقت العمة معلنة عجزها عن الردّ، تلعثمت منال، لم يبق سواها، هي صاحبة الشأن، وعليها تقع كامل المسؤولية. -        أنا.. أنا منال. -        أهلاً وسهلاً، من منال؟ ردّت بجفاء. -        أنا... أنا زوجة.... زوجة سليم. -        زوجة سليم؟ بهتت فاطمة، لماذا تزورها ضرتها، لِمَ جاءت برفقة امرأة أخرى؟ أما كان حرياً بسليم أن يكون عراب هذا التعارف؟ رفعت رأسها، درست وجه منال بنظرة متفحصة: -        ماذا تريدين يا منال؟ -        سليم، جئت أسألك عن سليم. -        أتعتقدين أنه عندي؟ خاب ظنك يا منال، سليم لا يأتي إلى هنا إلا نادراً، وإذا جاء، زيارته مثل زيارة الأغراب، ابحثي عن زوجك في مكان آخر يا منال، أنت أعلم مني بأماكن وجوده. -        عفواً، ما قصدت هذا، لكني أسألك، بل أخبرك أن سليماً نفر منـي، عجزت عن استرداده، أتسمحين أن نكون صديقتين؟ -        لا... لا حاجة لي بصداقتك. -        علميني كيف أستردّه؟ -        لو كنت أعرف لفعلت  ذلك قبلك، هو زوجك وأنت أعلم به. -        لكنه زوجك أنت أيضاً. -        هذا شأني. لم تشرب أي من المرأتين القهوة، نهضتا معاً، قبل الخروج استوقفتهما فاطمة. -        منال، أنا حزينة لسوء حظك، ولكن لا تعودي للبحث عن زوجك هنا، سليم خرج من حياتنا ولن يعود. انصرفت المرأتان وبقيت فاطمة وحدها، تقلب الأمور على كل وجوهها، شعرت بالشفقة على منال، التي أوقعها سوء طالعها بين يديه، ترى ما الذي جناه سليم من زواجه بها؟ كم قبض؟ هل أفلست؟ هل قطعت عنه سبيل عطاياها لينفر منها؟ مظلومة منال، مثلها كمثل العشرات، بل المئات من ضحاياه، الذين ابتزهم وسرق منهم قرة أعينهم، أتراه تزوج بثالثة؟ ربما، ماذا تملك الثالثة؟ أهي غبية لم تكتشف مطامعه منذ البداية؟ ربما، ضحايا سليم دائماً من المغفلين والبسطاء وذوي الحاجات، أي نوع من المجرمين هذا الـ )سليم(؟ سليم خرج من حياتها، هذا صحيح، لكنه يدّعي أنها هي من أخرجته، ليحمّلها وزر قهر الأولاد ويـتمهم وحدها، سليم يتمنى العودة إليها، وهي تتمنى عودته بيد نظيفة، وضمير حيّ، يداه تلوثتا بالمال الحرام، ضميره مات تحت ركام الأوراق النقدية، لذلك اعتبرت نفسها أرملة، حين يأتي تستقبله ببرود ،تقدم له الطعام والثياب النظيفة، حين تختلي به بعيداً عن مسمع الأولاد تطالبه بالعودة إلى سابق عهده، والإقلاع عن حياة السوء التي يحياها مستمداً نسغها من عرق ودماء بسطاء الناس، يثور في وجهها، يضربها أحياناً، يشتمها، ثم يغادر البيت غاضباً. منذ استقرَّ بها العيش في هذا البيت الكبير، عرفت أنها وحيدة، وأنها مسؤولة أمام الله والناس عن تربية أولادها التربية الصالحة، بعيد اً عن آثام أبيهم وممارساته الخالية من رقابة الضمير، منذ أن أصبح عساف ضميره وشريعته، لذلك قسمت الدار إلى شقتين صغيرتين، سكنت إحداهما مع أولادها ،وأجَّرت الأخرى لطالبات مغتربات، يدرسن في الجامعة محاولة قدر الإمكان مواجهة متطلبات الحياة من ذلك المبلغ بالإضافة إلى المعاش التقاعدي الذي فوّضها سليم بقبضه، وبعض الهبات التي تأتيها من أبيها وإخوتها، متمثلة في الزيت والبرغل والزيتون، وأشياء أخرى مما تنتجه القرية. فاطمة لا تغفل عن شيء يخصّ أبناءها، ترعى دروسهم، تهتم بأناقتهم، تراقب تحركاتهم، تتعرف إلى رفاقهم، ولا تنسى أبداً أن تجمعهم كل مساء للصلاة والدعاء إلى الله أن يتوب على والدهم، ويخلصه من الشيطان الذي يأمره بجمع المال الحرام، مؤكدة دائماً أن من يمشي في طريق الحرام سينتهي نهاية سيئة في الدنيا والآخرة، إلا إذا تاب وأقلع عن عمله، الله يقبل توبة التائب ويغفر ذنوبه، وأنهم، حين يعود سليم تائباً نظيفاً، سيستقبلونه كما يجب أن يستقبل الآباء، بفرح وغبطة، ويعيدونه إلى مكان الصدارة من حياتهم، أما الآن، فما عليهم سوى الاستغناء عن وجوده، والحفاظ على نظافة السريرة ونقاء الضمير حتى لا يقعوا فريسة للشيطان كما وقع أبوهم. طال مكوث منال في منزل أهلها أكثر من اللازم، تنبه إخوتها، اجتمعوا للتشاور في الأمر، سألوها عن سبب الخلاف، منال لا تعرف، لم يصدقوها برغم صدقها، لابد من استحضار سليم، ولكن أين سليم؟ سليم في بيتها مع ضيوفه، الأصح، أن ضيوفه وحدهم في بيتها، يسرحون ويمرحون كالصراصير ،يأكلون ما اختزنته من المؤن، ينامون على سريرها، يفتحون خزانة ملابسها، يأخذون لنسائهم ما يعجبهم من ثيابها وأدوات زينتها، يغيرون ترتيب الأثاث وتوزيعه ضمن الغرف كما يحلو لهم، ينقضون أطراف فراشها ووسائدها، يخرجون ما خبأت من تمائم وحروز، يفضّون أغلفتها، يقرؤونها على مسمع سليم، يتندّرون بمحتواها، يتضاحكون ساخرين، وسليم لا يبالي، بل تراه سعيداً كل السعادة بندائهم له: يا سيدنا، حريصاً كل الحرص على دفع الإتاوة المفروضة لهم عليه، وفوقها حبة مسك، تتمثل في إطلاق أيديهم في بيت منال، وفي قصره في القرية. بحث إخوة منال عن سليم ،سليم مثل طيور الليل، مثل الخفافيش، لا يمكن القبض عليه، لديه إحساس مرهف يمكّنه من الهرب في الوقت المناسب، يروغ من أيديهم، ويذهب لمنال، يستفرد بها، يشعل أحاسيسها بكلامه ووعوده، ثم يعاود الاختفاء، تنتشي منال لكلامه أياماً، ثم تعود لاكتئابها، حتى ما عادت تثق بكلامه، ولا تستثار، لابدّ من حلّ آخر، منال لا تكتفي بالكلام، تريده زوجا حقيقيا, وتغضب لاستلاب هناءتها  اقتحاماً من قبل الأصدقاء، لا يغادره أحدهم إلا ليعود إليه، الكل يدرك أن زوجة سليم لاجئة إلى بيت أهلها، وأن هذه الزيارة المستديمة عبء ثقيل يكاد يهدم هذا البيت العامر، لكنهم لا يكترثون للأمر، لينهدم هذا البيت وألف بيت غيره، الأمر سيان عندهم، المهم والأهم راحتهم وحريتهم. بحث سليم عن حلّ آخر، بيت أهل منال لا يصلح لما تشتهي من ممارسات، أمها تقول: ألا يكفي أنه يعاملك كما تعامل البغيّ؟ هل نفتح له بيتنا خاناً، ثم ندفع له أجرة الخان؟ هذا ما لا يمكن أن يكون، ما رأيك يا منال بالسفر؟ لن ننزل ضيوفاً عند أحد، سننزل في فندق فخم ذي نجوم، نفرغ  فيه لمتعتنا، يخدمنا فيه رجال أنيقون، يأتون بكل ما نطلبه إلى داخل غرفتنا، منال لا تصدّق، بل تسأل: أهذه هي الحياة الزوجية؟ أأنا زوجة أم عشيقة؟ أريد بيتـي، أريدك في بيتـي ،لا حاجة لرجال يخدموننـي ،أستطيع خدمة نفسي. منال على حق، ولكن ما العمل؟ سليم لا يستطيع شراء بيت جديد لها، الأموال التي يجنيها لا تكاد تشبع عسافاً وزبانيته، الهرب منها ومن أهلها لا يجدي، سيعثرون عليه عاجلاً أو آجلاً، لابد إذن  من المواجهة، منال تريده زوجاً، لا طموح لها أبعد من ذلك، أعطته كل شيء، تنازلت له عن ملكية الدار بعقد بيع موثق لدى الدوائر العقارية خفية عن أهلها، ستنشب معركة غير متكافئة بين سليم وأهلها من أجل البيت، منال هي العنصر الأضعف فيها، لا، لن تقع أية معركة، سليم عرف منذ زمن بعيد كيف يحببهم بنفسه، الكل راض عنه تمام الرضا، سليم لا يتأخر عن تلبية أي مطلب من مطالبهم ،يخدم كبيرهم وصغيرهم، منال، مشاعر منال، ما كانت يوماً تهمُّ أحداً في الماضي ولا في الحاضر. اجتمعت منال بإخوتها، طلبت منهم التدخل لتسوية الوضع، ولكن ما الذي يستطيعونه؟ لا شيء ،التكتم والغموض الذي يلفّ حياة سليم جعلهم دائماً في ريبة من أمره، يخشون التصادم معه، يعلمون بعض الأخبار عن صِلاته بكبار مسؤولي البلد، وعن سهراته العامرة الباذخة في مرابعهم، يعلمون أشياء عن أسفاره إلى خارج البلاد المحمّلة بالمهمات، كل ذلك، خلق حوله هالة من الرعب لا يجرؤ رجل متسمّك بمنصبه على اقتحامها. بعد مداولة الأمور بينهم، وتقليب الموضوع على كل وجوهه، اتفقوا على دفع منال لطلب الطلاق منه شخصياً، فليطلقها، بشرط الاحتفاظ بصداقتهم، رغبة منهم ورهبة، حوّلوا الأمر إلى موضوع شخصي بعيد عن الأجواء العائلية، سرعان ما لبى سليم طلب منال، أخذها بسرعة إلى المحكمة الشرعية حيث أجريت هناك مخالعة رضائية تمّ بموجبها الانفصال بينهما، بلا حقوق ولا تبعات. بعد المحكمة دعاها لتناول الغداء في المطعم، تبعت الغداء سهرةٌ في أحد المسارح كأنهما خارجان من حفل خطوبتهما لا من قاعة المحكمة الشرعية، كان الحديث بينهما يدور ناعماً رهواً، يتناول ذكرى الأيام السعيدة التي جمعتهما، ثم الظروف الصعبة، ظروف الغنى والمجد والشهرة التي لم تستطع منال التأقلم معها، سليم يؤكد أن العيش هكذا هو العزّ، ومنال لا تريد عزاً ولا أمجاداً، كل ما تريده زوجا يشاركها العيش ويهتم بها، يتركها تحبه كما تشتهي. كل ما كانت تحلم به منال من الحياة الزوجية ضاع، وكل ما تمناه سليم من الزوجة الثانية ضاع ،ضاع؟؟ لا، لأنه في الأصل لم يوجد، منال لا تصلح لمرافقته إلى سهراته وجلساته لن يخسر بطلاقها شيئاً، بل سيرتاح من حمل يثقل كاهله. افترقا، عادت منال إلى منزل أهلها تجترّ الخيبة، خسرت البيت والزوج والأمان، ومضى سليم، خفيفاً رشيقاً حراً من كل التزام، سوى التزامـه بطاعـة عساف، صانـع الأمجاد، حبه للنساء، شبقه المجنون نام، تشرنق، ما عادت نساء الأرض تهمه، كذب )ود الريس(، الجاه وحده أجمل ما في الحياة الدنيا ،)ود الريس( لم ير من الحياة إلا أضيق زواياها، لم ينظر خارج إطار جسده، المجد أمتع وأبقى.    الانهيار عاد سليم إلى القرية خفيفاً رشيقاً، السرور ظاهر على كل كلماته وحركاته، تخلص من منال، ارتاح من مطالبها، استراح من نظرتها الذليلة الكسيرة، وجنون الرغبة في عينيها، ربح من معركته معها بيتاً، البيت صغير منمنم مرتب، مناسب جداً لاستقبال الضيوف، وضيوف الضيوف الذين يقصدون العاصمة، ويتخذونه نـزلاً مجانياً آمناً. استقبلته الشلة كما يستقبل القادة الفاتحون، أسر له عساف بكلام على انفراد: المال، كل المال لك يا سليم ،الناس أغبياء لا يستحقون امتلاكه، هم كفار، كيف نتركهم يتمتعون بنعمة الله، ونقف نحن للتفرج؟ المال مالنا، نحن عباد الله أحق برزقه منهم، الناس، كل الناس من حولك أغنام، خذ منهم ما تشاء، اسلخ جلودهم، اصنع منها أرائك، جزّ أصوافهم، احلبهم، اذبح خرافهم، اعزل نعاجهم وتمتع بها، أنت أحق بكل ذلك منهم، هم لا يحسنون التصرف، تصرف أنت، عن ردود أفعالهم لا تسأل، الردّ واضح، ليس سوى الخنوع والطاعة المطلقة، ما تردّ به الجماهير على من يكيلها خسفاً، انطلق يا سليم، على بركة الله انطلق سليم، أطلق يديه تجبيان كل شيء لا يوفر غثاً ولا سميناً، كثرت وعوده، كثرت اعتذاراته وأكاذيبه ومظالمه، الناس من حوله خائفون، أسئلة حائرة تطرح في الخفاء، تدور في فلك المجهول وترتد خائبة، من هو سليم؟ ما مكانته؟ ما حقيقة المنصب الذي يشغله؟ لا أحد يدري، إجابة مختزلة ،بكلمة واحدة يسكت بعدها الجميع: إنه مدعوم. كثرت تنقلاته بين العاصمة والمدن الأخرى، بين داخل البلد وخارجه، قصره في القرية هو المنطلق والمستقر، رسائل تدسّ بين الهدايا التي يحملها دون أن يدري، أشخاص مجهولون يزورون قصره، يجتمعون بعساف في أثناء غيابه ولا يدري، سفرات مفاجئة يرتجلها عساف لإبعاده عن القصر فيلبـي طائعاً، يقود سيارته بنفسه في بعض الرحلات، ويسلم قيادها لضرار في رحلات أخرى، امتثالاً لأوامر لا يملك حق مناقشتها، أو الاحتجاج عليها، لكنه في كل الأوقات، يفرد عباءته وقد صنع منها جناحي عباس بن فرناس، ليحلق في أجواء انتصاراته وسيادته، ناظراً إلى أسفل، ليرى كل الناس- بمن فيهم عساف- يعيشون في ظله. صار لضرار رأسمال خاص به، ومشاريع استثمارية لا ينازعه ملكيتها أحد، تحت نظر عساف ورضاه، يستخدم قصر سليم وبستانه وسيارته لمصلحة تلك المشاريع، الشلة من حوله تسميه )وليّ العهد( سليم لا يعترض، ولا يسأل إن كان ضرار ولي عهده؟ أم عهد عساف؟ انتقل ضرار بسرعة قصوى من هامش الحياة في القرية إلى بؤرة الضوء فيها، كان من قبل يتسكع في دروب القرية، ينتظر انحسار السحابة الممطرة، لاطياً تحت إحدى الشرفات، أو في بوابة دكان حفاظاً على ثيابه من الابتلال، صار الآن يركب السيارة، يركض بها بسرعة شبحية، يجتاز المنطقة المطيرة ليقضي بعض المهمات في منطقة مناخية أخرى، ويعود قبل انحسار السحابة إلى حيث يعلم هو، ويعلم عساف، ويجهل سليم.  المدير، داخله الشك والخوف، صار يراقب بارتياب كل حركات سليم وعلاقاته، يحاسبه ويحاصره بالأسئلة فيما يشبه التحقيق اليومي: من هذا؟ ما المصلحة التي تربطه بك؟ كيف تعرفت عليه ومتى؟ أين... كيف... متى... إلى أين؟ أسئلة لا تكاد تنتهي، تلقاها سليم في البداية بمناورة ومداهنة، وحين ضاق ذرعاً ضرب عرض الحائط بكل تعليمات المدير وأسئلته، اكتفى بنظرة شزراء، يقيسه بها من أسفل قدميه صعوداً إلى قمة رأسه، قبل أن يخرج صافقاً خلفه الباب. نقل نشاطاته الخاصة إلى بيت منال، يستقبل فيه ذوي الحاجات، يقضي حوائجهم بمعاملات لا يسمع بها المدير، ولا يعلم عنها شيئاً، الضيوف، ضيوفه في منزل منال، كلهم جندوا أنفسهم للعمل مساعدين له، يحفظون له بدقة متناهية أدهشته كل اسم وعنوان ورقم هاتف، يستقبلون كل الطلبات ،ويرتبون المواعيد. علّمه عساف أن كل أحقاده مقدسة، وكل انتقام يقوم به هو جهاد مقدس، أخرج ما في داخلك يا سليم، تصرف مع أغنامك كما يحلو لك، ألم يكن هذا المدير ظالماً في غابر أيامه؟ بلى، يكفيه ظلماً أن تجاهل قدرات سليم، وتأخر كثيرًا في إطلاق طاقاته من قماقمها، تركه يعيش الفقر وذل الحاجة حتى بلغ سنّ التقاعد، أما كان يراه من قبل؟ أكان ضرورياً انتظاره حتى سنّ التقاعد؟ حسناً، اصبر أيها المدير، إن  كنت قادراً على الصبر، الحاج محمد، هذا الرجل المسطح الشخصية، المحدود الإدراك سأجعله في الإدارة أهم منك، ألا تعلم كم يشكو حج محمد من سوء أخلاق زوجته؟ من شراستها وكثرة طلباتها؟ ألا تراه يبيع الطوابع وعلب التبغ للموظفين في محاولة لكسب بعض الدراهم يشتري بها هدوء ليلته؟ من هنا، من عند حج محمد ستكون بداية الانتقام. ليس ضرورياً يا حج محمد هذا التذلل لموظفي الإدارة، ولا حمل الطوابع في جيوبك سراً كأنك سارق لها، خذ يا حج محمد هذه الورقة، امضها من عند الأستاذ فلان، وهذه المعاملة إلى إدارة كذا، وتلك لوزارة كذا، خذ أجرتك على كل واحدة منها ورقة مالية تعادل ما تكسبه في يومك وتزيد، ثم احسب: أي الميادين أكثر ربحا؟ حين تعمل بمفردك، أم حين تتعاون مع سليم؟ هناك برأسمالك الضئيل، تسكب ماء وجهك أمام كل موظف ومراجع، وهنا تأخذ أجرتك قبل أن تنقل رجلك من مكانها. ترك حج محمد مكانه خالياً، وانشغل بمعاملات سليم، حج محمد يوقعها ويختمها من المسؤولين، وسليم يقبض عمولتها من أصحابها، تمر كل هذه ا لحركات من خلف ظهر المدير، ولا يراها أو يشعر بها ،يطلب المدير فنجان قهوة، لا يلبى طلبه، يطلب إيصال البريد ليس من مجيب، عمّت الفوضى المؤسسة، سليم يقف بالمرصاد: أنا وأنت شريكان، رأسي ورأسك في مشنقة واحدة، أنا  مثلك، بل أتفوق عليك ،أنهيت خدمتي وأحلت على التقاعد ،حين ينكشف أمري سيحلون عقدي، أما أنت، فيخربون بيتك فوق رأسك. حج محمد لاحظ المناوشات اليومية بين سليم والمدير، فتح أذنيه جيداً، استمع لبعضها، تفهّمها بدقة، ثم انفجر ضاحكاً: )اختلفت القطط والفئران على كشك الجيران( هذا المال الذي يختصمان فيه ليس ملكاً لأي منهما، المراجع يأتي، يسلم أوراقه، ثم يعود ليدفع ويأخذها جاهزة، من وقعها؟ من تعب فيها؟ من أخذ عمولتها؟ المراجع لا يهمه كل هذا، همه الحصول على معاملته جاهزة، الحج محمد بات يعرف من أين تؤكل الكتف، لا داعي للتفكير، ترك الرجلين في خصامهما اليومي، وتعامل مباشرة مع المراجعين، وجهه صار مألوفاً في معظم المكاتب، كل ما يفعله هو الوقوف أمام موظفي الدوائر، فارداً معاملاته، ناقلاً لهم سلاماً من الأستاذ سليم، أو من المدير، بالأمس القريب كان سليم مجرد سليم، الآن أصبح أستاذاً، لم لا ينقلب حج محمد إلى أستاذ هو الآخر؟. تجاوز حج محمد مكتب المدير ومكتب معاونه، صار يأخذ المعاملات من أصحابها، يركض بها بين الدوائر والإدارات، يكملها ويقبض أجرها وحده، حج محمد لا ينسى أن يؤدي فروض الطاعة للمدير ،ليكمل مشواره من حيث انتهى سليم، عيناه مفتحتان، أذناه مرهفتان لالتقاط أي نداء، سمعه مرّكّز في قدميه، ما إن يسمع الجرس حتى يجري ملبياً، تاركاً من يده كل شيء هذا هو الطريق الأمثل للاحتفاظ بمكانته، بل للارتقاء في سلم الثقة حتى يصل إلى ما يفوق منزلة سليم، ويستمرّ أطول مدّة في تسنم ذلك المقام. علياء بعد جولة لسليم في دروب القرية، استقبله عساف على انفراد، حدّثه همساً وأطال الحديث، أفهمه أن الرجل إذا بقي عازباً بعد الطلاق، ساء مقامه بين الناس، وأنت يا سليم طلقت منال وهجرت فاطمة، لابد لك من زوجة تعرف كيف تحترمك، وتتفهّم ظروف حياتك ومجدك:  -        لابد من البحث، وعلى مهل. -        لم التمهّل؟ العروس موجودة. فكّر سليم، الكلام نفسه قاله لأبي معاذ، وتلقف منه الإجابة ذاتها فكانت منال، المشهد يتكرر الآن مع عساف، هل يأتيه بمنال أخرى؟ شعر بالاشمئزاز، لا يريد العودة ثانية إلى ربقة الأسر، ما عاد يطيق التزاماً بسرير الزوجية، اجتثت منال من نفسه كل رغبة بالحياة الأسرية. -        العروس موجودة يا سليم، هيا قل كلمتك. -        من هي؟ -        علياء، إنها علياء بنت الحاج زهران، شابة جميلة رشيقة، تطمح إلى الخروج من القرية، تحلم بالخروج من مجال ظلم أبيها وقهره لها, لن تستفزك مثل منال أو تحاسبك مثل فاطمة.

كان زهران موظفا في إحدى الدوائر الرسمية, تمت دعوته من قبل أحد فروع الأمن لشرب فنجان قهوة, استمرت ضيافتهم له شهرا كاملا, خرج منه بغير العقل الذي دخل فيه, لا أحد يجرؤ على سؤاله, طرد من وظيفته واعتزل الناس منكفئا على نفسه في بيته, مكتفيا من الحياة بمردود أرض ورثها عن أبيه, زرعها بأشجار الفواكه, يعتني بها واهبا لها كل وقته وجهده.

شعر سليم بالنفور من الفتاة قبل أن يراها، هي مسكينة إذن، تعيش تحت مظلة )يا حرام!( سليم يكره كل المساكين المسحوقين بـ )يا حرام( يكرههم حتى الاحتقار، حتى الحقد، لم لا يتحررون من وقعها  كما تحرر؟ إذا كانت هذه الـعلياء تحمل بوادر الطموح كما قالوا، لم لا تسعى بنفسها؟ لماذا تنتظر أن تخطب كما تخطب ربات الخدور في الحكايات؟ لكن اقتراح عساف أمر لابد من تنفيذه، هو أمر بصيغة اقتراح، مثله كمثل كل أوامر عساف واقتراحاته. وقع في حيرة، هل يرضي نفسه، أم يرضي عسافاً، البنات ما عادت تجبر على الزواج في هذا الزمن، فهل يتزوج علياء غصباً عنه؟ أقادر هو على إغضاب عساف؟ كل واحد من هذه الأسئلة لغز بحد ذاته، والحلول؟ سليم يعرف أين تكمن الحلول، هناك، في دكان تفاحة سيجد ما يريده. خرج من قصره وسار على مهل، معطياً لنفسه فرصة إضافية للتفكير، وتقليب الموضوع على كل وجوهه، مع أنه واضح لا يحتاج للتقليب، وليست له وجوه كثيرة، هو وجه واحد فقط: أمر يقابله امتثال، وينتهي كل شيء في الحكاية. سار بمحاذاة الساقية، كانت أولى نجيمات المساء تومض في الغرب، مشيرة للضفادع بالبدء في معزوفتها اليومية، التي تستمرّ معظم الليل، تذكر طفولته، حيث كان يمشي قرب بستان خالد السكر، يتجنب المرور قرب الساقية؛ ليترك الضفادع تنعم بالأمان، كان يخجل من إخافتها، يأكله الشعور بالذنب حين يراها تجفل منه، وتلقي أجسادها العارية في الماء البارد هرباً، سليم يمشي اليوم غير مكترث بشعور البشر، أقرب البشر إليه والده إخوته، فاطمة، أولاده، منال، يمشي على كل الدروب مفترشاً أحاسيسهم وكرامتهم، أيفكر بعد هذا بشعور الضفادع؟؟ إنها لتفاهة.  راحت الضفادع تتواثب على طول طريقه، وعقله ذاهل عنها، اصطدمت قدمه بشيء صلب تدحرج أمام حذائه، ركله مرة، ثم أخرى، أخرجه من بين العشب إلى الإسفلت، تبين تحت نور مصباح الشارع أنه سلحفاة، انقلب على ظهرها وراحت ترفس الهواء في محاولات يائسة لتعديل وضعها، يا حرام! لو بقيت هكذا ستموت جوعاً وعطشاً، أو يأتي أولاد الحارة في الصباح ليتخذوا منها لعبة حية، يجب التعجيل بإنقاذها من هذا المصير. في الماضي كان سليم يساعد كل السلاحف والخنافس على النهوض لمواصلة الحياة، سليم الآن ما عاد سليماً، ركل السلحفاة ركلة قوية، جعلتها تصطدم بصخرة ناتئة، تحطم درعها وتخرج أحشاءها من داخله، يا حرام! بعد قليل ستأتي كتائب النمل الأحمر، منجذبة إلى رائحة الدم، تتغلغل بين أعضاء السلحفاة، في وليمة دسمة، منت بها عليها قدم سليم، وبعد حين، لن يبقى منها سوى درعها المكسور تتقاذفه الأقدام، أو تسحقه عجلات السيارات، أو تحظى به امرأة مجنونة مثل منال، تأخذه للمشعوذين ،يكتبون لها عليه سحراً يعيد لها زوجاً آبقاً، مظلومة هذه السلحفاة، سحقاً للمظلومين، سحقاً لكل الضعفـاء، الذين وصلوا بتهاونهم في حقوقهم إلى رتبة مسكين، الموت لكل مسكين. تفاحة لها رأي آخر، يختلف عن رأي عساف، صحيح أن علياء شابة طموح، وأنها.. وأنها.. ولكن.. لِمَ يصبُّ سليم خيراته في منزل زهران؟ أليست هي أجدر من زهران بكل ما يفيض من خيرات سليم؟ ابنتها )وضحة( جاهزة، تفوق علياء جمالاً، وضحة لا تحب الدراسة ووجع الرأس، تركت المدرسة وقعدت في البيت، تنتظر أن يكتمل نمو جسدها، ثم ياتي ابن الحلال، ابن الحلال موجود، سليم الذي حدبت عليه تفاحة في طفولته الشقية، وعاد إلى القرية معترفاً بجميلها، فليكمل اعترافه بالفضل، انتظار جسد وضحة حتى يكتمل نموه وتنضج أنوثته ليس ضرورياً، سيكتمل في منزل الزوجية، ولتبحث علياء عن زوج آخر. قدمت له تفاحة ابنتها وضحة بشكل غير مباشر، سقته الماء من يدها، ثم القهوة، وأشياء أخرى لعلها تلفت انتباهه، لن يصبر طويلاً بلا زوجة، تأمل سليم وضحة، وأطال التأمل، ما أشبهها بابنته سامية، كم مضى على آخر مشاهدة لسامية؟ سنوات، حدث ذلك في المطار، كانت تنظر إليه خلسة بعينين يخطف بريقهما الخوف، فتنهال سياط الألم على قلب سليم وضميره، ما أنقذه من ذلك الموقف سوى إقلاع الطائرة، ترى كيف أنت الآن يا سامية؟ لا شك أنك كبرت وصرت عروساً جميلة، عروس؟ من هم خطابك يا سامية؟. استبد به شوق عنيف لرؤية الأولاد، محاولة تفاحة أعطت نتيجة عكسية، قرر: في الصباح الباكر سيسافر، سيتجه رأساً إلى منزل فاطمة ليتفقد أولاده، لا بد أنهم يحتاجون رعايته الآن، شبابهم المتّقد لا يحتمل عيشة التقتير والتقشف التي اختارتها لهم فاطمة، صار بإمكانه أن ينتصر عليها، ويتملك عواطف الأولاد وحده، فلا يكون بوسعها سوى اللحاق بأولادها، وهكذا يلتم الشمل من جديد، سيعود للأمان والاستقرار من جديد، ما أهنأ العيش بأمان، فاطمة هي الأمان الحقيقي الوحيد في حياته. عاد إلى قصره عاقداً العزم على الانفراد بنفسه حتى الصباح، حيث يشد الرحال إلى فاطمة، سيمضي الليلة مع طيفها، ويستحضر  كل أيام السعادة والهناءة، يداعب الأولاد، يعتذر لكل واحد منهم على انفراد، يقدم لهم الأموال والهدايا، يأخذهم في نزهة إلى أي مكان ير يدون أو يحلمون، سينهي فصل يتمهم واغترابهم، واغترابه. استقبله الخبر المرّ قبل وصوله إلى عتبات القصر: خطبنا لك علياء، الكل موافقون. كيف سيتخلص من علياء؟ طرح على نفسه العديد من الحلول والحيل، خاض فيها كلها، ناقشها ،لم يتوصل إلى نتيجة مرضية، كل سبيل يفضي إلى الخلاص سيغضب عسافاً، ويهدد سلامة عباءة السيد التي خلعها عليه، عساف يستطيع استرداد عطاياه متى شاء، لا يناقشه أحد، استقر بسليم الرأي على لقاء عساف في الصباح، والاعتذار عن هذا الزواج، سيحاول، سيبذل كل ما في وسعه للتملص من هذا الرباط، والاحتفاظ برضا عساف. طال به الأرق حتى ساعات الصباح الأولى، ثم استغرق في نوم ثقيل، امتد إلى الضحى العالي ،صحا على جلبة رجال عساف يملؤون القصر، وقبل أن يستفسر بادروه: صباح الخير يا عريس، هيا جهّز نفسك، سنحتفل بخطوبتك على علياء، دعونا كل أهل القرية إلى القصر، في البهو الكبير ستقام حفلة النساء، وعلى المصطبة حفلة الرجال، سنعمل وليمة ما شهدت القرية مثلها، ويستمر الاحتفال حتى الصباح، إنه فرح سيد القرية بخطوبة أجمل بناتها. -        خطوبة؟ اليوم؟ -        أجل، لقد قررنا. -        انتظروا لأجهز نفسي للحدث، دعوا الأمور تأخذ مجراها الطبيعي، امنحوني مدة لتدبير أمري.  -        هذا هو المسار الطبيعي، دبرنا عنك كل شيء، هذه الصناديق مليئة بالحلوى، الخراف أمام الباب تنتظر الذبح، وفي العلبة المخملية الحمراء، مجموعة من المصاغ الذهبـي، ستلبسه لعروسك، ما هي حجتك بعد؟ ما عليك سوى دفع ثمنها. ذهل سليم، شعر أنه طعن في الظهر، أين عساف؟ عساف لا يحب حضور الحفلات، لا تبحث عنه، أوصانا ألاّ نبحث عنه، عساف دوماً هكذا، يشغل الناس بتوافه الأمور ليتفرغ لأعماله، يغيب عن الساحة بشكل لا يترك مجالاً للتساؤل عن غيابه، أو وجهة سفره. فوجئ سليم في الصباح كما فوجئ في الصباح الذي سبقه، بأمر جاء بصيغة اقتراح يقتضي بقاءه في القصر حتى عودة عساف، متى يعود عساف؟ لا أحد يعلم، ما على سليم سوى الانتظار. في ذلك اليوم تركوه ليرتاح من تعب حفلة الأمس، لم يدخل عليه قصره سوى شهاب وغانم  وَلدي زهران، صبيان في المدرسة الابتدائية، لعبا في القصر، تراكضا، دخولاً إليه، وخروجاً منه، لعبا مع طيور البط والإوز، أمسكا بأسماك البركة، قفزا فوق المصاطب، وسليم غارق في ذهوله، مستسلم للصمت حين ضاق ذرعاً بالوحدة ناداهما، طلب منهما إعداد الشاي، ركض غانم ملبياً، قدّم له الشاي بطريقة تفوق عمره بكثير، مما أثار إعجاب سليم، دعاهما لمشاركته شرب الشاي، تحدث إليهما، الولدان ذكيان، يحفظان الكثير من الحكايات والأشعار، يجيدان إلقاء النكات، حكى لهما عن أولاده بحنين يخالطه الشعور بالذنب، حاول التذكر والحساب، اكتشف أن ابنه زياداً يقاربهما في السنّ، تمنى لو يستطيع الذهاب إلى أولاده بأية وسيلة، لكن الأمر صارم لن يستطيع مغادرة القصر قبل عودة عساف. اتفق مع الصبيين على الصداقة، وتعهدا بالقيام بأمور الشاي طوال مدة وجوده في القرية، له ولضيوفه، أعطاهما بعض النقود، وكثيراً من الحنان الذي جاش في صدره لذكرى أولاده، استأذنه شهاب باصطحاب رفاقه إلى القصر، فأذن له، فرح الصبـي وجرى مسرعاً، ثم عاد على رأس كوكبة من الصبيان، متباهياً عليهم أنه يستطيع دونهم، دخول القصر والخروج منه متى شاء، لأن القصر سيكون سكناً لأخته علياء، تفرج الأولاد على أقسام القصر بدهشة، ثم أمرهم شهاب بالانصراف، حرصاً على نظافة القصر وراحة سليم. واعداً إياهم بزيارة أخرى حين يسمح سليم. مرّت بقية أيام الأسبوع بطيئة كئيبة، الأصدقاء انحسر مدّهم، ما عاد أحدهم يمرّ بالقصر إلا مستعجلاً، يتنقل سليم بين الحجرات كوحش في قفص، قضبانه أوامر، أقفاله اقتراحات، لو خرج لاستقبله المارة بسيل من التهاني، يهنئونه على خزي وقع فيه مرغماً، لم يعرف حتى الآن تفسيراً له، ضاع بين التحليل والتأويل، غرق في لجة البحث عن أسباب ومبررات لهذه الوحدة التي فرضت عليه مثلما فرضت عليه خطبة علياء، سليم لم يدخل قبل اليوم قسم شرطة، ولا خضع لاعتقال أو تحقيق، لكن رعبه اليوم يفوق رعب من ينتظر التحقيق في الأقبية المظلمة الرطبة التي سمع عنها، ماذا يريدون به؟ هل ارتكب خطأ ما في أثناء حمل رسائل عساف؟ ما العقوبة التي ستفرض عليه؟ من سيطبقها؟ أين؟ شعر أنه على حافة الهاوية، وأن كارثة كبيرة توشك على الوقوع فوق رأسه، ما هي؟ ما كنهها؟ لا يدري، كل قدراته الفكرية والنفسية لم تستطع لمس حدودها، أو تخيل شكلها، ظلّ يحاصر نفسه بالأفكار حتى أوشك عقله أن يتوقف عن التفكير، مؤمناً أن عقله لو توقف، لتبعه قلبه وبقية جسده على الفور، ليموت هنا مثل دودة القزّ، في شرنقته الثمينة، التي صنعها بنفسه. الأطفال وحدهم كانوا ومضة الحياة في ظلماء أيامه، بمشاغباتهم ولعبهم، بأسئلتهم البريئة وحكاياتهم، شهاب وغانم ما كانا يفارقانه إلا في الليل، يشاركانه طعامه وقيلولته، يحضران وفوداً من أصدقائهما تحطم جدران الصمت المرعب، المطبقة على صدر سليم، فيحنو عليهما معانقاً مقبلاً، في محاولات لتعويض نفسه عن بعد أولاده، أو التكفير والاعتذار لهم وللطفولة بتقريب أندادهم وإغداق حنانه صرفاً بلا حدود ولا حواجز. عاد عساف بعد أسبوع، انتهت بذلك مدة السجن الانفرادي المفروضة على سليم، ركض لاستقبال عساف وسؤاله عن السبب، لم يمهله عساف للسؤال والجواب، بل اتجه إلى القصر، أبدى دهشة كبيرة من القهر والكرب الظاهر على وجه سليم، ومن وجود سليم في القرية. -        لكنك أنت من أمر باستبقائي. -        أنا أمرتك؟ متى؟ أين؟ -        لست أنت، بل محروس. -        محروس؟ نقل لك أمراً مني؟ عجيب، أحضروا محروساً إلى هنا. -        كنت خلال الأسبوع وحيداً، لم يدخل قصري أحد، كدت أجن من الوحشة وانتظار المجهول. قهقه عساف بأعلى صوته كما ضحك رجاله من حوله، ووقف سليم بينهم مشدوهاً ينقل النظر.  -        محروس عمل بك كل هذا؟ ضحك عليك وأضحكنا؟ أهذا كل عقلك يا سليم؟ -        أين بقية الرجال، لِمَ لَم  يزرني أحدهم في غيابك؟ -        ها هم أولاء، اسألهم بنفسك، لا أعلم ما يحصل في غيابي، ربما كانوا مشغولين بمصالحهم. مشغولون بمصالحهم؟ ربما، لكن سليماً يعرف أن لا مصالح لهم، يعيشون مثل تنابل السلطان ،تأتيهم الأموال إلى حيث يرقدون، موائدهم مثل ولائم الكلاب، إن طالوا طعاماً أكلوا إلى ما بعد حدود التخمة بكثير، يأكلون حتى يعجز أحدهم عن الحركة، وحين يشحّ الزاد، يلوبون جوعاً كما تلوب الكلاب على أبواب المسالخ. مشغولون بمصالحهم؟ أية مصالح يمكن أن تشغلهم عن مائدة سليم؟ لا، ليس الشغل، هي مؤامرة ،لكن ما أهدافها؟ ما أسبابها؟ سليم لا يدري، ولن يعرف مهما حاول الغوص في مياههم العكرة ،مشغولون؟ هذا هراء، أي شغل؟ سليم مذ وطئت قدمه تراب القرية، الأصح منذ أن بدأ ببناء قصره لم يتغيبوا عنه لحظة واحدة، ما بالهم الآن؟ مشغولون؟ مصالحهم؟ شيء لا يصدّق، جعله خائفاً متوجساً شراً في كل لحظة. أوحى عساف لرجاله أن أمر سليم في العاصمة انكشف، تخلصوا منه قبل أن يلحق بنا ضرره. صدق عساف صدق عساف، ما بعد القمة سوى الانحدار، انتهت مدة العقد القائم بين سليم ومديره، لم يرض المدير بتجديد العقد ولا تمديده، كان خلال المدّة الفائتة يراقب تحركات سليم، يراقب تطور علاقاته وامتداده السرطاني في كل الاتجاهات، حتى خشي على نفسه ومنصبه من جرائر هذا العقد، شعر أنه  كمن يربي فرخ الضبع، ها هو ذا الضبع يكبر وتقوى أنيابه، يأكل كل المحيطين به، لم يبق سوى المدير، مازال زمام الأمر في يده، فليبادر بالتخلص من الضبع قبل أن يأكله. أهم ما دعّم خوف المدير، ذلك السعي الحثيث لرجال الأمن داخل الإدارة وخارجها، لدراسة واقع سليم، وإعداد التقارير بشأن علاقاته وتحركاته، سليم أصبح شخصاً مثيراً للشبهات، من الخير للمدير وإدارته، إبعاده، والنجاة من خطره، وليعمل بعد ذلك في أي مكان، سيان. رفع سليم صوته مهدداً متوعداً، صرخ في وجه المدير، لكن المدير كان واثقاً أنه وحده المخول بقبول سليم أو رفضه، ركض سليم، يبحث عن أصحاب الوزن الثقيل، ليضغط بهم على المدير، غير مدرك أنه  كان في أعينهم خلال فترة ازدهاره ظلاً للمدير، إلى أن غشي ضباب الإشاعات جو المدينة، مضت فترة من الزمن، غلفتهم بالحيرة والظنون، الآن، انقشع الضباب، تلاشى الظل، وبقي المدير حقيقة ثابتة راسخة، تقلبت على سليم القلوب والوجوه،  تقاعس عن ردّ تحيته من كان بالأمس يأخذه بالأحضان ،صرفه عن بابه من فوّضه بالدخول والخروج متى شاء، مطالبه أوامر، أحلامه سرعان ما يحولونها إلى وقائع، ظناً منهم أنه )مدعوم( من جهات عليا، تفوق مكانه المدير، أما  الآن وقد علموا حقيقة وضعه ،فما عادت تربطهم به أية صلة من الصلات، تركوه وتعلقوا بالحج محمد، يلبون طلباته ويقبضون الثمن. -        والآن ماذا تقول؟ -        لا شيء، عقدك انتهت مدته، الإدارة استغنت عن خدماتك. -        لن تستطيع. -        سنرى. خرج سليم، ترك باب غرفة المدير مفتوحاً، واتجه إلى غرفته المقابلة لغرفة المدير، ألم يكن معاونه؟ جلس خلف مكتبه، عيناه تقدحان بشرر الغضب، كبس زرّ الجرس مستدعياً حج محمد، كان حج محمد جالساً على كرسيه في غرفة )البوفيه( الصغيرة، سمع الجرس كأن لم يسمع، ما عاد يلتزم بتنفيذ أوامر سليم بعد أن صار غريباً عن الإدارة، أعاد الضغط على مفتاح الجرس حتى كاد يحطمه، صرخ بأعلى صوته: يا حج محمد! أين أنت أيها الكلب؟ حج محمد لا يسمع، أوصاه المدير بألاّ يسمع، هل يخالف المدير ليرضي رجلاً أنهى دوره في المؤسسة، وصار كالسيارات المنسقة ، كتلة من الحديد الصدئ الخالي من الحياة؟ بأعصاب باردة، ووجه جامد القسمات، دخل المدير غرفة سليم، وقف بالباب، ظلّ ينظر إلى سليم بصمت استفزه، فنادى بأعلى صوته: -ياحج محمد !. - ما شأنك به؟إذا كانت لك أي مصلحة مع الرجل فانتظره حتى نهاية الدوام الرسمي، وقابله خارج المكان، لا سلطة لك عليه هنا، ولا على أحد من الموظفين، هيا، لملم حاجاتك لنقول لك: مع السلامة. - مع السلامة ستقال لك قبلي، ستخرج من هذه المؤسسة، وأبقى أنا. - لملم )كراكيبك( واخرج بهدوء، قبل أن أستدعي رجال الأمن ليخرجوك بطريقة لا ترضاها. - لن تستطيع... دق سليم بعنف، بقبضته المشدودة على زجاج الطاولة دقة حطمته، تحولت كل قطعه منه إلى شظية جارحة، مزقت صورة البنفسج، كما مزقت وجوه أطفاله، التي كانت تنظر ببراءة وحياد، مبتسمة غافلة عن السنوات التي انزلقت عليها من فوق لوح الزجاج الصقيل، غافلة عما حدث فيها وما يحدث، تمزّقت الوجوه كما تمزقت زهيرات البنفسج، لكن عبيراً لم ينسفح، ولا سال دم، بهدوء يشبه هدوء المدير، وصمت يشبه صمته، جاء حج محمد، جمع قطع الزجاج، ومِزقَ الصور، رمى  بها في القمامة، وانتهى  كل شيء. عساف قال لرجاله: ما بعد القمة إلا الانحدار، لم يكن انحداراً ما آلت إليه حالة سليم، بل سقوطاً من شاهق هوى بأمجاده، وحصيلة سنواته الماضية دفعة واحدة إلى هاوية الضياع، انكسر سليم، تشظى مثل لوح الزجاج، خرج من الإدارة غاضباً تكاد كل شظية من شظاياه أن تسفك الدماء، لابد من الانتقام، من كل الناس سينتقم، يجب أن يبقى السيد الذي نصبوه على رقاب أهل القرية، يجب الاحتفاظ بلقب سيدنا مهما كان الثمن. طال بسليم الركض بين مكاتب المسؤولين، مكاتب من كانوا بالأمس سماره وخلانه، يقارعهم كاساً بكأس، يراقص نساءهم، يهرج لهم ويضحكهم، طال به استرحامهم والتماس وساطتهم بلا جدوى  ،كان جوابهم دائم اً: هذه شؤون داخلية تخص الإدارة، لا شأن لنا بها، فيجنّ سليم: متى نشأت بينكم هذه الحواجز؟ ألم يكن. على يدّي- يتدخل في كل تفاصيل أعمالكم كما تتدخلون في أعماله؟ ألم أكن رسولاً بينكم وبينه أعمل على الخطين معاً؟ هذا )كان( في الماضي- يردّون-: نحن أبناء اليوم. انتبه لنفسه، اكتشف أن شهراً انقضى على قدومه من القرية، استهلكه في ركض لم يثمر شيئاً، غيابه عن عرشه ومملكته طال، ما سبق أن غاب شهراً كاملاً عن القرية بعد عودته المظفرة إليها، شعر بالإحباط يهدّ قواه، فاطمة تقول: عد إلينا، ابحث عن عمل شريف تدعم به معاشك التقاعدي فيكفينا، لكنه لا يريد. أرسلت فاطمة تدعوه للحضور إليها، بسرعة؛ لأن الأمر لا يحتمل التأجيل، فرح بدعوتها، طار ملبياً: جئتك يا فاطمة، حاملاً ذلّي وانكساري، حاملاً شوقي وحبي، أعيديني إلى جنتك يا فاطمة، بشراك، طلقت منال، لم يبق لدي من تنافسك على.... ما كانت منال منافسة لفاطمة، ولا ينبغي لها، الفرق بينهما واضح وضوح الخراب على تفاصيل الحياة اليومية التي يحياها الآن، تخلى عن منال، لكنه لم يعد إلى فاطمة، مازال يركض ويركض مثل كلب احترقت رجلاه، ما طال أرضاً ولا سماء، لماذا وجّهت له فاطمة هذه الرسالة المستعجلة؟ هل اشتاقت له؟ ابتسم الرجل- الذكر في داخله، مدّ يده إلى شاربه مشذّباً، نفخ صدره وتلمّس كرشه، لابد أنه الشوق. لماذا لم تشتق إليه خلال السنوات الماضية؟ أم إنها علمت بطلاق منال؟ وأن ساحة عواطفه أصبحت خالية لها وحدها؟ آه من كيد النساء، يحسبن أنفسهن ذكيات جد اً. حين وصل، أعلمته فاطمة أن الأصول تقتضي حضوره أمام الضيوف القادمين اليوم لعرس ابنته رجاء، رجاء، هي الثالثة في ترتيب أولاده، يكبرها مصطفى، الذي التحق بخدمة العلم منذ سنتين، وهو على وشك الانتهاء منها، والعودة إلى عمله في ورشة إصلاح السيارات، وسامية الكبرى، التي انقطعت عن المدرسة لتساعد أمها في حمل أعباء البيت، الخالي من رجل يحمل مسؤوليته. تأمل وجوه أولاده واحداً واحداً كأنه لا يعرفهم، لقد كبروا في غيابه مثل فراخ المداجن، استقبلوه ببرود، صافحوه مثل أي ضيف غريب، ردّوا على أسئلته باقتضاب، ثم تركوه وحيداً في زاويته، وانشغلوا بالضيوف الذين ملؤوا البيت. الحفل الصاخب يدور، البيت يدور، رقصت بعض البنات والشبان، الزغاريد تملأ الحي، ابنته العروس ،ابنته رجاء تجلس كالملاك بينهم بثوب عرسها وضياء وجهها، فاطمة، إخوة فاطمة، نساء الحي ،الضيوف، كلهم مسرور سعيد، وسليم يجلس على الهامش، وحيداً في قلعة محصنة تحصيناً منيعاً ضدّ كل أنواع الفرح، حين انتهى الحفل، تقدم كضيف شرف في فيلم لم يقرأ نصّه، ليمثل دور والد العروس، صافح العريس، أبدى موافقته أمام المأذون لتكتمل صيغة العرس، ثم تأبط ذراع العروس، وسار بها بين الزغاريد إلى السيارة المزينة بأكاليل الأزهار، الرابضة قرب الباب، ثم عاد إلى الداخل، إلى غرفة كانت غرفته، وانتهى الفيلم. انتظر فاطمة، فاطمة ذهبت مع ابنتها العروس لتكمل الحفل هناك، أخذت معها كل أولادها ،وتركته وحيداً، تجول في المنزل، كل شيء نظيف مرتب، تذكر قصره في القرية، الأرض والجدران والأثاث ،لا تختلف كثيراً عن أية ساحة قذرة في بازار حي شعبـي، البلاط فقد لمعانه منذ يومه الأول، الأرائك والمساند والفرش تشكو بقع الشاي والقهوة، وأشياء أخرى يتزاحم عليها الذباب والنمل، حشرات في  كل الأجناس والأنواع تسرح حرة طليقة، طيور البط والإوز تخرج من البركة لتتجول بين الغرف والردهات، تلقي بأقذارها في كل مكان، ولا تثير احتجاج أحد أو انتباهه. المكان هنا مختلف، كل شيء هادئ دافئ، رائحة الحنان والحب في كل لمسة من لمسات فاطمة، إيه يا فاطمة! لم كل هذه القسوة، ألا تهادنين؟ ألا تتنازلين ولو قليلاً عن صلابة موقفك ألا تشاركين زوجك عزه ومجده؟ توقف ليسأل نفسه: عزّ ومجد؟ أم مذلة الطرد من العمل؟ طوبى لك يا فاطمة، طوبى لك كبر عقلك ورجاحة تفكيرك، ربما كنت تخشين يوماً مثل هذا اليوم؟ طالت وحدته، مدّ يده إلى المكتبة يسلي نفسه، ما أروع فاطمة! كل ممتلكاته مقدسة لديها ،ما زالت تحتفظ بكتبه في صدر بيتها، وقعت يده على رواية )موسم الهجرة إلى الشمال( منذ زمن بعيد لم يراجعها، وإن تكن بقاياها ما تزال عالقة في ذاكرته، فتح  الكتاب كيفما جاء، واستغرقته القراءة ،اكتشف عالماً في الرواية يختلف كل الاختلاف عمّا تحمله ذاكرته، توقف طويلاً أمام جملة كان يظن أنه يحفظها، وما يفتأ يرددها، ها هو ذا يكتشف خطأ ما يحفظ ،)ود الريس( لم يقل: المال والنسوان ، بل قال: النسوان والبنون، اكتشف سليم فجأة تفاهة مساعيه، وعبثية ركضه، ترك أولاده يضيعون منه، وتخلى عن زوجتيه, وجرى وراء المال، تباً للمال، ماذا جنى؟ جلّ ما جناه انفقه هناك، اشترى به لقب سيدنا، هل تستحق كلمة سيدنا كل هذا الثمن؟ هل تستحق أن يضحي في سبيلها بالعلاقة الدافئة الحميمة مع الأولاد ليترك فاطمة تستأثر بهم وحدها؟ النسوان والبنون... البنون وليس المال يا )ود الريس( صدقت ،صدقت يا )ود الريس( البنون وليس المال، سيبحث سليم عما يوطد به صلته بأولاده برغم أنف فاطمة ،معه المال، وهم شباب في مطلع حياتهم، يحتاجونه لبناء مستقبلهم، ما أسهل تقديم المال! البنون موجودون  هنا، ما عليه سوى مصالحتهم، والنساء  ما أكثرهن! يترامين عليه كيفما التفت، ولكن، كل النساء لا تغنيه عن فاطمة، ليتها تصفح ليستغني بها عن كل نساء الأرض. ترك الرواية من يده واستلقى على السرير، لم يغلق باباً أو يطفئ مصباحاً، عادت الأسرة من العرس، دخلوا فرحين مبتهجين، حين اكتشفوا وجوده انسحبوا بصمت، مشوا على أطراف أصابعهم حذر إيقاظه، وذهبوا إلى مخادعهم. جاء الصباح مثل كل صباح، تركوا باب غرفته مغلقاً، تناولوا فطورهم اليومي، ثرثروا بسعادة ومرح، ثم ذهبت رامية وزياد إلى المدارس، ومصطفى إلى ورشة إصلاح السيارات ليتفقد سير العمل في غيابه ،موحياً لمعلمه بقرب عودته إلى العمل. رامية تلميذة في المدرسة الثانوية، تركض على السلم والطريق بكل ما في المراهقة من زهوّ ومرح، مدفوعة بالثقة التي يمليها عليها تفوقها في المدرسة، وحظوتها لدى المعلمات، بينما يمشي زياد قربها ،متراخياً كسولاً، كسل الولد الأصغر، حبيب أمه، اليتيم الفاقد صورة الأب من حياته وخياله، عصبي المزاج، غاضباً لا يعرف لغضبه سبباً، تحنو عليه رامية بمشاعر فياضه، أمومة هي جزء من ميراث فاطمة، تتوقف عن جريها، عن مرحها، لترعاه وتسترضيه، وتوصله إلى باب مدرسته. كانت سامية تثرثر بعشرات الأسئلة والتعليقات عن مشاهداتها في حفل الأمس، تناقش أمها حالمة باليوم الذي تصبح فيه عروساً هي الأخرى، تزف في حفل لا يقلّ بهجة عن عرس أختها، لكنها ليست على عجلة من أمرها، تعاهد أمها على البقاء إلى جانبها حتى يستلم إخوتها دروب الحياة العملية. تناهى إلى سمعه معظم كلام سامية وضحكاتها، امتلأت نفسه فرحاً لسعادتها، هم سعداء إذن؟ غيابه لم يؤثر فيهم سلباً كما خشي، لم يعقّد نفوسهم فيحرمهم الإحساس بالحياة، هذا معناه أن العودة إليهم ستكون أسهل مما تصور، تشجّع، خرج من غرفته على مهل، تسلل إلى المطبخ، توقف لدى الباب يراقبهما وهما تعملان، حين انتبهت سامية لوجوده غمرها الرعب، سقط الطبق من يدها على الأرض فتحطم، راحت تلم شظايا الزجاج بصمت وهي ترتجف، بينما انشغلت فاطمة بإعداد وجبة الفطور، وأشارت إليه أن الحمّام جاهز. ماتت فرحته في مهدها، عاوده الشعور بأنه عبء ثقيل في هذا البيت، هنأ فاطمة بزواج ابنتها، وتمنى لسامية فرحاً قريباً، ثم انسحب إلى الحمام، حين خرج، كانت ثيابه النظيفة بانتظاره مع وجبة الإفطار في غرفته، أشارت إليه فاطمة بالتوجه إلى غرفته. حبطت نواياه، فاطمة وسامية لا تريدان مؤاكلته، فاطمة ترفض الانفراد به في غرفة واحدة، لذلك جهزت ثيابه وطعامه، وانشغلت عنه بأمور المطبخ، سامية ما تزال تخشاه، هي ابنتها الكبرى، لاشك أنها أكثر الأولاد تأثراً بظروف أمها، سيجرب حظه مع رامية، البنت تلميذة في المدرسة الثانوية، متفوقة في دروسها، متواضعة في هندامها ونفقاتها، لا شك أن زيارة والدها الوسيم الأنيق إلى مدرستها سترفع من شأنها، سيسعدها ويقربه منها، ستفرح حين يغدق عليها وعلى معلماتها عطاياه، أجل من هناك، من مدرسة رامية سيبدأ سليم رحلة العودة إلى بيته وقلوب أولاده. تناول فطوره على عجل، وقام ليلبس ثيابه، ويسرع في طريق المدرسة قبل انصراف التلاميذ، تناول القميص، قربه من وجهه، تنشق بعمق رائحة النظافة المخبأة فيه، يا ألله! ما تزال فاطمة كعهده بها ،بودادها وحنانها، لم يتمكن غضبها وثورتها على أسلوب حياته من تغيير مثقال من قلبها الملائكي الطيب، ما أعظمك يا فاطمة! حاول ارتداء القميص فما استطاع، القميص ضيق جداً، لم يساير تطور سليم، ولا تمكن من مواكبة التضخم الذي طرأ على جسده ونفسه، القميص مثل فاطمة، لا يناسب إلا الفقر وأيام الفقر  ،كذلك البنطال، تباً للقميص ولفاطمة، تباً للفقر الذي يشدّونه إليه، تباً لكل شيء هنا، الحياة الحقيقية هناك، في القصر، يختال طاووساً، يرتفع على عرش لقب سيدنا: -        فاطمة... تعالي يا فاطمة. -        ماذا تريد؟ -        هذه الثياب ضيقة، أين الثياب التي خلعتها في المساء؟ -        ثيابك غسلت منذ الصباح الباكر، مازالت رطبة. -        هاتها. بالمكواة وعلى مهل، جففت سامية رطوبة القميص والبنطال، وبينما هي تمارس عملها ظلّ أبوها في غرفته سجين منامته، يفكّر حانقاً، سيخرج  من هنا، إلى أين؟ مدرسة رامية؟ منزل منال؟ القرية؟ الإدارة التي طرد منها؟ اعتكر مزاجه من جديد، انقطع عنه سيل المال، كيف سيتدارك وصل ما انقطع؟ ما العمل الذي سيشتغل به؟ هل يسافر؟ هل يهاجر؟ هل يبحث عن أصدقاء عساف الذين التقاهم في المدن الأوربية؟  هل ستعطيه أجهزة المخابرات موافقة على السفر بعد  خلافه مع إدارته وانكشاف أمره؟  أصدقاء عساف كانوا كراماً جداً معه، لا شك أنهم يستطيعون مساعدته في إيجاد عمل هنا، أهمّ من عمله في الإدارة التي طرد منها، هم هنالك خلف الحدود، لكن أصابعهم هنا، تستطيع قطع وربد أي شيء، عاد إلى المكتبة: النسوان والبنون..... لو سافر بعيداً سيحرم من أولاده، السفر لا يجدي نفعاً، سيبدأ من المدرسة. لبس ثيابه على عجل وخرج، اتجه إلى منزل منال لينقل منه ثيابه إلى منزل فاطمة، ما بقي هنا من يعتني بنظافتها، فتح الخزانة فإذا هي خاوية على عروشها، ثيابه كلها حتى الداخلية منها، الأحذية والجوارب تناهبها الضيوف، حين رأوها رزقاً سائباً تناهبوها، هذا الأمر لا يهمه كثيراً، السوق قريب، والمال مازال موجود اً. دخل إدارة المدرسة عبر الباحة، كانت البنات في درس الرياضة، كلهن كواعب منفتحات على الحياة مثل سرب السنونو، يركضن، يتواثبن حول الكرة، يتصايحن بنشوة أيقظت الذكَر الشَّبق، النائم فيه، نضا عنه قشور الجاه والمال والوقار، ووقف يرقب شبابهن، قادته الآذنة إلى غرفة الإدارة مستعجلة خطواته ،دخلها، وظلّ خياله يلعب في الباحة، يركض مع البنات. قدّم نفسه للمديرة، عرفها بمنصبه كمعاون للمدير، قال صوت ذليل في داخله: لقد طردوك. سألها عن ابنته رامية: عن مستواها الدراسي، وحاجتها لدروس خصوصية، اعتذر عن تقصيره بحق أولاده ،أخبرها أنه كان مسافراً في أوربة، أردف الصوت الذليل: )كان ذلك منذ سنتين( لم يكترث لذلك الصوت، تجاهله، وراح يسرد للمديرة والمعلمات المحيطات بها حكايات عن مشاهداته ومغامراته هناك ،يسمي لهن مدناً وأماكن، يستخدم مصطلحات أجنبية في أحاديثه، تكلم عن الفرق بين الحياة هنا وهناك، بشكل جعل لعابهن يسيل، وأحلامهن تركب صهوة كلماته لتطير إلى حيث كان. كان سليم هو الدّيك الوحيد، وكلهن دجاجات جائعات، تحلقن حوله بوجوههن التي أفقدَهَا كثرة الطلاءات شكلها الإنساني، بشعورهن التي تماشي آخر صرخات الموضة، خيل إليه أنه الكائن الحيّ الوحيد، في متحف للشمع، كل من حوله تماثيل مفتحة العيون، مرهفة الآذان، فاغرة الأفواه من الدهشة، شفاهها الملونة بكل درجات اللون الأحمر متجمدة على بسمة مصطنعة متحجّرة، خصورها المحشورة في المشدّات القاسية تبدو مثل خصور السنديان العتيق، الأذرع والأعناق محملة بكل ما تملك من المصاغ، أضيفت إليه قطع من الحلي التقليدية، تنبئ جميعها عن خواء قاتل، يفتك بأرواح هؤلاء الآنسات، اللاتي نسيهن الدهر في هذه المدرسة، وراح يكمل مسيرته بين القرى والحارات. كانت عيناه تتنقل من ذراع إلى ذراع، من عنق إلى عنق، هذا الذهب المجمّد على أجساد نضبت فيها مياه الحياة، حريّ به أن ينتقل إلى جيوب سليم، الطريق سهل ميسور، الآنسات منبهرات به، وهو؟؟ نسي أمام بريق الذهب الهدف الذي جاء من أجله إلى المدرسة، تحفّز اللص فيه، استنفر كل قواه لفتح ساقية تسيل بهذا الذهب، لتسكبه في يديه، استأذن المديرة بإجراء اتصال هاتفي، ضرب رقماً وتوقف، سألها إن كان الخط الهاتفي مرتبطاً بمقسم؟ أم إنه يستطيع الاتصال بشكل مباشر؟ لأن اتصاله هذا سيكون إلى مجلس الوزراء، ترك الآنسات في دهشتهن، وتابع ضرب بقية الأرقام: -        ألو... صباح الخير.  ….- -        كيفك روحي؟ نهارك مبارك.  …..- -        حبيبنا، أعطني الآنسة هيام لو سمحت.  …..- -        يسلم رأسك، شكراً كلك ذوق... صباح الخير آنسة هيام، أتحدث إليك قبل أن أسافر إلى قبرص، ومنها إلى اليونان فباريس،  .....- -        لست في حاجة للتوصية، هل يمكن لأحد أن ينسى هيام؟ أعرف طلبك، مجموعة من العطور وأدوات الماكياج، سأتصل بك من هناك؟  …..- -        بلغي تحياتي للسيد أبي وائل، وأبي حازم، اعتذري لهما نيابة عنـي، لن أسهر معهما الليلة، أبو تحسين لا يحتاج للاعتذار، سيعرف حين يفتقدني أني مشغول عنه بسواه.  …..- -        لا..لا، اعتذري اليوم، أليس اليوم هو موعد الاجتماع الدوري لهم؟ ستجدين الكل هناك. وضع السماعة من يده وتنفس بارتياح، ثم شرح لمن حوله أن المذكورين في مكالمته هم من بعض أصدقائه الوزراء، وأنه يحب أن يسهر اليوم مع أولاده لا مع أصدقائه، لذلك اعتذر لم تنتبه أي من الآنسات إلى سبابته التي استقرت على القاطعة فيما هو ينقل أصابع يده الأخرى فوق الأرقام، وأنه كان يتحدث إلى صوت )التون(، وأن الآنسة هيام بنت من بنات خياله وأفكاره، ولدها عقله المحفّز هنا، أمام العيون. ابتسمت كل واحدة من الآنسات في سرها، مبيتة نية الاتصال بسليم، سراً، من وراء ظهور زميلاتها، أملاً بأشياء كثيرة، تمرّ  عبر وسامته وطول يده، نهض قائماً لينهي الزيارة، ثم التفت مستدرك اً: لم أعطك رقم هاتفي لتتصلي بي إن كان لديك ما يتعلق بالمدرسة، أو بابنتي، هذا رقمي الخاص، لأن صلتي بزوجتي أم رامية مقطوعة منذ زمن بعيد، أعيش وحدي في منزلي )الخاص( وشدّ على كلمة الخاص، ربما يرد عليك أحد مساعديّ، فيبلغني لأتصل بك. أعطته المديرة قلمها الفاخر ليكتب به رقم هاتفه، كتب وهو يردد الأرقام بهدوء و بصوت مسموع ،متيحاً للمعلمات حفظه أو تدوينه، ومن ثم، الاتصال به، ثم دسّ القلم في جيبه، مشى خطوة ثم عاد فالتفت، أعاد القلم للمديرة مقسماً أنه وضعه في جيبه سهواً، فأقسمت هي الأخرى أن يأخذه هديه منها، ومن المدرسة. على هامش الجلسة، ثمة امرأة شاحبة الوجه، خالية من الأصباغ والحلي، كالحة الثياب، بإشارة من عينيه سأل عنها المديرة، أخبرته أنها الدكتورة سعاد، من مديرية الصحة المدرسية، تزور الإدارة بين حين وآخر بمهمة رسمية، تشجعت الدكتورة سعاد، سألته بلطف وحياء إن كان يستطيع مساعدتها لدى دائرة الهجرة والجوازات، حنى رأسه ملبياً: على عينـي، أعطاها رقم هاتفه على ورقة أخرى، طلب منها الاتصال مساء لشرح معاناتها وانصرف.   الاجتياح انفلت سليم من عقال نفسه وعقله، كالساعة حين تنكسر محاورها فجأة، فتنفلت نوابضها )زمبركاتها( في كل اتجاه، ولا يستطيع أبرع ساعاتي تجميع أجزائها، انداح في كل مكان، في كل درب ،تخلّى عن البقية الباقية من سؤر الأخلاق في نفسه، والتي شربتها مطامعه ومطامع عساف التي لا تحدّها حدود، استيقظ الذكَر الشَّبق في نفسه، ما عاد سليم ذلك القروي الخجول الذي تنام شهواته أمام حنان فاطمة، وتجفل إنسانيته أمام اشتعال منال، تعلم سليم من فنون الحب والغزل ما يضاهي به أبرع ممثلي السينما، النساء حقل خصب لزرع المشاريع القصيرة الأمد، السريعة الربح، كلهن مربحات، وخاصة ذلك الصنف الذي لقيه في إدارة المدرسة، ثمنه رخيص رخيص، بضع كلمات دافئة، ووعود براقة، عساف قال له: كل الناس من حولك أغنام، وهذه الأغنام هي أكثر الأصناف وداعة وطاعة، سيحلب منها ويحلب حتى تجفّ الضروع والقلوب، ثم يغادرها حرداً، ضارباً وجهها بعيوبها، أو بقصّة من ماضيها، وينتهي كل شيء.  - تفضلي يا سيدتي.. وتفضّلت سيدته، جلست في المقعد الخلفي من سيارة الأجرة، بهدوء ثقيل مفتعل، أرادته ستاراً يداري الفرح الذي استخفّها فطار بها أو كاد، تفضلت سيدته، أسندت ظهرها بارتياح إلى مسند المقعد بينما راحت أصابعه تلملم أطراف ثوبها ليحميها من الغبار، لامس بحركة عفوية ساقها، ارتعشت للمسته  كل أعصابها، كأنما أصابها مسّ  من الكهرباء، ابتسمت راضية، هذا الرجل لا يغفل عن شيء، حتى التفاصيل الصغيرة مما يرضي المرأة التي يرافقها، تفضلت سيدته فيما كانت عيناه الثعلبيتان تراقبان انفعالات وجهها بدراسة متأنية. توقفت السيارة أمام مطعم فخم، كانت الدكتورة سعاد تمرّ به قبل ذلك ولا تراه، تلفتت حولها متسائلة، فتح باب السيارة ونزل، دار نصف دورة حول السيارة، فتح الباب الآخر مشير اً: تفضلي يا سيدتي. وتفضلت سيدته، للمرة الثانية يخاطبها بسيدتي، نزلت من السيارة ،أشار إلى الطريق، وسار إلى جانبها متمهّلاً، يسندها في صعود السلم المفروش ببساط أحمر، البساط يمتصّ ضّجة حذائها الذي أرهقته يد الإسكافي، سقطت كعبيتاه اللينتان فصار يصدر صوتاً أشبه بصوت حوافر الحصان، يمدّها بالقوة والثقة في أثناء عودتها ليلاً، وحيدة من المشفى، يؤنس خوفها، وفي الأماكن العامة، حيث يسود الهدوء، يسبب لها الخجل والإحراج. سارت قرب سليم تغمرها ثقة بالنفس جديدة، تشوبها رغبة باستطلاع المكان، ورهبة من مفاجآت هذا الموقف، كان غداءً فخماً، وجلسة طويلة خيم على معظمها الصمت، كل منهما سابح في دنياه، يغوص في أحلام عالمه الخاص، المرأة تملك عيادة ومنزلاً، ورصيداً من المال في أحد البنوك، لا يمكن أن يكون وهماً  كرصيد منال، سعاد طبيبة، دخلها ممتاز، هيا يا سليم، ماذا تنتظر، اللعبة أسهل بكثير مما تتصور ،اسحب خيط الحرير من داخلها، وغلفها به، احبسها في شرنقة من صنعها مثل دودة القزّ، أيقظ أنوثتها النائمة، أشعل في نفسها الثقة بجمالها، أوهمها أنها ما تزال مثيرة، شهية، ثم انتظر، ابتعد عنها وانتظر، ستأتيك كالجارية ساحبة أغلالها لتسلمك مفاتيحها. -        هيا تكلمي. -        عن أي شيء؟ -        حدثينـي عما يشغل هذا الرأس الجميل، ويذبل العينين الذكيتين. أطرقت المرأة بخفر، تلفتت حولها كأنما تخشى من أذن تلتقط ما قيل لها، منذ زمن طويل لم تسمع  كلمة إطراء واحدة، حياتها كلها جدّ، عمل في العيادة، عمل في المشفى، ثم عودة إلى المنزل الخاوي، في رتابة قاتلة، تتكرر كل يوم بتفاصيلها حتى فقدت إحساسها بالحياة. ها هو ذا رجل وسيم، يجلس أمامها، يذكرها أنها ما تزال تحيا، فلم لا تحيا؟ -        شكراً لمجاملتك الرقيقة. -        ليست مجاملة صدقيني، أنا أقول الحقيقة، لن أمتدح جمالك، عندك شيء أعظم من الجمال قلّ بين النساء من تمتلكه، الملاحة التي تجمع جمال العقل على عذوبة الروح وتناسق قسمات الوجه. -        ماذا تقصد؟ -        أقصد هذا الحزن العميق المستوطن في عينيك.  …..- -        لا تخجلي، بل افرحي وعيشي الحياة بكل أبعادها، الحياة جميلة يا سعاد، وجديرة أن تعاش. صمتت المرأة، هذا الرجل يضرب على الوتر الخفي في نفسها، يشعل ما جهدت لإطفائه، يناديها: سعاد باسمها المجرد الذي أوشكت أن تنساه، كل من حولها ينادونها بالدكتورة، كأن مهنتها أهم من اسمها ومن شخصيتها، هذا الرجل يرى منها ما لا يراه الآخرون، إلى أين سيقودها لو تجاوبت معه؟ -        كدنا ننسى الموضوع الذي جاء بنا إلى هنا. -        أي موضوع؟ -        جواز السفر، ألم أخبرك أني فقدت جواز سفري، وأني..... -        لا، لم تخبرينـي. -        في الحقيقة، أنا أشعر بضرورة السفر، سئمت العيش هنا، سأجرب الحياة في مكان آخر إذا ناسبتنـي الغربة، ووافقت تطلعاتي، سأعود لأبيع ممتلكاتي وأستقر هناك. -        تسافرين؟ أراك مستعجلة؟ -        مللت الوحدة والرتابة، أشعر أني آلة صماء، فقدت إنسانيتـي. -        هل سيعيد لك السفر ما فقدت؟ -        سأجرب. -        العمر قصير يا سعاد، لا تضيعيه في تجارب قد لا تجدي نفع اً. ها هو ذا يقول: سعاد مرة أخرى، يضرب على الوتر الذي ارتجف منذ لحظة، وما استقرّ بعد، ما يزال طنين ذبذباته الأخيرة يترجع في نفسها، لم تهدأ حتى عاجله بضربة أخرى. -        ماذا إذن؟ -        حاولي تجديد نفسك والخروج بها من قوقعة الرتابة المملة. -        الآن؟ في هذا السّن؟ -        ما به هذا السّن؟ -        خريف العمر، والعمر قصير كما تقول. -        لا... لست في الخريف، بل في الصيف المثمر الخيّر، كل الثمار تنضج في الصيف، وتحلو في الصيف، لا تظلمي نفسك يا سيدتي. -        ماذا تقصد؟ صمت سليم، أحس أنه يدنو من هدفه بأسرع مما خطط، سليم تعلم من كثرة التجارب وطول الانتظار كيف يدور حول الهدف قبل الدخول فيه، راح يقدح زناد فكره بحثاً عن طريق أطول، يستدرجها لتمشيه وحدها، تمشيه بنفسها إلى هدفه. -        سأعمل من أجل جواز سفرك على مهل، وريثما أنتهي، قفي أمام مرآتك واسأليها عن صحة ما قلت، تأملي نفسك جيداً، كأنك تتفحصين امرأة أخرى، ابحثي عن صدى كلماتي، لا تستعجلي، في اللقاء التالي نكمل الحديث. نظر إلى ساعة يده، وأشار إليها: تفضلي يا سيدتي، تفضلت سيدته، نهضت عن كرسيها أخرج من حافظة نقوده ورقة مالية كبيرة وضعها على الطاولة... نزل معها السلم بهدوء، وفي الشارع سألها عن وجهتها، أوقف سيارة أجرة، نقد السائق أجرته وأوصاه بإيصالها حيث تشاء. تابع السيارة بنظره حتى غيبها المنعطف، ووقف يفرك كفيه جذلاً بما جناه. عادت سعاد إلى بيتها ،وقفت أمام مرآتها تتأمل وجهها، وتبحث عن صدى همساته التي قالها في ذلك المطعم الفخم، همسات؟ بل صرخات دوّت في روحها الشبيهة بمنزل مهجور خرب، تقاذفتها الجدران المتآكلة، رددتها الحجرات والردهات الخاوية: )ما ذنبك يا سعاد؟ ما جريمتك التي تعاقبين عليها نفسك بهذا السجن والحرمان؟ أتعلمين أنهم في بلاد الغرب الراقية يحبسون المذنب بين بيته ومكان عمله؟ هكذا أنت، حكمت على نفسك، ما جريمتك يا سعاد؟ جريمة؟ وأية جريمة؟ سعاد كانت ذات يوم زوجة، وأماً لأولاد ثلاثة، كلهم تلاميذ في المدرسة، كانت تعمل ممرضة في إحدى المشافي، فجأة فتحت أمامها طاقة القدر، جاءتها فرصة للسفر وإكمال دراسة الطب في إحدى الدول الاشتراكية، لم تستطع المقاومة، قارنت بين وضع الممرضة ووضع الطبيبة في المشفى، دفعها طموحها لاختيار الأفضل، استأذنت الزوج فوقف في وجهها  بكل ما أوتي من جلافة وغلظة طبع، صارخاً : لا.. لن أسمح، رجته بكت بين يديه، استعطفته، لا فائدة، كيف يسمح )الرجل الشرقي( لزوجته بالسفر والدراسة؟ أجابته: وكيف سمح بالعمل والمبيت في المشفى؟ فكّر، حسب الأمور جيداً، ستعود بعد دراستها طبيبة، والطبيب يتربع في العرف الاجتماعي فوق أعلى الهرم، بلا منافس، سيتضاءل دوره الاجتماعي، وتتعملق زوجته، ويعيش في ظلها، لا تتعدى مهمته: زوج الدكتورة، لا.. الأمر مرفوض برمّته، يجب أن تبقى زوجته دائما دونه مكانته، صرخ في وجهها: اختاري، أنا وأولادك، أو السفر. بكت يومذاك كما لم تبك من قبل، سهرت تستعيد تفاصيل حياتها معه، بحثاً عما يمكن أن تندم عليه، سعاد في بيته جارية لا أكثر، تركض، تركض بين عمل البيت وواجبات المشفى لتجد نفسها مقصرة في كل شيء، ابتداء من  واجباتها تجاه زوجها والأولاد والأقارب والجيران، انتهاء بحق نفسها، لا تلاقي تقديراً من أحد، بل لوماً وتقريعاً من كل الجهات، كم تمنت عليه لو تترك العمل وتتفرغ لشؤون البيت والأولاد، فلم يوافق، مرتبها جزء أساسي من مصروف البيت وله، لمصروفه الشخصي، جلّ دخله، لو تركت المشفى لاضطرته للتخلي عن كثير من متعه، بل لإعادة ترتيب برنامج حياته بشكل لا يتناسب مع تطلعات الرجل )العصري(. في الصباح قدّمت سعاد أوراقها الثبوتية، جهزت حقيبتها استعداداً للسفر، صرخ مهدد اً: أنت طالق لو سافرت، مسحت دمعتها، تناولت صك طلاقها وسافرت. لم تخرج سعاد من بيتها ذلك المساء، بعد لقائها بسليم, ولم تنم، بل ظلت مسهدة، تخلط الماضي بالحاضر لتنسج منهما مستقبلاً يتناسب مع صيفها الخيّر المعطاء، سليم وضع يدها على الجرح، وهي طبيبة، لم لا تداوي جراحها بنفسها؟، أي نوع من المراهم يصلح علاجاً لحالتها؟ المفتاح في يدها، كيف تفتح أبواب سجنها؟ سليم، وليس غيره، من يعرف الإجابة عن كل هذه الأسئلة، أين أنت يا سليم؟؟؟ -        قفي أمام مرآتك واسأليها... قالت لها المرآة: إن وجهك فقد نضارته نتيجة الإهمال، وهذه الخيوط الفضية في شعرك تعطيك طابع العجائز، أنت في صيفك الخيّر، هيا بدّلي إهابك، وأصلحي مظهرك. في أول خروج لها من المنزل توجهت إلى صالون تجميل، قصّوا هناك شعرها، صبغوه بلون أعاد إليها الشباب، عالجوا بشرتها، اشتغلوا حرفتهم بإتقان، نظرت سعاد بعد ذلك إلى المرآة سعيدة، ابتسمت فتوهج مشعل في داخلها، نشر حرارته في جسدها، ونوره في عينيها، أشار لها: هذه دروب الحياة فاختاري، لم تتعب نفسها في التفكير، اختارت سليماً، سليم رجل مريح لأية امرأة، يفهم في الكثير من الأمور، بل في كل الأمور التي تستطيع منحها السعادة، ستسلمه يدها، وتغمض عينيها، ستتركه يقودها في أي درب شاء، فهو وحده القادر على سبر أمانيها ورغباتها. في تلك الليلة، هاتفت مديرة المدرسة سليماً، طال حديثها معه، دار بها ودوّرها، طار بها في أجواء أمنياتها، ولامس تطلعات  فتاة عانس لها مثل ظروفها، وهو العالم بقلوب النساء ومفاتيحها، طلبت استخدام نفوذه في استبدال بعض المعلمات في مدرستها، انبرى متحمساً: لا يستحق الحياة من يحاول تعكير صفوك، سيأتيك قرار نقلهن بأسرع مما تتخيلين، انتظري. باتت المديرة على وسادة الأمل، امتدت بها الأحلام إلى أبعد من نقل المعلمات، سارت في دروب مفروشة بالورد حتى وصلت إلى بيت صغير، يملؤه الحب، تعيش فيه السعادة بأرقى صورها مستظلة بأمجاد سليم، في سبيل ذلك راحت تتقرب من ابنته رامية، تدعوها إلى الإدارة في ساعات الفراغ، تحاصرها بالأسئلة، فلا تملك الصبية إلا البكاء، رامية عالمة أن أباها يركبه الشيطان، فيجعله يعصي الله، ويتصيد المال الحرام، لكنها لا تريد البوح بذلك لأحد، فتهرب من المديرة تكابد قهرها بمفردها، وتتركها لتحلم بالخلاص من ربقة الأسر في حبائل عسّافيها باللجوء إلى ظلّ سليم، هذا الرجل المدعوم. ما اكتفى سليم بالمديرة والطبيبة، بل امتدت مطامعه إلى بعض المعلمات، باعهن أحلاماً مطرزة، أوهمهن بقدرته الخارقة على حلّ كل أنواع المشاكل، قبض منهن ما أفنين العمر في جمعه وكنزه، وعد الجميع، قبض من الجميع، أخلف كل وعوده، ثم راح يتهرب منهن، بعدما حكى لكل واحدة عن الأخرى كلاماً يشغلها عن ملاحقته. رنين الهاتف في منزل منال لا ينقطع، سليم غير موجود، مشغول، دائماً مشغول، إما بالجري وراء سراب وظيفة ما يلبث أن يتلاشى، أو بمرافقة الدكتورة سعاد، ضيوفه، رجال عساف كلهم يملك نسخة عن مفاتيح البيت، وله الحق بالرد على الهاتف، الضيوف أبلغوا المديرة والمعلمات أن سليماً رجل نصّاب، وأنه طرد من وظيفته لسوء أمانته، وأنه رجل مزواج، يضحك على عقول النساء لابتزازهن، وأنه... وأنه... انقلبت إدارة المدرسة، أدارت لرامية وجهها القبيح، كل محاولات التودد والتقرب منها تحولت إلى نقمة صبتها المعلمات المخدوعات على رأسها دفعة واحدة، أصبحن يعيرنها بأبيها اللص، تناثر الخبر بين رفيقاتها، ثم ألصقت بها نفسها تهمة السرقة والغش في الامتحان. كرهت المدرسة، اقتعدت البيت يائسة قانطة، اقترحت فاطمة نقلها إلى مدرسة أخرى، رفضت جازمة أن إدارة المدرسة ستنقل هذه الصورة الشوهاء إلى المدرسة الأخرى، فتضطهد هناك مثل هنا. وحدها المديرة لم تصدق ما قيل لها عن سليم، إذ تعلقت به عواطفها، واستخفها كلامه المعسول. -        حبيبتـي وداد، حرام أن تظلي كالصفصافة، وحيدة تمنحين الظل كل عابر، ما يلبث أن يغادر، وما أكثر العابرين. -        ماذا تقصد؟ أي عابرين؟ -        لا تفسري  كلامي على غير وجهته، أقصد من عبروا حياتك، شربوا ودادك، استظلوا بظلك ثم رحلوا، تاركين من أظلتهم تكتوي بنار الهاجرة. -        حياتي نظيفة لم يعبرها.... تراخت كلماتها حتى غام عليها الصمت، أطرقت برأسها تستعرض شريط ذكرياتها، ساحة عواطفها مثل موقف الباص، سحقت صلابة بلاطاته تحت تزاحم الأقدام التي مرت به وتركته غباراً يطير مع كل هبوب للريح، ما أكثر عشاقها ومعشوقيها! طمع الأب، وغطرسة الأم، الإصرار على مصاهرة عائلة ثرية ترفع الرأس، كل هذه الأقانيم كانت سوراً منيعاً حبست خلف قضبانه، وظلّ العابرون يغازلونها عن بعد، وينصرفون، ماتت أمها، انشغل والدها بزوجة جديدة شابة، صار لإخوتها شؤون ومصالح تلهيهم عن الالتفات إلى حياتها، الآن، أصبحت تشعر بالحرية في الاختيار، ها هو ذا سليم، يأتي في الوقت المستقطع، يمنحها فرصة للعيش الآدمي الكريم، بعيداً عن سيطرة عسافين يتحكمون بمفاصلها. -        لا تغالطي نفسك يا وداد، العابرون هم أهلك، تلميذاتك، صديقاتك، ألم تكوني مخلصة مع الجميع؟ ماذا جنيت في حياتك؟ لا شيء، هذه الحلي الذهبية في يديك كم يساوي ثمنها؟! اللعنة على ثمنها، لا يكاد يساوي ثمن عجلة من عجلات سيارتي الجديدة. صمت، وصمتت، ابتسم في أعماقه منتشياً بإصابة الهدف، بدأت رفيقته السير في درب الاستسلام ،الدمعة المتأرجحة في عينيها تكاد تطيح بخط الكحل، لا بأس، استمري يا وداد، ولكن، لا حاجة للدموع يا صديقتي، لا وقت لدينا نضيعه في الأحزان. -        وداد! ادفعي ثمن ما شربنا. -        أنا؟ هتفت مستنكرة. -        أجل، أنت، أم إنك تفضلين البقاء في قيود المرأة الشرقية، ألا ترين كم كانت خسارتك كبيرة بالتزامك قوانين الشرق الجائرة، هيا، ابدئي بالتحرر الآن، كوني امرأة عصرية، أريد أن تتمردي على كل القوانين التي تحد من انطلاقك وحريتك، هيا. أخرجت وداد من حقيبتها ورقة مالية، أعطتها للنادل الذي وقف متعجباً يراقب الوضع الهجين ،منقلاً النظر بينهما، أخذ الورقة، أعاد إليهما الباقي، تناوله سليم، وضعه في جيبه، ونهض مشيراً إليها: -        هيا... ظلت طوال الطريق تغالب دهشتها، كيف يسمح رجل كهذا لنفسه باقتناص مبلغ تافه فيضعه في جيبه؟ أم إنه نسي، وتصرف بشكل لا شعوري، بحثت له في نفسها عن مبررات حتى اقتنعت ببراءته ،وتابعت نزهتها معه. -        سيكون جهاز عرسنا من أثمن الأنواع وأمتنها، لأنه سيبقى ذكرى عزيرة مقدسة لكلينا. -        الأمر يعود لك وحدك. -        قلت لك: لا أحب الخنوع، أين رأيك؟ أين شخصيتك؟ دافعي عن حقك، تمردي، قال غاضباً. -        وماذا بعد؟ -        سنشتري جهاز تلفزيون حديث مع ملحقاته  يسمح بمشاهدة مئات المحطات، لن تشعري لحظة واحدة بالفراغ أو الملل. -        أحلامي متواضعة يا سليم، صغيرة، كل هذه الأشياء التي تذكر، يمكنني الاستغناء عنها حين أقتني ما هو أثمن منها جميعاً، الحب. شعر بالغثيان، بالقرف، ها هي ذي منال أخرى، تحلم بالحب، سخيفة كسابقتها، اللعنة. -        هيه... ما بك؟ -        أتحبينني يا وداد؟ -        طبعاً أحبك يا هشام، أوتسأل؟ أحبك وآمل بتعويضك عن حياة الوحدة التي تحياها، لن أتركك تسافر بعد اليوم، سأسافر معك، لو اقتضى الأمر استقالتي من عملي لفعلت. ابتسم منتشياً بلذة الاكتشاف، سجّل على صفحة ذاكرته حفـراً اسم هشام، اسم ورد عفواً على لسانها، هذا يعني أن هشاماً ما، عبر حياتها العاطفية، سيمسك بنقطة ضعفها بقوة، ليدق عليها وقت الحاجة، رفع رأسه، وقد اجتاحه شعور بالانتصار. بعد ذلك توالت لقاءاته مع الدكتورة سعاد، نسيا جواز السفر وما كان من أمره، سعاد لن تجد في أية بقعة من العالم رجلاً مثل سليم، تنبهت صديقاتها وزميلات عملها إلى التغير الذي طرأ على سلوكها، بدأت العاصفة بنسمات خفيفة منعشة: ما هذا الجمال يا دكتورة؟ ما هذه الأناقة؟ أين كنت تخفين ذلك من قبل؟ يا سعد من سيحظى بهذا الوجه النضر. أسعدتها هذه الكلمات ما ردت عليها إلا ببسمات صافية، صاعدة من عمق وجدانها، مضمخة بالسعادة. لكن المجتمع لا يرضى برؤية السعادة ترف على محيا امرأة وحيدة مطلقة، لابد من البحث والتنقيب الدقيق في تفاصيل حياتها اليومية عن سرّ هذا التطور المفاجئ، تطوعت الزميلات والزملاء مع كل مستخدمي المشفى لتقصي الحقيقة، تحولت بعد ذلك كلمات الإطراء إلى غمزات واضحة، ثم انقلبت إلى كلام حادّ جارح: مَن يا سعاد، هذا الرجل الوسيم الذي يرافقك في نزهاتك، هل سيتزوجك؟ أم هو حب عابر؟. حب عابر؟ الآن؟ بعدما صارت جدّة؟ أتعود الأم إلى المراهقة بعد زواج بناتها؟ يا عيب الشوم! لا ،ليس حباً عابراً، كانت تنتظر من سليم المبادرة لطرح موضوع الزواج، ما دام قد تأخر فلا بأس أن تبدأ بنفسها، سليم انقطع عنها فجأة، ولا تعرف له عنواناً، ستنتظره حتى يعود من تلقاء نفسه، لابد أن يعود. -        هيا يا حبيبتي لنشتري جهاز عرسنا. -        لكنك لم تخطبني من أهلي بعد. -        سنفاجئ الجميع ونضعهم أمام أمر واقع، وتكون موافقتهم تحصيل حاصل، هيا بنا. -        أنا جاهزة. أخذ وداد، مديرة المدرسة, وراح يدور بها على محلات بيع الأثاث المنزلي، يستعرضان أجود الأنواع، يفرشان عليها أحلاماً حمقاء، ويتابعان التجوال، أخيراً توقفت خائرة القوى، مصرة على الشراء من هذا المحل، بحثا ،استعرضا، ثم انتقت ما أعجبها، خزائن، مقاعد،  أوان للمطبخ، للزهر، كلها من النوع الفاخر، وعد سليم البائع بالعودة بعد شهر لنقل الأثاث من مستودعه، احتجت وداد: الشهر كثير. -        ليس كثيراً يا حبيبتي، أنا لا أملك نقود اً هنا، أموالي كلها في المصارف الأجنبية، انظري. أخرج من جيبه دفتراً صغيراً أنيقاً، مكتوباً كله بلغة أجنبية لم تفهم وداد منها شيئاً، تصفحت أوراقه، ثم أعادته إليه. -        ما هذا؟ -        دفتر أحد البنوك التي أودع فيها أموالي ، ولكن... ليس للبنك فرع هنا، سأسافر لسحب بعض النقود من هناك، ثم أعود ،المسألة تحتاج شهراً، وربما أكثر. -        تسافر؟ وحدك؟ ألم نتفق ألاّ سفر بعد اليوم وحدك؟ -        أنا مضطر، إلا إذا كان عندك حلّ آخر. -        أي حلّ تعني؟ -        أن تدفعي الثمن من مالك، وتعتبري ذلك ديناً عليّ، ثم نسافر معاً، نمضي شهر العسل ونعود  بالمبلغ الذي أسدد به ديني لك، أو أعطيك مالك هناك. فكرت وداد، هذا حل معقول، جميل، وداد تدخر مبلغاً لابأس به من المال، أهلها لا يعلمون عنه شيئاً، لم لا تدفعه الآن، وتسافر في رحلة الأحلام بعد أسبوع؟ طبعاً هذا أفضل الحلول. -        موافقة. خرجا معاً، سحبت رصيدها من البنك، دفعته للتاجر، سطر إيصالاً باسم سليم، على أمل أن يأتي في المساء لنقل الأثاث إلى البيت، بعد ساعة، عاد سليم إلى المحل، أخبر البائع أنه عدل عن الشراء، ترك له جزءاً من المبلغ، واسترد الباقي، خمسون ألف ليرة بالتمام والكمال، حشرها في حقيبة جلدية صغيرة ، كتلك التي يحملها رجال الأعمال، ومضى في ط ريقه إلى الدكتورة سعاد. استقبلته سعاد بوجه كئيب، أبلغته ما سمعت من الزميلات، طالبته بحزم وضع نهاية مناسبة لهذه الحالة، فكّر سليم، المرأة ممتلئة، خسارة كبيرة لو ضاعت منه، دَ خلها من العيادة والمشفى ثروة، وهي تملك منزلاً كبيراً وعيادة، ورصيداً محترماً في البنك، فوق ذلك لا أهل لها يشدون أزرها، أو يقفون معها ضد ظالمها، لو كان لها أهل ما ضاع منها أولادها، زوجها الأول غبي، لم يعرف كيف يستثمرها، لن يكون غبياً مثله. -        سليم، لم لا تتكلم؟ -        ماذا أقول؟ -        قل أي شيء، هل يعجبك ما يقال عني؟ -        سامحك الله يا سعاد، لقد أحبطت فرحتي، بوجهك الكئيب هذا أحبطت فرحتي. -        فرحتك؟ فتح سحاب محفظته الصغيرة، وأدناها منها، نظرت سعاد، المحفظة تغص بالأوراق النقدية. -        ما هذا؟ -        مهرك يا سعاد، كنت أود مفاجأتك بهذا الموضوع، ما رأيك أن نَرج من هنا إلى المحكمة الشرعية فورا؟ -        هكذا؟ بهذه السهولة؟ -        لماذا تنصبين الحواجز؟ ما المانع من الإسراع؟ أنا في غاية الشوق إليك، أكاد أحترق، خرجا معاً، تحدثا في الطريق كثيراً، تغير وجه سعاد، غمرتها السعادة حتى أوشكت أن تركض في الشارع مثل طفلة عائدة من المدرسة، لكن الوقت مساء، المحاكم لا تفتح في المساء، لابأس من الاتفاق على بعض التفاصيل. -        هذا المبلغ سننفقه في جولة على عواصم العالم، يجب أن يكون شهر عسلنا مميزاً. -        سأستعجل بالحصول على جواز سفر، ستساعدني. -        دعي هذا الأمر لي، سنسكن في منزلي الثاني، صحيح أنه صغير متواضع، ولكن إذا لم يعجبك استأجرت لك بيتاً في أي شارع تريدين. -        لم لا نسكن في بيتي؟ العيادة ضمن البيت، وهذا يسهل عليّ عملي، ويريحني من المواصلات. -        إذا كانت هذه رغبتك فلن أمانع، لكننا سنغير الأثاث، سنشتري أثاثاً فخماً يليق بنا. -        اعمل ما تشاء. في القرية فشلت كل محاولات سليم في العودة إلى الإدارة، فهل يستسلم للاكتئاب؟ طبعاً لا، علمته وظيفته أن الحياة صراع، أنت فيها آكل أو مأكول، لا بد من إيجاد قاعدة متينة يستند إليها في المرحلة القادمة ،وظيفة مهمة يمارس تحت ستارها ما كان يمارس من شطارة وفهلوة، ولكن ريثما يتم له ذلك، لا بأس في الاستجمام بضعة أيام في القرية. تاقت نفسه للمجد، للعزّ، للوقوف موقف السيد بين عبيده، ينعم ويحرم، يأمر فيطاع، ينثر الطعام  كما يرمي الحبّ للدجاج، تنتكس الرؤوس لالتقاطه من تحت قدميه، ويزهو فوق الجميع. أغمض عينيه وعاد بذاكرته إلى القرية، هذه أول مرة يطيل بها الغياب شهرين متتابعين، ترى من احتلّ مركز السيادة في غيابه؟ طبعاً لا أحد، ذلك اللقب مفصل خصيصاً من أجله، على مقاسه، لا يناسب أحداً غيره، تخيل القصر والساقية، تخيل المصاطب ونجوم الليل، قارن بسرعة بينها وبين هذه حجرة النوم الضيقة في منزل منال ،أحسّ بالجدران تحبس أنفاسه حتى كاد يختنق، الحياة الحرة الحقيقية هناك، الهواء هناك له مذاق مختلف تماماً، وتذكر علياء. نهض عن سريره كالملسوع، أية لعنة صبت عليه من منزل زهران؟ من أخبر عسافاً أنه يضيق ذرعـاً بالعزوبية؟ أما وجد لديه فتاة أفضل من علياء؟ وعلياء؟ تلك المعتوهة كيف ترضى الزواج من رجل لا يحبها، ولم يطلب يدها، أما شعرت أنه لا يريدها؟ ليتها ملت الانتظار ففسخت عقد هذه الخطوبة المشؤومة، شهران مرا لم يزرها فيهما، ولا أرسل هدية، وهو العالم كم تهتم المخطوبات بالهدايا وتتباهى بها، ثم إنه لم يطرح موضوع الزواج، وكل من في القرية يعلم بقدرته على تمويل عشرين عرساً في يوم واحد، وأن لا عذر له بتأخير الزواج، على هذا الخاطر غفا، متأملاً أن يعود فتقابله علياء غاضبة لترمي في وجهه خاتم الخطوبة؛ كما يحصل في مسلسلات التلفزيون التي تعشقها الفتيات من أمثال علياء, وتعيد تمثيل معظم مشاهدها في حياتها العملية متبنية مواقفها. سيارته الصغيرة باعها لينفق ثمنها هدايا ورشاوى عساه يستعيد موضعه السابق، نقوده ذهبت أدراج الرياح مثلما جاءت، لا بأس، من الممكن تعويض كل شيء ما دام العقل صاحياً، عجلاته دوّارة، قادرة على إفراز المزيد من الخطط والمشاريع. لم يصدق حدسه هذه المرة، أوصلته سيارة الأجرة إلى باب القصر، وعادت أدراجها، دخل وحده ،الهدوء المخيم على الجو مخيف كهدوء المقابر، الأبواب مفتحة كلها ، المصابيح مشتعلة كلها، الأقذار تملأ الباحة والردهات، أين ضرار؟ لا أحد، أغلق الأبواب، أطفأ المصابيح وتقدم ليتفقد الحديقة، البركة جفّت مياهها، وماتت أسماكها داخلها، تفسخت حتى ملأت الجو برائحتها النتنة، الزهور ونباتات الزينة  كلها يابسة توحي بالخراب، جلس على حرف المصطبة مقهوراً حزيناً، هكذا تفعل القرية بقصر سيدها؟ أين الوفاء؟ أين الرعاية والاهتمام اللذان كان يلقاهما من الجميع؟ غيابه لمدة شهرين جعلهم ينسون ذكره ،ويرمون كل هذه الأقذار في قصره؟ طيور البط والإوز لا وجود لها، لعلهم أكلوها، لا، من المؤكد أنهم ذبحوها هنا وأكلوها، خيوط الدم اليابس على البلاط، والريش المتناثر في كل مكان ينبئ بما فعلوا، ما أجحدهم! أمسك بالمكنسة لينظف بها الباحة، جمع الأوساخ وبقايا الريش، كومها في الحديقة، الأرض التي كانت حديقة، ثم أضرم فيها النار وجلس يتفرج. يبدو أن عمود الدخان المنبعث من القصر لفت انتباه الناس، جاء محروس راكضاً يتعثر بأذيال ثوبه، اقتحم الباب بلهفة، وحين شاهد سليماً توقف، سأله عن عساف وشلة عساف، أخبره أنهم جميعاً عند المعلم ضرار.. -        المعلم ضرار؟ أي معلم؟ -        ضرار يا سيدنا، المعلم ضرار. -        أين؟ -        على سطح بنايته الجديدة، عساف يدعوك إليهم. -        من أخبر عسافاً أني هنا؟ -        عساف رأى عمود الدخان، قال لي: إذا رأيت سليماً في القصر فأت به إلى هنا، وإذا وجدت حريقاً فاصرخ بأعلى صوتك لنأتي لنجدتك وإطفاء الحريق. -        هيا اصرخ، دعهم يأتوا إلى هنا. -        لا.. لن أكذب على معلمي. -        معلمك؟ من هو؟ -        شعلان، معلمي شعلان، الذي يثق بي ويأتمنني على كل أسراره، هيا، اتبعني. ما هذا يا سليم، هنت حتى صار محروس يأمرك أن تتبعه؟ ستتبع محروساً يا سليم؟ حسناً ما دام هذا يرضي الجميع فلأتبعه، لا بأس في أن أتبعه. طوال الطريق كان الخوف مسيطراً على سليم، لعلهم تنكروا له بعد كل ما كان يربطه بهم من مودة وصداقة؟ لعلهم فصلوه من شلتهم، أو طردوه كما فعل المدير، استغنى عنه المدير وله عذره، سليم كان يغلّ من وراء ظهره عشرات الصفقات، يستأثر بها وحده، أما هؤلاء؟ هل يطردون من ينفق عليهم؟ هل يستغنون عن مائدته؟ أوليس بسيدهم؟ على سطح بناء لم يكتمل إنجازه بعد، فوق بساط فاخر أحمر، ووسائد مغلفة بالسجاد، كان عساف جالساً بين شلته، يتضاحكون كعادتهم دائماً، صخبهم يصل إلى آخر الحارة، غير عابئين بغياب سليم ولا بحضوره ،وصل محروس فأخبرهم بقدوم سليم، خيل إليه أنهم سينزلون جميعاً لاستقباله، والاحتفاء به، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، وصل كما وصل قبله محروس، لم ينهض أحد لاستقباله، ردوا سلامه ببرود، جلس حيث انتهى به المجلس، لم يقطعوا حديثهم، بل تابعوا ما كانوا عليه، تحولت مخاوفه وظنونه إلى حقيقة بلقاء، صفعت وجهه وأدمت إحساسه، هكذا إذن؟ -        إيه، حدثنا يا شيخ سليم! شيخ سليم؟ ما هذه اللهجة؟ عساف لا يطرح لقب شيخ إلا للسخرية، هل صار سليم محطاً لسخرياتهم؟ لماذا؟ لأنه قطع عنهم جزية الشهر الماضي؟ ربما، لكنه لم يقبض خلال الشهر الماضي من المال إلا قليلاً، بل أنفق ما لديه حتى اضطر إلى بيع سيارته، وضاع كل ذلك هباء، ولكن ليس من الحكمة الاعتراف أمام أحد بالوضع الذي آل إليه؛ للحفاظ على مكانته بينهم ريثما يتم له الحصول على مركز آخر، يعوضه ما خسره. -        عم أحدثكم؟ -        عن أوضاعك هناك، نراك قادماً بلا سيارة؟ -        سيارتي في الصيانة. -        هم م م.. وعن أعمالك وسهراتك؟ ما بك؟ كأنك لست على الحشيشة، هل أحزنك موت العجوز؟ -        أي عجوز؟ -        أبوك، هل نقول: عظم الله أجركم؟ انقطع الجميع عن الحديث والضحك، راحوا يرددون عبارات التعزية في جوّ دار بسليم حتى كاد يفقده الوعي، العجوز مات؟ فليمت، أي خير في حياته؟ كل الجبابرة يموتون هكذا، تمنى لو شاهده ميتاً، ولكن لا بأس بزيارة قبره للتأكد لمساً باليد أن ذلك الطاغية، ذا العينين الجاحظتين، يرقد جثة متفسخة تحت التراب، سيأكله الدود كما أكل نمرود، ويفكك عظامه. المشكلة الآن ليست موت العجوز أو حياته، ولا عبارات التعزية التي قيلت لسليم. ثم عاد الجميع إلى ما كانوا عليه، ناسين وجود سيدهم بينهم، غافلين عنه، متعمدين إهماله، أشعروه بالاستغناء عنه ،امتلأ غيظاً، تمنى لو ينفجر مثل برميل نفط؛ ليحرق كل من على هذا السطح، ولم السطح؟ سيحرق القرية كلها، بما فيها ومن فيها. ضرار؟ المعلم ضرار يبني لنفسه بيتاً جديدا؟ من أين جاء بالمال؟ ضرار، حين تعرف بسليم للوهلة الأولى، كان أقصى طموحه وطموح أمه الحصول على وظيفة يقبض منها في نهاية كل شهر ما يكفيه ثمن خبزه وتبغه، ضرار كسول بطبعه، لا يحب العمل، من أين جاء بكل هذا المال؟. اعتذر سليم من الحضور، ادعى أنه يعاني صداعاً رهيباً أصابه من وقع خبر الوفاة، لا بد من زيارة منزل أبيه وقبره، نهض، غادر المجلس، لم يقم أحد لوداعه كما لم يقوموا لاستقباله، نزل الدرجات الأولى من السلم والتفت: -        يا ضرار، حبذا لو تأتيني إلى القصر. -        إذا وجدت لديّ فراغاً سآتيك، لكن لماذا تريدني؟  بهت سليم، ضرار لا يوافيه إلى القصر إلا بعد أن يضع شروط اً! أي درك هويت إليه يا سليم؟  - سنحضر عشاء خاصاً بالمناسبة، صدقة عن روح المرحوم كما جرى العرف، كلكم ضيوفي. - سأحاول. سيحاول؟ حسناً ليحاول، لكنه، حتماً، سيجد الوقت الكافي ما دام هناك وعد بطعام دسم، هذا شيء مفروغ منه، الكلاب لا تهرب من رائحة الدسم، تركهم واتجه إلى بيت أبيه، وجد نظمية في أشد حالات التقشف والفقر، تخلى عنها أولادها بعدما تقاسموا ميراث أبيهم وهو على قيد الحياة، نزولاً عند رغبته. -        أرأيت يا سليم؟ ليس في الدنيا خير. -        أنا أعلم منذ زمن بعيد أنها خالية من الخير، الآن فقط اكتشفت؟ غريب! -        أصبحنا في شر حال، فقر وقلة حيلة. -        هل تعنين أنك صرت إلى ما كنت عليه حين كنت طفلاً في رعايتك؟ تحت رحمتك؟ الدنيا دولاب يا خالتي، يوم لك ويوم عليك، كيف تجدين طعم الجوع الذي ربيتني عليه؟ -        ألن تعطينا ما نسدد به ديوننا؟ هل جئت لتشمت بنا؟ -        لا أحمل نقوداً الآن، لماذا لم تخبريني عن وفاة أبي في حينها؟ -        نسيناك يا سليم، نعترف أننا مقصرون. بعد منزل أبيه احتار فيما يفعل، وأين يذهب، تفاحة، ليس غيرها من ترتاح إليها نفسه، سيشرح لها ما لاقاه من عساف وضرار، سيطلب منها شرحاً لكل ذلك، سيسألها عن علياء، ويطلب منها إبلاغها عزوفه عن هذا الزواج، ولتأخذ المصاغ الذي قدمه لها هبة، سيسألها عن أموال أبيه: كيف تمّ تقسيمها؟ هل نسوه في القسمة كما نسوه يوم الجنازة؟ دهش سليم، حتى تفاحة تغير وجهها، هرب منه ذلك الود القديم، مخلياً مكانه لحقد بارد مخيف، تشاغلت عنه بتوافه الأمور، ثم التفتت إليه: -        أما زلت على خطبتك لابنة زهران؟ -        جئت إليك لتبليغها عزوفي عن هذا المشروع، ولأسألك: أرض الريحانة التي كان يملكها أبي، لمن من أولاده أعطاها؟ -        أمورك ما عادت تعنيني يا سليم، لكن المرحوم أعطى أرض الريحانة لأختك فتحية، لأنها أحرصكم على الأرض، وهو ضنين بميراثه أن يباع لغريب، فتحية تحب الأرض، وأبوك يحب فتحية. -        وأنا؟ أين حصتي؟ -        المرحوم قال: إن الله أعطاك ما يغنيك عن ميراثه. -        هل يحق للمرحومين محاسبة الله على عطاياه؟ هام على وجهه بين أزقة القرية وحاراتها، ثم ابتعد بين الحقول حاملاً بين جنبيه شعوراً بظلم فادح يقع على رأسه فوق ظلم أبيه، تذكر دعوته للرجال على العشاء، لوى دربه عائداً إلى القصر، كانت الشمس جرحاً نازفاً في جبين الأفق الغربي، حثّ الخطا مسرعاً ليتدارك أمر الوليمة، رأى عن بعد أنوار قصره مشعشعة كلها، وكان قد أطفأها ساعة وصوله، زاد من سرعته، ركض غافلاً عن ريح المساء تسفع وجنتيه ببرودتها كما فعلت دائماً في طفولته، دخل القصر، شاهد كل شيء مرتباً نظيفاً، الوليمة جاهزة  كأنما هو الضيف وهم أصحاب المكان، الشلة مكتملة حول المائدة العامرة، تنتظر أن يفرغ ضرار من سكب الأطباق ليبدؤوا بالتهام الطعام، ما كان طعامهم هذه المرة طبيخ البرغل أو الأرز مع اللحم كما تعودوا، بل خروفاً محشياً، مددوه بكامل أعضائه في طبق كبير، أحاطوه بأطباق السلطة والمقبلات، استنكر سليم المشهد، الأمر مختلف جد اً عن المألوف، ضيوفه اليوم ليسوا دجاجاً ينكس الرؤوس ليلتقط الحبّ من تحت قدميه، بل جماعة من الذئاب، تنهش جسد فريسة غافلة، زاد خوفه، تخيل نفسه مكان ذلك الخروف وهم يتناهشون لحمه, لكنه تصنع المرح، جلس بينهم، شاركهم الطعام، حدثهم عن مغامراته وسهراته كسالف عهده، قاطعوا حديثه مرات كثيرة ،بلكنة تشوبها السخرية، تساءل في سره: أتراهم يعلمون الحقيقة؟ لماذا يلوون رؤوسهم غير مصدقين، ولا متظاهرين بالتصديق؟ لم يمهله عساف كثيراً، قاطع تأملاته سائلاً : -        منذ متى لم تلتق بمديرك يا سليم؟ -        ما هذا السؤال؟ أنا ألتقيه كل يوم. -        هم ... كنت أعلم أنك ستقول ذلك. ضج الجميع بالضحك، وأغاروا على الأطباق، يلتهمون محتوياتها، ويلعقون حثالتها، قانونهم يعرفه جيداً سليم، ينتهي الأكل بانتهاء الطعام الموجود، ليس بالشبع، سؤال آخر طرحه عساف بشكل مفاجئ قطع عليهم صخبهم، توقفوا ليصيخوا السمع: هيه ... هل قلت: إن سيارتك الآن تخضع للصيانة يا شيخ سليم؟ أين؟ عند من؟ يبدو أنهم يعلمون كل شيء، قال سليم في سره، تركهم يشربون الشاي، ودخل إحدى الغرف ،استلقى على السرير هناك، هرباً من تهكمهم، وأملاً بإيجاد مخرج من هذه الأزمة، كان بوده لو ينفرد بشعلان ليستوضحه ما سمع من تفاحة، لكن شعلان غائب عن هذه الوليمة،  وليس من عادته الغياب. يومذاك، كانت الدكتورة سعاد تجلس في عيادتها وحيدة، تغازل حلمها الذي تجسد أمامها حتى أوشك أن يتحول إلى حقيقة، تحسب الأيام القليلة القادمة، الفاصلة بينها وبينه، حين دفع الباب ،ودخل إليها رجل جلف، اقتحم المكان كأنه أحد سكانه، جلس على الكرسي قبالة سعاد، يتفرس بوجهها صامتاً، أجفلت سعاد من الوافد الطارئ. -        أهلاً وسهلاً، مم تشكو؟ -        لست مريضاً يا دكتورة، أنا ابن عم سليم، سليم اليوم في القرية، سافر مستعجلاً ليحضر جنازة أبيه. -        لم يخبرني. -        جاءه الخبر بشكل مفاجئ، سافر فزعاً، لم يتفقد جيوبه، سليم لا يحمل نقوداً هناك، أرسلني إليك لتنقذيه من الأزمة. -        كم تريد؟ -        مصاريف الجنازة. فكرت سعاد، كانت حقيبته تغصّ بالنقود حين التقاها آخر مرة، أين ذهب بها؟ كيف تتأكد من صحة كلام هذا الرجل؟ انتبه شعلان لشرودها، أخرج من جيبه بطاقة شخصية ناولها إياها: -        هذه هويتي، خذيها لتتأكدي، احتفظي بها إن شئت حتى يعود ابن عمي سليم. نقدته المبلغ  الذي طلبه، وجلست حزينة صامتة، يبدو أنها شؤم على سليم، شؤمها واضح منذ بداية حياتهما المشتركة، خرج شعلان من العيادة، استوقف سيارة أجرة، وطار بها إلى المدرسة، دخل الإدارة، أخبر وداد بما أخبر به سعاد، قبض منها مبلغاً مماثلاً، وعاد إلى منزل منال لينام ليلته. كان سليم مستلقياً على سريره، محدقاً بالسقف، يتابع أفكاره متنصتاً لرنين الملاعق في كؤوس الشاي حين دخل ضرار: -        عساف يقول: إذا كنت متعباً تريد النوم فاذهب إلى بيت أبيك، سنسهر هنا حتى الفجر. -        اسهروا، هل منعتكم؟ سأغلق باب غرفتي وأنام. -        بل ستنام خارج هذا القصر. خرج ضرار، ترك الباب مفتوحاً، هذا يعني أن القرار لا رجعة فيه، لبس سليم حذاءه، وخرج من باب جانبي، محاذراً الاصطدام بنظراتهم الوقحة، ما زال الليل في أوله، الشلة راحت تمارس لهوها وصخبها، أما هو فما زال يتسكّع حتى بزغت الخيوط الأولى من الفجر... وفي الصباح مرّ بدكان تفاحة، حاملاً همه بين جنبيه ولم يلتفت. حين عاد إلى القرية في عودته الأولى ظنّ أن ضراراً سيكون أوفى أتباعه، ها هو ذا ضرار، الخادم الذي لا يستغنى عنه في القصر، يخدم عسافاً ورجاله، يشتري لهم الطعام والشراب من المدينة بمال سليم. في البداية فرح سليم بمؤاكلتهم، أراد أن يمنّ عليهم بأنهم باتوا ضيوفاً دائمين على مائدة من كانوا بالأمس يهزؤون به، ليغصّوا بكل لقمة، ويجرعوا الذل، تخيل أنه يشتري  كرامتهم بهذا الكرم، لكنه اكتشف، بعد أن وُضع الطوق حول عنقه ويديه، أنهم لم يغصوا بطعامه، بل أكلوه هنيئاً مريئاً، ويطالبونه بالمزيد، وأنه اشترى الهواء الغربي بدلاً من كرامتهم؛ فهم أناس لا كرامة لديهم، يأكلون على كل  الموائد ولا يبالون، المهم أن تمتلئ منهم البطون والجيوب، والويل له إن قصّر في عطاياه، أو تراجع عما بدأه، عند عساف الدواء المرّ دائماً. عساف لمح التذمر في عينيه حين أمره بمغادرة القصر في المساء، وقبل أن يتاح لسليم ترجمة احتجاجه إلى كلام، ناوله عساف الجرعة الأولى ،دخل قصره فرأى جلبة غير عادية، تقدم يستطلع الخبر، وجد الغرف كلها قد أثثت بأثاث جديد، لم يسأله أحد رأيه فيه، ولا علم أين ذهبوا بأثاثه القديم، اختاروا الأشكال والألوان، وزعوا القطع على الغرف كما يشاؤون، استقبله عساف ضاحكا؟ ها .. ما رأيك بهذا الأثاث جهازاً للعروس الجديدة؟ وقبل أن يبدي رأيه أمره بالتوجه إلى المدينة لدفع ثمن هذه الأشياء نقداً، أذهلته المفاجأة، أمسك عساف يده، يسحبه من غرفة إلى أخرى حتى وصل المطبخ، المطبخ يغص بقدور وأطباق وملاعق و ..... كل ما يحتاجه مطبخ قصر فخم، معدّ لاستقبال هذه الشلة الطفيلية، كان ضرار يغسل الأطباق بعد وجبة الإفطار، اتجه إلى سليم بيديه المبللتين بالصابون، وطلب منه ملء الثلاجة الفارغة والمطربانات المصفوفة على الرفوف بكل أنواع المؤن. غادر القرية مرغماً، ولم يتوقف في المدينة، بل اتجه فوراً إلى محطة الانطلاق، اتخذ مجلسه في الباص، وراح يغالب إحباطات انصبت عليه دفعة واحدة من أين يبدأ بحلها؟ لا شيء على المدى المنظور كما قال له المدير في بداية تعاونه معه، كلها أمطار تهطل من السماء، أو سيول تسري من تحت البساط ،أمطرت سماؤه طرداً من وظيفته، نبعت أرضه أزلاماً احتلوا قصره، وداسوا كرامته، صعد الباص صبي ينادي: قطعة البسكويت بخمس ليرات، البوظة بخمس ليرات، العلكة بخمس ليرات، تأمله سليم بعين الحاسد: هذا الصبي لا يعرف بعد ما هموم الحياة. بعد قليل تبعه صبي آخر، يتأبط عدداً من الصحف والمجلات، رفع صوته بالنداء ليغلب صوت زميله: العلكة بخمس ليرات، الكفاح العربي بخمس ليرات، اشغل وقتك، تسلَّ، أخبار الرياضة بخمس ليرات، ابتسم سليم هازئاً: تساوى الكفاح العربي بكل مراحله مع قطعة بوظة وعلكة، علا صوت الصبي من جديد: الكفاح العربي بخمس ليرات، الوثبة يغلب الكرامة، يا بلاش! توقف سليم: الوثبة تغلب الكرامة، ضرار وثب، سليم غلبت كرامته، الجمهور يصفق دائماً للفريق الفائز، عساف هو الفائز الوحيد، بلا منافس. الطريق بطولها لم تكفه للتفكير في حلّ يخرجه من ورطته مع عساف، لم يذهب إلى البيت، بل اتجه إلى أقرب فندق، حبس نفسه مع أفكاره مستثيراً قريحته، ضاغطاً على تلافيف دماغه للبحث عن مخرج، ما أعسر الطريق! درب العودة إلى القرية كان محفوفاً بالإغراءات، خيل إليه لشدة اهتمامهم به أنه سيكون ولي أمرهم، يأمر وينهى، ولكن هيهات، حساب السّوق لا يطابق حساب الصندوق، منحه الدهر، بل منحوه، ثلة من الأمجاد ثم، ما لبثوا أن استردوا عاريتهم، كان يردد بينهم: يجود علينا الخيرون بمالهم ونحن بمال الخيرين نجود. يبدو أنهم صدّقوا هذا الكلام، وجردوه من كل فضل فيما ينعمون به. خرج يائساً، واتجه إلى بيت منال يأكله الغيظ، ماذا يفعل؟ سيلجأ إلى سعيد، شقيق منال، يستنصره، لعله يجد لديه شعاعاً من أمل، سيستعيد منال زوجة ريثما يحقق مآربه، ثم يعيد النظر. فتح الباب ودخل، آملاً أن يستمد من خيالات منال ما يعينه على مصالحتها، خاب رجاؤه ،صحيح أن المنزل ملك له في الدوائر العقارية، لكنه في الواقع ليس كذلك، هذا المنزل تحول إلى نزل للذاهبين والمغادرين من رجال عساف وأصدقائهم وأصدقاء أصدقائهم، يطرقه سليم في معظم الأيام، فلا يجد مكاناً يتسع لنومه، النزلاء موزعون على الأرائك والسجادات والسرير في المطبخ والحمام، أغلق بابه وعاد إلى الشارع، يبحث عن فندق يأوي إليه حتى الصباح. لا بأس في نوم الفنادق، لقد اعتاده، لن يبحث عن خيالات منال، تكفيه هذه الأشباح المرعبة ،الساكنة بين مقلتيه وأجفانه، لن يستسلم لها، سيقاوم حتى يسترد مكانته هنا، وهناك، سيدفع كل ما يتطلبه منه هذا الوضع، لن يغليه ثمناً، ولكن .... بقيت هناك عقبة كأداء، منال لا تفكر بعقلها، بل بجسدها، سليم مرهق مكدود، لن يتمكن من الاستجابة لها ومنحها ما تطلب، ستنام غضبى، وتضرب بمشاريعه وأحلامه عرض الحائط، تلزمه جرعة  كبيرة من الراحة والنوم، والطعام أيضاً، لا بأس، سيحاول، وسيعرف كيف يسترضي منال، ليمرر من فوق سريرها كل مشاريعه. بحث عن أبي معاذ في كل مكان، أبو معاذ بات يخشى التحدث إليه خوفاً على نفسه من الوقوع في محط أهداف عساف، سليم لا يهمه أمر أحد، ولا يقدر خوف أبي معاذ، يريد الوصول إلى غايته مهما كانت التضحيات، وزع في كل الأماكن التي يرتادها أبو معاذ، رسائل تفيد بأن أمراً هاماً وراء طلبه هذا لا يحتمل التأجيل، أمعن أبو معاذ في الهرب، لكن سليماً، تعلم من شعلان كيف يصل إلى مآربه بهدوء، ودم بارد، لذلك أعاد النظر، أعاد البحث بطرق بوليسية رهيبة عن الرجل حتى وجده، أمسك بتلابيبه معنفاً صارخاً: أريد زوجتي، زوجتك؟ الآن يا سليم؟ هل شعرت بالندم على ظلمك لها؟ هل ستعيد إليها بيتها؟ سليم لا يريد كثرة الكلام، يريد منال بأقصى سرعة، أما دوافعه لاستردادها فهي شأن يعنيه وحده، وليس مضطراً لبحثها مع أحد:  -        بسرعة يا أبا معاذ! أخبرها أني أريدها، واترك لها الخيار. ضحك أبو معاذ، قهقه حتى كاد ينقلب على قفاه، استشاط سليم غضباً، أمسك به يهزه بعنف، مؤنباً، ثم موبخاً، رجل يريد استرداد زوجته، ما المضحك في الأمر؟ -        أخبرني يا سليم، هل أترك الخيار لها؟ أم لزوجها؟ منال تزوجت يا سليم، رجل من الأقارب ماتت زوجته وتركت له أطفالاً صغاراً، تزوج منال، ها هي ذي، مشغولة بهم طوال الوقت، سعيدة طوال الوقت، ضاعت عليك الفرصة يا سليم، ابحث عن منال أخرى، ربما تكسب منها منزلاً أكبر، ولكن، لا تطلب عروسك مني، لأني أقلعت عن عمل الخاطبة بعد تزويج منال لك. ترك أبا معاذ وذهب إلى الحديقة العامة، جلس وحيداً يفكر ويتأمل، ثمة عمال يزرعون غراساً جديدة، يضربون معاولهم بقوة في الأرض، يقلبون وجهها المظلم، يعرضونه للشمس، فكّر سليم: كـل شعراء العالم، كل المجانين والعقـلاء يشبهون المرأة بالأرض، ما أبعد نظرهم، وما أشبه المرأة بالأرض! تعطي خيراتها لكل من يضرب في بطنها الحديد، هيا، اضرب يا سليم، ما أوسع الأرض من حولك، وما أكثر النساء، ما أقوى الحديد! هيا، أطلق حديدك من أغماده واضرب .. اضرب .. اضرب ....  غادر الحديقة يائساً مهدود القوى، أفلتت من يده خيوط اللعبة، سحب من تحته كرسي السيادة ،سقط، لم يلتفت لسقوطه أحد، بل راحوا يمسحون الكرسي من آثاره، يلمعونه استعداداً لإجلاس سيد جديد عليه، ومن السيد التالي؟ ضرار، ضرار الذي كان أوفى أتباع سليم، وأكثرهم استماتة في خدمته يجلس على كرسي السيادة هناك، بعد حصوله على وظيفة غفير في إدارة الجمارك،  سهلها له سليم, وحج محمد يجلس في مكانه هنا، ما أحوجه للاعتكاف! عساه يجد مخرجاً لما آل إليه أمره، لكن أين؟ فكر بتغيير أقفال منزل منال ليمنع دخول مرتاديه، لكن، ما زال لديه خيط من الأمل يحدوه لاستعادة أمجاده الهاربة، هؤلاء يصلحون لدور المفاوض بينه وبين عساف. ما أحوج سليماً إلى قلب كبير، يفرد همومه بين يديه، فأين يجده؟ فاطمة؟ ما تزال تردد لازمتها التي سئم الاستماع إليها: عد إلينا نظيفاً لنقبلك بيننا، من إذن؟ أبو معاذ؟ ذلك الرحل العارف بكل ما يخفيه سليم، يقف بلا اتفاق، مع فاطمة في صف واحد،  وما يفتأ يحذره من مغبة أعماله جازماً بأنه سيؤول إلى ما آل إليه، أيذهب إليه ليرى الشماتة في أقواله وأفعاله؟ أيعترف أمام أبي معاذ بالفشل؟ لا، سليم لم يستسلم للفشل بعد، من إذن؟ المدير؟ حج محمد؟ ما أحوجه ليد حانية تربت على ظهره وتمسح دمعة روحه! سعاد .... سعاد ،ليس غيرها في الدنيا من يستطيع مواساته وتضميد جراحه، سعاد الطبيبة جريح مثله، ربما  كان جرحها أبلغ، ما أحوجه لسعاد! بخطوات بطيئة مقهورة دخل عيادتها، حاملاً روحه النازفة، وكبرياءه الجريح، جلس أمامها يجتر قهره، ماذا يقول لها؟ كيف يشكو همومه، وهي تأمل أن يكون لها عوناً في حمل همومها؟ كيف يعترف أمامها بأنهم أهانوه وسخروا منه بعدما سلبوه كل شيء؟. بادرته سعاد بعبارات التعزية ساخنة، بل حارة، ملؤها المواساة والحنان، دهش، فتح عينيه محملقاً: ما أدراها سعاد؟ قالت: إن كل إنسان مصيره الموت، وإن وفاة والده حدث مؤلم، لكن يجب ألاّ تفلّ عزيمته، استسلم لحنانها، بكى بين يديها كما كان يبكي بين يدي فاطمة، سعاد أقدر على صوغ الكلام من فاطمة، لكنها تقدم له التعزية بحدث لم يثر في نفسه أي حزن، تعزيه وتطيب خاطـره وهي جاهلـة بموضوع فجيعته، حسناً، تكلمي يا سعاد، ما أجمل كلامك وما أطهره! إنه كالمطر، ينزل في غير أوانه ،يغسل عن النفوس غبار الحزن، يمحو صدأ القلوب، ما أقربه إلى كلام الأنبياء والقديسين! ما أنبل شعورك! ولكن .... -        من أخبرك بوفاة أبي؟ -        ابن عمك الذي أرسلته إليّ يومها، هل كان المبلغ الذي أرسلته لك معه كافياً لنفقات الجنازة؟ -        ابن عمي؟ قالها بهدوء من يلفظ الروح، مستنكراً وجود ابن عمه هذا. -        أجل، أعطاني بطاقته الشخصية، لكني لم آخذها منه. فكر بحزن، أي عم له؟ وأي ابن عمّ؟ شعلان هو الوحيد الذي غاب عن الوليمة, أهو شعلان؟  إلى هنا لحقوا به؟ كيف عرفوا علاقته مع سعاد؟ أية جنازة هذه التي يبتزون من أجلها سعاد؟ هل يعترف أمام سعاد بأن أقاربه قد انقلبوا عليه، ويحذرها منهم؟ كيف تأمنه بعدها؟. -        أشكرك يا سعاد، لولاك لاسودّ وجهي في ذلك اليوم. -        أنا ومالي تحت تصرفك، هذا أقل من الواجب. المرأة كريمة جداً، محبة صادقة، الاحتفاظ بها أمر ضروري جداً في هذه المرحلة؛ حيث انفض من حوله المحبون والمتملقون، أدارت له الدنيا صفحتها المظلمة. -        سعاد، ما رأيك لو نتزوج اليوم؟ -        اليوم؟ -        هيا خذي بطاقتك الشخصية، وتعالي إلى المحكمة الشرعية لنسجل زواجنا. -        سليم، أين الحقيبة التي كنت تحملها محشوة بالأوراق النقدية؟ هل استهلكت الجنازة كل ذلك المبلغ؟ -        لا، في الحقيقة، لم أنفق منها قرشاً واحداً على الجنازة. -        ماذا إذن؟ أطرق سليم، النقود أنفقها هناك، اشترى ببعضها طعاماً لعساف وزبانيته، وأخذوا منه الباقي، عاد من قريته مثقلاً بالديون، لقد أخبر سعاد أن هذه النقود ستكون مهرها، أي مهر دفع؟ وأي نحس؟ رفع رأسه، وبمنتهى الحسرة والصدق قرر الاعتراف بنصف الحقيقة. -        حقيبتي سرقت بكل ما تحتويه، لم أستفد منها قرشاً واحد اً. -        المهم سلامتك، هل أخبرت الشرطة؟ جهاز الهاتف أمامك، هيا بلغ الشرطة، وهم يتولون البحث. -        لا داعي لذلك، لأني أعرف السارق جيداً. -        من هو؟؟ -        ابنـي، حين علم أني تخليت عن أمه، سرق النقود ليؤخر مشروع زواجي بك أو يعطله، لا يريد لأمه ضرة، مع أن أمه لا تبالي، علاقتي معها مقطوعة منذ أمد بعيد. -        لا تحزن يا سليم، سنتعرض للكثير من أمثال هذه المشكلة، يجب أن تستعد لها، المهم الآن أن تخلد للراحة، وتتخفف من أحزانك، والدك المرحوم عاش حياته، واستسلم لحكم القدر، كذلك نحن،كلنا مصيرنا الموت حين يأتي أجلنا ... عدد قليل من الأصدقاء والصديقات جاء للتهنئة بهذا الزواج، أولهم أبو معاذ، الصديق الحميم لأسرة سعاد، جاء حاملاً هدية، دخل بها منزل سعاد، فاجأه وجه زوجها: -        هذا أنت؟ كيف تعرفت على الدكتورة سعاد؟ -        هل معرفة الدكتورة سعاد حكر عليك؟ من أين تعرفها أنت؟ هل جئت مهنئاً أم محققا؟ -        خسارة.. قالها أبو معاذ بين تنهيدتين، حملهما كل ما في صدره من ألم على مصير هذه المرأة الطيبة، سليم، إلى هنا وصلت يا سليم؟ وضع هديته وانسحب يجره القهر، أي طالع سوء قاد سعاد إلى هذه الزيجة - الفخّ؟ لم يلفظ كلمة واحدة من قاموس التهاني والمباركات المتعارف عليه بين الناس. سـأل سليم نفسه: هـل جـاء أبو معـاذ مهنئـاً لـه؟ أم لسعاد؟ ما العلاقة التي تربطه بسعاد؟ لماذا استنكر زواجهما؟ هل كان يريدها لنفسه؟ أم إنه سيواصل علاقةً ما تربطه بها بعد زواجها؟ الرجل عالم بكل تاريخ سليم علم الصديق المقرب، فإذا كانت علاقته مع سعاد نظيفة، فسيخبرها بكل شيء ليحميها منه، وإن كانت غير ذلك، فسيخبرها أيضاً، لينفرد بالغنيمة وحده، من الخير لسليم قطع هذه الصلة، بل استئصالها من الجذور، وقلعها كما تقلع شتلة تبغ مريضة من المسكبة. -        سليم! ما بك ساهما؟ كأن هدية أبي معاذ لم تعجبك؟ -        هدية؟ لم أفكر بالهدية، بل بصاحبها، كانت عيناه تأكلانك بشراهة أمامي، هذا الرجل لا أريد رؤيته مرة أخرى في بيتـي. -        لكنه صديق للعائلة كلها، يعالج أولاده في عيادتي. -        ولو .. ما أكثر المرضى في هذا البلد! خسارتك لن تكون كبيرة في حال طردهم. -        سليم؟ ماذا تقول؟ -        أنا زوج، من حقي، بل من واجبـي أن أغار على زوجتي. صمتت سعاد، ما زال زواجهما في أيامه الأولى، الخوض في المشاكل التافهة حماقة قد تودي بها ،ولكن هل يحق للزوج التدخل في عملها؟ إلى أي حدّ؟ هل يحق له اختيار مرضاها أو فرزهم لانتقاء ما يناسب مزاجه منهم؟ القواعد الإنسانية لمهنتها تأبى ذلك، هل سيطرد آخرين أم يكتفي بطرد أبي معاذ؟ الأيام القادمة كفيلة بكشف الحجاب، وإظهار المخبوء من نواياه. علاقتها بسليم ما تزال هشة، وهي في أشد الحاجة إلى رجل تشد به أزرها في مواجهة مصاعب الحياة، سليم هو زوجها الثاني، من المعيب لها تجاه المحيطين بها والمطلعين على حياتها أن تكون البادئة بالمشاكل، وأن يكون أبو معاذ، ذلك الصديق المخلص، سبباً في أول خصام لها مع سليم، الصبر، لا بد من الصبر، لم تتحدث معه تلك الليلة، لكنها ما استطاعت النسيان، نام كلاهما بعد تناول العشاء بصمت، أرق كلاهما طوال الليل، حاول كل منهما إخفاء أرقه عن صاحبه، في الصباح، غادرا السرير معاً، بعد تحية باردة وردّ مقتضب، دخل سليم الحمام، وانشغلت سعاد بإعداد القهوة، وضعت قهوتها في الركن الذي اعتادا الجلوس فيه، ودخلت الحمام، حين خرجت، كان سليم قد بدّل ملابسه، وشرب قهوته، أخبرها أنه سيتأخر إلى المساء، لم ترد، جلست وحدها تشرب قهوتها حائرة في تفسير ما جرى. لدى خروجه من باب الدار، اصطدمت كتفه بصدر رجل عابر، كانت الصدمة قوية بحيث جعلته يرفع رأسه ليعتذر، بلمحة خاطفة تأمل الوجه النحيل، العينين الجاحظتين، الوجنتين البارزتين، الأسنان الصدئة، قال: )عفوً ا(، ثم تابع السير، لم يسمع رداً من الرجل، لعله لم يرد، لعله شارد مقهور مثل قهره ، كل من عرف سليماً يعلم أنه يحب رياضة المشي، لكنهم لا يعلمون أنه يمارسها هرباً من نفسه، من أفكار تعتصر رأسه، وتكاد تحطم جمجمته. سليم لا يحب ركوب السيارات، لأنها توصله سريعاً إلى هدفها، وهو لا هدف له، معظم جولاته عشوائية، ثم يظهر له الهدف فجأة من حيث لا يحتسب. وصل إلى دوار البرامكة، سكة الحديد تخترق المدينة، تغوص في الإسفلت حيناً، وتطفو أحياناً، الناس، السيارات، الكل يعبر من فوقها ولا يراها، حين يصفر القطار يهرب الكل من أمامه، يبتعدون عنه فيمشي في وسط المدينة، مصعراً خده، نافثاً دخانه ولا يلتفت، وحده يحق له السير على السكة الحديدية، له وحده يفسحون الطريق، يرفع صوت صافراته، ينظر إلى طريقه بعينيه المفتوحتين دائماً كعيون الأسماك، ينتظر الجميع عبوره، وهو لا ينتظر أحداً. مثل هذا القطار عساف، يستمد قواه وصلاحياته من مؤسسات تقع خارج خط سيره، لا يراها سليم، له وحده تفتح المعابر وما على الناس سوى الانتظار، متنصتين لجلبته، مالئين رئاتهم من نفث دخانه. توقف سليم ليتأكد من خلو الشارع قبل عبوره إلى الحلبوني، صدمته كتف قوية، التفت، تلاقت العيون، الوجه نفسه، الرجل نفسه الذي صدمه عند الباب، ابتسم سليم مجاملاً، مستغرباً هذه المصادفة العجيبة، تمتم الرجل بكلمات لم يفهمها سليم، وعبر الشارع. عاد سليم إلى شروده، المكتبات تصطف على جانبيه، وهو يمر بها، ولا يراها، ما شأنه بها؟ كان يحب الكتب حين كان غبياً، يرضى باليد النظيفة قانعاً بحياة الذل والفقر، أما الآن ليجلس أصحاب المكتبات في مكتباتهم يهشون الذباب، القراءة ما عادت تجدي نفعاً في هذا الزمن اللاهث وراء المادة، المال يشتري كل شيء، من رغيف الخبز إلى لحية عساف، التحليق في عالم الكتب بات ضرباً من البلاهة. تابع السير، عبر من وراء التكية السليمانية في طريقه إلى جسر الرئيس، كسر دربه قبل دخوله تحت الجسر، توقف قرب مجرى نهر بردى المكشوف ليتابع الغوص في تلافيف عقله المتفجر حقداً وخزياً ، كيف السبيل إلى إبعاد أبي معاذ عن سعاد قبل أن يبوح لها بشيء؟ أسند كرشه إلى حديد السور، وقف يتأمل سيل المياه الآسنة الكسول، المتدفقة في ذلك المجرى، دمشق، جنة الدنيا، ترويها أنهر سبعة، أهذا أحدها؟ ربما، فالدنيا ما عاد فيها جنان، الدنيا جهنم كلها، الكل يركض ،يركض ليشتعل، أو ينطفئ، الكل يشعل أو يطفئ. رفع سليم رأسه، مدّ خطوه للأمام، على الجانب الآخر من السور، شاهد الرجل ذا الوجه النحيل، واقفاً ينظر إليه بعينيه الجاحظتين نظرة جامدة، قال في نفسه: هذا الرجل يتتبعني منذ الصباح، من هو؟ ما شأنه بي؟ من وراءه؟ معلومات لا بد لي من معرفتها، لكن كيف؟ الأمر ليس مستحيلاً، ترك الجسر ونزل باتجاه مجمّع سيارات السرفيس، شعر أن الرجل يلاحقه بخطواته، أحس بالضيق، توترت أعصابه ،دفع بجسده في أول سيارة عابرة، اتخذ مجلسه على أحد مقاعدها، وتنفس بارتياح. السيارة تعمل على خط ركن الدين، دارت دورتها تحت الجسر، وصعدت يميناً، سليم هارب من نفسه، لا يعرف وجهته، ظلت السيارة تمشي وتتوقف، يصعد ركاب وينزل آخرون حتى وقفت قرب حديقة، نزل، عازماً على قضاء ساعة من الوقت بين الأشجار الخضراء؛ والزهور لعله يستعيد صفاء نفسه. مشى متثاقلاً يجرّ الخطوات، يغالب شعوراً قوياً بأن الرجل ما زال يراقبه، دخل الحديقة، اتخذ مجلسه تحت شجرة وارفة، وراح يتفرج على الأطفال، يتنقلون جماعات وأفراداً بين الأراجيح ومنهل الماء، تحت نظر أمهاتهم، ما أجمل الأطفال! إنهم عصافير الحب، عصافير الزينة في قفص الحياة الضيق، ما أحلى وجوههم الناطقة بالسعادة  والبراءة! لسبب ما، بكى أحد الأطفال، أشفق عليه طفل آخر أكبر منه، يبدو أنه أخوه، أمسك يده ليقوده إلى امرأة تجلس بعيداً على مقعد حجري مع صديقتها، كلمات الطفل الأكبر عذبة مؤثرة غزت قلب سليم، فظهرت آثارها جلية على قسمات وجهه، التي انبسطت ببسمة روحانية شفيفة، ولحقت عيناه بالصبي. قبل أن يصل الصبيان إلى حيث تجلس الأم، استوقفهما رجل، يجلس وحيداً على مقعد خشبي الرجل نفسه، بوجهه النحيل وأسنانه الصدئة، هربت السعادة من وجه سليم، وعاد لواقعه يتساءل عن سر هذا الرجل. ابتعد الطفلان، وبقي الرجل النحيل في مكانه، يرمق سليماً بالنظرة الجامدة ذاتها، قام سليم عن مقعده، اتجه إليه مسرعاً يهتزّ أمامه كرشه الثقيل، توقف على بعد خطوتين منه: -        من أنت؟ -        أنا سأسألك: من أنت؟ -        من أنت؟ وماذا تريد مني؟ قالها صارخاً بحدّة. -        لا أريد شيئاً، أجاب الآخر ببلاهة. -        أنت تطاردني منذ الصباح، هيا أخبرني بسرك قبل أن ينفجر عليك غضبي. -        بل أنت من يلاحقني منذ الصباح، أراك أينما ذهبت. -        هيا، انصرف من هنا -        أنت من سينصرف من هنا، الحديقة ليست من ميراث أبيك. وجد سليم أن لا جدوى من النقاش مع هذا الرجل الأبله، حمل مزاجه المعتكر، ومشى في دروب الحديقة المعشبة، أحس بخطوات تتعقبه، التفت بسرعة، اصطدمت عيناه بالوجه النحيل:  -        لماذا تلاحقني؟ -        لمَ تعطي لنفسك كل هذه الأهمية؟ من أنت لألاحقك؟ أنا أتنزه في حديقة عامة، هل تمنعني؟ ركب سليم أول سيارة تكسي، سمع مع صوت محرك السيارة قهقهة الرجل النحيل، فازداد غيظاً، من يكون هذا الرجل؟ وما السبيل للخلاص منه؟ قد يكون أحد أقارب سعاد، لم يعجبه هذا الصهر، أو من أقارب وداد، أرسلته ليتسقط لها أخبار العريس الهارب، سعاد لم تزر المدرسة بعد زواجها بسليم، ربما تعلم وداد أنه تركها مفضلاً عليها الدكتورة، هل يتزوج أحمق من وداد ويترك الدكتورة؟ طلب من السائق أن يوصله إلى عيادة سعاد، ليرمي همه بين يديها، وقع أسير حنانها، هي وحدها من يستطيع مساعدته، حين وصل، كانت غرفة الكشف مغلقة من الداخل، أخبرته الممرضة أن الدكتورة تفحص إحدى المريضات، طلبت منه الانتظار ريثما ينفتح الباب، جلس مكرهاً بين المرضى، الرجال صامتون، النساء تتحدث كل واحدة منهن إلى جارتها، اللعنة على النساء، من أين يأتين بكل هذا الكلام؟ الثرثرة من حوله زادته اضطراباً، طال الانتظار والباب لم يفتح بعد، اللعنة على سعاد، هل تفحص مريضتها أم تشرحها؟؟ راح يسلي نفسه بالتنصت إلى حديث جارتيه في المقعد. -        ألم تتحسن صحتك بعد؟ -        ولن تتحسن أبداً، كل الأطباء يريدون ألا أفكر كثيراً في القضايا التي تثير قلقي، هل أتوقف عن التفكير؟ أم أتوقف عن الحياة؟ -        إلى أين وصلت بقضيتك؟ -        ما زلت أراوح في مكاني، أنا هنا وأولادي في لبنان والأردن، على الحدود، السلطات السورية تسمح بخروجي، الدول الأخرى لا تسمح بدخولي. فكّر سليم، المرأة فلسطينية إذن؟ يا حرام! محرومة من أولادها؟ يا حرام! معصماها مقيدان بالذهب، يا حرام! صيد سهل وثمين، الرزق آت يا سليم، افتح جيوبك لسيوله، أعاد التفكير: الممرضة لم تقل ما يشير إلى أنه زوج الدكتورة، لعلهم يحسبونه مريضاً مثلهم؟ حسناً ليبدأ بنصب فخاخه: -        عفواً، هل قلت: إنك تودين السفر؟ -        نعم. -        هذا سهل. -        كيف؟ أغثني أرجوك، أتوسل إليك. -        خذي هذه البطاقة واتصلي بي. -        سأفعل، لن أنسى فضلك في حياتي. -        هذا عمل إنساني، لا يحتاج للشكر. انجلى عنه همه، خرج من العيادة فرحاً، فكّر أين يذهب؟ عاد إلى البيت، الرزق آت، فلم القلق؟ لينطح الجدار ذلك النحيل، لن يترك نفسه تحت تأثيره، سيتجاهله فينسحب من تلقاء نفسه، فإن لم يفعل، سيستجره إلى قسم الشرطة، يسلمه لشرطي هناك صديق لسليم ليتولى تأديبه. لم يطل مكوثه في البيت، بل خرج مسرعاً قبل انتهاء الدوام الرسمي، ليستوضح من معارفه السابقين طريقة التعامل مع الفريسة الجديدة، دخل قسم الهجرة والجوازات، أخذ وصفة دقيقة توضح له كل شيء قبل البدء بالتعامل مع امرأة تحمل قضية العرب المزمنة على هويتها الشخصية، يا حرام! في منزل منال اكتشف أن خطه الهاتفي مقطوع لتأخره في دفع الفواتير، ركض في الصباح التالي إلى مركز البريد، وجد أن الرقم أكبر بكثير من قدرته على الدفع، مكالمات قطرية ودولية ومحلية، ما العمل؟ رصيده الذي بقي لديه لا يكاد يسد هذه الفاتورة، هل يضحي برصيده أم بالقضية الفلسطينية؟ بعد جهد طويل استطاع وصل خطه الهاتفي بشكل جزئي، يستقبل المكالمات ولا يرسل، لا بأس ،ليقطعوه كلياً، ولكن ليس الآن، بعد المكالمة الموعودة مع أم سعد. فكر بالطيران إلى القرية ليزف البشرى، الفرج أصبح قريباً، أم سعد هي الفرج، هي الخيط الذي سيرتق به ما انفتق من علاقته بعساف ،عساف هو القرية، كل القرية عساف، إخوته لا يهمه أمرهم، لا يكاد يلقي على أحد منهم تحية في الدرب، كذلك بقية أقاربه، ظلموه في طفولته، نسوه وقت حاجته لهم فنسيهم، أما عساف، عساف صنع له مجداً ما استحقّه أحد من قبل. اتجه إلى محطّة الانطلاق، وقبل وصوله تراجع، سليم لم يعترف حتى الآن، أمام أحد من سكان القرية بفشله، ماذا سيقول لهم؟ لا، الوقت غير مناسب لزيارة القرية، سيذهب قريباً، ولكن بعد ما يقبض دفعة أولى من أم سعد، أما الآن، فما عليه سوى المكوث في بيت منال، انتظاراً لرنين الهاتف. عاد أدراجه من المحطة، فرحاً بما توصل إليه عقله العملي من إنجاز، توقف على الرصيف ليفكر هل يركب تاكسي؟ أم حافلة النقل العام؟ أم يتابع سيره على قدميه؟ قبل أن يستقر رأيه على حلّ التقت عيناه بالعينين الجاحظتين في الوجه النحيل، على الرصيف المقابل، ارتعد، تبخرت فرحته، وحلّ محلها خوف مفاجئ من هذا الرجل، ماذا يريد؟ سؤاله بالأمس لم يعد على سليم بفائدة، بل ادعى أن سليماً هو من يراقبه، والآن، هل يذهب إلى سعاد؟ أم إلى بيت منال؟ سيتبعه هذا الشيطان في الحالتين، سعاد امرأة طيبة القلب كريمة، تكاد تكون مثل فاطمة، لن يسمح لهذا النحيل بمضايقتها، أما لو ذهب إلى منزل منال، فسيكون هناك وحيداً، سيتسلل إليه النحيل من ثقوب المفاتيح، من صنابير المياه، من الأبواب والنوافذ والجدران، سيرعبه في كل حال، ما العمل الآن؟ سار على الرصيف متمهلاً، يسترق النظر إلى قرينه على الرصيف المقابل، توقف، الشارع مزدوج الاتجاه، وغريمه يقف بعيداً، لن يتاح له اللحاق به لو ركب سيارة من هنا، أشار بيده إلى أول تكسي واتجه إلى منزل منال، ليفكر هناك على مهل. أحس بالوحشة تغمره مع رائحة الرطوبة، منذ أول خطوة، لا بأس، الوحشة والرطوبة خير من وجود منال، استلقى على السرير، الوسادة دبقة من شدة الاتساخ، الفراش ممزق الإهاب، متناثر الأحشاء ،المكان خصم لدود للراحة، قام يجهز لنفسه فنجان قهوة، دخل المطبخ، لم يجد في المطبخ قدراً ولا طبقاً، ما وجد ملعقة ولا كوباً، حتى موقد الغاز وأسطوانته عرفا طريقاً يؤدي إلى خارج هذا البيت، من يلوم؟ لا أحد، المال السائب يدفع الناس دفعاً للسرقة، ضيوفه الوافدون من القرية، نسخوا مفاتيح الدار نسخاً لا يعلم عددها أحد، وزعوها على أصدقائهم وأصدقاء أصدقائهم، بينما سليم هناك، يركض ويركض لاستعادة وظيفته السابقة، وليجمع من الأموال ما يكفيه نفقة البيت هنا، والقصر هناك، يبحث عن وظيفة أخرى يجبر بها ما انكسر بلا فائدة. فجأة، ارتفع رنين الهاتف، ابتسم سليم بسرور، مستعجلة أنت يا أم سعد أكثر مما يتوقع، ترك لنفسه فرصة الاستمتاع بهذا الرنين، ها هو ذا يعود إلى موقع المسؤولية، شخص ما يطلبه ليرمي همومه بين يديه، انتظري يا أم سعد، انتظري أكثر، سليم تعود الاستمتاع برؤية الناس ينتظرون ردود فعله بلهفة، ويزيده متعة تقديمهم للهدايا قرابين قبولٍ بين يديه، ادفعي أموالك يا أم سعد، قدمي هداياك، قرابينك، وانتظري، في مثل هذا الموقف كلمات سليم لها وزن، حركاته، نظرة عينيه، لا يمنحها إلا بمقدار ضئيل، يوجهها من الأعلى. -        ألو -        سليم، قلقت عليك جداً يا سليم، رحمة الله واسعة، وهذا حال الدنيا، والدك قضى حياة صالحة، وهذا يجب أن يخفف أحزانك. اللعنة، هذه وداد، أهذا وقتها؟ لقد نسيتها فلم لا تفعل مثله؟ كيف السبيل للخلاص منها؟ لكن ما يبعث على الجنون، كيف عرفت بخبر الوفاة؟ -        شكراً يا وداد، هاتفك أراح أعصابي. -        الحزن على الأموات لا يفيد، التفت إلى نفسك، إلى حياتك، الحي أبقى من الميت، سأدعو لوالدك بالرحمة، ولك بطول العمر. -        وداد، من أخبرك بوفاة أبي؟ أهي ابنتي رامية؟ -        ابنتك تركت المدرسة منذ مدة، أخبرني ابن عمك في اليوم نفسه الذي اشترينا فيه أثاث بيتنا ،أعطاني بطاقته الشخصية، لكني لم آخذها منه احتراماً لك، طلب مني مبلغاً من المال لنفقات الجنازة فأعطيته، هل كان ذلك المبلغ كافيا؟ -        أشكرك يا وداد، لكني الآن متعب، متعب جداً، سأتصل بك حين أرتاح. ابن عمك؟ ابنتك تركت المدرسة؟ نقود للجنازة؟ أثاث بيتنا؟ ما هذه المصائب التي تنزل على رأس سليم كمطر السماء؟ أي ابن عم هذا الذي يتبعه عن بعد ليبتز صديقاته؟ الكلام نفسه قالته سعاد ،أيكون ذلك النحيل الجاحظ العينين؟ انقض على جهاز الهاتف، رفع السماعة، ضغط بإصبعه على الرقم الأول، ثم الثاني، جاءه صوت أجش، قاصف كصوت القدر: هذا الرقم مفصول لأسباب مالية، أعاد السماعة إلى مكانها، استلقى على السرير من جديد، ليعيد التفكير بكلام وداد، ويبحث لنفسه عن وسيلة تتيح له الخلاص منها. في خضم البحر المتلاطم الأمواج، المتشكل من أفكاره ومتاعبه غفا سليم، غرق في نوم عميق عميق، مليء بالكوابيس؛ كأنه لم ينم منذ دهر، ألا يقولون: إذا كثرت همومك  نَم عليها، نام سليم، وحين صحا، كان الظلام الدامس يغرق البيت، ظلّ بضع دقائق رابضاً يحاول تذكر المكان الذي ينام فيه، أو استرجاع ما حصل، تلمس السرير، تلمس الوسادة وما حولها، لو كان مدخناً لأخرج ولاعته من جيبه وحلّ المشكلة، لكنه لا يدخن، تلمس طريقه إلى مفتاح الكهرباء، نظر إلى ساعة يده، رأى شاشتها بيضاء بلا أرقام، فرغت بطاريتها فجأة، فتوقفت عن حساب الزمن، أضاعت منه حساب الوقت كما ضيع الاتجاهات، ضاع كل شيء وبقي ذلك الوجه النحيل يطارده في كل مظنة. أضاء المصباح، فما زاده النور إلا وحشة وكآبة، البيت كالخرابة، كالمقبرة، شبح منال يلاحقه ،جاحظ العينين يطارده، الصراصير تتراكض على الجدران، خارجة من أحشاء الفراش، من أبواب الخزانة ،من مصارف المياه، المطبخ مقفر كصحراء مالحة، الثلاجة مكسوة من الداخل بطبقة ثخينة من العفن الأخضر بعد تعطل محركها، وتراكم الأطعمة الفاسدة فيها، أين المفرّ؟ لا بد من ملجأ يأوي إليه، لا بد من بئر يرمي فيه بمخاوفه ليستعيد بعض الأمان، أنار كل مصابيح البيت، من المصباح المعلق فوق باب الدار إلى مصابيح الحمام والسقيفة. ما زال الرعب ساكناً مقيماً معه، يتلبسه كثوب ضيق، فكر بالخروج من محبسه واللجوء إلى فاطمة ،عندها نبع للحنان لا ينضب أبداً، ولكن كيف يقابلها بعدما أخبرته وداد أن ابنته تركت المدرسة؟ لا شك أن كل المعلمات، اللاتي ابتزّ أموالهن انتقمن من ابنته، لو ذهب إلى فاطمة الآن لصفعت وجهه بكل نذالاته، واضطرته للانسحاب من أمامها ذليلاً صاغراً، إلى أين يذهب؟؟ أيذهب لسعاد؟ سعاد ما تزال في بداية عهدها معه، لا تعلم شيئاً عن علاقاته أو ممارساته، كل ما تعرفه أنها تزوجت رجل أعمال يبحث عن واحة أمان، يرتاح في ظلالها بعد كل جولة من جولات عمله الموزعة على أنحاء العالم، يضع فيها غنائمه، يستجمع قواه من دفئها قبل ارتحاله في جولة جديدة، لو علمت سعاد بما يعانيه .... لا، لن تعلم، لا ينبغي أن تعلم، لو عرفت لصرخت في وجهه مصعوقة بالمفاجأة، طالبة الطلاق، ستطرده من بيتها، ومن حياتها وتخسر كل شيء، لا، لن يخسر سعاد. لم يبق لديه سوى عساف، عساف وحده يعلم بواطن الأمور وظواهرها، يحلل كل شيء تحليلاً دقيقاً مفصلاً لا يخطئ أبداً، لا بد أنه واجد لدى عساف حلاً لكل ما يعانيه، سيذهب في الصباح الباكر إلى القرية، ليفرد بين يدي عساف مشكلته، ويتلقى منه التعليمات الكفيلة بحمايته وإنقاذه من هذا الرعب القاتل. هناك عقبة كبرى، عساف العالم بكل شيء لا بد أنه يعلم كل ما يحيط بسليم، وسليم ما زال يكذب عليه، يوهمه بعكس الحقائق، لم يعترف حتى الآن بطرده من وظيفته، ولا بحالة الإفلاس التي آل إليها أمره، ربما فسروا انصرافه عنهم بتحول اتجاهه الفكري، أو التعامل مع آخرين سواهم، لا بد من الصراحة، سيقف أمام عساف وقفة الخاطئ بين يدي كاهن، ليعترف له، ثم يطلب المغفرة، سيقدم من القرابين ما يكفي لشراء عفوه، أتعبه الضياع، أشقاه الإحباط وهدّ قواه، لو استمر على هـذه الحالة لمات قهراً قبـل الوقوع مرة أخرى في حبائل كلمة يا حرام. الليل طويل على المؤرقين، سليم لا يعلم كم انقضى من الليل، وما المدة الباقية على انبلاج فجر جديد، كيف سيمضي باقي الوقت، جلس على حافة السرير، يضغط رأسه براحتيه، فجأة رنّ الهاتف، تلقّف السماعة بلهفة الغريق، في هذا الرنين يكمن الحلّ : ألو.. ألو.. ألو ليس هنالك من مجيب، زفرة خشنة قصيرة كانت الجواب الوحيد لكل توسلاته التي اختزلها بكلمة ألو، قبل أن يغلق الخط في وجهه، أعاد السماعة إلى مكانها، وعاد أكثر رعباً مما كان، لعل هذا الاتصال جاء من غريمه ذي الوجه النحيل؟  كيف عرف رقم هاتفه؟ لمَ لم  يكلمه؟ هل يخطط هذا الرجل لقتله؟ ربما، لعله اتصل ليتأكد من وجوده هنا، لا بد من الهرب، إلى أين؟ سليم لا يدري، كل الدروب مغلقة في وجهه، لكنّ بقاءه هنا معناه الموت، إن لم يكن بيد الرجل النحيل، فسيكون اختناقاً بالخوف الذي لفّ حباله حول رقبته، وزعزع انتظام دقات قلبه.  ترك الأضواء مشعشعة، ترك باب الدار مفتوحاً على مصراعيه، وشرع يركض في الأزقة المظلمة حتى وصل إلى الشارع العام، استقل سيارة، وطلب إيصاله إلى ساحة المرجة، المكان هناك مسكون برجال الشرطة، حراس الفنادق لا يغفلون لحظة عن زبائنهم، صالات الاستقبال في الفنادق مراقبة من قبل إدارتها بشكل مستمر، لن يتمكن النحيل منه إذا لجأ إلى فندق، سيستأجر غرفة هناك، لكنه لن يدخلها، سيبقى في قاعة الاستقبال يسامر الحارس، مدّعياً انتظار هاتف من شخص ما حتى الصباح. خرج من الفندق في الساعة السادسة، نسيم الصباح البارد يسفع الوجوه، فكّر سليم: هل يسافر إلى عساف الآن؟ لو سافر لضاعت منه أم سعد، يا حرام! هذه المرأة الفلسطينية تبذل كل شيء في سبيل زيارة أولادها، وأولاد سليم هنا على بعد خطوات منه، لا يزورهم ولا يسعى إلى لقائهم، سليم مرهق مكدود، أمضى ليلته مؤرقاً مستنفر الأعصاب، لم ينم، لا بد من مكان آمن ينام فيه انتظاراً لهاتف أم سعد، التي لا يعرف لها اسماً أو عنواناً، كل ما يربطه بها رقم هاتفه الذي أعطاها إياه، واعداً بانتظارها، انتظارها أجدى من السفر، لعله يقبض منها ما يشتري به حوائج وليمة يصالح بها عسافاً ورجاله، مشى في الشوارع متمهلاً، مستمعاً إلى إيقاعات نفسه الحائرة حتى وصل إلى منزل سعاد. استقبلته سعاد بكثير من الدهشة والعتب، همت بالاستفسار عن حاله، قاطعها قبل أن تسأل ،معلناً أن لا أحد يملك حق مساءلته، هو رجل أعمال، يحضر أو يغيب متى يشاء، حسب ظروف عمله، أخبرها أنه يبغي الراحة بعد سهرة استمرت حتى الآن، دخل غرفة النوم، استلقى على السرير ،بينما أقفلت سعاد الأبواب، وذهبت إلى المشفى. قبل الساعة الثامنة مساء ذهب إلى منزل منال، الأبواب المفتوحة والأنوار التي تركها مشعشعة منذ الأمس أثارت مخاوفه، أغلق الأبواب، وجلس قرب الهاتف، اتفق من خلاله مع أم سعد على اللقاء في الساعة العاشرة من صباح الغد، أخبرها أنه لم ينم أمس لشدة تأثره، بما تعانيه، وأنه وجد لمشكلتها حلين سيخبرها بهما في الصباح. وضع سماعة الهاتف من يده، واستعد لمغادرة المنزل، عاجله الرنين قبل أن يخرج، أمسك السماعة متردداً، لاعناً ذلك النحيل، مزمعاً مواجهته لو رآه، فاجأه صوت وداد، أخبرته أنها انتظرت هاتفه طوال الليل، أبدت الكثير من القلق والاهتمام بحاله، نصحته بالخروج من دائرة الحزن التي حبس نفسه داخلها بعد وفاة أبيه، مواسية مذكّرة إياه بأنه كبير، انتهت حاجته لوالده، صار عليه أن يمنح الحنان لمن حوله مقتدياً بأبيه. ما أسخفها وداد! ما أقصر نظرها! كل النساء هكذا، قليلات عقول، قليلات حيلة، انتهت مكالمته مع وداد بالاتفاق على قضاء السهرة معاً، لا بأس، سيسهر مع وداد، ويعود لسعاد، ثم يقابل في الصباح أم سعد، كل واحدة منهن كنز قائم بذاته، سليم يملك مفاتيح كنوز النساء، الأفضل له، ولهن ،أن تبقى عقولهن صغيرة، تحركهن العواطف، تطير بهن الأكاذيب، تثيرهن فتستنزف أموالهن، هيا ،استعدي للسهر يا وداد. بكثير من الحزن والصمت قابل وداد، بمزيد من الارتباك الذي أتقن تمثيله، حدّثها عن أب حنون، خبير بكل تفاصيل الحياة، أب اخترعه من ساعته، يتبارك به قبل الشروع بأي عمل أو سفر، يستضيء بدعائه في كل دروبه، تحدث عن ذلك الأب، مسترجعاً في ذاكرته صورة طفولته الشقية، وحرمانه من وجود الأم ورعاية الأب، ظل يتحدث عن أوصاف الأب الذي طالما تمناه حتى فاضت عيناه بالدموع، ما أشد وقع دموع الرجل على ضمير امرأة محرومة شقية كوداد! شاركته البكاء مضحية بخطوط الكحل وأحمر الخدود، نظر إليها سليم، كاد يضحك من منظرها، لكن الدور الذي يمثله أمامها لا يحتمل الضحك، كتم ضحكه وسارع إلى الحمام، علت قهقهاته هناك حتى شفيت نفسه، غسل وجهه وعاد إليها، كانت وداد قد عدّلت منظرها مستعينة بمرآتها الصغيرة ذات الإطار المذهّب، جلس صامتاً يتابع دور اليتيم الحزين الذي بدأه، تابعت وداد مواساتها له، أسبغت عليه شفقة لا تنبغي لطفل لم يكمل عامه الثامن، عاوده الارتباك، أخبرها أنه أنفق على جنازة أبيه كل ما كان يملك من نقود، وأنه لشدة تأثره بهذا اليتم يكاد يفقد توازنه، وأنه - لولا خشيته من زعلها، لظل بين جدران بيته الصغير، مكتفياً بالوحدة والحزن، تسامرا حتى الصباح، فتحت وداد حقيبتها، أخرجت كل ما فيها من أوراق نقدية، وضعتها أمامه على الطاولة. -        خذ يا سليم، أنفق منها ريثما نسافر. -        هل أخبرك أحد بأني نذل؟  كيف آخذ نقوداً من امرأة؟ -        لست نذلاً يا سليم، أنت في قمة الشهامة والمروءة، وهذا ما يجعلني أعطيك أموالي وكأني أنقلها من حقيبة يدي إلى جيبـي. -        خذي أموالك، لا تهيني كرامتي أرجوك. كانت كلماته تترافق بغصات واضحة، مبعثها خشيته أن تصدق هذه الدفقة من الشهامة فتسترجع نقودها، ويضطر من ثم إلى دفع ثمن العشاء، والعودة بخسارة من تلك النزهة، أطرق برأسه متصنعاً المزيد من الخجل. -        خسئ من يهين كرامتك، أنا امرأة، لكني لست كأي امرأة، أنا خطيبتك يا سليم. جمعت نقودها، صرتها في رزمة واحدة، دستها في جيب سليم، مدّ يده إلى جنبه، متصنعاً محاولة منعها، ثم ترك النقود تسقط في مغارة جيبه، أمسك كفّها، انحنى، قبل رؤوس أصابعها على مهل مركزاً النظر إلى عينيها، عاد فأطرق متظاهراً بالخجل: -        هيا، أعصابي ما عادت تستحمل المزيد. -        إلى أين تذهب يا سليم في هذا الليل الموحش، لن أتركك لأحزانك. -        أشعر بحاجة إلى الانفراد بنفسي وإعادة ترتيب أفكاري، فقدان أبي عمل في نفسي هوة لا يمكن ردمها، سأحاول استعادة توازني لأعود إليك بوجهي الذي تعرفين. ودّعها وانصرف، هزّ قبضته في الهواء منتصراً، صار لديه من المال ما يسترضي به عسافا؛ وداد دفعت ثمن القهوة التي شربتها معه في المرة الأولى بدعوى تحريرها من قيود المرأة الشرقية، والآن، استثار عواطفها الأنثوية ملمحاً بالسفر لإحضار أمواله، فدست في يده نقودها، بعد ذلك صار أخذ النقود من وداد عادة أدمنها سليم، ما عاد يتوجع من كرامته أمامها، تعطيه بيد يرجفها الخوف، يبتسم من أعماقه منتشياً بلذة الانتصار، نقل إليها شعوراً مؤداه، أنه وإياها شخص واحد، مؤكداً في كل مرة رفضَ شهامته وكرامته، أ خذَ النقود من يد شخص آخر سواها، إلا والده، تعطيه وداد، وتتصارع في داخلها أفكار شتى، مرة تتخيله لصاً يبتزها، ومرة تصدق دموعَه التي تفيض بها عيناه كلما ذكر والده، الذي كان يمثل له المعاني السامية، فيكتفي به عن الناس متحملاً سوء أخلاق زوجته وفشل أولاده، متحملاً آلام الغربة. في كل لقاء مع وداد، يضيف سليم إلى شخصية ذلك الأب المتخيل، صفات جديدة يبتدعها من لحظته، متمنياً لو أن ذلك حقيقة، فتدمع عيناه، إذ ذاك، تنهار مقاومة وداد، فتستجيب لكل ما يطلب، وتروح تبحث عن أشياء ومواقف جديدة، تزيح بها الحزن عن روحه ليعود للتفكير في موضوع الزواج الذي يؤرقها، والأثاث الذي دفعت ثمنه من مدخراتها، وتخجل، بل ترى من الحمق والأنانية إقحام هذا الموضوع إلى داخل نفسه الثكلى، فتلوذ بالصمت، تتجرع آلام الخوف من تحول مشاعره عنها ،فتخسر بذلك المال والأحلام.                                                                                                   أم سعد في مكتب فخم لأحد المحامين، وسط دمشق، التقى سليم مع أم سعد، المحامي مشغول بمتابعة قضاياه في المحاكم، وليس في المكتب سوى السكرتيرة، أوهمها أنه ينتظر المحامي لعرض قضية هامة أبى الكشف عنها، بينما أخبر أم سعد أنه يملك هذا المكتب، ويتقاسم وارداته مع المحامي نصفاً بنصف، قدمت لهما السكرتيرة القهوة والعصير، اطمأنت أم سعد لكلامه، ووثقت به، طرحت بين يديه ما يقلقها بكثير من الشرح والتفصيل، استمع إليها بإنصات خبير حكيم، مستعجلاً صمتها ليقول ما عنده قبل عودة المحامي، صمتت فأخبرها أنه يملك لقضيتها حلين: أحدهما نقلها تهريباً إلى البلد الذي يسكنه أولادها، يستطيع مرافقتها حتى تعبر الحاجز الحدودي، بعد ذلك تنتهي مسؤوليته عنها، ربما تتعرض للسجن أو الإبعاد أو ... الحل الثاني، وهو الأسلم، أن يمنحها الجنسية السورية، فتدخل وتخرج عبر الحدود، آمنة متى شاءت، بالبطاقة الشخصية فقط. هللت أم سعد: -        أرجوك عجّل بالحلّ الثاني . -        حاضر، سأبدأ منذ الآن بالإجراءات. أعطته المرأة رزمة أوراق نقدية، أعطته رقم هاتفها ليتصل بها وقت الحاجة، وضع المبلغ في جيبه مع صورة بطاقتها الشخصية، وغادر المكتب برفقتها، موصياً إياها بعدم العودة إلى هنا إلا حين يستدعيها، لأنه لا يريد إطلاع شريكه المحامي على تفاصيل قضيتها؛ لئلا يدخل القانون في الوسط، ويربكها بتفاصيله، فتطول مدة المعاملة، وربما تفشل. أمام باب المكتب استوقف أول سيارة تكسي وطار بها إلى محطة الانطلاق، اتخذ مكانه في الباص سعيداً جذلاً، صعد الباعة الصغار إلى الباص، يتجولون بين المقاعد معلنين بأصوات قوية عن بضائعهم: البسكويت بخمس ليرات، الكفاح العربي بخمس ليرات، ابتسم سليم، ما تزال تسعيرة الكفاح العربي تعادل تسعيرة قطعة من البسكويت، نادى الولد البائع: -        بكم تبيعون الكفاح العربي؟ -        بخمس ليرات، لأنه عدد قديم. -        قديم، جديد، لا يهم، ألا تبيعون القضية الفلسطينية؟ -        لم أسمع بهذه الجريدة من قبل. -        القضية الفلسطينية تجارتها أكثر ربحاً، لم لا تتاجرون بها؟ -        هل تريد الكفاح العربي؟ -        لا، أفضل عليه قطعة بسكويت، بل علكة، هات.. أخذ العلكة من الصبي، وراح يتشدق بها كالأطفال، ثم ما لبث أن رماها واستسلم لأحلامه. قبل وصوله إلى القرية، اشترى كل ما يلزم لوليمة كبيرة، عبأ مشترياته في صندوق سيارة أجرة ،وانطلق بها، استوقفها أمام باب القصر، مخمناً أن يجده خالياً خرباً كالمرة السابقة، لكن حدسه خاب هذه المرة، الأبواب مفتوحة على مصاريعها، الداخلون والخارجون يصدم بعضهم بعضاً لكثرة الزحام، ما الأمر؟ أطلق أبواق السيارة، فتجمع بعض الأولاد، أمرهم بإدخال بضاعته إلى القصر، غنائمه استقرت في المطبخ والأماكن المخصصة لها، الفواكه غسلت بسرعة، ووزعت في أطباق لتقدم في القاعة الكبيرة، الغاصة بالضيوف الأغراب، دخل بصمت، ألقى تحيته وتوقف مشدوهاً، الرجل ذو الوجه النحيل يجلس بينهم، ملاصقا لعساف, حديث هامس يدور بينهما, أتراه جاء يتابع مطاردته؟ أم إنه أحد أصدقاء عساف كلفه بمتابعته؟ الرجل صامت جامد، نظراته تركض بين الوجوه، دخل سليم على مهل، اتخذ مجلسه حيث انتهى به المجلس، استمع إلى بعض مجاملاتهم وهم يأكلون الفواكه، حين انفضّ مجلسهم، قام بآلية يودعهم إلى الباب الخارجي جاهلاً  كل شيء عنهم وعن ذلك الوجه النحيل، خرجوا، فرافقهم كل من كانوا معهم، تاركين سليماً للوحدة والحيرة، تمسّك بعساف مناشداً إياه البقاء، نهره عساف بعنف، ولحق بضيوفه، تمسك بكتفي ضرار، وعده ضرار بالعودة، شعلان .. نبهان، حتى محروس، أفلت من يديه بنعومة سمكة وسط بحيرة طحلبية القاع، مدعياً أنه لا يستطيع الابتعاد عن معلمه، أي معلم يا محروس؟ رفع محروس كتفيه بلا مبالاة ،وركض خلف جمعهم، بقي سليم وحده في القصر، يكيل أفكاره وظنونه يخلطها ليعيد كيلها من جديد، مصارعاً القهر، بعد قليل جاءه شهاب وغانم، ولدا زهران، جلسا معه يؤنسان وحدته، أطعمهما بعض الحلوى والفواكه، وجلس يستمع إلى أحاديثهما مرغماً إلى ما بعد الغروب، عاد الولدان إلى بيت أبيهما، وتركاه للضياع، بابه لم يطرق، الحلويات التي لم ينتبه لوجودها رجال عساف ستفسد لو بقيت إلى الصباح، ماذا يفعل؟ حمل علبة الحلوى وذهب إلى بيت أبيه، لا بد أنه سيسمع من نظمية ما يبرد نار أحقاده، سيراها في فقر وعوز مثل عوزه، شكت له سوء حالها، وانصراف أولادها عنها. -        لم لا تعاملينهم بحنان لتكسبي محبتهم؟ ماذا يحتاج الأولاد من أمهاتهم غير الحنان؟ -        صاروا كباراً يا سليم، الحنان للصغار، ألم أكن أعاملهم بحنان؟ بلى، كنت أحمل الولد على ذراعي وأعمل بالذراع الأخرى متجنبة بكاءه. -        هل يكفيهم هذا؟ -        ماذا بعد؟ -        لا شيء، لا شيء، بلغي علياء أني عدلت عن زواجها، المصاغ لها، لتتصرف به كما تشاء، لن آخذ منها شيئاً لتبحث لها عن زوج غيري. -        ماذا تقول؟ الويل لي. دقت بيديها على صدرها نادبة مولولة، نزل عليها الخبر كالصاعقة، حطم مشاريعها وأحلامها ،نسف كل أمل لها بعيش، رغيد، يجنبها مشقة العمل في الحقول، ويقهر أولادها:  -        قتلتني يا سليم. -        أنا لم أقتل أحداً يا خالتي، أنت من قتل، لو أحسنت معاملتي لما وصلت إلى هذا الحال. -        وتأسف يا سليم؟ لو أني عاملتك كما عاملت أولادي لكنت الآن أحد التنابل، المتسندين على الجدران في ساحة القرية، تلعن الزمان والفقر كما يلعنون، وتحتار في لقمة عيالك كما يحتارون، لو لم تترك القرية لما تسنى لك شراء هذه الثياب التي تلبس، والحلوى التي تهدي، ولا بنيت حجراً واحداً في قصرك هناك، يجب أن تشكرني يا سليم، لا أن تلقي عليّ الملامة، أما كفاني ما أعانيه من أولادي؟ يقولون: لو ربيتنا كما ربيت أخانا سليماً لهربنا من القرية كما هرب، ولعدنا إليك مثقلين برزم المال. -        المال ... المال .. لعنة الدنيا والناس على المال، هل يشتري المال إحساساً بالرضا؟ بالسعادة؟ هل يشتري المال الأمان؟ -        ماذا تقول يا سليم؟ هل تشترى هذه الأشياء التي تذكرها بالفقر والإفلاس؟ -        أنا لا أريد الزواج من علياء، بلغيها أنها في حل من خطبتي. -        خذني معك إلى الشام، أخدم هناك زوجتك. -        بل ستبقين هنا، لتحصدي ثمار ما زرعت. خرج من بيت أبيه، لم تكفه جرعة الانتقام التي حقنها في وريد نظمية شماتة وتشفياً لتهدئة غضبه، لا بد من المزيد، مشى خطوات في الحارة، ركضت وراءه نظمية، تمسكت بذيول سترته راجية متوسلة: -        سليم، أنت مثل أولادي، بل أغلى عليّ منهم، لم تصدقني، هذا شأنك، أنت تحقد علي لأني ظلمتك، أما أختك فتحية فلم تقترف بحقك أي ذنب. -        ما بها فتحية؟ -        فتحية ابنتـي، زوجها في السجن، ليس لنا في الدنيا سواك، أرجوك يا سليم، أحسن إلى أختك ،لا تأخذها بذنوبي، أنت رجل كريم طيب، توسط لإخراج زوجها من سجنه. -        في السجن؟ أي سجن؟ لماذا سجن؟ -        زوج أختك يعمل في التهريب، ألقي القبض عليه منذ مدّة، أنفقت أختك الكثير في سبيله بلا جدوى، كل الناس يكذبون عليها، يأكلون أموالها ولا يساعدونها بشيء. فكّر سليم، فتحية التي تحب الأرض كما يحبها والدها، فتحية فازت بزبدة ميراث أبيه، وخرج سليم من الم ولد بلا حمص، كأنه ولد غير شرعي لذلك الأب، حسناً يا فتحية، هذه مصيدتك: -        يا حرام .. يا حرام! أين أختي فتحية الآن؟ -        في بيتها، في مدينة حمص، هل أعطيك عنوانها؟ أم أسافر إليها معك؟ -        أعطني عنوانها مفصلاً ورقم هاتفها إن وجد، سأذهب إليها حالاً . -        مشى، وفي رأسه تدوي عشرات الأسئلة، ما دامت فتحية تسكن في حمص، كيف سترعى الأرض وتحبها؟  كيف تحافظ عليها؟ لماذا استحقتها وحدها دون باقي إخوتها وأخواتها التسعة؟ فتحية في حمص، والأرض هنا، تبعد عنها عشرات الكيلومترات، لا شك أن لديها من الأموال ما يغنيها عن بيع الأرض، إذا كان الأمر كذلك، لمَ لم  يعتبرها أبوها مثل سليم، ويكتفي بالقول: إن الله أغناها عن ميراثه؟ حسناً، انتظري يا فتحية، سترين كيف يتوسط أخوك سليم، لإخراجك من محنتك. عاد يبحث في الساحات والدروب عن عساف وشلته، ليستفسر منهم عن صاحب الوجه النحيل ،ويقدم لهم خدماته وأمواله ثمناً لمجد أفل نجمه، التقى بمحروس، راكضاً على الدرب باتجاه القصر، استوقفه، أمسك تلابيبه، وراح يهزه بشدة مهدداً متوعداً لو أجاب عن أسئلته بغير الحقيقة، استسلم له محروس ببلادة، ترك جسده يروح ويجيء بين يدي سليم كالخرقة منتظراً أن تهدأ ثورته. -        وماذا بعد؟ -        من ذلك الرجل النحيل الجاحظ العينين، الذي كان يجلس بينكم محتلاً الزاوية الجنوبية الشرقية من البهو؟ -        نحيل .. أسمر يا محروس .. نحيل جاحظ العينين، لم أتذكره، أهو أسمر أم أشقر؟ -        بل أسمر شديد السمرة. -        كل من كانوا هناك سمر جاحظو العيون. -        لا تتغابَ يا محروس، أنت تفهم قصدي جيداً. -        نعم أنا أفهم، لكني لا أعرف اسم أي رجل منهم، أنا قادم إليك برسالة من معلمي. -        أي معلم منهم؟ -        عساف يقول لك: إذا أردت أن تعطيه نقوداً، فضعها له تحت الزيتونة، وسيأخذها. -        لن أضع شيئاً، أريد أن أرى عساف اً. -        معلمي عساف ذهب مع ضيوفه الـ ... لا أعرف إلى أين. -        من أرسلك إذن؟ -        معلمي شعلان، هو الآن في بيت زهران. -        حسناً، أخبره أني لن أضع شيئاً قبل أن أراه، أو أرى عسافاً. تركه محروس ومشى متمهلاً، فكر سليم، لا بد أن هذا الرد سيزيد في غضب الجميع، يجب أن يكون لطيفاً ليسترد ثقتهم، هذا التحدي معركة غير متكافئة، هو الطرف الخاسر حتماً، لن يستطيع مغادرة القرية.. قبل أن يعرف شيئاً عن صاحب الوجه النحيل. -        يا محروس .. تعال يا محروس. عاد محروس راكضاً، تساءل سليم: لماذا أبطأ في الذهاب، وركض في الإياب، أهو ذكي لدرجة جعلته يعطي غريمه فرصة للتفكير والتراجع عن قراره؟ إذا كان كذلك فلم يستسلم لعيشة الصعاليك التي يحياها طارحاً نفسه في درب كل نساء القرية ورجالها، يخدم الجميع مقابل طعامه وتبغه؟ هذا الذكاء، ألا يولد طموحا؟ هل ينتهي طموح هذا الرجل هنا؟ قاطع سليم نفسه: أين انتهى طموحي أنا؟ ألم أدفنه بين يدي عساف؟ هل أنا أحسن وضعاً من محروس؟ بلى، أنا خير منه لأني أحرزت مكان السيادة، وأية سيادة؟ بينما بقي محروس خادماً للجميع. -        ماذا تريد يا سيدنا، يخاطبه بلقبه الذي يحبه، هذا فأل حسن. -        سأضع النقود حيث تريدون، بعد أن يأتيني أحد من الشلة، أيّ أحد، أنا أنتظر هنا. -        حسناً، هل تريد شيئاً آخر يا سيدنا؟ ذهب محروس، وظلّ سليم وحيداً حتى الصباح، بكّر إلى دكان تفاحة، لن يجد أجوبة مقنعة لأسئلته إلا عندها، تفاحة تعلم كل ما يريد لها عساف أن تعلم، وتذيع كل ما يريد أن تذيع. -        سؤال أخير يا تفاحة، ذلك الرجل النحيل ذو العينين الجاحظتين من هو؟ إنه يطاردني في كل درب ومفترق طرق. -        لا أعلم اسمه، كل ما أعرف أنه يعمل في المخابرات. مخابرات؟ يا للكارثة، ما الذي جاء برجال المخابرات إلى مجلس عساف؟ عهده برجال عساف يهربون كالأرانب حين تلفظ أمامهم كلمة مخابرات، هل تصالحوا معهم؟ أم أقلعوا عن عمل ما يجعلهم خائفين؟ أم إن عميلهم النحيل يتعاون بشكل سري مع عساف؟ مخابرات؟؟ يا للداهية ماذا يريدون من قصره؟ أهي وشاية من المدير؟ من أهل منال؟ ما الذي سيكتبه رجل المخابرات في دفتره؟ أية معلومات سيأخذها عنه من القرية؟ ما دامت القرية تعامله بهذه الطريقة، وتذيع عنه الإشاعات، فكل من فيها لا يستحقون نقوده، ركض إلى الزيتونة، أخذ نقوده من تحتها، ومشى استعداداً للرحيل، فكّر، لو زاد غضب عساف لأعطى رجال المخابرات من المعلومات ما يوصله إلى حتفه، الأفضل إعادة النقود إلى مكانها، عاد أدراجه إلى الزيتونة، توقف قبل أن يعيد النقود؟ عساف تنصل من سيادته وصداقته، أي خير يرتجيه من عساف؟ أعاد يده إلى جيبه ومشى، لحق به محروس راكضاً: -        يا سيدنا، يا سيدنا، التفت سليم -        يقول لك عساف: الراجع في هبته كالراجع في قيئه. -        أين عساف؟ -        عساف .. م م م ... لا أعلم، مسافر، قالها متلعثماً، ثم تابع بحزم: لكنك ستضع النقود حيث أمرك. تلفت سليم حوله، لقد أسقط في يده، عاد صاغراً، وضع النقود حيث أمره محروس، وسار بين الدروب تائهاً، حين وصل إلى ساحة القرية، كان عساف وشلته مجتمعين، قهقهاتهم تعلو إلى الجوّ، بينما يتولّى أحد الصبيان فتح زجاجات الكولا وتقديمها لهم، ألقى سليم تحيته، فما ردّ عليه واحد منهم، ولا توقف ضحكهم، ركب السيارة المسافرة إلى المدينة، حاملاً بين جنبيه شعوراً عظيماً بالإهانة، راح يلعن القرية التي طرد منها مرتين، لكن المرة الثانية أكثر إيلاماً من الأولى، وأشد وقعاً على نفسه، انتظر كثيراً في المرة الأولى، لكنه في هذه المرة بدأ بالتخطيط منذ اللحظة للانتقام. حسناً يا عساف، تـفَرعن كما يحلو لك، لم تجد من يمنعك، سأمنعك، سآتيك بمكائد لا قبل لك بها، سأجعل الغرباء يغزون القرية، ويفضحون أسرارك، اصبر، سأهدم الدنيا فوق رأسك، سأهدم قصري فوق جبروتك، وأشرب نَخب زلزالك فوق الركام. غادر القرية متوجهاً إلى حمص، يستعجل الحافلة للوصول قبل انتهاء الدوام الرسمي، يكاد يطير سابقاً الحافلة وركابها إلى هدفه؛ فهـو مشغول  مشغـول، غـارق بالمشاغل حتى شحمة أذنيه، نزل من الحافلة وركب التكسي إلى المحكمة، بورقة نقدية واحدة، استطاع الاطلاع على إضبارة الدعوى ،اكتشف أن (أولاد الحلال) قد عملوا عملهم ودبروها  لتتحول من قضية تهريب إلى مخالفة عادية، وأن صهره سيخرج من سجنه بعد شهر واحد بشكل عادي، هرش رأسه، شغل كل محركات عقله، عليه الإسراع لمسابقة الزمن، شهر واحد، مدّة قصيرة جداً، قد لا تكفي لتنفيذ ما خطط له، يجب شدّ الأحزمة، وعدم إضاعة دقيقة واحدة سدى. توهجت جمرة صغيرة في ضميره، سارع بإخمادها، فتحية استأثرت بأفضل حصة من ميراث أبي، ما الضير في استردادها؟ سآخذها بذريعة إخراج زوجها من السجن. بحث عن منزل فتحية حتى وجده، ما كانت فتحية تسكن قصراً كبيراً في ضاحية هادئة، ولا شقة فخمة في شارع نظيف كما توقع، أسوة بكبار المهربين، بل منزلاً متهالكاً في حي شعبي عتيق، تتكوم مع أولادها في غرفة ضيقة، تاركين الغرفة الأخرى، الأكثر ضيقاً، مرتبة نظيفة تحسباً لقدوم ضيف طارئ. دخل المنزل، كما يدخل أيُّ أخ حنون، حاملاً من العواطف والأشواق ما ينوء به قلب أم ثكلى، عانق الجميع، وزع قبلاته بينهم بلا حساب، عرفهم بنفسه، وتعرف إلى أسمائهم واحداً واحداً، اختلطت لدى فتحية الدهشة بالفرح، ألا يقولون: إن الغريق يتشبث بقشة عائمة؟ ليست قشة هذه التي ألقيت إليها من غيابات القدر، بل سفينة متقنة الصنع جميلة المنظر ستوصلها حتماً إلى شاطئ الأمان، فتنزل بهدوء لتلمس صخوره الصلبة الراسخة، ليست بحاجة بعد اليوم لوساطة فلان أو فلان، سيحمل عنها أخوها كل عبء ومشقة، سيتدبر بأياديه الطويلة الواصلة أمر إعادة زوجها بأسرع مما تتصور، ذرفت فتحية أمامه دموع الفرح، فرحٍ بقدومه إليها فارساً منقذاً، وفرحٍ بالفرج القادم على يديه، أصابته العدوى، فسالت دموعه، دموعُ الإحساس بالغبن والقهر، دموعُ الفرح بالانتقام. -        أنت يا أخي أحسن منا جميعاً، لم أجد لي عوناً من أهلي سواك. -        لماذا انتظرت حتى الآن؟ لماذا لم ترسلي إلي منذ بداية المشكلة؟ أنا عاتب عليك. -        منعني الخجل يا أخي، نسيء إليك وتحسن إلينا، ننقطع عنك وتصلنا. -        لا تبالي بالماضي، دعينا في الحاضر، هل قابلت زوجك في سجنه؟ -        لا .. أنا لا خبرة لي في أعمال المحاكم، ولا أحسن التجوال في الأسواق، حاولت مرة، لكنهم عاملوني باحتقار، قالوا: إن المتهمين بقضايا التهريب لا يسمح لذويهم بمقابلتهم، حملت آلامي وعدت إلى هنا. -        يا حرام .. يا حرام يا أختي! هذا يعني أن زوجك ما زال في ثيابه التي خرج بها من بيتك، مؤكد أنها اتسخت حتى صارت تأكل من جسده، هاتي ما عندك من ثياب لأوصلها له. أسرعت فتحية، جمعت أفضل ما يملكه زوجها من ثياب، داخلية وخارجية، دسّت بينها زجاجة عطر ومبلغاً من المال لنفقة السجين، وقدمت له الحقيبة جاهزة، قبل سليم رأس فتحية، عانق أولادها، وزع عليهم خرجية، حمل الحقيبة الصغيرة مشى باتجاه الباب خطوة وتوقف: -        أختي، الرجل الذي كلفته بإخراج صهري من السجن طلب صفيحة من زيت الزيتون الجيد، أنت تعلمين أن الزيت الجيد لا يشترى من الأسواق، كل ما فيها مغشوش. -        لا .. لن أشتري زيتاً من السوق، عندي هنا صفيحة من النوع الفاخر، مقطوفة من بستان أبي أدخرها مؤونة للبيت، سأعطيك إياها. هرولت إلى المطبخ، ثم عادت بخطوات ثقيلة، تحمل صفيحة الزيت، مسحتها من غبارها، وتراجعت لاهثة: -        هل تريد شيئاً آخر؟ -        اصبري يا أختي، سأعود إليك في الغد، لنرى ما نستطيع عمله. -        هل ستعود بزوجي في الغد؟ -        تأملي خير اً. خرج من بيتها، يحمل صفيحة الزيت بيد، وحقيبة الثياب باليد الأخرى، ضحك في سره بمرارة، من سخافة هذا الانتقام، جاء ينهبها، وجدها تسكن جحراً مقفراً، تستحق الصدقة، كان يظن أن صهره مثل باقي المهربين، اكتشف أنه مجرد سائق على سيارة تعمل بالتهريب، يتقاضى أجراً لا يكاد يغطي نفقات بيته، لكن سليماً قرر ألاّ تأخذه بها رحمة أو شفقة، سيعاود الكرة من جديد، لن يهدأ قبل أن تبيع أرض أبيه وتنقده ثمنها، حصلت عليها من دون وجه حقّ، يجب أن تضيع منها سدى. في السيارة التي نقلته من بيت فتحية إلى الكراجات، فتح حقيبة الثياب، نقل النقود إلى جيبه، رشّ على ثيابه زخات من العطر، وتنفس الصعداء، قطع المسافة بين حمص ودمشق، نائماً. أودع حقيبة الثياب منزل منال، وقبل خروجه، عاد ليختبر تلك الثياب هل تطابق مقاس جسده؟ صهره رجل غريب، ينتمي إلى إحدى قرى حمص، ما سبق له أن رآه، فتح الحقيبة استعرض القمصان والسراويل، ثم رماها بإهمال، يبدو أن صهره صعلوك نحيل، لن يستفيد من هذه الغنيمة الباردة، تركها ،ترك صفيحة الزيت مزمعاً أن يأخذها هدية لفاطمة. ارتمى بين يدي سعاد متعباً مرهقاً، مثقل العقل والقلب بهموم تفوق طاقته على الاحتمال، وما في الكون شخص يستطيع مشاركته حملها، من تحت وسادته خرج وجه الرجل النحيل مخابرات؟؟ يا للكارثة! كيف الخلاص؟ ما عاد له في العاصمة أصدقاء، الجميع تخلوا عنه حين نزل عن كرسيه، الكل يأنفون التعامل مع نصاب طرد من وظيفة هامة لسوء سلوكه وفساده، بمن سيستعين؟ شعر أن جنبه تنمل من ثقل جسده على الفراش، انقلب على الجانب الآخر، طالعه وجه أم سعد، التي تنتظر إشارة منه لتحل معضلتها، أغمض عينيه، درج على جفنيه شريط يحتوي وجه وداد، تطالبه بما لا يستطيع تنفيذه، فاطمة وأولادها، منال التي تخلت عنه وتزوجت بآخر، فتح عينيه، ارتسمت فوقه على السقف ،وجوه عساف وشلته، يرتفع صوت قهقهاتهم الماجنة إلى فوق السحاب، احتار، هل يفكر بالانتقام منهم، أم بالعودة إليهم؟ أم ينصرف ويبني لنفسه مجداً جديداً، لكن أين؟ صار يشعر أنه أحط شأناً من أية حشرة قذرة، نبذه كل معارفه، أيهاجر ليتعرف على ناس جدد؟ كيف السبيل؟ المجد يحتاج عملاً ذا قيمة، وسليم لا يتقن من الأعمال سوى النصب والاحتيال على الضعفاء؛ لسلب أموالهم، أين المفرّ؟ انتبهت سعاد لأرقه، سألته عما يعانيه، فتصنع المرض، نضَت عنها غطاءها، وسارعت إلى عيادتها، أحضرت أدوات عملها، وراحت تقيس حرارته ونبضه وضغط دمه، ثم حاصرته بجيش من الأسئلة المتعلقة بطعامه وشرابه و.. و.. التظاهر بالمرض لا ينفع، سعاد طبيبة، ستدخله مشرحتها بلا رحمة، تدرس وظائف أعضاء جسده واحداً واحداً بمقاييسها الدقيقة، وآلاتها المرعبة، ستكتشف أكاذيبه بسرعة، وإن صدّقت، سترد أسباب وجعه إلى عوامل نفسية، فاطمة كانت تغلي له البابونج والنعناع، تغطيه بحنان، تسهر قرب فراشه حتى يغفو، سعاد لا تهادن، بعد فحصها الذي شمل صدره وبطنه وظهره، أنفه وأذنيه وحلقه، طلبت منه ابتلاع حبة دواء لا يعرف ما هي، ثم الرقاد حتى الصباح، لترافقه في جولة على مخابر تقوم بتحليل دمه وبوله و.. اللعنة، ما هذه الورطة التي رمى نفسه فيها؟ النوم بتأثير حبة الدواء أمر مقبول، أما مرافقتها له في الصباح إلى المخبر فهو البلاء بعينه، ربما يكتشفون في المخبر أي اختلال بأخلاط جسده، ستربطه حينذاك سعاد في سريرها، وتطبق عليه كل ما تعلمته في كلية الطب من نظريات، ستسبغ عليه يا حرامها! بنسبة مركزة، وبشكل أكاديمي منفر، لن يستسلم لها، ينبغي ألا يستسلم، في الغد سيبحث عن أم سعد ليسهم في حل القضية، ربما يعثر على صيد آخر، سليم اعتاد الصيد حتى أدمنه، لن يستطيع الامتناع عنه، والقعود على سرير سعاد بشكل يفوق سرير منال سوءاً. ابتلع حبة الدواء، واسترخى على السرير، أغمض عينيه وتظاهر بالنوم، ما عاد يرد على همسات سعاد وأسئلتها، صدّقت الطبيبة ما ترى، تركته في سريره، ونامت على مقعد قريب تحسباً لأي ألم طارئ قد يصيبُ مريضها في الليل. لم يلتزم بموعد الغد مع سعاد، خرج من البيت متسللاً، أسرع إلى مكتب المحامي، استفسر من السكرتيرة عن موعد خروجه وعودته، حين اطمأن إلى غيابه في الفترة الصباحية بكاملها، اتصل بأم سعد، طلب منها موافاته إلى مكتب شريكه المحامي، جاءته مهرولة لاهثة، قابلها بوجه ينضح أسفاً: إن الجنسية لا تعطى للفلسطينيين حتى لا تضيع القضية، أما بالنسبة إلى النساء، فهناك طريقة للالتفاف على القانون،  وذلك بزواج المرأة الفلسطينية من رجل سوري، فهل تقبل أم سعد؟  ذعرت المرأة، رفضت الأمر برمته، أفهمها أن الإنسان يعيش مرة واحدة، وأنها إذا ضيعت أولادها الآن، متى ستلتقي بهم؟ -        الزواج يا أستاذ سليم؟ هل تعتقد أن هذا الأمر هين؟ -        أجل، هيّن . -        هل أنزل إلى سوق الجمعة لأبحث عن رجل يرضى بالزواج مني؟ -        حاشاك يا أم سعد، الموضوع أسهل مما تتصورين، زواج صوري، يعني عقداً على الورق لا يلزمك أو يلزم الرجل بشيء، يتم الطلاق بعد حصولك على الجنسية السورية بساعة واحدة، بلا تبعات. -        ومن ذلك الشهم الذي يرضى بالتضحية لأجلي؟ -        أنا. -        أنت؟ .. أنت؟؟ من أنت؟ هتفت غير مصدقة، لكنها تنبهت، استدركت، فكرت بسرعة، يجب ألا يلحظ الرجل استماتتها، وبذات الوقت، لا يلحظ نفورها، الموضوع يحتاج دراسة دقيقة متأنية ومشورة، من الغباء الثقة برجل التقت به عرضاً في عيادة: -        حسناً، ما المطلوب مني الآن؟ -        صورة عن قيدك المدني، ثم نذهب إلى المحكمة الشرعية لنسجل زواجنا، ونبدأ بالإجراءات، بعد ذلك تعيشين حيث أنت، وأعيش حيث أنا، وأعمل على طلب الجنسية لك بصفتك زوجتي. -        ليس الحصول على قيدي بأمر هين، هل تعطيني مهلة؟ -        الوقت كله لك، القضية قضيتك. -        والمقابل؟ أقصد، ماذا تطلب مقابل عملك هذا؟ -        كوني مطمئنة يا أم سعد، قضيتك إنسانية، أثارت مشاعري وتركتني مؤرقاً، سأعمل ما يرضيك. -        أنا مصرة على تحديد مبلغ يكون أجراً لك، تقبضه.. -        لا تجرحي شعوري يا أم سعد، انتظري، سأطلب منك شيئاً: أرجوك لا تخبري أحداً عن هذا الموضوع، فتهدمي عليّ بيتـي، أنا زوج الدكتورة سعاد، كنت سأدخل العيادة لأمر يخصني حين سمعت شكواك. -        الدكتورة سعاد؟ أنت زوجها؟ -        أجل يا أم سعد، واعلمي أن سعاد تملأ علي حياتي، لا مطمع لي بسواها، أعود فأرجوك يا أم سعد أن تحافظي على سرية الموضوع حرصاً على مشاعر الدكتورة، لا تتصلي بي، سأتصل وأخبرك كل شيء في حينه، أنت تعرفين غيرة النساء. خرجت المرأة وقد اطمأنت لكلامه، زوج الدكتورة؟ لا يعقل أن يطمع رجل له هذه الزوجة الرائعة بأم سعد، العجوز التي نسيت أنوثتها منذ موت زوجها، وتفرغت لرعاية أولادها، الذين توزعوا على المخيمـات ،بين لبنان والأردن وتونس وليبيا، يعملون من أجل القضية. خرجا من المحكمة الشرعية معاً، يحملان نسختين عن صك الزواج، افترقا عند الباب بعد أن أوصاها: أختي أم سعد، سأتصل بك كما اتفقنا، هزت رأسها موافقة، واتخذت طريقاً آخر غير طريقه يوصلها إلى بيتها. بعدما نقدته مبلغاً من المال لينفق منه. دسّ يديه في جيوب بنطاله، شدّ قامته بفخر، وراح يتسكع في الشوارع متمهلاً، تشع الفرحة من وجهه إشعاعاً يجعل الناظر إليه يقسم أن هذا الوجه لا ينتمي للرجل الذي أوى إلى سعاد ليلة الأمس شاحباً ناضحاً بالهمّ والخوف، مكللاً بالقهر  والإرهاق، ويقسم أن لا رابط يربط بين الشخصين، ولا حدَّ أدنى للتشابه، اجتاز الشارع، ثم توقف عند زاوية القصر العدلي يشاور نفسه: هل يدور مع الرصيف حيث يدور؟ أم يقطع الشارع الفرعي ليهزأ بالرجال الجالسين هناك، أمام كل واحد منهم طاولة صغيرة ومجموعة من الأوراق والطوابع، يتسقطون الرزق من مراجعي المحاكم، بينما هو، بومضة صغيرة من ومضات ذكائه الخارق، يدخل المحكمة الشرعية ليتزوج قضية العرب، ثم يخرج حاملاً في جيبه صك زواجه، سيدخل هذا الصك في خانة الاستثمار، فيتحول من وثيقة مدنية إلى رصيد مفتوح، يستنزفه حتى آخر قرش ممكن، أليس هذا أفضل من الجلوس على قارعة الطريق، وانتظار رزق يأتي بالقطارة؟  وقف على زاوية الرصيف متردداً بعض الوقت، ثم اتخذ قراره بالرجوع، ليمرّ أمام باب القصر العدلي في طريقه إلى سوق الحميدية، رفع رأسه، التقى نظره بوجه امرأة شابة، يتفجر الغضب من عينيها، لعلها خرجت لتوها من محكمةٍ  خصمُها فيها زوج يبخل بالنفقة، أو يسيء معاملتها، أو إخوة يريدون حرمانها من ميراث أبيها، أو ... في كل الأحوال وجودها في هذا المكان غضبى يؤكد فشلها في مسعاها، دنا منها بجرأة من احترف السطو على العابرين: -        أهلاً سيدة وفاء، تأخرت كثيراً، نظر إلى ساعة يده، نصف ساعة وأنا أنتظرك هنا، تعبت. -        أنت؟ انتظرتني؟ -        بسرعة يا سيدة وفاء، اشرحي لي قضيتك لأدخل بها على صديقي النائب العام، لا يجوز أن نتركه منتظراً أكثر من ذلك. -        النائب العام؟ صديقي؟ قضيتها معلقة عند النائب العام منذ مدّة ليست بالقصيرة، لم تستطع الوصول إليه، أو إلى شخص يوصل إليه، من هذا الرجل؟ لكن اسمها غيداء، وليست وفاء. قررت وبسرعة الاستعانة به، مدفوعة بيأسها وحاجتها الماسة، ما دام النائب العام ينتظره، فالرجل مهم بلا شك، سيحل قضية امرأة أخرى اسمها وفاء، لم لا يحل قضيتها هي أيضا؟ -        عفواً، اسمي غيداء، قضيتي معلقة عند النائب العام، ولم أتمكن من الوصول إليه، هل تقدر على مساعدتي؟ -        بالطبع أقدر، وما وجودي هنا إلا لمساعدتك، هيا، تكلمي. -        عفواً، أنا لست وفاء التي تنتظرها، ربما أشبهها، لكن القدر أوقعني في طريقك اليوم لحسن حظي. ابتسم سليم في داخله، هذا هو ذا القصر العدلي يجود عليه بصيد دسم، ليبق هؤلاء التنابل متمترسين خلف طاولاتهم الصغيرة، يبيعون الطوابع ويكتبون ما يستكتبون، انزوى بها قرب السور ليستمع لشكواها، أفلتت منه نظرة شاردة، التقت بالعينين الجاحظتين في الوجه النحيل عبر السور ، ارتعد، طلب منها انتظاره ريثما يشاور صديقه النائب العام، تركها في مكانها، واندسّ في الزحام، اجتاز الباب الرئيسي، ثم أطلق ساقيه للريح. عاودته الكآبة من جديد، ركب سيارة أجرة ليروغ بها من جاحظ العينين، سأله السائق عن وجهته ،فكر بسرعة: سعاد، سعاد وليس سواها، من يصدق ادعاءاته، ويحاول مساعدته، سعاد ما تزال إنساناً خاماً، سيرمي بين يديها هموماً كاذبة، ليتلقى منها مشاعر صادقة، وعناية تكاد تشبه عناية فاطمة ورعايتها، قبل أن تعرف عنه فاطمة ما عرفت، وتحجب عنه روحها خلف حاجز مقيت من الواجب، سعاد امرأة نبيلة، لكنها طبيبة، لا تنسى لحظة واحدة أنها طبيبة تحرص على صحته بطريقة تشعره أنه فأر في مخبرها. استقبلته سعاد مستنكرة تهربه من الذهاب إلى المخبر لإجراء التحاليل الكفيلة بالكشف عن أسباب متاعبه، لم يجب عن تساؤلاتها، رمى بجسده المتهالك على أقرب مقعد، وأمسك رأسه بين يديه، جلست الطبيبة قربه على المقعد المجاور، تمسح بحنان على رأسه وكتفيه، تستحثه الإسراع بالكشف عما يسبب له الألم. -        سعاد، أرجوك، كفي عن هذه المعزوفة، لست مريضاً يا سعاد. -        التعب واضح على وجهك وحركاتك. -        أعلم ذلك، لكن كل ما في عيادتك، وصيدلية جارك من الأدوية والأدوات لن تشفي علتي. -        سلامتك يا سليم، دقت على صدرها بهلع، هل بلغت حالتك من الخطورة بحيث يستحيل علاجها؟ -        لا تخافي أيتها الطبيبة، ليست علتي وجعاً جسدياً أعانيه، علتي من نوع آخر، أنا متعب متعب، أشعر أني إنسان فاشل، عديم الأهمية، لا أحد يحبني، لا أحد يهتم بي، أو يسمعني، كلامي مزعج ،وجودي على ظهر الأرض مزعج، لي، ولكل من أتعامل معهم، ليتني أموت لأرتاح. -        ما هذا الكلام يا سليم؟ ما هذا التشاؤم؟ لماذا تعطي كلام الناس كل هذه الأهمية، الناس لا ترضى عن أحد أبداً، ألست راضياً عن نفسك؟ هذا يكفي. أغمض سليم عينيه، تنهد بعمق، راضياً عن نفسه؟ أية نفس وأي رضا؟ كان يستمع إلى صوته يخرج من فمه،  كأنه يستمع لرجل غريب، يلقاه للمرة الأولى، يصل صوته البعيد إلى أذنيه كعزيف الريح في الفيافي المقفرة، شعر أنه يصف نفسه، ولأول مرة، بما يستحق، شعر أنه يتكلم بصدق، شجعه اهتمام سعاد على البوح بالمزيد، كلامه هذا محبوس في نفسه كالصديد في دمّل منتبج، سيفقأ الدمّل ليتخفف من آلامه، ها هي ذي سعاد، بكل حنانها وسمو أخلاقها تستمع إليه، ستساعده بلا شك، في استرداد ثقته بنفسه، وتكون له عوناً على خوض مستنقعات الحياة الآسنة، بمثل ما تساعد النسمة النقية الصافية، مركباً شراعياً تائهاً. -        لا تقل إنك مزعج يا سليم، افتح عينيك جيداً، انظر حولك لترى من يحبونك.. -        لا تكذبي علي وعلى نفسك، لا أحد يحبني، أتعرفين لماذا؟ لأني لا أتقن النفاق، الناس الذين أحببتهم، أخلصت لهم، أفنيت طموحي وشبابي بعثرت أموالي على أعتابهم، طردوني من حياتهم كما يطرد كلب أجرب. فوجئت سعاد باعترافاته كما فوجئت بضعفه، ظنته يقصد زوجته الأولى وأولاده منها بهذا الكلام، جندت نفسها فاعلَ خير، قررت في سرها البحث عنهم وإجراء مصالحة، ستدفع بنفسها ثمناً لراحته من هذا العذاب، الخنجر القديم، المغروس في أحشائها تحرك، آلمها، نزفت كبدها دم الأمومة الثكلى، على أبناء تنكروا لها، أبعدوها عن حياتهم، لا تبتئس يا سليم، كلانا في الحال سواء، ابنة سعاد طلبت منها برجاء، الابتعاد، بل الخروج من حياتها، لأنها سعيدة بزواجها، وقد أخبروا زوجها أن أمها ماتت، ظهورها سيزرع الشكوك في رأس الزوج، وتحيل سعادتها إلى شقاء ووحشة مؤلمة.  -        أشعر أني ظلّ ثقيل يا سعاد، على كل المحيطين بي، حتى أنت، أشعر أني عبء عليك، متعب، أنا متعب، لا أحد يفهمني، أعيش على هامش الحياة والتاريخ، أحبهم، ويذبحونني، يحملون نعشي قبل موتي، أحب كل الناس، لا أحد منهم يهمه أمري، فيسألني عما حدث معي، يبدو أنني حتى هذا السنّ لم أفهم لعبة الحياة بعد، يجب أن أفهمها وألعبها بشكل صحيح، ليس في الحياة حبّ حقيقي، المصلحة هي المحرك الأساس لكل الفعاليات، الأخلاق، الشرف، آلة قديمة تآكلت عجلاتها، اهترأت مسنناتها وعلاها الصدأ، ما عادت تدور، ضريبة دفعتها وفشلت. -        لا تقل ذلك يا سليم، الصـدق والقيم النبيلة مثل الشمس، لا تهترئ ولا تبلى، هي ركيزة الثقة بالنفس ورضا الضمير. -        أتصدقين أن أحداً لا يعرف نفسه؟ أنا لا أعرف نفسي، لأول مرة أسأل نفسي عن نفسي، فأكتشف أني ضائع، تائه، غريب، لا أستطيع التعبير عما يعذبني، نظرات الناس تحاسبني على أقل هف واتي، تلبسني جرائم لم أقترفها لتعاقبني عليها، دائماً يأتي القرار بالإعدام من أقلّ الناس شعوراً بالإنسانية. بكى سليم، بكى بعنف، راحت فرائصه ترتعد من شدّة الانفعال، شاركته سعاد البكاء، لقد نكأ بـوحُه جروحها، فبكت، عانقته بلوعة المكلوم، سحبته إلى السرير، فكّت سيور حذائه، ساعدته على خلع قميصه وربطة عنقه، اندغمت آلامه بآلامها، فوحدتهما الدموع. -        من أنا؟ ماذا جنيت في رحلة عمري؟ ما إمكانياتي؟ طموحاتي؟ لست أدري، تافه، أنا تافه ،لست معقداً، لا تسخري مني أرجوك، ولا تحتقري ضعفي، الإنسان أضعف ما في الطبيعة، يتظاهر بالقوة ليغطي عجزه، أنا أبكي لأن داخلي يحترق، أتعتقدين أن البكاء انتقاص من الرجولة؟ هذا خطأ  ،كل ما في الكون يبكي ويتألم، ليس البكاء محظوراً على أحد، الرجل يملك مشاعر، يشعر بالطعنة من الأحباء فيبكي، حين يطعن في إخلاصه ووفائه يبكي. تركته سعاد، ودخلت الحمام، غسلت وجهها من آثار البكاء، بللت منشفة بالماء البارد، وعادت إليه لتمسح وجهه المعروق، وتجفف دموعه، متحببة مواسية، محاولة التخفيف من ثورته. -        أما زلت تظنين أني مريض؟ إن كان ثمة ما يؤلمني فسأعترف لك، يؤلمني المجتمع من حولي، الكل يحيطني بنظرات ناطقة بالاتهام، بل بالإدانة، سامحيني يا سعاد، أنا واثق بأنك صديقة وفية، لن تحملي مشاكلي هذه لتنزلي بها إلى السوق، لن تتاجري بها. -        سليم، أرجوك، ارحم نفسك وارحمني. -        تخافين عليّ؟ لأول مرة أشعر أن أحداً يخاف عليّ . نهض عن سريره، استوى جالساً، تلفت حوله باستغراب، تمشى في الغرفة ذهاباً وإياباً، ثم عاد فاستلقى على السرير: -        لا تصدقي، أمي كانت تخاف عليّ، وتحبني، وكذلك أختي بديعة، وفاطمة، منذ فقدتهن فقدت الحبّ والأمان، فقدت الصدق المطلق، ما عدت أرى من حولي إلا الكذب والكذابين، أشعر أني صرت واحداً منهم، ما عدت صادقاً كعهدهن بي. -        اهدأ يا سليم، الوقت الآن أصيل، هيا نَرج للتنزه في إحدى الحدائق، الهواء الطلق والخضرة اليانعة كفيلة بغسل آلامنا. -        حديقة؟ لا، لن نذهب إلى أية حديقة. أطرق سليم خائفاً، تخيل الرجل النحيل يقابله هناك، فيعصف به الخوف أمام سعاد، لن يستطيع الهرب من وجهه، ربما دنا منه وطلب مرافقته إلى الفرع.. وهناك... لا.. لا يريد أن يؤخذ من سعاد مقيداً بالأغلال، ليس هذا فحسب، ربما رآهما أحد رجال عساف، سيحيطون بها لابتزازها، سليم يعرف أساليبهم جيداً، لن يكتفوا بذلك، سيسردون عليها كل ما يشاع في القرية، ولن يتركوها قبل أن تتخلى عنه، صحيح أن أحدهم ابتزها بحجة جنازة أبيه، لكن ذلك حصل قبل زواجه منها، سليم يعتبر أن هذا الزواج أكبر مكسب خرج به من مغامراته، بل هو المكسب الوحيد، لا يريد التفريط به ولو فرط بحياته. -        سليم، هل لي أن أعرف سبب خصامك مع الحدائق والأماكن العامة بعد زواجنا؟ نحن لم نَخرج معاً. -        دعك من هذا الكلام، أنا متعب، كل ما أتمناه الآن بضع دقائق من النوم، النوم الطبيعي، نوم الأمس لم يعطني ما أنشده من الراحة، كان نوماً مصطنعاً بعد حبة الدواء. أحضرت سعاد ملاءة بلون الزهر من خزانتها، غطته بحنان يعادل حنان فاطمة، ثم خرجت من الغرفة، لم تفتح عيادتها، حالة الحزن التي جرها إليها سليم أشعلت نيرانها من جديد، تذكرت أولادها الذين أماتوها في مشاعرهم، وأبعدوها عن حياتهم، جلست وحيدة تلعق جراحها وتبكي آلامها، ثم تفرز أيامها لتعزل أبيضها عن الأسود، فلا تجد سوى السواد مكللاً لجميع محطاتها، تتخلله ومضات لا تكاد ترى، من الشعور بالرضا. تركته سعاد، لكنه لم ينم، أثقاله تنقض ظهره، أين المفرّ منها، سليم اشتكى لها ما يعانيه، وهو صادق في شكواه، كانت كل الدنيا خاضعة له يوم أرضى عسافاً، لم يكترث لشعور فاطمة وأولادها، ولا لشعور إخوته في القرية، من المؤكد أنهم كانوا في دخيلتهم غاضبين لانصرافه عنهم، الآن تحول الغضب إلى حقد ونقمة، بل تحول إلى احتقار بعدما شاعت في القرية تلك الأخبار التي قذفته باحتضان الصبيان، بعد هجره فاطمة وطلاقه لمنال، كان يمشي بعباءة السيد، فيشعر بتطاول قامته فوق القامات ،ينثر خيراته، ويسعد بتهافت المحيطين به على التقاطها، الآن، بات يشعر أن الدنيا كلها تناصبه العداء ،حتى المخابرات، ها هي ذي تطارده بعميلها النحيل، ينثر ما يستطيع جمعه هنا وهناك، فلا يجد من يمد يداً لالتقاطه، يأمره محروس بإيداع عطاياه أرومة الزيتونة، وهو غير واثق أن من سيأخذها هو عساف، ربما تنامت مكانة محروس وصار سيداً، من يدري؟ ألم يتحول ضرار، ذلك الفتى الكسول المتسكع إلى المعلم ضرار؟ ألم يسرق من أموال سليم، تحت نظر سليم، ما بنى به بيتاً جديداً أصبح نزلاً لعساف وأزلامه؟ ونبهان وشعلان و .. و .. كلهم مصاصو دماء، حين جفّت عروقه رموه، من يسترضي منهم؟ من يصالح؟ من يقبل صلحه لو أراد الصلح هكذا دخل القرية راغباً بالانتقام، فعاجلته طعنة مفاجئة، رّدت كيده إلى نحره، ما زال في جعبته كثير من الأفكار، سيحولها إلى واقع، يقصف به القرية البلهاء من حيث لا تحتسب. بينما هو غارق في خيالاته تذكر فتحية، سيخرج زوجها من سجنه بعد شهر، لا بد من الإسراع لمسابقة الزمن، هبّ واقفاً، فتح الخزانة، لبس أول قميص وقعت عليه يده، وخرج، كانت سعاد جالسة وحدها في البهو، تراجع ماضيها وحاضرها. -        سليم، إلى أين تذهب وأنت في هذا الوضع النفسي السيء؟ -        سأزور أختي في حمص، ربما أتابع من هناك رحلتي إلى القرية. -        سأذهب معك، انتظرني. -        لا، لن تذهبي. -        لن أدعك تخرج من البيت وحدك، سأذهب معك حيث تذهب. -        قلت: لن تذهبي، تابع بحدّة، هم أهلي، ما شأنك بهم؟ -        أهلك؟ ألست أنا من أهلك؟ سأذهب للتعرف عليهم. -        قلت: لن تذهبي، ألا تفهمين؟ صرخ غاضباً. -        بل سأذهب، ردّت ببرود، سألحق بك لو سافرت وحدك. -        لا أريدك أن تتعرفي على أحد منهم، مفهوم؟ -        لماذا يا سليم؟ هل تعتبرهم عارك؟ أم إنك عارهم؟ أم تراني أقل قيمة وقدراً منك ومنهم؟ -        سأقتلك لو فعلت، سأقتلك بيدي. نظرت بدهشـة إلى وجهـه الذي شوهـه الغضب، كأنه يعني ما يقول، راح يقذف الشتائم بلا حساب، شعرت أنها أمام إنسان شرير لم تره قبل اليوم، تقلصت في مقعدها، انكمشت مثل فأرة مذعورة، ولاذت بالصمت، أمسك كتفيها بقبضتين حديديتين، وتابع تهديده بالقتل، ثم صفق الباب خلفه بشدة، وتركها في حيرة من استيقظ فجأة من كابوس رهيب، لماذا يصر على إبعادها؟ إذا كان زواجه بها عاراً يخشى افتضاحه لم تزوجها؟ فكّرت وأطالت التفكير، هذا إذن السبب في اجتنابه الخروج معها إلى الأماكن العامة، لكنه كان يرافقها كثيراً قبل الزواج، ما الذي تغير في الأمر؟ سعاد لا تعرف له حتى الآن صديقاً أو قريباً، هل يمكن لرجل أعمال مثله أن يعيش منقطعاً عن الناس؟ هذا مستحيل، أين تبحث عنه؟ من تسأل؟ كل ما تعرفه عنه هو اسمه وعنوانه المكتوب في صك زواجها، هذا أطول الطرق وأعسرها للبحث عنه، ما العمل؟؟ هل تشكو لأهلها؟ من هم أولئك الأهل الذين سيستمعون شكواها؟ لا أحد، أقرب أقربائها هم أولاد أخيها الذي توفي منذ أمد بعيد، كل منهم منصرف لشأنه، لا يعنيه أمر عمته، كلهم عارضوا مشروع زواجها، كل واحد منهم يأمل أن يستحوذ على النصيب الأكبر من أموالها بعدما تنكّر لها أولادها، لكنها بزواجها أحبطت آمالهم، لن تجد لديهم إلا الشماتة. تذكرت أبا معاذ، تذكرت أن زوجها أمرها بطرده من العيادة والبيت، لا بد أن لدى هذا الرجل ما تبحث عنه، سارعت إلى الهاتف، طلبت النجدة من أبي معاذ، فجاءها ملبياً، أظهر الكثير من التعاطف والشفقة، هدّأ خاطرها بكلمات لم تشف غليلها. -        أخبرني أرجوك، هل تعرف زوجي منذ زمن بعيد؟ -        اللعنة على سليم، هل اختارني القدر لأكون عرّابا له؟ -        عرابا؟ ماذا تعني؟ -        لا تهتمي بهذه الكلمة يا سعاد، لكني أقول: إن حياتك معه صبر كلها، اصبري ما استطعت ،حاولي الحفاظ على هذا الزواج أطول مدّة ممكنة، انتبهي لنفسك. -        أتعتقد أن النهاية وشيكة؟ -        أتمنى ألا تكون كذلك. خرج أبو معاذ، وعادت سعاد حائرة إلى بيتها، تبحث في أرجائه عما تشغل به نفسها، حملت قميص سليم وذهبت به إلى الحمّام، قبل أن تضعه في حوض الغسيل فتشت جيوبه، فعثرت على صكّ زواجه بأم سعد، يحمل تاريخ اليوم، صعقها الاكتشاف، ركضت إلى الهاتف تستنجد بأبي معاذ، تشرح له قضيتها باكية، فيجيب ببرود: -        ألم أقل لك: إن حياتك معه صبر كلها؟ -        هل أصبر على ضرة؟ -        ألست أنت ضرة؟ لكن لا تبتئسي، للموضوع وجه آخر. -        هل تعرفت على الوجه الأول لأبحث عن الآخر؟ عد إلي أرجوك. -        ليس الآن، حاولي تهدئة نفسك، لا تنفجري في وجهه لو عاد، ولا تسأليه عن زواجه هذا، تجاهلي الأمر. وضعت سماعة الهاتف وعادت لأفكارها، لقد تزوج اليوم، ولما يمض على زواجه بها شهر واحد ،لماذا فعل ما فعل، كيف يشكو لها انفضاض الناس من حوله، وقلة وفائهم، وهو يحمل صكّ غدره بها على صدره؟ أهو الشعور بالذنب؟ لا، رجل مثل هذا لا يملك ضمير اً، جاءها يشكو الفشل، أي فشل يعقد زواجين في شهر واحد ثم يشكو الفشل؟ هل طلبت منه الزوجة الجديدة ما لا طاقة له به؟ ربما. سعاد لم تطلب منه شيئاً، نزل في بيتها بثيابه التي يلبسها، ثم تولت بعد ذلك شراء ملابس جديدة له، لا بد أنه طامع بمالها، سيعود بعد قليل ليطلب منها ما ينفقه على العروس، أبو معاذ أوصاها بالحرص على نفسها، أكان يقصد هذا، تزوجت هرباً من الوحدة والمجهول، صارت وحدتها أشد قسوة وإيلاماً من قبل، المجهول لم يعد مجهولاً، ها هو ذا يقاسمها طعامها وسريرها، وتشعر لحماقتها أنها تعيش في حمى رجل، يقول: إنه لا يتقن النفاق، هل في الأرض أشد نفاقاً من رجل يهجر زوجته وأولاده وينداح في البلاد، يبعثر شره في كل اتجاه؟ هو يخشى إذن أن تفاجئه إحدى ضحاياه، فلا تتصرف بحكمة  كما تصرفت سعاد، بل تهجم عليه مدفوعة بالغيرة، فتفضحه في مكان عام على مرأى الناس.  أبو معاذ قال: هل اختارني القدر لأكون عرابه؟ المعنى اتضح الآن، أبو معاذ شهد أكثر من زواج لسليم، يوصيها بالصبر، ماذا تملك امرأة تعيسة سوى الصبر؟ يقول: إنه سيزور أخته في حمص؟ أية أخت وأية حمص؟ لن تبحث عنه، ستنتظره حتى يعود من تلقاء نفسه. دقّ الباب دقات سريعة متلاحقة، جاءته فتحية مهرولة خائفة، استبشرت خيراً بقدومه، قابلها بوجه ينضح فرحاً. -        البشارة يا أختي، سيعود إليك زوجك بأسرع مما تتصورين. -        الحمد لله، والشكر لك يا أخي، بأي شيء أستطيع مكافأتك؟ في أحلك المصائب ينقذني أخي، ما أسعدني اليوم! -        أمضيت نهاري كله في التجوال بين المحاكم ومكاتب المسؤولين حتى دبرت الأمر، سيخرج زوجك بلا تبعات، ولكن.. -        لكن ماذا؟ أخفتني يا أخي. -        أنفقت كل ما كنت أحمله من نقود، قضية معقدة مثل هذه تحتاج للكثير من الهدايا والرشوة ،قدّمت منها ما استطعت، وبقي مبلغ يجب أن أدفعه هذا اليوم، الأمر لا يحتمل التأجيل إلى الغد. -        ما العمل الآن؟ -        إذا كنت تحتفظين ببعض المال أو المصاغ، هاتيه، واعتبريها ديناً لك عليّ . -        الويل لي، تدفع من مالك ثم تستدين مني؟ سأعطيك مصاغ عرسي، ليس ديناً، أنا أدفعه لافتداء زوجي، ألا يكفي كم أتعبناك؟ خلعت أساورها من يدها، سألته: هل يكفي؟ نظر إليها نظرة الزاهد، طبعاً لا يكفي، ولا يسد نصف ما هو مطلوب منك، خلعت الأقراط من أذنيها، واعتذرت بأنها ما عادت تملك شيئاً، نظر إلى خاتم الزواج المتبقي في بنصرها، وأشار: وهذا؟ تساءلت، هل ينفع؟ طبعاً ينفع، هاتي كل ما عندك، وسأعمل على تأجيل الجزء المتبقي حتى عودتي من دمشق، وضع الذهب في جيبه، وهمّ بالانصراف، أمسكت به، أقسمت أنه لن يخرج قبل أن يتناول عشاءه معها، أقنعها بأن الموضوع لا يحتمل التأجيل ،وأنه سيتناول عشاءه مع الناس المهمين القائمين على الوساطة. خرج آمناً، اتجه إلى سوق الصاغة، باع الحلي، بات ليلته في أحد الفنادق الرخيصة، وسافر في الصباح إلى القرية، استقبله محروس، أمره بوضع الأمانة في مكانها، ومغادرة القرية فوراً، عساف يريد استقبال رجال أغراب في القصر. شيء ما، خارج عن إرادة سليم، يدفعه للخنوع المطلق أمام أوامر عساف، ينوي، يهدد، يتوعد ،يرسم الخطط، ولكن، ما إن يلتقي بعساف أو أحد رجاله حتى يرمي وراء ظهره كل شيء، ويقف مسبلاً ذراعيه، وقفة تلميذ مقصر، يعرف أنه مستحق للعقاب، يعطيهم ما يطلبون، يطيعهم فيما يأمرون، ثم ينصرف خزيان  صاغراً. هذه المرة قرر أن يثور، أن يرفض الأوامر، لم يضع النقود حيث أمر، بل ترك القصر ومحروس وذهب مغاضباً، في لحظة، في أقل من لحظة، لحق به محروس وقد تعملق، كشر عن وجه أشد غضباً وإثارة للرعب من وجه نمرود، أمسك بخناقه صائحاً به: -        إلى أين؟  -        ذاهب لشأني. -        هات النقود أولاً ثم انصرف، هيا، ارجع معي لتضع النقود حيث أمرتك. انهارت شجاعته، خذلته قوته، عاد مستسلم اً، نفّذ ما أمر به، ثم عاد أدراجه إلى دمشق، لا يملك من النقود سوى بعض الفراطة، تكفيه أجرة السفر. وصل إلى دمشق، ولم يصل إلى حلّ يرضيه، لمن يلجأ؟ من يستشير؟ ما عاد يثق بأحد، بل يثق بشخص واحد، هو فاطمة، ما أشد حاجته إلى فاطمة، ذهب إليها متوقعاً أن يجد الأولاد في المدارس وفاطمة وحدها في البيت، خاب ظنه، لم تكن فاطمة وحدها، لكنه نجح في الانفراد بها ليبثها شكواه، عقلها راجح، وأفكارها غاية في التعقل والواقعية. -        أنقذيني يا فاطمة، أكلوني. -        من هم؟ -        عساف وجماعته. حكى لها عن القصر، دسّ في أحاديثه عشرات الأكاذيب، قال: إنه بنى القصر خصيصاً من أجلها، لتصطاف فيه مع أولادها، وتكون سيدة نساء القرية، لم تصدق كلامه، بل قاطعته: -        أوراق الطابو، في الدائرة العقارية باسم من يا سليم؟ -        أوراق ماذا.. الـ.. الـ.. الـ.. الأوراق باسمي أنا طبعاً. -        لكنك قلت: إنك بنيته لي، من أجلي. -        كنت سأقدمه لك هدية. -        هيا، افعل. -        ليس الآن، غصّ بريقه، ليس الآن. -        متى إذن؟ أعرف الجواب، لن تهديه لي، ولا لغيري، ذلك التلّ الذي بنيت عليه قصرك كان في السابق يضم قبراً للشيخ مهران، كانت نساء القرية تأخذ قصفاً من الأعشاب اليابسة على أطرافه لتبخير المرضى، سراجه الذي يوقد بزيت النذور لا يكاد ينطفئ، هل تذكر؟ -        ما نفع هذا الكلام الآن؟ لقد تطور علم الطب كثيراً، وما عادت القبور تشفي مريضاً، هذه أوهام وخرافات، ما زلت تؤمنين بها؟ -        خرافات، أوهام، هي كذلك، لكني قصدت بكلامي أن التلّ كان مقدساً ذات يوم، مؤكد أنه ليس ملكاً لأحد، هو تابع إما لوزارة الأوقاف، أو أملاك الدولة. -        ماذا يعني هذا؟ -        هذا مال حرام، ضاع منك بمثل ما جاء، لن تستطيع استرداده مهما حاولت، أنت حزين لأنهم أكلوك، وأنت؟ ألم تأكل أحدا؟، أكلت يا سليم، كل ما طالته يدك أكلته، لم توفر حتى أبناءك. -        ماذا تقصدين؟ -        ابنتك رامية تركت المدرسة قبل أن تنال الشهادة الثانوية؛ نتيجة أفعالك الماجنة مع معلماتها ومديرتها، أولادك يخجلون من الانتساب إليك، دمرت حياتهم، ألا ترعوي؟ -        المديرة؟ المعلمات؟ كلهن قحاب، يطاردنني في حِلي وترحالي، حين يئسن مني ظلمن ابنتي كيداً بي. -        يطاردنك يا سليم؟ أأنت أول رجل تراه أعينهن؟ يطاردنك أم يطاردن وعوداً قبضت ثمنها من أموالهن وأرواحهن، ثم تنصّلت منها؟ -        فاطمة، لا تزرعي اليأس في نفسي، لو ضاع مني هذا القصر لضاع عقلي، ألا تفهمين؟ شيء واحد تفهمه فاطمة كما يفهمه سليم، ذلك أن عسافاً إذا وضع يده على شيء لا يرفعها أبداً، لذلك لاذت بالصمت، وتركته يتخبط في أفكاره المظلمة. -        ألن تساعديني؟ -        لا أملك ما أساعدك به. -        لتذهبي إلى الجحيم، أنت لا تستحقين هذا القصر، سأهبه لزوجتي منال، ضرتك , كيداً بك. -        هبه لمن تشاء، والأصح، أنك لن تهبه لأحد، لقد وهبته لعساف، هل يجوز في شرع عساف استرداد الهبات؟؟ في غمرة انشغالاته نسي وداد، لكن عقل وداد وعواطفها، وكل فعالياتها النفسية والفكرية تدور حول موضوع واحد، هو سليم، ومشروع زواجها به، حين أطال غيابه عنها لم تستسلم للقنوط، بل تحركت بكل ما تملكه امرأة عاشقة من القوى، سألت عنه؛ بحثت، بلا جدوى، بقي لها أمل  وحيد، هو رقم هاتفه، ظلت تضرب الرقم وتضرب، مئات المرات كل يوم، من البيت، من الشارع، من المدرسة، من بيوت صديقاتها حين تزورهن حتى جاءها ردّ، لكن بصوت غير صوت سليم، أخبرت المتكلم أنها خطيبة سليم، سألها عن عنوانها، دلته على المدرسة، قال: إنه سيرسل إليها من يحلّ  مشكلتها. بعد قليل دخل الإدارة رجل نحيل جاحظ العينين، وهبها الشعور بالأمان، وعدها بالانتقام لها ،ولكل من غدر بهن سليم، طلب أن تناديه بأبي معروف، استمع إلى قصتها بإنصات، أبدى كثيراً من التعاطف والاستعداد للمساعدة، حكى لها الكثير عن مغامرات سليم في اصطياد أموال النساء، وأسف لكونها تحمل كل هذا المقدار من العلم والجمال ثم تقع ضحية لرجل محتال، وعدها بالسعي، لافتعال لقاء بينهما، موصياً إياها بالتكتم على كل ما أخبرها به، والعمل على استرداد ما ابتزه سليم، وإن رفض، فالدواء مرّ، كاوٍ، كالأسيد، لن يستطيع سليم الصمود أمام التلويح به مجرد تلويح. جاءته وداد إلى منزل سعاد، طلبت مقابلته لأسباب خاصة، أدركت سعاد أن هذه المرأة إحدى طرائده، تساءلت: هل عقد سليم زواجه عليها؟ أم إنهما في الطريق إلى المحكمة الشرعية، حين دخل سليم جمدته الدهشة، كيف استطاعت وداد اللحاق به إلى هنا؟ لكن خبرته العميقة في هذا المجال وطول المراس حصّناه جيداً لمثل هذا الموقف، لبس قناع البرود، وخرج مسلما: -        أهلاً بالآنسة وداد، جميل أنك هنا، مفاجأة سارة، هل جئت لزيارة الدكتورة؟ -        بل لزيارتك أنت، ردّت ببرود يماثل بروده. -        أهلاً وسهلاً، شرفت المكان، هل جئت لتخبريني شيئاً يخص رامية ابنتي؟ -        بل جئت بحديث يخصك أنت. -        أهلاً وسهلاً، لكني أعتذر عن مجالستك الآن، لأني مرتبط بموعد هام، نظر إلى ساعة يده، سيحين بعد عشر دقائق فقط، سأراك مرة أخرى. وقف أمام مرآة البهو متظاهراً بتعديل ربطة عنقه، رأى وجه وداد محتقناً بغضب لم يعهده من قبل، تدعمه ثقة بالنفس عظيمة، اتجه إلى الباب، ركضت وداد، أمسكت بذراعه على مرأى من زوجته: -        أعلم أنك لا تريد الكلام بحضرة الدكتورة، لذلك سأخرج معك، موعدك الذي تتحدث عنه سيؤجل إلى ما بعد التفاهم بيننا. خرجا معاً، وبقيت سعاد تغالب دهشتها، سعاد تعرف وداد من خلال عملها بالصحة المدرسية ،ما الذي يربط وداد بسليم؟ أهي زوجته؟ أم خطيبته؟ الأمر لن يبقى في علم الغيب طويلاً، سينكشف قريباً، بل قريباً جد اً. ذهب مع وداد إلى المقهى نفسه الذي ارتاده مع منال بعد الطلاق، جلس قبالتها يغالب ضحكة توشك أن تنفجر من أعماقه، يبدو أن هذا المقهى مخصص لحالات الطلاق. -        سامحني يا سليم، أنا في شوق عارم إليك، شوقي، هو وحده ما دفعني لاقتراف ما اقترفت. استمع إليها متعجباً، ثمة صوت يصرخ في داخله: الشوق؟ ماذا تخبئين؟ أوشك أن يطردها، أو يهرب منها، لكنه عاد فاستدرك: ما تزال يداها مثقلتين بالحلي، وهي تعرض عليه مشاعرها الذائبة ،الفرصة مناسبة لاقتناص المزيد. -        حبوبتي الحلوة، شوقي لك أكبر بكثير مما تتصورين، لكني أخجل من مقابلتك بجيوبي الفارغة ،طلبت أموالي من المصارف الأجنبية عن طريق بنك هنا، وهي في طريقها إلي، لا أظنها تتأخر، وحين تصل، سأغمرك بالأوراق النقدية غمر اً. -        ما عدت أملك قدرة على الصبر، إما أن تحدد، وبسرعة موعد الزواج، أو أنصرف عنك إلى غير رجعة. ما هذه اللهجة الجديدة؟ احتار سليم في تفسيرها، هل وقعت على خاطب أكثر جدّية منه؟ ربما، هل وصلها شيء من أخباره، هذا الاحتمال أقوى، دليله أنها اهتدت إلى بيت سعاد، وقابلته بجرأة تتجاوز حدود الوقاحة، في كل الأحوال، الفرصة مواتية للتنصل منها. -        آه ... ما دمت قد جئت بي إلى هنا، اقتحمت علي بيتي، وقلت لزوجتي ما قلت، لا بد من إعلامك بالحقيقة، لن نتزوج يا وداد، أشعر أن عواطفي تجاهك قد بردت قليلاً، لا أريد خداعك. -        لا تريد خداعي، ماذا تريد إذن؟ أموالي؟ -        لا أريد منك شيئاً، لقد راقبت سلوكك في الفترة الماضية، فأدهشني عدد الرجال الذين تكلمت معهم. -        أي رجال؟ -        وما يدريني؟ في البيت، في المدرسة، في الشارع... -        هذا عملي، هؤلاء أولياء التلميذات في مدرستي، هل تحصي عليّ كل شيء؟ -        أنا أغار على امرأتي، لا أريد أن يشاركني أحد في مشاعرها، أربع مرات سألت عنك في المدرسة، فيقولون: إنك في اجتماع رسمي، كأنك تتهربين مني، كأن من تجتمعين بهم أهم مني. -        ماذا بعد؟ ماذا أحصيت؟ -        في المستقبل، حين تحبين رجلاً آخر، لا تعامليه بفظاظة كما تعاملينني، سينفر منك. -        هلا أحصيت كم مرة أخذت مني نقودا؟ كم مرة طلبت مني النقود فخذلتك؟ ولم تستح على رجولتك فكررت الطلب، هل أحصيت كم مرة وقفت فيها معي موقف النذل؟ هيا، أعد إلي أموالي. -        هذا اعتراف منك، أنت من يحصي كل شيء، من يحب يا وداد، يعطي بلا حساب، أشواقك غير صادقة يا حبيبتي. -        لست حبيبتك، هيا، أعد إلي أموالي. شعر سليم أنها تحاصره مستندة إلى قوة ما، لكنه لم يدرك كنه تلك القوة، لا بد من مسايرتها بلين حتى تسلس له قيادها، امرأة تأتيه بمفردها، تعطيه أموالها، لا تخيف، مهما كانت القوة التي تسندها، لو أنها ذات قوة، لما جاءته بمفردها، فإن جمحت، سليم يملك سهماً، يخبئه لوقت الحاجة، سيرميها به ليدمي فؤادها، ثم يروغ منها، لن يعدم وسيلة:  -        حبوبتي الحلوة، أعطيني الآن خمسة آلاف ليرة، أنفق منها ريثما تصل نقودي، أقسم لك بتراب قبر أبي أني سأعقد قرانك فور وصولها. -        وعد ثمنه خمسة آلاف ليرة، بضاعة رخيصة، أنا لا أشتريها. -        أعدك وعد  رجل، لست ولداً يا وداد. -        قلت لك: لن أشتري وعودك بالمال .. لن أشتري، صرخت غاضبة. -        هل قلت يوماً لهشام ما تقولينه لي؟ -        أي هشام؟ -        حبيبك السابق، أتعتقدين أني أجهل ماضيك؟ غبية... أسند ظهره إلى مسند الكرسي، وتنفس بارتياح، ستخجل من اكتشافه لماضيها، فترجوه الكتمان وتنسحب من حياته بهدوء. -        ماضيّ شيء يخصني وحدي، أما نقودي فستعيدها لي غصباً عنك. -        غصباً عني؟ من سيغصبني؟ هشامك؟ لا يستطيع، هل أدلك أيتها الحلوة على طريق القصر العدلي، لترفعي هناك دعوى ضدي؟ حين يفصل في تلك الدعوى سأدفع كل ما يطلبون، لكني أتمنى لو أعرف، كيف ستنظمين جدولاً بكل ما أخذته منك؟ وداعاً يا حلوتي. تركها لتدفع ثمن القهوة، وغادرها سريعاً، قبل أن تفيق من صدمتها فاجأها أبو معروف، جلس أمامها بوجهه النحيل وعينيه الجامدتين الجاحظتين، طمأنها بحتمية النجاح، دفع ثمن القهوة، وطلب منها الانتظار إلى الغد لتنفيذ بقية الخطة، اليوم أحسن، وهل لرجل مثل سليم أن ينظر إلى الغد؟.  وداد ضحية أخرى لعساف آخر، هو صديق لعساف، تحتل منه مكانة كتلك التي تحتلها علياء عند ذاك، وداد واقعة دائماً في دائرة مراقبة رجاله، وهذا النحيل الجاحظ أحد مريديه، كانوا مطلعين منذ البداية على علاقتها مع سليم، يعرفون عنها وعنه كل شيء، وقد تلقّوا إشارة بملاحقة سليم والضغط على أعصابه، واستنزاف ما أمكن من أمواله وقواه، فهل يتركون عميلتهم في ورطة سهلة بين يديه؟؟ لا بد من مؤازرتها والانتصار لها، لمساعدتها على أحد أمرين: إما الالتصاق بسليم لتعلم منه كل حركاته ونواياه، أو سلبه ما يملك، وماذا يملك؟ ما عاد يملك سوى البيت الذي تعيش فيه فاطمة مع أولادها، والمنزل الذي اغتصبه من منال، منزل فاطمة في حرز لا يستطيعون الاقتراب منه، فاطمة يحميها حيادها من قضاياهم ،وقوة أهلها المدافعين عنها، لم يبق إلا منزل منال، الورقة الأخيرة في يد سليم. خرجا من المقهى معاً، وداد والرجل النحيل، افترقا عند الباب، عادت وداد إلى منزل الدكتورة سعاد، ولحق بها أبو معروف عن بعد، كانت سعاد وحدها تكابد آلام الوحدة والقهر، يهدّها الشعور بالغدر والهزيمة، لو أنها استشارت أحداً ما قبل إقدامها على هذا الزواج لما وصلت إلى ما هي عليه الآن ،الندم على ما فات لا يجدي فتيلاً، التفكير في الخروج من هذا المأزق أكثر جدوى، جاءتها وداد، فوجئت بها مرة ثانية داخل بيتها، احتارت فيما يجب عليها عمله، هل تطردها؟ أم تقدم لها المساعدة؟ أم تطلب مساعدتها؟ وداد ضحية مثلها، هل تحقد الضحية على الضحية؟ هل يتركان الجلاد يتسلى بتعذيبهما؟ جلست إليها، دار بينهما حديث امرأتين جمعهما الشقاء، استطال الحديث وتشعب حتى سمعتا صليل المفاتيح في قفل الباب، توقفتا عن الكلام انتظاراً للقادم. فتح الباب باطمئنان، دخل بيته وهو يصفر بشفتيه لحناً مرحاً، أطلقه شعوره بالنصر على وداد، ستخاف على نفسها من افتضاح أمرها معه، ومع هشام، بعدما أوحى لها أنه يعرف عنها كل شيء ،ستتوقف عن مطاردته، وتكف عن المطالبة بأموال أضاعتها بسذاجتها وغبائها، لم يبق ما يشغل تفكيره سوى أم سعد، وأخته فتحية. حين أغلق الباب خلفه واستدار، نهضت وداد من مجلسها، باغته وجودها، قطع عليه أغنيته، وجعل الدم يهرب من وجهه ويديه، امتقع لونه حتى شارف على الإغماء. -        أهلاً بالسيد سليم، هربت مني بسرعة، ولم تترك لي مجالاً لأبلغك الرسالة الهامة. -        ماذا تريدين؟ قالها متلعثماً. -        لا أريد شيئاً، لكن عسافاً يبلغك السلام، ويأمرك بالمثول بين يديه غداً، في مطعم الطيارة عند الساعة العاشرة تماماً. -        عساف؟ يا للمصيبة، ما الذي أوصلها إليه؟ يأمره؟ لم لم يبلغه هذا الأمر حين كان في القرية ،أيصدقها؟ لا بد أنها كاذبة تبغي التلاعب بأعصابه، لكن أوامر عساف لا تناقش، كيف يتأكد من صدق وداد؟ تجاهل كلامها، ومشى باتجاه غرفته. -        سيد سليم، يقول لك عساف: إذا لم تلبّ دعوته فسيأخذ منك الدكتورة سعاد كما أخذ قصرك. ذهلت سعاد، يهددونه بأخذها؟ كيف تؤخذ زوجة من زوجها؟ أية عصابة وقعت سعاد بين براثنها وهي لا تدري؟ هل تحولت إلى سلعة يتنازع ملكيتها مع أفراد عصابته؟ من هو، ذلك العساف الذي يهدد بالاستيلاء عليها كما استولى على القصر؟ هل يملك سليم قصورا؟ لا بد من الاطلاع على كل شيء. خرجت وداد، نظر سليم إلى وجه سعاد، رأى فيه عشرات الأسئلة، ومئات الشياطين تتواثب لن يستطيع لها كبحاً، طلب فنجاناً من القهوة، بعد أن جلس باسترخاء على أكبر مقعد في البهو، دخلت سعاد المطبخ، وعلى وقع خطواتها مشى سليم باتجاه الباب، خرج بهدوء وحذر، متجنباً إحداث أية ضجة، وانفلت في الشارع، ما كان يعلم لقدميه اتجاهاً، هام على وجهه كعادته، إلى أن وجد نفسه أمام باب فاطمة، وقف يتسول حنانها، ما تزال فاطمة قديسة منذورة للأمومة، ما تزال تتعامل معه كرجل غريب، بل كأنه شحاذ يستجدي لقمة غذاء ومأوى، تقدم له طعامها، وتنسحب بصمت، ألقى تحيته ،لكنه غير متأكد أنه سمع ردّاً، هل أصاب فاطمة مرض ما، فقدت بنتيجته صوتها؟ قدمت الطعام، ثم أغلقت عليه الباب، كأنما تقول له: يا حرام! كل أيها الشحاذ، ثم ارحل على الفور، لا مكان لك في هذا البيت الطاهر. أجل، طاهر بيتك يا فاطمة، طاهر ثوبك، طاهرة يداك، بقعة الدنس المتمثلة بسليم لا مكان لها هنا، انكمش في مجلسه، ما مدّ يده إلى الزاد، ولا استراح في مجلسه، شعر أن كل ما في جوفه من أحشاء يتشنج في رقصة شوهاء، التشنج وصل إلى بلعومه وحنجرته، أوشك على الاختناق قهراً، أخطأ في اختيار المكان، ليس هذا هو المكان المناسب له، يجب أن يخرج فوراً، قبل أن تخرج روحه من دفتي صدره. لم تخبره فاطمة شيئاً عن الأولاد، ولا رأى أحداً منهم حولها، أين ذهبوا؟ شعر أنه لا يملك حقّ السؤال عنهم، ليذهبوا حيث شاؤوا، لا شكّ أنهم في أماكن نظيفة، يقومون بأعمال شريفة، مستمدين التوجيه من فاطمة، لم يسألها، لو سألها لخافت على أولادها منه, و لما أخبرته أنها زوجت ابنتها رامية من ابن خالها، بعدما تركت المدرسة هاربة من عار ألصقه بها أبوها ،سافرت لتسكن معه في القرية، حيث يسكن أولاد عمتها بديعة ،ولا أخبرته أن ابنه مصطفى سافر بعقد عمل إلى إحدى دول الخليج، وهو يرسل لها مبلغاً من المال كل شهر، تدّخره له لحين عودته، ليبدأ به مشروع عمل مع أخيه زياد، وأنه سافر إلى غربته، يحمل في نفسه من الشعور بالمرا رة ما يحول دون عودته، أوصته أمه أن ينسى، كيف ينسى أن معلمه صاحب الورشة طرده من ورشته بأسوأ ما يطرد به عامل من ورشة، كان معلمه يعدّه للزواج من إحدى بناته، ثم مشاركته في أعماله، زار سليم الورشة زيارة اطلاع، ثم عاد ليؤجرها لرجل غريب، بعقد وهمي ثم يختفي، مما اضطر صاحب الورشة للدوران بين المحاكم ومكاتب المحامين، بحثاً عن سليم، ليثبت وهمية عقد الإيجار، وحقيقة ملكيته للورشة، فلم يجد من يصب عليه نقمته سوى مصطفى. ولو سألها لأخبرته أن زياداً كره الحارة والمدرسة، كره العمل واستسلم للعزلة، ما عاد يطيق رؤية أحد، يخيل إليه أن كل الناس يعرفون تاريخ أبيه، وكل أغصان الأشجار في الشوارع، أصابع تشير إليه: أنت ابنه .. أنت وريثه ... لص مثله. ولأخبرته أن سامية، سبقت أخاها فاستسلمت للوحدة والاكتئاب، ترفض الخروج من البيت، ترفض أي عمل يعرض عليها، ترفض الزواج، خشية افتضاح أمر أبيها أمام زوجها، فتضطر للعيش مثل أختها رجاء، تحت كابوس الإهانة الفظيع، لا ملجأ لها منه ولا مهرب، تسمع الشتائم تطال أباها، من الكبير والصغير دون أن تنبس بحرف واحد، الكل على حق، ورجاء  مضطرة للصبر كما صبرت أمها فاطمة، تضحية من أجل صغارها، تكتم همومها في قلبها فتتفجر في جسدها أوجاعاً وأمراضاً عصبية حيرت الأطباء حتى ملها زوجها، فأهملها وتزوج سواها. لكن سليماً لم يسأل، لم ينتظر إجابة فاطمة، بل خرج يكلؤه الخزي، خروج شخص دخل عرضاً قاعة للقمار، اندسّ بين اللاعبين نائم الشعور والإرادة، وتراجع ليكتشف أنه خسر ثيابه، من أين له ورقة توت تستر عريه؟ لم يجد تصرفاً مناسباً يأتي به في هذا الحرم الطاهر الذي دنسه، لم يجد كلمة يقولها اعترافاً أمام فاطمة، شعر أنه لا يستحق منها أي شيء، أي شيء. في منزل منال، استلقى على السرير القذر، قاوم نفسه للتأقلم مع الروائح التي تمازجت في الجوّ لتشكل نوعاً من العبق ما عرفته قناة للصرف الصحي، مجاري المرحاض مسدودة، روّاد البيت يوزعون برازهم في المطبخ والحمام والحديقة الصغيرة، مثلما يفعلون في بساتين القرية، ما يتبقى عنهم من الأطعمة يتركونها حتى يغزوها الدود، الفئران عملت حفراً ونقباً تحت كل جدار، وأقامت أكواماً من التراب، فئران ميتة وأخرى مقتولة تفوح روائحها النتنة، أجال سليم نظرة متفحصة في أرجاء البيت، وقرر أن يبدأ منذ الغد حملة لتنظيفه وإعادة ترتيبه من جديد، سيرمي كل أثاثه خارجاً، ويشتري أثاثاً جديداً، سيغير أقفال الأبواب ليمنع أي دخيل من ولوجه، يجب أن يتخلص من عساف، ولعنة عساف، سدّت في وجهه الأبواب، ما تمكن من الحصول على أي عمل، لذلك آمن أنه لن يعود إلى صدارة المجالس في القرية، لقب سيدنا سحب منه إلى الأبد. جيوبه خاوية، مشروعه يحتاج بعض المال، فكر بالاتصال بأم سعد، رفع سماعة الهاتف، هاتفه جهاز ميت لا حياة فيه، لا بأس، فلتؤجل هذه المكالمة إلى الغد، سيكلمها من أحد هواتف الشارع ليقبض دفعة من ثمن القضية، أما فتحية، اللعنة على فتحية، تكاد المدة تنقضي ولم يستحصل منها على ما يعادل ثمن الأرض، يجب الإسراع، سيسافر إليها منذ الفجر، ولكن هناك عقبة لا يمكنه تجاوزها ،ذلك التهديد الذي تلقاه من وداد، لم يبق لديه في الدنيا مأمن سوى سعاد، أيتركهم يخطفونها منه؟ مستحيل أن يفرط بها، أخبرته وداد أن عسافاً ينتظره في مطعم الطيارة، وداد كاذبة، عساف لا يرتاد المطاعم، ولا يسافر إلى العاصمة، لا بد من استجلاء حقيقة الأمر، بعد ذلك يفكر بالسفر إلى فتحية. دخل مطعم الطيارة برجلين ترتجفان فـرقاً، وفؤاد وجِل، أي شرّ ينتظره هناك؟ لا يدري، ما علاقة وداد مع عساف؟ لا يدري، مشى بين المقاعد على مهل، محاولاً استكناه ما ينتظره، فاجأه وجه وداد، الناضح بشراً وغبطة، خطوط الكحل فوق عينيها وتحتهما جعلته يجفل لدى رؤيتها، أظافرها الطويلة المخضوبة وهي تشير إليه، خالَها مخالبَ ما تلبث أن تنشب في عينيه، اقشعرّ بدنه لهول خياله، دنا خطوة، تراجع خطوة، قامت وداد، أمسكت بذيل سترته، شدّته فأجبرته على الجلوس. -        ماذا تريدين مني؟ -        أريدك أنت يا حبيبـي، أنت أكبر نذل عرفته في حياتي. -        لماذا جئت بي إلى هنا؟ -        لنتفرج سوياً على الناس وهم يمارسون أفراح العيد، أما وعدتني بالسفر جوا؟ سأجلس قربك، وأنظر من النافذة، لأتخيل أني أطير. -        بسرعة، قولي ما لديك، ما عندي وقت لسماع هذه الترهات. -        أتسمي الحبّ والغزل ترهات؟ كم أنت جلف إذن؟ انظر إلى الشارع، عشرات الأطفال يلبسون الثياب الجديدة، رأس السنة مناسبة هامة جداً، ألا تعلم؟ -        ولا أريد أن أعلم، هذا شيء لا يعنيني. -        اسمع صوت الأجراس، كل الكنائس تقرع أجراسها اليوم، كل الأجراس تقول: دون ... دون . دون هل تعلم ما معناها؟... -        قلت: لا أريد أن أعرف شيئاً، كفي عن سخافتك وأخبريني، ما صلتك بعساف؟ -        أنا أخبرك ماذا تقول الأجراس، إنها تقول لك: دون، أنت رجل دون، دون، دون. -        راحت تردد الكلمة ضاحكة، بنغم يحاكي قرع الأجراس، أرعبته جرأتها، صوت في داخله يوافق وداد على ما تقول، سليم يعرف أنه رجل دون، لكن وداد تقذفها في وجهه منغمة كأنها تغازله، أمسكت يده برقة مصطنعة، وأشارت للنادل الذي حضر على الفور. -        سليم، حبيبي، ادفع حساب الطاولة وهيا بنا نَخرج من هنا. -        حساب الطاولة؟ ردّ غاضباً. -        سبقتك تدفعني أشواقي، اضطررت لأخذ وجبة الإفطار هنا، مع بعض الأصدقاء، هيا، ادفع. دفع سليم ما تبقى في جيبه من النقود، ونهض غاضباً، تأبطت ذراعه، حاول التملص منها، تشبثت به، رافقته إلى باب المطعم، أسفل السلم على الأرض، كان أبو معروف، ذو الوجه النحيل، والعينين الجاحظتين,  ينتظرهما برفقة رجل آخر، وجهه منتفخ أحمر كالفطيرة، آثار الجدري واضحة على بشرته بشكل يثير النفور، ينظر بعينين صغيرتين مزرورتين نظرة توحي بالشرّ، يتأبط مصنفاً أزرق، أفلتت وداد ذراع سليم، فاستلمها منها الآخر، أطبق عليها بشدّة، وقاده إلى سيارة متوقفة هناك، حشره في داخلها، وأسرع مع الرجل النحيل، ليحصراه بينهما في المقعد الخلفي، بينما جلست وداد بارتياح قرب السائق، وما تخلت عن مرحها، استدارت السيارة بعنف، محدثة بعجلاتها صريراً مزعجاً على إسفلت الشارع، وركضت تسابق الريح، من شارع إلى شارع، وكلما مرت السيارة قرب كنيسة، التفتت وداد باسمة إلى سليم، تردد مع الأجراس: -        دون، دون، دون. -        لم يسألهم إلى أين يأخذونه، بل استسلم لهم بخنوع، كأنه يساق إلى قدره، فتش الرجل السمين جيوب سليم، استخرج بطاقته الشخصية، دوّن اسمه وأرقام هويته داخل المصنف، واحتفظ بها، تباطأت السيارة، ثم توقفت أمام  القصر العدلي، أشار السمين إلى سليم: هيا، نزل سليم، عاد الرجل فتأبط ذراعه بقوة  كأنه شرطي يقبض على لصّ خطير، لحق به النحيل تتبعه وداد، نفد صبر سليم، تلفت حوله مذعوراً يستنجد بأحد، كل الناس أغراب، لا أحد يهتم بأحد، لكل منهم شأن يغنيه، الضجة تدق على الجماجم حتى توشك أن تحطمها. -        إلى أين تسير بي؟ -        لا تخف، نحن ذاهبون إلى الكاتب بالعدل. -        ما شأني به؟ -        ستوقع لديه وكالة خاصة، تتنازل بموجبها عن بيتك الذي اغتصبته من منال، زوجتك السابقة للآنسة وداد، لقاء ما أخذته منها.  -        هذا ظلم، أنا لم آخذ منها ما يعادل ثمن البيت. -        لكنك ستوقع، رغماً عنك. أسقط في يده، لا بد أن الرجلين مطلعان على كل تفاصيل حياته، سعاد في الميزان، ما ذنب سعاد؟ هل يدفع بها ثمناً لنذالاته؟ مشى مسلوب الإرادة، ذاهل الفكر، تمنى لو أن ما يعيشه حلم وليس حقيقة، تمنى لو تمتد يد فاطمة لتوقظه من هذا الكابوس، وتقدم له كأساً من الماء القراح، يحتسيه قطرة قطرة، وهو ينظر إلى وجهها الملائكي الوديع، ويستمع إلى صلواتها، لكن ذلك لم يكن حلماً، بل حقيقة دامغة، ووقف أمام كاتب العدل، وقع على الصكّ بالقلم، ثم ببصمة إبهامه الأيسر، صافح الرجلان وداد، مهنئين مباركين، ثم تركاه بين الزحام، وخرجا بصحبة وداد، توقف ثلاثتهم أمام الباب الخارجي يتشاورون حول موضوع ما، لحق بهم سليم متمهلاً وقد أضاع كل شيء، التفتت إليه وداد ضاحكة: -        سليم، حبوبي الحلو، هل رأيت أني أعرف الطريق إلى القصر العدلي جيدا؟ لو اعترضت دربي بعد اليوم، لآخذنك إلى مكان أكثر خطورة من القصر العدلي، هل تفهم؟ حبيبتي، أنفقت كل ما أملكه من )الفراطة( سآخذ منك قليلاً منها، سائقو السيارات يتضايقون حين نعطيهم ورقة كبيرة. لم تجب سعاد، تجاهلت كلامه، سليم لا ينتظر إجابتها، فتح حقيبة يدها، أخذ كل ما تحتويه من نقود، وضعها في جيوبه أمام النظرات المستنكرة من عيون الزائرات، وهمّ بالانصراف، اعتكر وجه سعاد ،همت بالتمسك به، لكنها أشفقت على نفسها من فتح ملفّ الخلاف معه أمام صديقاتها، حتى لا يجعلنها أحدوثة مجالسهن: -        سليم إلى أين أنت ذاهب؟ -        لدي شغل. -        متى ستعود؟ -        ربما أعود في المساء، وقد أضطر للمبيت خارج المنزل. -        مع السلامة. مع السلامة، قالتها سعاد، خرج سليم على جناح السرعة، ولكن أين منه السلامة التي ينشدها؟ الزمن يركض بسرعة جنونية، ومن لا يجاريه في ركضه تدوسه الأقدام، اركض يا سليم اركض، من هاتف عمومي اتصل بأم سعد، نقدته على الهاتف أطناناً من الشكر، أخبرته أنها مشت وحدها في معاملة الحصول على الجنسية، وأنها لا تحتاج شيئاً من خدماته، أغلق الهاتف وتراجع ليقطف موسماً جديداً من مواسم الخزي، التي انهالت عليه من كل حدب وصوب، بقيت لديه ورقة وحيدة، هي آخر المستندات ،لن يطلق أم سعد قبل أن يجردها من كل أموالها، يبدو أنها لا تستعجل الطلاق، لا، الأمر أكثر تعقيداً مما تصور، يبدو أن القضية الفلسطينية تجارة غير عادية، لا تشبه غيرها من أنواع المتاجرة، لا يحق للشخص أن يبيعها إلا مرة واحدة، تتحول بعده إلى أيد أخرى، عجيب هذا الأمر، لكن سليماً لا يريد الاتّجار بالقضية، بل تزوجها زواج متعة، هل انتهت مدّة العقد وهو لا يدري؟ وصل سليم إلى حمص يسابق )الروزنامة(، لفت انتباهه الزحام، ومظاهر الفرح على باب بيت أخته فتحية، سأل أول الجيران، فأخبره أن زوج فتحية خرج من سجنه، أذهله الخبر، تسمر في مكانه يبحث في نفسه عما ينبغي عليه فعله الآن، أنصت، كل الأجراس تدوي مع اقتراب الساعة الموعودة: دون ،دون، دون، لقد خرج زوج أخته من السجن قبل الموعد المقرر له، أحرق بذلك كل ورقة رابحة، فكّر سليم بالمقامرة بها للاستيلاء على أرض فتحية، لعن فتحية وزوجها، كما لعن أباه والأرض، انتبه الرجل الواقف أمامه إلى دهشته، سأله: أأنت شريكه؟؟ انتفض سليم، اتخذ قراره بسرعة، تجاوز الرجل، اقتحم البيت مهللاً، مهنئاً، استقبلته فتحية بفرحة عارمة، زغردت لقدومه أكثر مما فعلت لقدوم زوجها، توهجت جمرة ضميره، أوقدت في أضلاعه حريقاً امتدت حرارته إلى وجهه ودماغه، راحت عيناه تذرفان الدموع، ظنها من حوله دموع الفرح، لكنه وحده، كان يعلم أنها دموع الخزي والخيبة، دموع الندم على ما سببه لهذه الأسرة السعيدة من خسائر، ظلّ بينهم، يستقبل المهنئين، وفود تأتي وأخرى تذهب إلى ما بعد منتصف الليل، أين يذهب؟ اختفت من خريطة عقله كل الأماكن، أيعود إلى دمشق؟ لا، لا مكان له في تلك المدينة الكبيرة المزدحمة، خسر منال، هرب من سعاد، هاجمته فاطمة كاشفة في وجهه كل نذالاته، ما عاد يقدر على العودة إليها، أيذهب إلى القرية؟ لا، القصر صادره عساف، علياء فسخ خطبته لها، وأغضب أباها، نظمية لا يطيق النظر إلى وجهها، حقده عليها يتنامى طرداً مع ضعفها، هنا، في بيت فتحية، الملجأ والمستقر. بعـد انصراف آخر الضيوف، هيأت فتحية فراشاً لسليم في الغرفة الصغيرة، إلى جانب فراش زوجها، ونامت هي، مع الأولاد في الغرفة الأخرى، زوجان، مضى على فراقهما شهور عدة أمن الإنصاف أن يكون سليم إسفيناً يفصل بينهما؟ بات ليلته مسهّداً، بينما غرق صهره في النوم، وعلا شخيره منذ الدقائق الأولى، الرجل متعب الجسم، نقيّ الضمير، هنيئاً له، لا ذنوب تطرد النوم من عينيه، ما أسعده في فقره! ليت سليماً ظلّ فقيراً هانئاً، لو أنه أطاع فاطمة فيما تقول، لو أطاعها في نصف ما تقول لنام الآن كما ينام صهره، لكن هيهات. عند الفجر غادر فراشه، لبس حذاءه، سحب مزلاج الباب بحذر، المزلاج القديم والمفاصل الصدئة للباب الثقيل صرت بقوة، محدثة جلبة أيقظت النائمين، ركضت فتحية ملهوفة تستفسر، تمسكت بذيول ثيابه تمنعه من الخروج، اعتذر بلباقة، قال: إنه يحب رياضة المشي عند الفجر، استحلفته أن يعود ،  وعدها، طلب منها عدم انتظاره، لكنه سيعود، هذا هو المكان الوحيد الذي يستطيع دخوله آمناً، وينام، حيث لا عساف يطرده، ولا جاحظ العينين يطارده، ولا وداد تتربص به. تسكع في شوارع حمص وحدائقها، يغالب البرد والجوع، يهرب من الريح إلى زوايا الحارات ومداخل الأبنية، يتوقف على مواقف الباصات بين الزحام، زار مسجد خالد بن الوليد، تأمل الداخلين والخارجين، الخشوع يسيطر على الجميع، شعر بالحسد تجاههم، لا بد أن لهم ذنوباً جاؤوا يستغفرون لها الله قرب ضريح هذا الصحابي الجليل، واثقين أن أدرانها ستغسل عن أرواحهم ليخرجوا من هنا إلى الحياة أطهاراً أنقياء، أما ذنوبه، فلن يستطيع ألف ضريح أن يزيلها، أذنب بحق نفسه فرمى بها على قارعة التشرد والجوع، وبحق أولاده، حرمهم وجود الأب كما سلبهم ثقة المحيطين بهم. خلع حذاءه ودخل المسجد، تفحص المكان بنظرة سائح متفرج، تقدم من أحد الأعمدة، تلمّس الحجر الصقيل متعجباً من إتقان صنعه، لفتت انتباهه عبارات مكتوبة بأقلام مختلفة، قرب وجهه منها وبدأ القراءة: يا رب، ارزق أخي ثمن دراجة، يا رب اشف لنا أمي، يا رب ألهم أبي وعمي الصلح، يا رب اكتب لي نصيباً بالزواج من سمير. هنيئاً لمن كتب هذه العبارات، هنالك شيء يؤمنون بقداسته، ولو أنه عمود أملس قرب جدث مغطى، يؤمّونه، يطرحون بين يديه صلواتهم وأدعيتهم موقنين بالإجابة، وسليم، خلع من نفسه كل إيمان، زرع فيها فكرة شيطانية واحدة، جعلته يحتقر كل الناس، والأشياء ويؤمن بشطارته في اصطياد المال، أين ما جنيت من أموال يا سليم؟ ماذا فعل بها عساف؟ لا تدري ولن تدري، اقتناك عساف حين كنت  كلب صيد لا يبارى، سقطت أنيابك، ترهلت عضلات فكرك، طردت من وظيفتك، ما عدت تصلح للصيد، عساف لا يقتني في مملكته كلاباً لا تصلح للصيد، ولا للحراسة. بعد انقضاء صلاة المغرب بقي في المسجد شيوخ عجائز، يتسندون إلى الجدران والأعمدة يقرؤون الأوراد والأدعية، يسبحون، يستغفرون، متمتعين بالتدفئة المجانية، هاربين من بيوت تضجّ بصخب الأحفاد والكنائن، أو تعوي فيها الوحدة والصمت، ينتظرون صلاة العشاء، تأخذهم سنة من النوم فتنوس رؤوسهم فوق الصدور حتى يوقظهم صوت المؤذن. جلس سليم مثلهم، استند إلى عموده، التفت، هنالك عبارة كتبت حديثاً بقلم أحمر، بخطّ ركيك لا يكاد يقرأ، يبدو أن كاتبها طفل لم يتقن الكتابة بعد، أو فتاة أخرجت عنوة من مدرستها، تهجّاها سليم حرفاً حرفاً: )يا ربّ، أرجع إلينا أبي، كلنا نحبه( قرأها وأعاد قراءتها، انهمرت الدموع غزيرة من عينيه، كم من المرات كتب أولاده عبارات مشابهة، وفي أي مكان؟ وهو يعيش غافلاً عنهم، حاملاً شعلة غبائه، باحثاً في كل مكان عن محبة عساف، كنز المحبة موجود هناك في قلوب فاطمة وأولادها، وهو، يبحث عنه كالباحث عن سمكة في عمق الصحراء، هل يحب عساف أحدا؟ هل يعرف عساف ما الحب؟ ألم يقل )ود الريس(: النسوان والبنون أثمن ما في الحياة الدنيا؟ صدق )ود الريس(، لا شك أنه يقصد بكلامه الزوجات المخلصات، أمثال فاطمة وسعاد، أما باقي النسوان؟؟... علا صوت المؤذن يدعو لصلاة العشاء، قام بعض الحضور ليجدد وضوءه، شعر سليم بحاجة ماسّة للصلاة، مشى في تيارهم إلى المغاسل، توضّأ على مهل ورجع، وقف في آخر الصفوف يجاري المصلين في صلاتهم، لكنه ما استطاع، انسلخ بفكره وروحه عنهم، وغرق في خشوع عميق دفعه دفعاً للبكاء، صار  كأرملة ثكلى، كل شيء يبكيه، انتهت الصلاة، غادر الرجال المسجد، ما زال سليم غارقاً في ذهوله، أطفأ الإمام بعض الأضواء واتجه إلى سليم، ظنه ابن سبيل منقطعاً به، عرض عليه النوم حتى الصباح في غرفة الحارس، سرعان ما لبى، سأله إن كان يرغب بشيء من الزاد، صمت، غاب الرجل قليلاً ثم عاد برغيف مع طبق صغير، تناوله سليم شاكراً، أغلق عليه باب الغرفة الصغيرة وانصرف. أكل سليم ما قدم له، أسكت صراخ معدته الخاوية منذ مساء الأمس، ونام نوماً عميقاً كالموت، خالياً من الأحلام والكوابيس، لا يذكر أنه تقلب ذات اليمين أو ذات الشمال، ظلّ غارقاً في سباته حتى أيقظه صوت المؤذن ينادي لصلاة الفجر، تململ في فراشه، أحسّ بثقل جسده كما لم يحسّ به من قبل، خيل إليه أنه لن يستطيع تحريك ساق أو ذراع، تمنى لو طال به النوم إلى... إلى متى؟ لا يدري، لو أنه لا يستيقظ أبداً، كفاه يقظة، كفاه حياة، ما عاد سليم ينفع لشيء أبداً، ولا ينفعه شيء، اتخذ مكانه بين المصلين، ركع، سجد، ثم شرد، ظلّ  في مجلسه حتى قضيت الصلاة، عاد إلى عمود الأمس، عشرات المرات أعاد قراءة تلك العبارة التي تنضح ألماً ورجاء )يا رب أرجع إلينا أبي، كلنا نحبه( تساءل: أما زالوا يحبونه؟ ثم غرق في الذهول، توالت وفود الزائرين للمسجد، يصلون، يدعون، يضعون الصدقات في الأماكن المخصصة لها ويغادرون، شعر سليم بلسعة البرد، خرج من المسجد إلى الباحة، جلس القرفصاء في إحدى الزوايا يتدفأ بضياء الشمس، راح يميل معها كلما مالت، متنقلاً من زاوية إلى أخرى حتى المغيب، انتظم بين المصلين، ثم عاد إلى عموده، انتبه إليه الشيخ، عرض عليه النوم في غرفة الحارس  كالأمس، لكن الثياب الأنيقة التي يرتديها سليم، وكلها غالية الثمن، لفتت انتباهه، تأملها ملياً، من القميص وربطة العنق إلى الحذاء. -        أيها السيد من أنت؟ أما زلت تائهاً ضائعا؟ -        تائه؟ نعم، أنا تائه، ضللت طريقي، فضعت وضيعت، فاجأته لهجة الشيخ، ردّ عليه كأنما يخاطب نفسه، مكرر اً: ضعت وضيعت. -        هل ستمكث هنا طويلا؟ أنا لا أمانع في مكوثك مكان الحارس إلى حين عودته من بلده، هل تود ذلك؟؟ أشار سليم برأسه علامة للموافقة. -        إذن، أعطني بطاقتك الشخصية لأسجل بياناتها عندي، لأعرف ما أرد به على رجال الأمن لو سألوني. -        هويتي ضيعتها فيما ضيعت، ليس لي هوية. -        حسناً، أعطني إذن اسمك وعنوان بيتك. بسرعة البرق، أعطاه سليم الاسم الكامل لأبي معاذ وعنوان بيته وعمله، انصرف الشيخ وبقي سليم ملتصقاً بعموده، رجال الأمن، يا للداهية، في كل مكان رجال الأمن، ماذا يريدون منه؟ هل يأخذونه من هنا إلى السجن؟ ما الضير في ذلك؟ ليأخذوه، فلا أحد ينتظره، ولا أحد يريد وداعه، لا أحد يحبه ،لكن، لم السجن؟ العيش في الخارج يتيح له أملاً بإيجاد عمل ما يستعيد به إنسانيته المهدورة، الشيخ بدا راضياً عما تلقاه من معلومات، سيعطيها لرجال الأمن، يدرسون على ضوئها واقع أبي معاذ وملابسات حياته، سيكتشفون أنه في بيته، وعلى رأس عمله، ستأخذ هذه الإجراءات منهم أياماً، قد يتمكن خلالها سليم من إيجاد مخرج لأزمته. بين شوارع حمص وأزقتها، بين صحن المسجد وباحته، أمضى سليم أياماً لا يعرف لها عدداً، عاد يوماً من جولته، لمح في عيني الشيخ تساؤلاً وفضولاً، أدرك أنه كشف كذبته بطريقة ما، اندسّ بين المصلين، وخرج قبل انتهاء الصلاة هرباً من المواجهة، إلى أين يذهب وقد اتسخت ثيابه، وضمر من قلة الغذاء جسده؟ إلى دمشق؟ هنالك تنتظره فاطمة وسعاد ووداد وأم سعد، بالإضافة إلى جاحظ العينين ،إلى القرية وليس له فيها مأوى؟. استقبلته فتحية بلهفة، دقت على صدرها نادبة مستنكرة ما ترى، دخل بيتها ذليلاً لاوي العنق  كالشحاذين، سألته وألحفت بالسؤال، بماذا يجيب؟ لا مبرر لديه يقدمه لامرأة بسيطة مشحونة بالصدق،سليم تعود على المراوغة والهرب، حسناً، لا بأس من كشف نصف الحقيقة أمامها، والاحتفاظ بالباقي لنفسه. -        طردوني من وظيفتي يا أختي، مديري أساء استعمال منصبه، فحملوني جريرة أعماله، بيتي في دمشق سلب مني، أنا الآن هارب، مطارد أبحث عن مأوى. -        قلب أختك، روحها، بيتها، كلها مساكن آمنة، تسكن فيها حيث تشاء، ابق معنا هنا، إذا أزعجتك ضجة الأولاد، تركنا لك البيت ورحلنا إلى القرية، المهم أن تجد الأمان والراحة، ويل لأختك ،أي وجه ذابل تحمل؟ وأي جسد نحيل؟ هل يصدق أحد أن تذوب عافية رجل بمثل هذه السرعة؟ بكت فتحية رثاء لحاله، قدمت له بعضاً من ثياب زوجها، بعد هذه الحمية الجبرية عن الطعام، ما عاد صغر قياسها يضايقه، لبسها واندغم مع أولاد أخته، يأكل مما يأكلون، ينام حين ينامون، يقص عليهم الحكايات، حكايات من طفولته، وأخرى من مغامراته وبنات أفكاره، أحبه الأولاد كما أحبهم ، استمرأ القعود بينهم، يراقب عن كثب كل تفاصيل الحياة في ذلك البيت المتواضع، متصنعاُ التخفي عن عيون من يطاردونه، تمعن أخته في تكريمه بينما يبدو النفور واضحاً على كل حركات زوجها، وكلماته التي تحولت إلى مسامير، يثقب بها جلد ضيفه في كل سانحة. افتقد عساف سليماً، غاب مرة واحدة عن القرية وعن العاصمة، انقطعت أخباره، خاف عساف، ساورته الظنون ،جعبته دائماً غنية بما يخدم مصالحه، وتحطم كل عقبة تعترض دروبه، الخوف أنجع أسلحته، يملأ فؤاد خصمه بالخوف، فيسقط قبل أن يجرب ما لديه من وسائل المقاومة. بينما كانت سعاد تفتح عيادتها ذات صباح، حزينة مقهورة، اقتحم فضاءها شعلان، بمثل ما فعل في المرة الماضية، بوجهه الوحشي وفظاظته المقيتة، وقف خلفها صامتاً، أدارت المفتاح في قفل الباب، دخلت بأولى خطواتها، تبعها، أجفلت، سارعت بفتح النوافذ وإنارة الأضواء رغم البرد الشديد، جلس قبالتها يتأملها بوقاحة، منتظراً أن تفرغ من عملها ليتحدث إليها، كبتت خوفها والتفتت إليه: -        هيه .. هل مات لسليم أب آخر، وجئت لتأخذ مني مصاريف جنازته؟ -        لا .. لم يمت أحد، فاجأته فتراجع، سقطت جميع أسلحته دفعة واحدة. -        ماذا إذن؟ ألن تعطيني هويتك كالمرة السابقة؟ -        لا داعي لذلك، أريد التحدث بموضوع هام. -        أنت ترى، نحن في عيادة، لسنا في مكان يصلح للكلام )الهامّ ( قالتها مشددة هازئة. تشاغلت بتصفح بعض الأوراق، رفعت إليه نظرها، أشار غامز اً: حددي المكان المناسب وأنا رهن إشارتك، تذكرت ما دار من حديث بين وداد وسليم، ربما تكون محاولة الاستيلاء عليها قد بدأت الآن، تمنت لو يدخل أحد المرضى فينقذها مما تفكر فيه. -        ليس بيني وبينك أي نوع من الكلام، لا أريد التحدث إليك. -        سأحكي لك عن سليم، هل تعرفين مستقره؟ -        أحاديثك لا تعنيني، ليستقر سليم حيث يحلو له، هذا شأنه. -        بل شأنك، ألست زوجته؟ إنه زوجك أيتها الدكتورة... -        لا تقل أي شيء، صرخت في وجهه، شؤوني أبحثها مع زوجي، بطريقتي ،لست بحاجة لمعلوماتك، هيا انصرف قبل أن أستدعي رجال الأمن ليخرجوك بأساليبهم التي تعرفها. -        رجال الأمن؟ هذه المرأة خطيرة إذن؟ مخيفة، لن ينجح معها، لكنها لم تقل شيئاً عن سليم، يجب أن يعرف منها أخباره غصباً عنها. -        عفواً .. لم أقصد .. -        لا أريد معرفة قصدك، هيا انصرف. أشارت بيدها إلى الباب، بينما راحت أصابع اليد الأخرى تتراكض بسرعة فوق أزرار الهاتف ،جاءها ردّ من الطرف الآخر، فهتفت مستنجدة: ألو .. الأمر جدّ إذن؟ ليس مزاحاً أو محاولة لإخافته، خرج بسرعة ولم يلتفت، احتار في أمره، أين يبحث عن سليم؟ منال تزوجت رجلاً آخر، منزل فاطمة قلعة حصينة لا يجرؤ على الطواف بأسوارها. أكملت سعاد محادثتها مع أبي معاذ، شرحت له مخاوفها، وصفت له زائرها بدقة، أهذا عساف؟ طمأنها أبو معاذ بأن عسافاً لا يعمل شيئاً بيديه، هذا معاونه شعلان، الأمر خطير لابد أنهم يريدون نقل صورة لها عن سليم، لتنضم إلى صفهم في حربه. ضاق سليم ذرعاً بمنزل أخته فتحية، آلمته الوخزات الخفية والمعلنة في كلام صهره، استشف منها أن الرجل عالم بمكائده، وأن لا فضل له في إخراجه من سجنه، لا بد من الرحيل قبل أن يطف الكيل ،فيخبر فتحية عن حقيقة أخيها الذي فتحت له بيتها. دخل العيادة ،استقبلته سعاد بفتور، جلست قبالته صامتة، تنتظر أن يبدأ بالكلام، أن ينتحل عذراً واحداً يبرر انصرافه عنها، عشرات الأشباح نبتت بينها وبينه، تدور حوله، تصرخ في وجهه: أنت لا تستحق سعاد، أنت نذل، وهي امرأة طاهرة نقية، اتركها، ابتعد عنها. شعرت سعاد بالغضب، جاهدت نفسها على الصبر، تحول غضبها إلى غثيان، أهذا هو الرجل الذي يسترها؟ إنه لا يرقى في سلم الرجولة عن مستوى طفل يتيم، بل لقيط يبحث عمن يستره ويؤويه، الاحترام حين يوجه لمثل هذا الصنف يزيده ضعفاً، القسوة، والطعن في الوجه أكثر فائدة. -        اسمع، أدركت الآن سبب فشلي معك. -        ما هو؟ قالها بلهفة، قولي بسرعة أرجوك، أنا فاشل في كل علاقاتي، ولا أعرف لذلك سبباً. -        لأني حاولت أن أجعلك رجلاً، لكن عجينتك فقدت مرونتها، تيبست على النذالة، لا فائدة في إصلاحك، ولا أمل. -        حاولي مرة أخرى، أتوسل إليك، فقدت كل الناس، ما بقي لي سواك. -        خسرت كل الناس لأنك لا تحب أحداً، لا تحاول إيهام نفسك بتقديس الحب، كل ما يعتريك ليس إلا حاجة ملحة إلى شخص قوي، يقودك، تتذمر من سيطرته وتتبعه، تلقي عليه بأسباب فشلك وتتبعه، تفرح بنجاحاتك وحدك، مجرداً إياه من كل فضل، لن أكون ذلك الشخص يا سليم، لا حاجة بي إلى تابع يمسك ذيل ثوبي كاليتيم، أخجل به في كل المواقف. -        سعاد، لا تتركيني، لو تخليت عني سأجنّ، أعرف أن الجنون مصيري، لا تستعجليه يا سعاد، ضميرك المرهف لن يستطيع احتمال هذا الوزر، لن يستطيع. -        لست أنا من يحمل وزرك، بل أمك، هي المسؤولة عن ضعفك وهوانك على نفسك، مسؤولة عن إحساسك بالتفاهة والعجز، أتعرف لماذا؟ -        لا أعرف، كل ما أعرفه أن أمي كانت قديسة. -        أمك ربتك لتكون طفلها الذي لا يكبر أبداً، يظل ملتصقاً بها، محتاجاً لخدماتها، لا أحد يعاند الطبيعة، كبر جسدك رغماً عنك، وعنها، حولتك إلى دبّ، مثل تلك الدببة التي تتصدر متاجر ألعاب الأطفال، دب بحجم الرجل، تلعب به، تدللهُ، ثم تجلسه على الرف حين تملّ اللعب، تنصرف لشؤونها، واثقة أنه سيبقى في مكانه حتى تشتاقه من جديد، هكذا، دمية مفرغة من كل إحساس وشعور، سوى الشعور بحبها وحدها، يكفيها حبها ذخراً لعمرها كله، وبقيت أنت مستسلماً لهذه الراحة والدعة حتى ماتت، أين يذهب الدبّ في مكان لا يناسب مناخُه حياةَ الدببة؟ ماتت أمك، استلمتك ابنة خالك فاطمة, فكانت لك أما أخرى، بل حاضنة، استمرت في الطبطبة على كتفيك، أنا لا أصلح لهذا الدور يا سليم، أريدك رجلاً، وأنت عاجز عن أفعال الرجال. أطرق سليم صامتاً، قامت سعاد إلى الحمام مسرعة، ضربت وجهها بكفيها نادمة، عضت على أصابعها بقوة حتى تفرقعت، لقد ضربت على أعمق أوتار نفسه وأكثرها حساسية، ماذا تفعل؟ لابد من استرضائه قبل أن تتاح له فرصة للتفكير بما قالت. عادت إليه، تحدثت بحنان وحب، طالبته بكشف بعض أوراقه أمامها، إذ لا يعقل أن تعيش زوجة له، وهي جاهلة عنه كل شيء، طالبته باصطحابها إلى القرية للتعرف على أهله، رفض بإصرار: أنت زوجة لي أنا، ما شأنك بهم؟ سعاد لم تقتنع بهذا الكلام، تريد التأكد مما قاله أبو معاذ، عن الشلة التي اصطادت زوجها منذ زمن طويل، لا ليأكلوه، لحم الرجال لا يؤكل، دجّنوه وأطلقوه ليصطاد لهم الطرائد والفرائس، يفعلون بأمواله أشياء قد تؤذي سعاد لو كشف أمرها. -        سليم، لن تعود إلى بيتي قبل أن ترافقني إلى قريتك، هذا شرطي الوحيد. -        لا أريد أن تتعرفي إلى أحد منهم، هل تفهمين؟ صرخ غاضباً، عاد فاستدرك بلهجة هادئة: أهل القرية يحسدونني عليك، أنا أغار، أغار، ألا يحق لي أن أغار على زوجتي؟ -        يحق لك؟ بل يجب عليك أن تغار، ولكن، هذه ليست غيرة يا سليم، ألا تذكر كم طالبت بغيرتك؟ -        كم طالبتك بمرافقتي في أسفاري ورحلاتي لحضور المؤتمرات الطبية ورفضت، كنت تقول: أنا رجل ديموقراطي، ثقتي بك لا حدود لها، أهي الثقة؟ لم لا تثق بي وأنا بين أهلك؟ -        فسري، نظري، على هواك، تأويلاتك الظالمة أتعبتني، ولكن، لن تذهبي إلى القرية. شعر أنها توشك أن تضيع من يده، لو ذهبت إليهم لأخبروها أنه لصّ، سافل، إصرار سعاد يوحي بأنها مطلعة على شيء ما، لن يتركها لتتأكد، ستضيع منه، وهو لا يقدر على العيش بعيداً عنها. -        ألا تطالبينني بالغيرة؟ حسناً، أنا أغار، ألم تلاحظي أنك تتجاهلين غيرتي؟ -        أتجاهل غيرتك؟ ممن تغار يا سليم؟ -        من أبي معاذ، صديقك، ألم أقل: إني لا أؤمن بالصداقة بين الرجال والنساء؟ ألم آمرك بطرده من العيادة يوم جاء مبارك اً زواجنا؟ -        لكنه صديقك يا سليم، بل أخلص أصدقائك، لقد أخبرني بذلك. -        وليكن، أنت تتحدثين إليه خفية عني، هذا يغضبني. -        لن أتحدث إليه إذا كان ذلك يرضيك. -        لا أثق بوعودك هذه، لقد وعدت وأخلفت. -        صدقني يا سليم أن كل ما دار بيننا من حديث كنت أنت موضوعه، طلبت من الرجل بعض الإيضاح عن الجوانب التي لم تكشفها لي من حياتك، والتي تكتمها عني بشدة. -        أبو معاذ لا يحق له الإدلاء برأي فيما يخصني، اعترفي أنك تحبينه وينتهي الأمر. -        لو أحببت رجلاً سواك لما استبقيتك، لا سبب يدعوني للكذب، أنا صادقة مع نفسي، على الأقل. -        أريد أن تصدقي معي، أعرف أنك لن تصدقي. شعرت أنه موشك على اتهامها بما يحطم ارتباطهما، وهي ليست مستعجلة على الطلاق الثاني ،قررت تأجيل الانفجار إلى وقت آخر، عساها تتأكد من صدق، أو كذب ما سمعت عنه قبل أن تظلمه بالظنون. -        سليم، لقد زارني شعلان في غيبتك, ألا تغار علي من شعلان؟. -        هل تكلمت معه؟ ماذا قال لك؟ انتفض خائفاً، اسمعي، لو جاءك أي شخص من قريتنا فلا تكلميه، اطرديه، أعطيه أدوية معاكسة لمرضه، دعيه يموت، هل تفهمين؟ أريد أن يموتوا كلهم، الموت لهم جميعاً. تزاحم المرضى في غرفة الانتظار، وجدها سليم فرصة للخروج من هذا الجو المكهرب، طلبت منه سعاد البقاء في غرفة الانتظار ريثما تفرغ من عملها؛ ليكملا الحديث، خرج، ذهب إلى أقرب دكان ،اتصل بالهاتف ليسأل عن أم سعد، أخبروه أنها حصلت على الهوية التي تريد، وأنها سافرت ولن تعود ،شكروه على صنيعه، أعاد سماعة الهاتف إلى مكانها، ورجع إلى العيادة، جلس بين المنتظرين حتى يخلو له الجو لجولة أخرى من المفاوضات مع سعاد، تسربت من بين أصابعه القضية الفلسطينية، رحلت أم سعد غير مكترثة به، ولا بطلاقه، لن يستطيع التأثير عليها بأي شكل، التحقت بالمخيمات لتكون خنساء جديدة، تحمد الله حين يشرفها باستشهادهم، حمقاء هذه المرأة، بل خرقاء، تدفع بأولادها إلى المجابهة؟ لو تعلمت فنون المناورة، اللف والدوران، فن المتاجرة، أما كان خيراً لها ولهم؟ أما كان ذلك أفضل من حياة كلها قتال وخوف ومواجهة؟ عاد إلى سعاد، أرادت الخروج به من مشاحنات الجولة الماضية، حدّثته عن مشاريعها القادمة، عن رغبتها بالعمل في مشفى خاص، إضافة إلى أعمالها، كان سليم في منأى عنها وعن أحاديثها، غارقاً في خيالاته ومخاوفه، قام، تمشى في الغرفة، أزاح الستائر عن النوافذ، فانكشف أمامه السوق مزدحماً يضجّ بالحياة، عاد إلى مكانه. نبهته سعاد إلى حديثها، انتبه ثم عاد للشرود، نبهته ثانية ،نظر إلى عينيها ذاهلاً يا لهاتين العينين!أية  قدرات خارقة تمتلكان؟ إن نظرتهما الطافحة بالحب تأسره، تسيّره، تخضعه فيستسلم لها كما يستسلم الطفل الباكي ليد أمه تربت على ظهره، أهو الجمال؟ لا، حتماً لا، مرت بحياة سليم عشرات الجميلات، كان يمتصّ رحيقهن بشراهة تماثل شراهته في تدخين السكائر المسروقة من محفظة أبيه في تلك المغارة المهجورة، يراقب اشتعالهن، يتلذذ باحتراقهن، ثم يتركهن ويمضي، يتركهن مسحوقات بعذاب الحاجة والهوان، مثلما يترك رماد سكائره على أرض المغارة، يراقب فلول هزيمتهن تتلاشى مثل حلقات الدخان في ظلمة المغارة، أما سعاد، سعاد صنف آخر... -        سليم، ما بك شارداً تائها؟ أين أنت؟ -        أنا .. هنا ... معك. -        لا، لست معي، أراهن أنك لست معي، أين أنت؟ -        هنا .. كرر متلعثماً .. هنا. -        ما أتعسني وأنت هنا، ما أبعد عني هذه الـ (هنا) ! -        أتعلمين ماذا اكتشفت؟ لقد سمى أبي إحدى بناته جوهرة، هذا اسم أمي، اسم مقدس لا ينبغي لامرأة أن تحمله. -        أمك؟ اسمها مقدس؟ وهي؟ ألم تكن مقدسة هي الأخرى؟ أطرق بصمت، يحدق في تلوينات بلاط الأرض، رفع رأسه، ألقى بنظرة زائغة، مرت من فوق كتف سعاد. -        كانت أمي .. امرأة لا كالنساء، أمي ملاك. استشاطت سعاد غضباً، فقدت السيطرة على لسانها، أفلت منه ما كان يجيش به فؤادها المطعون منذ بداية أيامها الأولى مع سليم. -        لو كانت أمك كما تقول لما خلفتك نذلاً، نذلا؟ إن النذالة لتربأ بنفسها أن تكون صفة لك، لولا أنك رضعت الدناءة مع لبن أمك لما طلبت مني قتل أقاربك بالدواء، اللعنة عليك وعلى أمك. النذالة، الدناءة، ما أقساها سعاد، وما أقذع ألفاظها، تلعنه، لا يبالي، لكن، كيف تسمح لنفسها بسبّ الأموات؟ جلس سليم يستمع إليها بصمت الصخور، يتعذب داخل نفسه، ينكمش، يغمره شعور بالهوان، يرتجف ارتجاف لصّ صغير مبتدئ، قبض عليه متلبساً بأول عملية له، حتى إذا ما ابتسمت، نسي كل شيء وعاد إليه مرحه و نشوته. ألا يقولون: إن لكل قرد سلسلة يقاد بها؟ يبدو أن سعاد هي السلسلة التي فصّلت على مقاس سليم، بإشارة من إصبعها يدور حول نفسه مئة وثمانين درجة، لماذا سعاد؟ سؤال ما زال يطرحه على نفسه، ولا يعثر له على إجابة، أمه؟ لا، لم تكن أمه يوماً سوى الشريفة العفيفة، ولا أرضعته إلا ذوب فؤادها المستلب، وروحها المستكينة إلى ظلم أبيه الذي ما أحبها يوماً، ولا شعر بها إلا جسداً خلق لخدمته ومتعته. -        لا تظلمي أمي يا سعاد، أمي رحمها الله كانت قديسة، لقد رضعت ما ترين من ضرع الشقاء والحرمان. -        الشقاء والحرمان يصنعان الأبطال, يصنعان المبدعين -        وقد تصنع المسوخ كما ترين. بعد ذلك التقى سعاد، التقاها مراراً، كان يشعر بهزيمته تزداد ضراوة بعد كل لقاء، فينسحب متوغلاً إلى داخل نفسه، ينهال على روحه لوماً وتقريعاً، ثم يعود، مدفوعاً بذات القوى الخفية، التي عجز عن تفسيرها للبحث عن سعاد والركض خلفها، أهو الحبّ؟ هل يمكن لرجل يشهد على نفسه بالنذالة أن يحب؟ ربما، أتراها أسرته بقوتها المشابهة لقوة خاتون؟ كيف استطاعت هذه المرأة النحيلة، بوجهها الذي يحمل براءة الأطفال الإمساك بكل خيوطه كأنه لعبة في مسرح للعرائس تحركه كما تشاء؟؟ أهي حاجته في نهاية المطاف إلى شخص قوي يقوده ويتحكم بمصيره، ليستسلم له ويسير خلفه مغمض العينين كما قالت سعاد؟ شعر أنه خرج من حياة سعاد، ومن مجال عواطفها إلى الأبد، صحيح أنها لم تطلب الطلاق، لكنها عملياً طلقته، خلعته من روحها، وما أحوجه لروحها! رفضت استقباله في بيتها، أين المفرّ؟ لا مكان، لا بشر، تحولت دنياه إلى صحراء واسعة، تصفر فيها الرياح مثيرة عواصف الرمال، تحجب الرؤية عن عينيه، أخته فتحية ما تزال امرأة ساذجة، فرحة بأخيها الكريم، الذي أخرجها من عسرتها، حق عليها إخراجه من عسرته، فليعد إليها، يستثمر براءتها وبساطتها. استقبلته فتحية بكثير من الحفاوة، تحلق حوله أولادها، أسرتهم حكاياته وسهراته، لا بأس، هنا مكان يدفئه الحب، يشبه كثيراً بيته القديم في دمشق، في بداية حياته مع فاطمة، فرح الجميع بعودته إلا صهره، كان الرجل يعاني ضائقة مالية، ميزانيته لا تحمل استضافة شخص بشكل دائم، استدان من الجيران والأصدقاء ما يشتري به خبز عياله، استغنى عن خدماته من كانوا يشغلونه بعد انكشاف أمره ،قعد عاطلاً يبحث عن مصدر للعيش، اقترحت فتحية العودة إلى القرية واستثمار أرض أبيها، وافقها الجميع، ولكن ... هناك عقبة لا يمكن تخطيها، فتحية لا تملك بيتاً في القرية، أين يسكنون؟ منزل أبيها لا يكاد يتسع لأمها وإخوتها، تهدمت أجزاء منه، ولم تجد من يقوم بترميمها، دقّ سليم على صدره: تسكنون في قصري، وسأسكن معكم، أساعدكم في أعمال الحقول. في تلك المدة، عجزت عيون عساف عن استقصاء أخبار سليم، ركبتهم المخاوف، سليم يحمل في نفسه من الأحقاد ما لو باح به لهدم الدنيا على رأس عساف ورجاله، قد يدفعه يأسه للقيام بأعمال خارجة عن مجال توقعات عساف، لا بد من أخذ الاحتياطات. أرسل عساف بأحد أزلامه إلى حقل زهران، يحمل منجلاً صارماً، عمل في الأشجار قطعاً وجندلة، استفاقت القرية في الصباح على ذلك الخبر، جنّ زهران من القهر، من يتهم؟ ليس له في القرية أعداء، على من يلقي اللوم؟ استدعى رجال الشرطة، جمعوا عدداً من شباب القرية، احتجزوهم رهن التحقيق، اشتعلت ثورة في كل البيوت والنفوس، صار الشجر المقطوع حديث كل بئر في القرية، وكل ساحة وتنور، في فجر اليوم التالي، أرسل المنجل إلى حقل رجل آخر، يعيش وحيداً مع زوجته، وقد حرما من الذرية، قطع المنجل ما قطع، استفاقت القرية على خبر جديد، انتقم زهران لأشجاره المقطوعة من العم ناجي، هل يعقل هذا؟ استصرخ ناجي أبناء إخوته، ضربوا زهران بالعصي والنعال، ردّ عليهم أقارب زهران، راحت تفاحة تنقل خبراً من هنا لتذيعه هناك، بينما تطوع ضرار، بكل ثقله للفصل بين المتخاصمين، في حين خلا الجو لعساف وشعلان، هدما المصاطب في قصر سليم، نقلا محتوياتها إلى مكان آخر، والتحقا بضرار، بالمعلم ضرار!! للإصلاح بين المتنازعين، وتوزيع القبلات على اللحى والشوارب بعد دفع مبالغ  من مال ضرار، لتعويض الخاسرين وللإفراج عن المحتجزين. وصل سليم مع فتحية وأثاث بيتها الى قصره، تلفت حوله، آلمه منظر الخراب المحيط به، بينما سارعت فتحية تسابق الموسم، أعدت أرض الحديقة للزرع، ثم قامت بحملة لتنظيف غرف القصر، عثرت على كيس كبير مليء بالبصل، أصابته الرطوبة فأنتشت وريقاته في كيسها، لم تتلكأ، بل زرعت البصيلات في الأرض التي أعدتها، ريثما يلتحق بها زوجها، جالباً معه من المدينة بذور التبغ والقطن والخضار. بكل سهولة ويسر، توالت الأيام على فتحية وأسرتها، أخذ زوجها تعويضاً عن أتعابه من شركائه مبلغاً يكفي لشراء بقرة  وبغل، استخدمهما في حراثة الأرض، كانت البقرة تجود ببعض اللبن، تتناوله الأسرة على العشاء مع الخبز وورق البصل، تقطفه فتحية من الحديقة، بينما كان أهل القرية يتندرون بغباء فتحية، التي اقتلعت المصاطب الأنيقة من باحة القصر، لتزرع في مكانها البصل. ظل زوج فتحية يتردد بين حين وآخر إلى أصدقائه حتى عثر لديهم على عمل يكفيه وأسرته مؤونة يومه ريثما تطرح الأرض موسمها، سيارة نقل صغيرة، اشتغل بها بين القرية والمدينة، يخرج مع الفجر ،ويعود مع الغروب. توحد سليم مع الأرض، يعمل ويعمل بصمت، يأتمر بأوامر فتحية، يخرج كل يوم قبل صهره ويعود بعده، يرهق جسده بالجهد حتى يهده التعب، يستلقي على التراب المحروث يتعفّر بغبار الأرض ليطهر روحه من الدنس العالق بها، نائياً عن عساف والسيادة التي خلعها عليه ذات يوم. صار يفتح عينيه، يتأمل زرقة السماء، يراقب الطيور المهاجرة في رحلتها السنوية بين الشتاء والصيف، ما عاد يحلم بطائر الرخ يحمله إلى وادي اللقى، بل يقوم من مقيله ليواصل العمل، يتأمل الأرض من حوله وقد أمرعت، تحولت إلى بساط متماسك أخضر، يعترف في قرارة نفسه بحكمة أبيه، في منح أرض الريحانة لفتحية دون سائر إخوتها وأخواتها، فتحية هي حقاً أجدر الجميع بامتلاكها والحفاظ عليها بمثل ما يحب أبوها، يتقدم من شجيرات الزيتون يعانقها واحدة واحدة، بلهفة مشتاق ووجد عاشق، واعداً إياها بالحرص على أن يعود نقياً طاهراً كالزيت المختزن في حباتها اليانعة، اشتغل في الأرض واشتغل حتى تهرأت ثيابه، عالجتها فتحية برقعة هنا، وخيط من لون مخالف هناك، هزل جسده حتى صار باستطاعته أن يلبس من ثياب صهره ما يريد. كان زهران، يعمل عملاً حثيثاً، منذ أن تخلى سليم عن ابنته، ليقطع ماء الساقية عن القصر، جمع حوله عدداً من الفلاحين المتضررين، داروا على المؤسسات والمديريات، استصدروا قراراً رسمياً بتحويل ماء الساقية إلى حقولهم، نظر سليم إلى ما يجري متألماً، وأشاح، عاد إلى الأرض، يضرب الفأس في إهابها محاولاً الوصول إلى قلبها الدافئ حتى شارف على الإغماء، رمى الفأس من يده، وعاد أدراجه إلى القصر، قبل الموعد المعتاد بكثير. دخل إحدى الغرف المهملة، كان مصباحها معطلاً، استلقى على حشية خشنة هناك، وغرق في نوم عميق، بعد نهار أمضاه في العمل الشاق المرهق. استيقظ، كانت فتحية وأمها تجلسان على حصير تحت نافذته، تنظمان أوراق التبغ في خيوطها ،تتبادلان حديثاً هامساً، لكن نساء القرى لا تتقن التحدث بصوت خافت، ظلّ سليم على فراشه يستمع إليهما، كان الحديث يدور حوله. -        لا تأمني جانبه يا ابنتي، مهما أظهر لك من حسن النوايا. -        هو مسكين يا أمي، لا تظلميه، حرام، ألا ترين كم يعمل بإخلاص؟ -        هو طينة خبيثة، تعاملي معه بحذر. تنهدت فتحية، حكت لأمها بألم عن ثياب زوجها التي أرسلتها معه إلى السجن، وأنها شاهدتها موزعة على أجساد رجال عساف، بينما رميت الحقيبة بإهمال في إحدى غرف القصر، طمأنت أمها أنها حذرة منه، لكنه الآن ضعيف يستحق الشفقة والحسنة. -        لا تخافي إلا من الضعيف، ألا يقولون في الأمثال: إذا رأيت أعمى فاكسر عصاه، لست أكرم من ربه الذي عماه؟ سليم يستحق ما وصل إليه، هو ثعلب، لا يؤمن جانبه مهما أبدى من النعومة. قام سليم من مكانه، حمل حذاءه بيده، متجنباً إثارة انتباههما إليه، إنهما تقولان الحق، كل الحق، لقد طال غدره كلَّ من التقاه عرضاً في طريق. تسلل حافياً، خرج من الباب الخلفي، لبس حذاءه ومشى في طريق منفاه، مودعاً القرية وما فيها بنظرة تفيض بالمرارة، أكله عساف ورجاله مثلما أكلت الديدان جيفة نمرود، تركوا عظامه لتتبعثر في كل الدروب. الناس لا ينسون الإساءة، لا يسامحون، شعر أن لا مكان له بين أفراد هذه الأسرة المتحابة، ولا في ساحة القرية حيث يخيم ظلّ عساف، سرى يقطع الفيافي والدروب متوجهاً إلى المدينة، ليعود منها إلى دمشق، إلى فاطمة، فاطمة كالأرض المباركة، لا بد أن تسامح، ألم تشترط عليه نظافة اليد مقابل السماح؟ ها هو ذا يعود إليها بعدما أذاب جسده الذي نبت من المال الحرام، وتطهّر بتراب الأرض، فهل تلتزم بما وعدت؟؟؟ وصل مع الفجر إلى مدينة حماة، راح يتسكع في شوارعها هائماً، باحثاً بعيني عاشق عن بقايا الذكريات، تجول بين أبنية المساكن، شعر بحنين قاتل إلى أيام من طفولته عاشها هناك، هي أكثر أيام حياته حرارة وألقاً، أكثرها نقاء وبراءة، وقف أمام البناء الثاني من جهة الشرق، يتأمل المدخل، حيث  كان يعبر مع فاطمة راكضين، دخولاً وخروجاً، يتسابقان في صعود السلالم وهبوطها، دنا قليلاً، راحت يده تتلمس الجدار الخشن، كما تتلمس يد الأم جبين طفلها المريض، اجتاحته حرارة غريبة، لذيذة، سأله أحد العابرين: هل تبحث عن أحد يا عم؟ نظر سليم إلى وجه محدثه، رجل في مثل عمره، أو ينقص بضع سنوات، كم هزلت يا سليم، ليخاطبك من هو في مثل سنك: يا عمّ، برغم ذلك تمنى لو أن هذا الرجل يسكن في الشقة التي كان يقطنها خاله، ولو أنه يتظاهر أمامه بالإعياء عساه يستضيفه في بيته فيتنفس عبق الماضي، لكنه غريب لا يعرفه أحد، لو تظاهر بالمرض لأخذه الرجل إلى المستشفى الوطني الذي لا يبعد سوى خطوات عن موقفه ذاك. لم يجب، ترك محدثه ومشى غرباً، كسر طريقه وسار باتجاه الشمال، الصرح في شارع العلمين أقصر بكثير مما كان يتخيله في الطفولة، حيث كان يحلم بارتقائه والجلوس عليه ها هو ذا قد تربع على صرح السيادة في القرية، صرح أقامه له عساف، صنع له السلم الموصل إلى ذروته، وحين هوى، أخفى عساف السلالم، وظلّ سليم يدور حائراً مثلما كان يدور في طفولته حول هذا الصرح، لا يعرف من أين يتسلقه، اكتشف في وقت متأخر أن الصروح لا تصلح للإقامة. تابع السير ذاهلاً  حتى وصل إلى ساحة العاصي، النواعير أخشاب يابسة، صامتة، يبدو أنها اكتشفت مثله، بعد فوات الأوان، أن الأنين لا يرد مجداً، ولا يشفي علة، فصمتت، الآلات الحديثة والسدود، حولتها إلى شبه متحف، ينظر إليها الزائرون؛ ليشهدوا على عظمة التاريخ. هناك، في قاع النهر الجاف، ثمة بركة صغيرة بحجم حفنة اليد، تحوي بعض الماء، لا يدير ناعورة، ولا يسقي زرعاً، نزل عصفور دوري عن إحدى الأشجار، شرب من البركة عدة جرعات، يرفع رأسه بين الجرعة والأخرى؛ ليحمد الله كما تفعل فاطمة، استحم، نفض جناحيه وعاد إلى غصنه يغرد فرحاً بالحياة. تنبـه سليم، لا بـد أن يعثر على بركـة نظيفة، تعيـد الروح إلى شرايينـه التي يبستها الآلام، ما زال الأمل موجوداً، أين أنت يا فاطمة؟؟؟؟ تمت

[2] جملة مغلوطة من رواية موسم الهجرة إلى الشمال.

[4] المشحرة: مجموعة من الحطب....

02

وسوم: العدد 737