حول مؤتمر الإنقاذ الوطني
حول مؤتمر الإنقاذ الوطني
الذي عقد في استامبول
المعارضة السورية وتحديات الثورة
والذات والمستقبل
نوال السباعي *
بعد تعذر عقده في تونس ، ثم في الأردن ، ثم في مصر ، اضطر المنظمون إلى عقد "مؤتمر الإنقاذ الوطني" في تركيا ، وجاءت الدعوة إليه، متأخرة ، وبإلحاح ، وكان اسم شيخ ثوار سورية ، القانوني ، والرجل الكبير "هيثم المالح" سببا رئيسا في استجابة أغلب المشاركين للدعوة ، باعتباره أحد كبار ممثلي الثورة في الداخل،ولما "كان" يمثله عنوان المؤتمر من أهمية في حاضر ومستقبل الثورة السورية .
**تعبير "تشكيل حكومة ظل" كان صادماً!!، الوقت مازال مبكرا للحديث عن حكومة ظل! ، كما أن مثل هذا المطلب الهام والكبير يتطلب شروطا خاصة ، ليست متوفرة بعد!.جاء الناس المؤتمر بنيّة العمل ، وبذل كل مايمكن لخدمة سورية ، في الاتجاه الذي يراه "الداخل" السوري ،بكل أطيافه السياسية والفكرية والعرقية والدينية .. بل لقد اعتبرنا كل تخلف عن هذه الاستجابة مشكلة ، وثمنّا حضور"برهان غليون" ، كمراقب ، وذلك على الرغم مما تناقله الجميع ، عن شروط وضعها لحضوره المؤتمر ، اعتبرتُ بعضها منطقيا وضروريا .
إن مصطلح "حكومة الظل" يعني جمع ممثلين عن كل التيارات السياسية في المعارضة ، وهذا المؤتمر – على مارأيت- لايضم كل التيارات السياسية السورية ، ودليل ذلك ، أن مجموعة من الأسماء المعروفة ، في المعارضة ، كانت قد نزلت فنادق مجاورة في استامبول ، ورفضت المشاركة في المؤتمر ، وقد ذكرت لي إحدى الناشطات الحقوقيات ، وكانت صحفية زائرة للمؤتمر ، أن "أولئك" القوم ، لن يحضروا ، ولن يلتقوا إلا بالمجموعة أو الهيئة التمثيلية التي ستنبثق عن المؤتمر!!.
**تعمد المؤتمر بالدم ، أبى النظام المجرم في سورية إلا أن يرد بالرصاص ، على المعارضين الشرفاء العزل من الذين أرادوا عقد المؤتمر في حي "القابون" في دمشق، وقدم الثوار الأبرار أربعة عشر شهيدا ، سوف يمرون في التاريخ ، على أنهم شهداء مؤتمر الإنقاذ ، وهكذا هو تصرف الانظمة الساقطة – لامحالة- حيال إرادة الشعب المسلح بالشوق إلى الخلاص .
أولى مفاجآت المؤتمر في استامبول ، كانت الفندق الذي عقد فيه ، والذي صدم كثيرين ، فندق ضخم ، بقاعات ضخمة ، لايشبه تلك الفنادق المتواضعة، التي عُقدت فيها مؤتمرات أخرى حضرتها!!، هذا الوضع جعلنا نتحفظ حتى في الطعام!!، فلايمكن للمرء أن تكون لديه القدرة على تناول طعام فنادق أربعة نجوم ، بينما قتلى مؤتمر الإنقاذ بشقه الدمشقي لم تدفن جثامينهم بعد!.
المفاجأة الثانية ، إدارة المؤتمر ، وسير العمل فيه ، وجمهور الحضور، لم تكن تلك إدارة "مؤتمر سياسي" !، كانت هناك نيّات طيبة لشخصيات معارضة ، غير مختصة بالسياسة ، وليس لديها خبرة في إعداد المؤتمرات السياسية ولاإدارتها.
