مصر وهموم الشقيقة الكبرى
حسام مقلد *
في مجتمعاتنا العربية والإسلامية حيث التماسك الأسري والتكاتف العائلي والتكافل الاجتماعي لا يزال له حضوره الملحوظ ولا يزال يلعب دوره الكبير في حياة الناس تكون هموم الشقيق الأكبر هموما كبيرة ومضاعفة، فإضافة لمطالب حياته الخاصة وهمومه الشخصية ومطالب زوجته وأولاده في أسرته الصغيرة تضاف إليه أعباء أخرى وواجبات كثيرة نحو أشقائه وأسرهم وأبنائهم، وهذه الأعباء والمسؤوليات لا يدرك حجمها الحقيقي إلا من كان في موقع الشقيق الأكبر، لأنه بالفعل يتحمل بدافع المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية هموم أسرته الكبيرة وعائلته الممتدة، ويشعر أنه معنيٌّ بها ومسؤول عنها كمسؤوليته واهتمامه بحياته الخاصة وهمومه الشخصية، ولاشك أن هذا الموقف الشهم النبيل الذي يقفه الشقيق الأكبر مع أهله وأشقائه يجعله محل إعزاز وتقدير وإكبار من الجميع، ويرحب به المجتمع أيما ترحيب، ويعده من سمات الرجولة والشهامة وعلامات النبل وسمو الأخلاق، ويبوِّئُه مكانة كبيرة ومنزلة رفيعة في قلوب جميع إخوانه وأشقائه، ولا ينال المرء هذه المنزلة ولا يحظى بهذه المكانة لمجرد كونه الشقيق الأكبر من الناحية العمرية، وإنما ينالها بسبب ما يبذله لأشقائه من عون ومساعدة، وما يقدمه لهم من دعم ومؤازرة ومساندة مادية ومعنوية، وما يتحمله من أجلهم وفي سبيل إسعادهم من تضحيات جسام.
وهذا هو نفس الوضع بين الدول والجماعات البشرية، فلا تنال الدولة هذه المنزلة الكبيرة لمجرد كونها الأكثر عددا وسكانا، أو الأوسع والأكبر مساحة، أو الأغنى اقتصادا...، وإنما بما تبذله من تضحيات وما تقدمه من دعم ومساعدات للدول الأخرى، حيث تساند قضاياها، وتدعم مطالبها العادلة المشروعة، وتمدها بكل أشكال النصرة والمؤازرة بدءا من الدعم المعنوي والإعلامي، والمساندة السياسية وحتى تقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية وصولا إلى خوض الحرب معها وفي سبيل نصرتها ونصرة قضيتها، وهذا ما فعلته مصر طوال تاريخها مع شقيقاتها العربيات وخاصة فلسطين الحبيبة العزيزة على نفوسنا جميعاً، ولا أحد يجادل في أهمية قيام مصر بلعب هذا الدور الحيوي والمهم للعالم العربي، وقد رأينا جميعا فداحة الآثار السلبية التي ترتبت على تراجع وانحسار دور مصر خلال السنوات الماضية؛ فقد كان من أبرز النتائج السلبية التي ترتبت على هذا التراجع ضياع هيبة العرب، واجتراء الكثيرين عليهم وعلى انتهاك مصالحهم القومية العليا، وفقدان تأثيرهم في المحافل الدولية، ومقابلة مطالبهم المشروعة بالإهمال والتسويف وعدم الاكتراث، وأصبح العرب رقما تافها يتم تجاوزه بسهولة في مختلف القرارات والقضايا، حتى تلك التي تمس صميم أمنهم القطري والقومي.
والآن وبعد نجاح الثورة المصرية المباركة التي ستغير بإذن الله تعالى وجه الحياة في منطقة الشرق الأوسط تتطلع كافة الشعوب العربية إلى مصر المستقبل مصر العزيزة الأبية لتقوم بدورها الحيوي في نصرة القضايا العربية والدفاع عنها، وفي مقدمتها بالطبع القضية الفلسطينية، كما تنتظر الشعوب العربية في الدول التي لم تنجح ثوراتها نجاحا تاما حتى الآن (ليبيا وسوريا واليمن) ـ تنتظر من مصر تقديم كافة صور الدعم والمساندة، لاسيما الدعم السياسي والنصرة الإعلامية، وشرح قضيتهم في كافة المحافل الدولية لحشد التأييد الدولي لهم، وتحويله من مجرد تأييد نظري إلى دعم عملي منظم يحقق مطالبهم ويوقف دماءهم النازفة في الشوارع والميادين.
