يا طاغية ... إن الظلم ظلمات

يا طاغية ... إن الظلم ظلمات

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

إن الظلم ظلمات يوم القيامة .. والظلم ظلمات فى الدنيا ، لأنه يعمى بصيرة الظالم الطاغية ، بل إنه يعمى بصره كذلك ، فلا يرى الحقيقة فى واقعها , بل يكون حوله من يرى له , ويزين له كل ما يرضيه , ويقلب له الحق باطلاً , والباطل حقاً فهو الزعيم الأوحد , وهو المنقذ الفذ , وهو العبقري الهائل وعن مثله عقمت النساء ؛؛؛ وهو سعيد ببطانة السوء هذه ... إنهم " هامان ... والأوتاد .. المسايرون .. المنافقون.. الباحثون عن متع الحياة .. ملوك الهبر والهبش .. الكذابون المستنقعيون .وما أسعد بطانة السوء حين يرون مثل هذا الحاكم غبياً أحمق , يضعهم فى سويداء قلبه , فبهم يرى , وبهم يفكر , وبهم يبطش , ويمضى أعمى القلب , أعمى الضمير , أعمى البصيرة أعمى البصر وكأنه المقصود بقول بشار بن برد :

 أعمى يقود بصيراً , لا أبالكمو          قد ضل من كانت العميان تهديهِ

وفيهم نزفت شعراً

 وفى قصيدتى " براءة " رأيت كل واحد من هؤلاء نموذجاً مجسدأً للشر والإبليسية :

كـأنـه  لـبـني إبليسَ iiنسبتُه
الـسجن والبغى والعدوان iiعدته
يقتات دمع الضحايا فى iiزنازنهمْ
ويـدعـى أنـه لـلعدل iiملجؤُه
وأنـه  عـبقرى العصر iiوالعَلَم
وهْو  الذى ذبح القانون من iiسفَهٍ
له  بطانة سوء كم طغت iiوبغت
يـاأيـهـا الذى ماتت iiبصيرته
لقد  غدوت كوحش ناش iiإخوته
رأيـت نارك فى الأعداء iiباردة









دستوره البغي والإحجاف iiوالغَشَمُ
وشـر أعـدائـه الإسلام iiوالقيم
كـأن أنـاتـهـم فـى أذْنه iiنغم
وأنـه لـلـجـياع الخبزُ iiوالأدم
ومـثـل فـطنته لم تنجب الأمم
وضـج مـما جناه الحِل iiوالحرم
وهم على الشعب دوماً نكبة iiعَممُ
حتى استوت عنده الأنوار والظلم
ولـم تـرِقّ لمن كانت لهم iiرحم
لكن على الأهل جمر ساعر iiحُمَم

الطاغية وتوثين الذات

إن الظلم أبشع الآفات التى تصيب النفس البشرية ، وهو يأخذ صورته الضارية إذا ملك الظالم من القوة ما يجعل الظلم آلية سهلة لتنفيذ مآربه وتحقيق ما يشبع نفسه المريضة . هو شذوذ فى أعتى صوره لأنه تمرد على الفطرة الإنسانية ، وجور على بنى آدم وقد كرمهم الله وجعلهم أكرم المخلوقات .

 والحاكم الظالم يستبد به الغرور ويتدرج به إلى أن يغرق نفسه فى مستنقع توثين الذات . وفرعون مصر هو أصرخ النماذج فى هذا المجال " فقد رفض دعوة موسى عليه السلام( فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى ) " النازعات : 23 ، 24 " وليس من الضرورى أن يكون توثين الذات بإدعاء الألوهية ولكن بإنكارها ، والنظر إليها وإلى الدين كظاهرة كانت مرتبطة بالطفولة الأممية وعصور التخلف فى الماضى , ومن أمثلة هؤلاء هتلر وموسولينى , ومن القصص المشهورة أن جوبلز ( 1897- 1945 ) وكان وزير الدعاية والأنباء فى عهد هتلر – كان يشرف على إعدام أحد القسس ، فقال له " لا تعدمنى " واتق الله فى " فرد عليه قائلاً " لم يعد العصر عصر الله يا غبى ، إنما هو عصر الفوهرر هتلر " . وانتهى به الأمر إلى الانتحار هو وزوجته وأولاده وزعيمه هتلر فى أول مايو 1945 .

آفات أخرى وتبريرات ساقطة

وانطلاقاً من هذه الآفة – توثين الذات – نرى الطاغية يتسم بالأثرة ، وحب النفس ، فهى مدار تفكيره وهى المعيار الذى يزن ويقيس به أعمال الآخرين ، فما اتفق مع هواها هو الطيب الخير ، وما خالفها هو الباطل والخطيئة .

 ومن هنا تأتى استهانة الطغاة بشعوبهم : فهم فى نظرهم " دهماء " لا يستحقون أن يشاركوا فى سياسة تقرر مصيرهم ، أو تسير أمورهم ، إلا على سبيل الظاهر الكذوب للترضية وإسكات الأصوات .

