أحداث تونس .. انتفاضة في أساليب التغيير
سقوط الديمقراطية ، والوسائل السلمية ..
علاء سعد حسن حميده
باحث مصري مقيم بالسعودية
الديمقراطية في عالمنا العربي ، أو في عالمنا الثالث – على امتداده تقريبا – ليست وهما ولا ديكورا ، وإنما شعارا وحصنا وتابوها محرما يحمي الديكتاتوريات الحاكمة ..
فالديمقراطية في عالمنا لا تقتصر إلا على الشعوب وعلى مؤسسات المعارضة التي تعبر عن هذه الشعوب الساخطة الرافضة ، ولا تطلب استحقاقاتها إلا من تلك الشعوب..
فعلى الشعوب وحدها أن تتبع الديمقراطية والأساليب السلمية لإحداث أي تغيير سلمي ، أو إحداث أي تغيير في سياسة الدولة وحالها ، وتعاملها مع المواطنين وقضايا الوطن ..
فممارسة المظاهرات والاحتجاجات والإضرابات واللجوء إلى العمل العام وإلى أي شكل من أشكال الاحتجاج ممنوع ..
على الشعوب وحدها أن تنتظر دورها في طوابير الديمقراطية فتنتظر الانتخابات التشريعية التي يجري عرضها على مختلف مسارح الدولة الرسمية المسماة في الملهاة الديمقراطية ، بلجان الانتخابات الرئيسية والفرعية ،.
على الشعوب أن تنتظر تلك المسرحيات الدامية والكوميدية – في لآن واحد – لمدة خمس سنوات ثم لتحصل في النهاية على مجالس نيابية نتيجة البلطجة والتزوير الفاضح ، وكلما تقدمت المعارضة في جولة انتخابية تم إقصاؤها بعد ملاحقتها وتقليم أظفارها في الجولات التالية ..
وهكذا تظل الديمقراطية سياجا وحصنا وقلعة تحمي الحاكم الفرد ورموزه ومؤسساته!!
ومن يحتج فهو إرهابي فاشستي متطرف خارج عن النظام والقانون ، لا يؤمن بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة ..
الديمقراطية عندنا لمنع الشعب من ممارسة الاحتجاج ، ولمنع وحظر كل التيارات السياسية والاجتماعية الفاعلة في المجتمع من ممارسة دورها الطبيعي في الرفض أو الاحتجاج أو حتى السعي – المشروع وفقا لقواعد الديمقراطية الحقيقية – للمنافسة على الحصول على السلطة باستخدام الأساليب والوسائل السلمية ..
فليس من حق كل التيارات الفاعلة في عالمنا المطالبة بهذه الحقوق البدهية ، لأنهم ممنوعون ومحظورون باسم الديمقراطية .. ديمقراطية تحميها دساتير وقوانين يتم تفصيلها خصيصا لمنع تلك التيارات من ممارسة حقها الطبيعي في تداول السلطة ..
الديمقراطية في عالمنا الثالث إذن صنم وخط أحمر على الشعوب وحدها احترامها .. أما الحكومات والأنظمة الاستبدادية ، فهي لا تسمح بمجرد التفكير في سماع الطرف الآخر ، والحوار مع القوى الشعبية ناهيك عن الرضوخ الحقيقي لمبدأ التداول السلمي للسلطة وهو جوهر عملية الديمقراطية ..
وباسم الديمقراطية تزور الانتخابات وتزيف إرادة الشعوب، وتهدر كرامة الإنسان في محافل التعذيب التي مازالت تزهق الأرواح هنا وهناك ، وبالديمقراطية والدستور يتم تنحية كل معارض أو صاحب رأي ..
والحقيقة الدامغة أن الحال لم يعد كما كان ، لم يعد ممكنا تكميم الأفواه ، فإن حرية الإعلام - التي أصبحت حقا مكتسبا وليس منحة تمنحه حكومة أو يتصدق به نظام - وحرية إطلاق المواقع والصحف على الانترنت ، وثورة الإعلام الفضائي والانفتاح القسري على العالم ، كل ذلك يزيد الضغط على الشعوب المغلوبة على أمرها ، فلربما كان صاحب المظلمة قديما يبيت فلا يسمع به أحد ، فتعتمل في أحشائه ثورة لو انتقلت إلى غيره من بني شعبه لتحولت إلى جحيم يقتلع الأخضر واليابس ، إلا أن ثورته تبقى محصورة في ذاته ..
