المسألة الوطنية: بين غيبة الوعي وثقافة العبيد

مؤمن مأمون ديرانية

المسألة الوطنية:

بين غيبة الوعي وثقافة العبيد

مؤمن مأمون ديرانية

[email protected]

في زمن الثورة العربية ظهر في هذه الأمة جيل جديد.. اسمه جيل الثورة. جيل اجتمع فيه إقدام الشباب الذين صنعوا  هذه الثورة في كلّ أرض كانت فيها ثورة، مع وعي الأمة التي وقفت معهم بسواعدها وقلبها وفكرها وضميرها ووعيها، وليس وراء ذلك عذر لأحد، من الذين خانوا الثورة أو تخلّف وعيهم أو ضمائرهم عنها. الشباب الذين صنعوا هذه الثورة المباركة امتلكوا الإيمان وأخلصوا النيّة لله، وفتّحوا أعينهم وشغّلوا عقولهم وشمّروا عن سواعدهم، فعملوا وأفلحوا..

أبناء الثورة انتزعوا حريتهم عندما عرفوا معنى الحريّة، وارتقوا بوعيهم فلم تعد تنطلي عليهم ألاعيب أحفاد دون كيشوت الذين يملؤون الساحة صخباً ثم ينجلي غبار الأصوات العالية فلا نرى شيئاً، ولم يعودوا يصدّقون الحكايات التي تفوح منها رائحة الكذب، ولم تعد تطربهم الشعارات الرنانة الخالية من المضمون. جبل الثورة ارتقى بوعيه وارتقت الأمة كلّها معه، فصاروا ينظرون فيبصرون الحقيقة ولا يكتفون بقراءة اللافتات وتصديقها على بياض.

نظام سورية.. نظام الصمود والتصدي سابقاً، ونظام الممانعة والمقاومة لاحقاً، ونظام التصدي للشعب والممانعة في منحه حريته دائماً وأبداً. خاض حرب حزيران 1967 في نسخته البعثية وكانت حصيلتها ضياع الجولان، وخاض حرب رمضان 1973 في نسخته الطائفية وكانت حصيلتها ضياع المزيد من الأرض ووصول الجيش الصهيوني إلى مشارف دمشق ولولا تصدي الجيش العراقي له لدخلها، واستمرّ صوت النظام "يلعلع" بمزيد من التطبيل والتزمير بالقضايا الوطنية. لقد سقط الجولان ليس نتيجة لهزيمة جند سورية البواسل بل لخيانة قيادة سورية، ممثلة بحزب البعث العربي الاشتراكي قائد الدولة والمجتمع حسب المادة الثامنة من الدستور المزيّف، وممثلة بوزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد الذي بقيت الأمة تعيش بين صوره وأصنامه وتسبّح بحمده (مرغمةً) ثلاثين سنة عجاف وهو يسومها سوء العذاب، واليوم يسير مئات الألوف من قوافل المتظاهرين وهم يهتفون "يلعن روحك يا حافظ". سقطت الجولان التي تستعصي على كواسر الطير وتعلو أرض فلسطين المحتلة كقلعة حصينة لا تهزم. ما زال مشهد المرتفعات الواقفة كالجدار مطبوعاً في ذاكرتي منذ الصغر، وما زالت ذاكرة الطفل تدرك أن هذه القلعة لا يمكن أن تُحتل أبداً من جهة فلسطين (التي يحتلّها الصهاينة)، إلا أن يستدير العدو فيطلع الهضبة من جهة سورية، أو: يسلمها حرّاس الجولان لهم تسليماً، وهو الذي حدث تماماً، كما روى ضابط استخبارات الجبهة السورية خليل مصطفى في كتابه الموثّق "سقوط الجولان"، ودفع ثمن هذه الشهادة ثلاثين سنة من عمره في غياهب سجون النظام السوري بعد أن اختطفه "شبيحة" الأسد من قلب مدينة بيروت.