 ومع أحادية هذه النظرة نرى الطاغية متشبثاً بكرسى الحكم , يعض عليه بالنواجذ , وإذا تعارض هذا " التشبث الأبدى " مع دستور الوطن ومصالحه وأعرافه رأيت بطانةالسوء ومن ورائهم من حملة المباخر الآكلين على كل مائدة يرفعون أصواتهم بالتبريرات الجاهزة المعدة سلفاً لمثل هذه المواقف . فتسمع من يقول : إن الدستور وسيلة لا غاية فإذا تعارض بقاء الحاكم الفلتة العبقرى الموهوب مع نص " جامد " من نصوص الدستور غضضنا النظر عنه ، ليستمر الحاكم " الفلتة " لأن مصلحة الوطن أهم من كل دساتير الدنيا . وتتوالى " تدعيمات " هذه المقولة بصرخات عاطفية أخرى : فليبق .. وليستمر .. ليستكمل مسيرة الرخاء ، ومسيرة السلام .. ومسيرة التنوير .

 ثم تتحول بعض الأصوات بنبرة عالية إلى القول : أيها المعترضون لو كنتم صادقين فى اعتراضكم ، مقتنعين به رعاية لمصالح الوطن ؛ أذكروا اسم شخص يصلح أن يكون بديلاً .. يستطيع أن ينجز بعض ما أنجز الزعيم الفلتة .. وطبعاً لا يكون إلا الصمت خوفاً على مصير البديل المقترح . والمعروف تاريخياً أن الحكام فى الشرق العربى لا يتركون الحكم إلا بالموت أو الاغتيال ، هذا إذا استثنينا رجل السودان العظيم ( سوار الذهب ) .

 وكل ما ذكر من تبريرات تنطلق من فراغ , وتعد فارغة لأنها تحاول أن تمنطق ما لا وجود له – فمن من الحكام العرب - يا حملة المباخر – حقق رخاء وصنع للرخاء مسيرة , أو حقق سلاماً شريفاً ، واختط لاستكماله سبيلاً ، وأشاع التنوير فى مجال الفكر والتقنية والتعليم ؟

 إن الواقع الذى نعيشه  نحن العرب بعامة ، والمصريين بخاصة  يدحض .. بل يسحق كل مزاعم حملة المباخر وتهويشاتهم . وحتى لو صح أننا فى ظل النظام الحالى .. أى فى ظل حكومات الحزب الوطنى نعيش رخاء حقيقياً .. وسلاماً حقيقياً .. وتنويراً حقيقياً .. أليس من حق الشعب أن يطلب التغيير ، ويطالب بتداول السلطة وصدق المثل القائل " إن فى التنويع متعة ، حتى فى الهموم " فنجاح الحاكم فى قيادة هذه المسيرات لا يصلح تبريراً لبقائه ( حاكماً أبدياً ) .

 واذكروا ياسادة رجلاً إسمه " ونستون تشرشل " ( 1874 – 1965 ) الذى كان رئيساً للوزارة الإنجليزية طيلة أيام الحرب الثانية ( 1939 – 1945 ) وحقق على دول المحور أعظم انتصار فى تاريخ الببريطانيين ، بل تاريخ أوربا بأكملها على مدار التاريخ ، ورفض أن يعلن الأحكام العرفية على شعبه أثناء الحرب وقال قولته المشهورة : ( لا أجمع على شعبنا وطأة الحرب ووطأة الأحكام العرفية ) . وبعد هذا النصر العظيم فشل حزبه - حزب المحافظين – فى الانتخابات العامة ( النزيهة طبعاً ) عام 1945 وترك الرجل الوزارة بصورة طبيعية بعد أن حقق أعظم انتصار، ولم يخرج إنجليزى واحد هاتفاً " بالروح بالدم نفديك ياتشرشل " .

ثرثارون ونمور ورقية

إن الحاكم العادل يزرع فى قلوب المواطنين الاعتزاز به والحب له ، والإقبال عليه ، والثقة فيه ، وسرعة الاستجابة العملية لتوجيهاته ، على حد قول الشاعر المسلم عن خالد بن الوليد رضى الله عنه :

 إذا قال سيف الله كرُّوا عليهمو          كررنا بقلب رابط الجأش صارم

فيكون تحقق الانتصارات أمراً طبيعياً لا غرابة فيه . وكما يكون الحاكم العادل محبوباً من رعيته يكون مهيباً فى نظر أعدائه ، ومع حب المواطن لحاكمه العادل يكون صادق الولاء للوطن ، يفديه بنفسه وبكل غال نفيس0

وبالعكس يفقد الحاكم الظالم حب الناس وثقتهم ، وإذا أطاعوه ففى الظاهر فقط ، خوفاً من بطشه وجبروته على حد قول الشاعر :

 دعوْا باطلا ، وجلوْا صارما          وقالوا صدقنا ؟ فقلنا نعم

 ويفقد المواطن ولاءه لا للحاكم الظالم فحسب بل يمتد ذلك للوطن ، وقد أصبح يعيش فيه غريباً ، يعانى الظلم والقهر ومن العذاب الكثير وقد قالها أبو نواس من ثلاثة عشر قرناً :

 لا أذود الطير عن شجر         قد بلوت المرَّمن ثمَرهْ

 ومثل هذا الحاكم يستهين به أعداء الأمة ، ومنه يسخرون بعد أن نزع الله من قلوب أعدائنا المهابة منه ، وألقى فى قلبه وقلوب أعوانه وبطانته الوهن ، وهو حب الدنيا وكراهية الموت .