الطّائفيّة وأوراقها
صلاح حميدة
تستمر ثورة الشّعب السّوري ضدّ الظّلم والقتل والفساد منذ شهور، وبالرّغم من كافّة المؤامرات على تلك الثّورة، إلا انها تزداد اشتعالاً في كل يوم و في كل جمعة، تنتشر في كل مدينة وحي وشارع ونقابة، ولكن كلّما زاد وهج تلك الثّورة زاد إجرام النّظام الحاكم في دمشق، بغطاء عربي وإقليمي ودولي، وتكتفي الأطراف المتآمرة ببعض التّصريحات الاعلاميّة أو زيارات لسفراء بهدف تشويه تلك الثّورة في عيون المتردّدين من السّوريين والمؤيّدين من العرب والمسلمين.
لم يترك النّظام السّوري من وسيلة إجراميّة إلا واستخدمها ضد شعبه، وأثبت الولدان أنّهما أكثر إجراماّ من والدهما وأخيه، ولكن كل هذا الاجرام ووجه بصلابة شعبية غير معهودة، أذهلت الولدين وشبّيحتهما، ولذلك تفتّق ذهن هؤلاء عن طريقة جديدة قديمة لتبرير استباحة الثّورة الشّعبية في سوريا، ألا وهي الورقة الطّائفيّة، فقد ادّعى النّظام أنّ السّلفيين هم من يشعل الثّورة في درعا وغيرها، وأنّ هؤلاء بفكرهم وممارساتهم، يحملون أفكاراً طائفية تبيح قتل واستئصال الأقليّات العلوية والدّرزيّة والعلوية وغيرها، ولكن خروج رموز فاعلية من تلك الطّوائف ينفون هذا الكلام جملة وتفصيلاً، وإعلانهم الانحياز للثّورة الشّعبيّة دحض تلك الأراجيف، بل أثبتت الوقائع على الأرض أنّ السّلفيين تمّ السّماح لهم بالعمل في سوريا بتأييد من النّظام في فترة التّقارب السّوري السّعودي، لتعبئة الفراغ الّذي نشأ عن استئصال فكر وتنظيم الإخوان المسلمين في سوريا، بل لم يكن سرّاً أنّ النّظام السّوري استخدم الشّق الجهادي منهم في تنفيذ سياساته في العراق ولبنان، ولذلك حرقت ورقة الطّائفيّة من اليوم الأول، وبدأ الحديث عن المندسّين والمهرّبين وعصابات شركة بلاك ووتر وغيرها من المتناقضات التي لا تزيد السّامع إلا استخفافاً بمن يردّدها، فضلاً عن عجز تلك الأبواق عن الإتيان بدليل ذي مصداقيّة يؤيّد ادعاءاتهم.
الخطير في استخدام ورقة الطّائفيّة، أنّ أدوات النّظام بدأت بتنفيذها على أرض الواقع، فبعض الشّعارات التي ترفع في مسيرات تأييد النّظام طائفيّة بامتياز، و يتخلّلها بعض الهتافات و الشّعارات الطّائفيّة التي كتب بعضها على المساجد والجدران، وممّا يدلّل على المنحى الطّائفي الّذي تسير فيه ممارسات النّظام ومناصريه، هو الدّعم المفتوح الّذي يلاقونه من إيران، بل تجنّدت حكومة المالكي الطّائفيّة في العراق لدعم النّظام " بكمّيات كبيرة جداً من النّفط حتّى يصمد" كما قالت، ويضع حزب الله وشيعة لبنان كل ثقلهم الإعلامي والسّياسي إلى جانب النّظام السّوري في قتله لشعبه، وفي نفس الوقت ينقلبون بشكل مناقض تماماً لتأييد ثورة البحرينيين ضد نظام الحكم الفاسد هناك، وبهذا يكونون مع المستبد الفاسد ضد شعبه إذا كان شيعياً، وينقلبون ضدّ الحاكم المستبد إذا كان ينسب إلى أهل السّنة؟!.
هذا الدّعم الطّائفي والتّواطؤ الدّولي والإقليمي زاد شهيّة النّظام في دمشق لاستباحة دماء وأرواح وأموال السّوريين في حمص تحت لافتة طائفيّة، فقتل العشرات وقصف البيوت، ونهب المحال التّجاريّة وأحرقها، يقتل النّاس ويمثّل بجثثهم، ويتّهمهم بالطّائفيّة؟!.
من الواضح أنّ دعم النّظام السّوري من قبل حزب الله -ومن معه- لا يقوم على أساس أنّه ممانع، فالأصل أن يكون الدّعم للشّعب الثّائر الضّامن الحقيقي لمقاومة إسرائيل وممانعة أمريكا، ولكن لأنّ هذا النّظام جزء من مشروع، وهذا المشروع يرتكز على وجود أقلّيّة طائفيّة تحكم في سوريا، فالمطلوب أن يستمر حكم الأقلّيّة، لأنّ الرّكون للخيار الشّعبي سيجعل تلك الأقلّية تأخذ حجمها الطّبيعي في المعادلة السّياسيّة، وبالتّالي لن يتمّ تنفيذ المشروع الطّائفي كما هو مطلوب، فإن كان النّظام مقاوم، فالشّعب السّوري هو أصل المقاومة والجهاد، وإن كان النّظام دعم من قاتل الدّولة العبرية، فسيدعمها الشّعب السّوري بأكثر من النّظام، لأنّ النّظام دعمها بمال وقوت الشّعب وليس من مال أبيه، والّذي احتضن المشردين من لبنان في حرب تمّوز 2006م كان أهالي حوران الّذين تستباح أرواحهم ودماؤهم وأموالهم الآن من قبل النّظام، ولعل حزب الله لم ينتبه إلى خارطة الحراك الشّعبي في سوريا، فهي تشكّل سوار لبنان وعمقه الإستراتيجي، واللبيب بقراءة الخارطة يفهم.