أما اليوم فإن أي مظلمة تحدث هنا أو هناك تتناقلها الفضائيات وتتبناها برامج ( التوك شو ) مما يحولها إلى قضية شعبية ، وقضية رأي عام ..
لم يعد ممكنا حصار ما حدث في تونس أو التعمية عليه
والشباب يتعامل في العالم كأنه من سكان مدينة واحدة عبر الانترنت ..
خبر هروب الرئيس في تونس مثلا عرفته شعوب الأرض من على مواقع الانترنت قبل إذاعته في أي وكالة أنباء تقليدية ..
لم يعد في الإمكان حجب الحقائق ..
لم يعد في هذا المضمار سوى سهما واحدا في جعبة الأنظمة العاجزة عن ملاحقة التطورات العالمية الهائلة ، هذا السهم هو محاولة تضييع معالم الحقيقة لتظل الحرية الإعلامية محصورة في حرية الصراخ والصدام ، والتحليلات المتباينة والمتصادمة التي تبقي الشعوب رغم جلاء الوقائع أسيرة التكهنات والاحتمالات والنظريات ..وتضيع معالم الحقائق إلى حين ..
لكن الشعب التونسي قالها – للأسف الشديد – وأنا فعلا أعني هنا ما أقول – للأسف الشديد – فلست ولا أظن أن أي عاقل يؤيد الفوضى أو التغيير العنيف للأوضاع أو الثورة بكل شكل من أشكالها .. فلقد جربنا الثورات في عالمنا فلم نجد منها سوى الحسرات المتلاحقة ..
لكن الشعب التونسي أعلنها ، لا سبيل عبر الديمقراطية ، ولا طريق عبر الوسائل السلمية ، لن يسقط عرش زين العابدين عبر انتخابات يجري تزوريها قبل إجراؤها ، ولن يتم الرهان على أحزاب وهيئات معارضة تم تفصيلها والسماح لها على ( المقاس ) مع إقصاء كل فصيل يطرح رؤى تغيير حقيقي ..
قالها الشعب التونسي : لقد سقطت أوهام الديمقراطية والحلول السلمية والوسائل الدستورية في التغيير وتداول السلطة ، فلم يبق إلا الشغب ولم يبق إلا الصدور العارية تواجه رصاص النظم البوليسية ، ولم تبق إلا الاحتجاجات الصاخبة التي لا تتوقف ولا يمكن احتوائها ..
إن ما حدث في تونس رسالة جد خطيرة .. ليست رسالة موجهة للأنظمة الاستبدادية وحدها ، وإنما هي رسالة موجهة إلى حركات الاحتجاج السلمي التي تتعرض كل يوم إلى مزيد من القمع والتضييق وهي لا تتقدم خطوة إلا لتعود للخلف خطوات ، والتيارات السياسية التي لا تكاد تدخل البرلمانات بالإرادة الشعبية الضاغطة إلا لتعاود الضيافة على السجون والمعتقلات وأمام المحاكم العسكرية ..
أعلنوها في تونس طريق الديمقراطية في العالم الثالث مسدود
ولم يعد ممكنا إلا الطرق العنيفة في التغيير لم يبق إلا العودة إلى بيت الشعر الذي أطلقه أبو قاسم الشابي – الشاعر التونسي - إبان الاستعمار :
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر
وأنا إن كنت أنعي إليكم وفاة الديمقراطية – ديمقراطية الشعوب وحدها في محاولة التغيير – فإنني جد خائف بل أنا حزين ومرعوب أن يتحول هذا الأسلوب إلى رياح غضب شعبي إقليمي تقتلع الأخضر واليابس .. نذر هذه الفوضى قادمة في ظل حالة احتقان تؤججه عوامل كثيرة ، ويوم يتحول الاحتجاج إلى ثورة عنيفة فلن يقتصر على تحرير الوطن من أنظمة استبدادية، إنه سينحى مناح عرقية وطائفية وفوضوية لا يعلم مدى خطورة عواقبها إلا الله سبحانه وتعالى ..
فهذا ندائي الأخير للشعوب :
لا تنجرفوا وراء مخططات الفوضى .. اعلم أنكم قد كفرتم بالديمقراطية والوسائل السلمية .. لكن الفوضى ستكون مدمرة .. وأخطر ما في هذا التدمير المتوقع أنه لن يكتفي بتدمير النظم المستبدة ولكن سيطول البنية الاجتماعية والأساسية للأوطان .. وهذا أخوف ما أخافه على وطني وأمتي .. ولا أملك في النهاية إلا أن أدعو المولى عز وجل وأرجوكم ادعوا معي :
اللهم سلم .. سلم