ولم تتأخر مصر الثورة ولم يتأخر شعبها الحر الأبي عن تقديم كل ألوان الدعم والمساندة، وها هي أعلام الدول العربية ترفعها ملايين الأيدي المصرية في ميدان التحرير، وها هي حكومة الثورة تمد يدها وتفتح صدرها للتعاون الخلاق مع كافة الشعوب والبلدان العربية، وها نحن نرى بشائر الخير والعزة والنصر والتمكين لأمتنا العربية العريقة تتوالى في غضون أشهُرٍ قليلة فقط من نجاح الثورة المصرية الميمونة، فقد تمت المصالحة الفلسطينية، ويجري الإعداد لقيام دولة فلسطينية حرة مستقلة وذات سيادة حقيقية، وتسعى مصر بكل قوتها للحصول على اعتراف دولي واسع بهذه الدولة، وحشد كل الطاقات والإمكانيات لحل القضية الفلسطينية حلا جذريا يتحقق بموجبه السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط وتنال كافة الشعوب في المنطقة حقوقها العادلة والمشروعة دون افتئات من أحد على الآخرين.
وقد يرى البعض أن سقف طموحات ومطالب الأشقاء من الشقيقة الكبرى مصر مرتفع في هذا الوقت المبكر من عمر الثورة المصرية المباركة، لاسيما وأن الجميع يرى مدى خطورة وقسوة الهموم والتحديات الجسيمة التي تواجه مصر بعد الثورة، لكن ينبغي أن لا يحول ذلك دون تقديم كافة صور الدعم العاجل للقضايا العربية الملحة لاسيما ما يتعلق بإكمال المصالحة الفلسطينية وتحويلها إلى واقع ملموس وليس مجرد اتفاقيات، والإسراع في الرفع الكامل والتام للحصار عن غزة، وتقديم الدعم المعنوي للشعوب العربية في سوريا وليبيا واليمن التي تناضل من أجل نيل حريتها والسعي الجاد بالتعاون مع كافة دول العالم لحقن دماء أبناء هذه الدول، وإيقاف حمام الدم النازف على أراضيها، ويمكن لشباب الثورة المصرية إبداع الكثير والكثير في ميدان التحرير وغيره لتشكيل ضغط شعبي مكثف على الأنظمة الحاكمة في هذه الدول الثلاث لوقف اعتداءاتها على شعوبها المسالمة وإنقاذ الناس هناك من الدمار والخراب والقتل اليومي.
وإذا كان الشقيق الأكبر يناط به دائما تقديم الدعم والمساعدة لأشقائه، ويدعى باستمرار للمبادرة والإسراع في نجدة إخوانه وتقديم الدعم لهم، لكن لا غنى له هو أيضا عن دعمهم ومساندتهم ليظل قويا قادرا على البذل والعطاء وتقديم التضحيات، وينبغي لهؤلاء الأشقاء مراعاة أحوال شقيقهم والصبر عليه حتى يتعافى من حالات المرض والاعتلال التي تصيب الخلْقَ جميعا، وهذا ضروري لمواصلة الحياة وتبادل المنافع وتحقيق المصالح المشتركة بين الجميع على أفضل نحو ممكن.
ولعل السودان الشقيق قد ضرب أروع الأمثلة في ذلك، فرغم ما يمر به من ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية صعبة إلا أنه بادر بتقديم هدية لشعب مصر وثورتها المباركة لتخفيف بعض العبء عن كاهل الحكومة المصرية التي تمر بمرحلة شديدة الدقة والخطورة، ولعل دول الخليج العربي الأقدر اقتصاديا تمد هي الأخرى بأقصى سرعة يد الدعم والمساندة للشيق الأكبر حتى يستعيد عافيته ويقف على قدميه مجددا، وليطمئن الجميع فمصر لا تتدخل في شؤون أشقائها أبدا ولا تؤمن بمبدأ تصدير الثورة بل تعتز بكافة الشعوب العربية، وتسعى لتقديم كل العون والمساعدة لها دون أدنى تدخل في شؤونها الداخلية، فمصر العريقة المتحضرة تعي تماما حدود وطبيعة دورها، وتعرف بوضوح ما هو مطلوب منها، وتدرك ـ كما الأفراد ـ ضرورة حفظ ومراعاة الخصوصية حتى بين الأشقاء فهذه حقوق طبيعية لا يمكن إنكارها أو تجاوزها بأي حال من الأحوال.
* كاتب إسلامي مصري