هذا الانحراف الكبير في موقف حزب الله تحديداً ضرب صورته في عقول وقلوب الجماهير العربيّة والإسلاميّة، وإن كان حزب الله انتصر في معاركه السّابقة، ويراهن على الخروج قويّاً من معركة المحكمة الدّوليّة، وأي معركة قادمة مع الاحتلال، فمن المؤكّد أنّه أصيب في مقتل في أهمّ معركة له، وهي معركة قلوب وعقول العرب والمسلمين، فغالبيّة العرب والمسلمين وقفت - وستقف- بجانب الحزب في معركته ضد إسرائيل والغرب الاستعماري، ولكن صورة الحزب تلوّثت، وأصابها العطب، ولم تعد تلك الصّورة التي كانت تضعه في المقدّمة.
على صعيد آخر، فقد ضرب مشروع التّشيّع المذهبي والتّشيّع السّياسي في الصّميم، فموقف إيران وحزب الله من ثورة الشّعب السّوري، جعل الكثير من المتعاطفين معهما يراجعون مواقفهم وقناعاتهم، فقد تبيّن أنّ مصالح هؤلاء ممكن أن تتّفق مع جزّار قاتل لشعبه، وأنّهم يفتقدون لأيّ مبدئيّة في التّعامل مع الآخر، فتأييد قتل السّوريين هدم كل ما بني من إيجابيّات عنهما في المرحلة السّابقة. بل إنّ إيران كانت تظهر أنّها تتصارع مع السّعوديّة طائفيّاً، أو على أساس أنّها تابع لأمريكا والغرب، ولكن بجرّة قلم، قام الطّرفان بعقد صفقة مقايضة اليمن والبحرين للسّعوديّة، والعراق وسوريا ولبنان لإيران، فألقي شيعة البحرين إلى مصيرهم، مع بعض البكائيّات عليهم، وسلّم سنّة سوريا للمذبح، وألقي الحريري الإبن على قارعة السّياسة مذموماً مدحورا، مع إبقاء جمرة المحكمة الدّولية في حجر نصرالله، فالطّائفي من الممكن أن يتحوّل إلى لاعب ورق انتهازي حين تحين ساعة الجد، ويتحالف مع أنداده ضد طرف ثالث (عدو مشترك) يتمثّل في ربيع الثّورات العربيّة.
كما أثبتت مواقفهم تلك افتقادهم لرؤية حمل مشروع قيادة أمّة، فلم يستطيعوا الخروج من عقد الطّائفيّة في تعاملهم مع الآخر، وبالتّالي فقدوا الكثير من الأوراق التي كان من الممكن استخدامها في إحداث تقارب مع الآخر المختلف عنهم، فضلاً عن تكلّس نموذجهم في الحكم والسّياسة وعدم قدرته على التّعايش مع مكوّناته الطّائفيّة أيضاً، وهذا واضح للعيان في ما يجري داخل إيران نفسها من صراع..
أحد أخطر تداعيات الورقة الطّائفيّة على النّظام السّوري، بدأ بجنيها عندما زجّ الجيش لقتل المتظاهرين، وهذا نتج عنه انشقاقات واسعة في القطاعات العسكريّة، وستزيد عدداً وحجماً كلّما امتدّ زمن الثّورة ورفض النّظام تحقيق مطالبها، فاستخدام هذه الورقة سيرتدّ على مستخدمه وبالاً وناراً، وسينتبه أفراد الجيش والأمن أنهم يقتلون شعبهم خدمة لطائفي مجرم، ولذلك فالزّمن يلعب ضدّ من يعتقد أنّه من الممكن أن يخوض في مستنقع الطّائفيّة وسيخرج منه سالماً.
صيرورة الحراك الشّعبي السّوري تشير إلى عدم إمكانيّة إخماده، كما تشير الكثير من الوقائع بأنّ إمكانيّات نجاح تأجيج الفتنة الطّائفيّة لن تؤتي أكلها، فالشّعب السّوري منتبه لكل تلك الألاعيب، كما أنّ العلويين والشّيعة في سوريا مطالبون بنبذ النّظام والانحياز للخيار الجماهيري الواسع، والاندماج في نظام سياسي يضمن حقوق الجميع، ولهم عبرة بشيعة البحرين الّذين ألقوا لمصيرهم، لأنّ قبولهم أن يكونوا ورقة في لعبة طائفيّة تهدف لإبادة الأغلبية، سيجعلهم يخطّون قانون التّعامل معهم في المستقبل، فمن يضع قانون الإبادة والإقصاء لغيره، سيقع لا محالة تحت سيف نفس القانون في قادم الأيّام، ولكن من المؤكّد والمؤمّل أنّ مواقفهم تسير -عن قريب- لصالح الإندماج في الخيار الشّعبي الوحدوي.