لا ورقة عمل ، لا معلومات ، لانقاط للبحث ، لامحاور للنقاش ، ولاشخصيات معينة للتعبير عن الرأي من صناع الرأي المعنيين ، ولاجلسات مغلقة للتشاور بين هؤلاء المختصين!.
لم تكن هناك لوائح خاصة بأسماء الشخصيات الأساسية التي تمت استضافتها ،ولم يكن هناك من تعريف مختصر بسيرها الذاتية ، تستطيع من خلاله أن تتعرف على بعضها البعض ، حتى يستقيم الحوار وتبادل وجهات النظر ،ومن ثم تسهيل عملية اختيار الشخصيات المناسبة للمهمة المحددة!.
لم يكن هناك برنامج لعمل سياسي ، ولا مقدمات لورشات عمل علمية ، ولا لائحة بالأسس التي يجب أن يقوم عليها الحوار ، ولارؤية واضحة محددة منبطة عن آلية اختيار ممثلين عن المؤتمر .
وكان ينبغي أن ترفق هذه الأشياء مسبقا مع الدعوة إلى المؤتمر ، لاأن تقوم الجهة المنظمة بطبع وتوزيع "مشروع البيان الختامي لمؤتمر الإنقاذ الوطني" في سوريا ، بعد ساعات من بدء انعقاد أعمال المؤتمر ، وعلى الماشي !.
المفاجأة الثالثة كانت في حضور عائلات بأطفالها هذا المؤتمر !، لعل أطيافا من المعارضة السورية ، لايعرفون الفرق بين مؤتمر سياسي يعقد لإنقاذ بلد يعيش حالة ثورة ومذبحة!، ومؤتمر جماهيري شعبي ، ولاالفرق بين اجتماعات الجاليات الدورية في المهاجر، واجتماعات النُخب للقيام بعمل كان يُنتظر أن يكون مفصليا في مسيرة الثورة السورية.
لعلهم وهم يتحرقون لعمل شيء من أجل سورية وشهدائها ومعتقليها وأطفالها المعذبين، لم يفرقوا ، بين عمل السوريين خلال ثلاثين عاما من أجل الحفاظ على هويتهم ولغة أطفالهم وعدم ذوبانهم في المجتمعات الغربية ، وبين عمل النخبة من القيادات التاريخية "السياسية"، وصناع الراي ،ذوو التاريخ المعروف ، والسجل الذي يؤهلهم لحضور مثل هكذا مؤتمر ، للبتّ في وضع الثورة وماتحتاجه منا في الحاضر والمستقبل.
جهل "طبيعي" يكشفه واقع المعارضة السورية التي تمت محاربتها واجتثاثها في الداخل ، وملاحقتهاوتشويهها في الخارج ، وقد ولدت للتو ، وبدأت بتجميع صفوفها على وقع المذبحة التي تجري في سورية ، على يد نظام متوحش يعامل الشعب الذي يحكمه معاملة الأعداء الألداء ، أمضى ربع قرن ، وبأموال الشعب السوري ، يُعد العدة للمعركة ، التي ثبت قطعا ، أنها معركته مع شعبه الأعزل ، ومهما طبّل وزمر وملأ الدنيا صياحا ، بالعصابات المسلحة المدسوسة المتآمرة عليه!.
إنه من السهولة والواقعية أن ننسب تقصيرنا وعجزنا وتخبطنا، لنظام متغول متوحش ، كان ومازال أحد الأسباب الرئيسية لما تعانيه المعارضة من تشرذم وقصور ، خاصة طريقة تعامله مع "المهجرين والمهاجرين" من النخب المعارضة، بالتغييب والتخوين الممنهج، ولكن وفي الواقع يجب علينا كسوريين ، وبشجاعة، ان نعرف ونعترف بأن جزءا كبيرا من المسؤولية يقع على عاتقنا نحن ، وعلى فهمنا لطبيعة المرحلة ، وعلى تقييمنا لقدراتنا وإمكانياتنا ، وعلى تقديرنا لخطورة الوضع السوري على الأرض وفي الخارج.. خطورة كان يجب أن تجعلنا نرتفع إلى مستوى الحدث ، لاأن ننزل بالحدث إلى مستوى قلة حيلتنا وافتقار البعض منا إلى المعرفة بملابسات الفكر والسياسة.