هذا ليس الإنجاز الوطني الوحيد للنظام السوري الذي سيكون لعنة عليه، فدماء تل الزعتر التي مضى على إراقتها خمساً وثلاثين سنة ستكون أيضاً لعنة عليه. لو نسيت كل حدث عشته في عمري فلن أستطيع نسيان معركة تل الزعتر سنة 1976 التي عشناها يوماً بيوم وبكيناها شهيداً شهيداً وتنهمر دموعي وأنا أتذكّرها. كانت معركة تل الزعتر ملحمة مثل ملحمة جنين وغزة، وصار مخيم تل الزعتر يومها أسطورة للصمود في العالم كله كما هي اليوم غزة أسطورة الصمود، وقد روى صلاح خلف رحمه الله قصة هذه المذبحة ودور النظام السوري فيها في كتابه "فلسطيني بلا هوية". تغيرت معادلة القوى في لبنان بعد دخول سورية إليها منتصف سنة 1976، فقامت القوات المسيحية اللبنانية تحت حماية الجيش السوري بعد عشرة أيام فقط من دخوله الأراضي اللبنانية بهجوم شرس على المخيم، وحاصرت فيه ألف فدائي مع خمسة وثلاثين ألف فلسطيني (وتقول بعض المصادر أن عددهم وصل إلى ستين ألفاً) ومعهم عشرين ألفاً من مسلمي لبنان لمدة اثنين وخمسين يوماً، أمطروه فيها بخمس وخمسين ألف قذيفة، وقامت القوات المحاصِرة بمنع دخول الماء والغذاء والدواء وتفجير أنابيب المياه (كما فعلوا اليوم مع درعا الصامدة)، حتى هلك ثلاثمئة طفل ورضيع من الجوع والعطش، وعاش أهل المخيم مجاعة حقيقية فأكلوا لحم القطط والكلاب ولحوم موتاهم وشربوا برك الماء الآسن المختلط بالوحل. ورفض المحاصِرون إجلاء النساء والأطفال ورفضوا حتى إجلاء الأطفال دون أمهاتهم. وصمد المقاتلون في المخيم ومن ورائهم النساء والأطفال الذين كانوا يرفضون الاستسلام صموداً أسطورياً اثنين وخمسين يوماً كاملة رغم القصف والحصار، إلى أن تم اتفاق بين الطرفين برعاية ممثل جامعة الدول العربية أن يجلو المقاتلون والأهالي عن المخيم برعاية قوة سلام عربية والصليب الأحمر. لكن المليشيات المسيحية اللبنانية قامت بمساعدة القوات السورية في لبنان بفتح النار والهجوم على الأهالي العزّل أثناء مغادرتهم المخيم في مذبحة غادرة ومحاولة إبادة جماعية، فسقط منهم ثلاثة آلاف شهيد في يوم واحد قتل عدد كبير منهم ذبحاً بالسكين. كانت هذه المذبحة المؤلمة أحد الإنجازات الوطنية لنظام الأسد الوطني.

والغريب أن نظام الحكم الأسدي في سورية الذي يرفع راية البعث ويدعو للقومية العربية قد صار اليوم يرفع راية شعوبية من وراء ستار الراية البعثية، فصارت إيران الفارسية أقرب إليه كثيراً من كل العرب، وموقفه المنحاز إلى إيران في الحرب العراقية الإيرانية لا يخفى على أحد، وعلاقاته الإستراتيجية اليوم مع النظام الإيراني تتقدّم علاقاته بجميع الأطراف العربية، النظام الإيراني الذي يحتلّ أرضاً عربية مغتصبة ويضطهد أهلها ويقمع ثورتهم الأهوازية المنسية.

ولم يكف النظام السوري توجيه رسالة صريحة للكيان الصهيوني أن استقرار نظامه هو ضمانة لأمن إسرائيل، فتحرك سفيره في واشنطن باتصالات مع "الآيبك" اللوبي اليهودي الداعم لإسرائيل، للحصول على دعم اللوبي الصهيوني لنظامه.

وما زال النظام السوري يدقّ طبولاً وطنية، وما زال أزلام النظام يصفّقون.

ولقد ارتقى جيل الثورة بحريته فلم يعد يتنازل عنها مهما كان المقابل. فبالإضافة إلى رؤيته بعينيّ الوعي لحقيقة الموقف الوطني الكاذب، هو لن يقبل ابتداءّ التنازل عن هذه الحريّة مقابل موقف وطني حقيقي. إن القبول بنظام قمعيٍّ لأنه وطني ما هو إلا نتاج فاسد للعبودية الطويلة ولا يصلح إلا ثقافة للعبيد. لن تقبل الأمة بعد اليوم بنظام صالح يسلبها حريتها فكيف تقبل بنظام فاسد كاذب حتى النخاع؟ إن الحرية هي أثمن ما يمكن أن يمتلكه إنسان وهي منحة الله له لا حق لأحد أن يسلبها منه. الحرية هي منحة الله للإنسان وهي مناط تكليف الله للإنسان وبدونها يعفى من هذا التكليف.

والذين تخلف وعيهم فلم يدركوا.. واختاروا ثقافة العبيد فتنازلوا عن حريتهم.. هل تخلّوا أيضاً عن إنسانيتهم؟

هل يمكن أن يقبل إنسان ما يجري من امتهان للإنسانية على أرض سورية؟ هل من عاقل يجد مبرراً لهذا الظلم والقتل والتعذيب والوحشية الفظيعة؟ هل ثمة قلوب من حجر ترى الأطفال المعذبين المقتولين ولا تنفطر ألماً؟ وهل هناك عيون تبصر هذه الدماء ولا تنهمر منها الدموع؟ وهل في أمتنا من فقد الشرف والمروءة فلا يألم ويغضب ويغلي دمه في عروقه وهو يسمع بالحرائر ينتهك أعراضهن هؤلاء الأنذال عليهم لعنة الله؟ وهل فينا من فقد النخوة والشهامة فيخذل أخاه المظلوم لا ينصره، ويزيد على ذلك خسّة فيقف إلى جانب الظالم؟ مهما كانت المبررات..

هلا سمعتم رواية الصحفي الأردني سليمان الخالدي الذي اعتقلته السلطات السورية في بداية الثورة السورية، وساعات الرعب التي عاشها، والمشاهد المؤلمة التي شهدها في العالم السفلي الذي كتب عليه أن يزوره في سورية.

أمر يدعو للذهول أن يرى ويسمع بعض المثقفين في هذا البلد الخيّر ما حدث ويحدث ويستمرون بالدفاع عن هؤلاء المجرمين.. عندها لا يستطيع المراقب إلا أن يشك أن هؤلاء مأجورون يقبضون ثمناً لهذا الموقف الذي يتناقض مع نخوة هذا الشعب وإنسانيته.

هل يُعقل أن يتداعى هؤلاء إلى تشكيل لجنة للدفاع عن قتلة الشعب السوري قبل أن يتداعى الخيّرون في هذا البلد إلى تشكيل لجنة شعبية لنصرة الشعب السوري الشقيق؟ وزاد أصحاب هذه اللجنة من عاشقي الأنظمة القمعية أن هاجموا أيضاً كل الثورات العربية، التي تعتبر أعظم حدث لهذه الأمة خلال قرن من الزمان.

ألا يكفي أن العالم ما زال في مرحلة الشجب والاستنكار لما يحدث؟ ألا يكفي أن جامعة الدول العربية ما زالت تتثاءب ولم تصل بعد إلى مرحلة الشجب والاستنكار؟ وربما لم تبلغها بعد أخبار المأساة.. قد يعلمون شيئاً مما حدث بعد سقوط آلاف أخرى من الشهداء. أما المعسكر الشرقي بشقيه الشمالي روسيا والجنوبي الصين فداعمون رسميون لكل أنظمة القمع المسماة أنظمة ثورية، وحرية البشر وكرامتهم ليست أصلاً في برنامجهم، والكذب المنظم والوقح هو برنامجهم الرئيسي، لذلك تقف اليوم روسيا والصين معاديتان لكل الثورات العربية.. ومعهما بالطبع الكيان الصهيوني.

هل انضمت شعوب هذه الأمة أيضاً إلى جمهور المتفرجين من الأنظمة العربية ودول العالم الأخرى؟ أم صار الأمر أسوأ من ذلك فانضم فريق من هذه الأمة رسمياً إلى المعسكر الداعم للأنظمة القمعية ضد الشعوب التي تطلب الحرية؟

يا شعب الأردن المؤمن الحر الشهم آن الأوان لنرتقي بوعينا فنرى الأمور على حقيقتها، ونرتقي بحريتنا فلا نقايضها بشيء، ونرتقي بإنسانيتنا فننتصر للإنسان المظلوم، ونتذكر حق الأخوّة فنقف مع الأشقاء الجيران في محنتهم ونمدّ لهم يد العون؟

لكم في أهل الرمثا الأبرار أسوة حسنة.. وقفوا موقف الأنصار من إخوانهم المهاجرين من سورية وكانوا الجار والنصير، وخرجوا في المظاهرات وأقاموا الفعاليات انتصاراً لأهل سورية المظلومين ودعماً لهم في محنتهم، وتحدّوا حصار درعا الظالم وأغاثوا أهلها بكل ما استطاعت أيديهم إيصاله من غذاء ودواء، وفتحوا بيوتهم وقلوبهم لأهلهم القادمين.. فكانوا نعم الأنصار..

وكما وقف هذا الشعب ظهيراً للشعب السوري الشقيق في الثورة السورية الكبرى على الفرنسيين سيقف اليوم بإذن الله ظهيراً له في ثورته على الظلم والاستعباد.

هذا موقف سيسألنا الله عنه وستذكره الأمة ولن ينساه لنا أشقّائنا في سورية وسيسجله التاريخ.