**لم يكن مؤتمرا للإسلاميين ، ولكنه -وكما ذكر "محيي الدين اللاذقاني" ، كان مؤتمرا للمحافظين ، بل لم يكن للإخوان المسلمين فيه إلا الكلمة التي ألقاها "صدر الدين البيانوني" ، والحضور الصامت المراقب ، وقد أخذتُ عليهم أنهم لم يتحركوا لأخذ زمام المبادرة لإنقاذ مؤتمر الإنقاذ! ، كان حضورهم صامتاً إلى درجة أنه لم يستطع أن يقدم جواباً ولامبادرة ، أمام هذه التجاوزات ، في مؤتمر لايمكن لأحد كائنا من كان أن يشكك بنيات من حضره- ولامن دعى إليه-، ولكن في السياسة كما في الحياة ، لاتستقيم الأعمال بنيات أصحابها الطيبة وحسب ، ولكن بصواب اجتهاداتهم لإنجازها وفق المعايير العلمية الدقيقة في الظروف المواتية.
حقيقة أهمية المؤتمر ، وارتفاع الحس الوطني المتقدم لدى الداعين إليه ، لايجب أن تمنعنا من مساءلة القائمين عليه ، إذ عقدوا النية على إقامته، دون أن يرتبوا بشكل كاف تلك الامور التي كان يستدعيها عقد مثل هذاالمؤتمر بالغ الخطورة .
**موقف الأكراد الذين انسحبوا من المؤتمر ، لايتسق مع مواقف معظم الأكراد السوريين من الذين انتهجوا طريقا وطنية تتحد في الرؤية والمنهج مع كافة أطياف الشعب السوري ،والذين يعتقدون ان "عربية" الدولة السورية ، لاتنبثق من صفاء العرق العربي فيها ، وإنما من لغتها العربية الرسمية ، التي يؤدي بها السوريون عباداتهم ، ويكتبون بها تاريخهم ، وتشكل الوعاء الثقافي الجامع الذي ينهلون منه أسباب وجودهم ، والتي فهموا بها كل معاني الحرية ، التي قرعوا من أجلها بأيديهم الدامية أبواب المستقبل ، ولم يترددوا لحظة من اللحظات في مناداتها باللغة الكردية! ، حتى صارت كلمة "آزادي" في وعي السوريين جزءا من ثورتهم ، ترتجف بها أرواحهم، وهم يصنعون مجتمعين تاريخهم للمرة الاولى منذ اربعين عاما .
مواقف رجال العشائر في المؤتمر ،-وعلى الرغم مما قام به الناطق الذي كانوا قد عينوه باسمهم، من أفعال وتصريحات غير لائقة- ، كانت مواقف تاريخية وطنية لايشق لها غبار ، حتى أنهم أعلنوا تنازلهم عن أي ترشيح أو منصب أو تمثيل في الهيئة التي ستنبثق عن المؤتمر ، إذا كان في هذا ضماً للصفوف ، وإنهاءا للخلافات ،كما قام بعض المشاركين بالامتناع عن قبول الترشح لهذه الهيئة ، للأسباب ذاتها، ومنحت شخصيات أخرى الأصوات التي أولاها لها كثير من الحضور ، إلى الشباب ممن توسمت فيهم القدرة والجاهزية للعمل من أجل سورية، حتى لو كانوا من تيارات مختلفة ومخالفة، بل حتى لو لم يكون بعضهم حاضرين في هذا المؤتمر !.
وهناك العشرات إن لم نقل المئات من نخبة النخبة من الشباب السوري المتألق باختصاصاته ودراساته ، وجاهزيته الاستثنائية للعمل من أجل سورية الغد والحرية والكرامة، والذين تتراوح اختصاصاتهم بين "فن الإدارة" و"سورية وطنا وشعبا"، و"العلاقات الدولية" و "تربية الكتل البشرية وعلاقات الاقليات بالاكثرية"، أو "حقوق الإنسان" ،فضلا عن القانونيين، والمشتغلين بالترجمة ، والكتاب والصحفيين والإعلامين ،وغيرها من الاختصاصات الإنسانيةالرفيعة ،التي سيوفر اجتماع أصحابها المحضن اللازم والضروري لإنشاء مناخات سياسية صحية تلتقي فيها الشروط الكافية التي تؤهلها للعمل على ولادة "هيكل" سياسي سليم يمثل الثورة السورية في الداخل والخارج ، كما قال الباحث في الشأن السوري باستثناء الشاب "منذر زملكاني".
إن لم يكن لهذه المؤتمرات من فضل سوى أنها كشفت لنا عن هذه الطليعة الشبابية المتألقة ، لكفاها ، مما يبشر بمستقبل واعد للثورة السورية ، بوجود كل هذا الحجم من الكوادر السورية الشابة المختصة والمهيئة لاستلام زمام المبادرة من الجيل الذي سبقها ، والذي آن الاوان له وبعد رحلته المضنية ، أن يسلم اللواء ، لاليرتاح ..ولكن ليكون له دور التنظير واستئناف التفكير ، وتوثيق المرحلة، وتسجيل التجربة.. ورعاية النبتة عن بعد وتعهدها بالنصيحة ، التي لايجب أن تكون على شرط الإلزام !، لقد كان من اولى اولويات هذه الثورة المباركة ، سقوط منظومة العبودية ، وتحرر الفكر من الاستبداد ، أيا كان مصدره ، وكائنة ماكانت مبرراته!.
**التعددية والاختلاف سنة ومطلب أساسي ، ولكن الاختلاف والجهل ، وتوسيد الأمر إلى غير أهله ،خطايا لاتغتفر عندما يتعلق الأمر بأرواح ودماء وعذابات شعب ينتظر طوق نجاة .
مواقف وطنية ، واكتشافات كبيرة ، شهدها هذا المؤتمر في أروقته ، ومن وراء الكواليس ، ولدى المحادثات الجانبية ، والتي يكون لها في مثل هذه المؤتمرات أهمية استثنائية ودائما.
شكرا لأخطائنا ، ثم لقدرتنا على الاعتراف بها ،يمكننا ، كسوريين ، أن نرسم صورة شعاعية حقيقية عن طبيعة الشخصية السورية المعاصرة ، وهو أمر استثنائي يحدد بدوره معالم الطريق الذي يجب أن تمشي عليه المعارضة لاحقا ، معرفة النفس ، وقدراتها ، ونقاط الضعف والقوة فيها ، جدير باستئناف المسير بقوة وحزم وعلى بصيرة -كما قالت الباحثة الشابة في شؤون التربية "س.إدلبي" والتي شاركت في المؤتمر بصفة مراقبة– ، وأضافت : إن من أهم منجزات مؤتمر الإنقاذ هذا ، هو هذه الرؤية الواقعية لحقيقة أوضاع المعارضة السورية ، والتي يجب أن تصب في مشروعات مستقبلية ، تتمثل في مبادرات تستجيب لطبيعة الثورة السورية في الداخل والخارج .
لا مؤتمرات إعلامية ، لعب كل منها وفي حينه دورا كبيرا ، لايجب أن نراوح في مكاننا منه ، علينا أن نتحرك وفق متطلبات الثورة والداخل السوري ، وإلا فإن الثورة ستتجاوز المعارضةفي الخارج ، كما تجاوز الشباب من قبل الشخصيات والحركات والاحزاب والتيارات على اختلاف مشاربها، وستجد المعارضة إذ ذاك نفسها في مأزق تاريخي ، يكشف ومن جديد عجزها عن مجاراة الحدث الهائل ، والارتفاع إلى مايستحقه سيل الدماء والعذابات على ارض سورية.
* كاتبة عربية مقيمة بإسبانيا