سيناريوهات المصالحة على وقع رصاص الخليل

سيناريوهات المصالحة

على وقع رصاص الخليل

صلاح حميدة

[email protected]

عمليّات عسكرية عديدة نفذّها الجهاز العسكري لحركة "حماس" في الضّفة الغربية قبل عملية الخليل التي نفذها القساميان الكرمي  والنّتشة ضد غلاة المستوطنين في الضّفة الغربية، و أهم ما تميّزت به هذه العمليّة أنّ حركة "حماس" - ولأول مرة- تعلن مباشرةً عن مسؤوليتها عنها، ولم تتبع أسلوبها السابق - منذ أربع سنوات تقريباً - بعدم الإعلان عن العمليات، وفقط القاء القبض على المنفذين كان يكشف وقوفها خلفها.

لعل حركة "حماس" هدفت من تلك العملية إلى إرسال رسالة واضحة لكل الأطراف بأنّها لا زالت طرفاً فاعلاً في المعادلة السياسية الفلسطينية، وأنّ أي حلول تصفوية للقضية لن تتم، وأنّها بإمكانها تحديد مكان وزمان وأهداف تراها مناسبة.

جرأة التنفيذ وضعت القوى الأمنية التي تحارب حركة "حماس"  أمام أسئلة صعبة جداً، ولا يخفى على أحد مدى الإرباك الذي سببته تلك العملية للساسة وقادة الأمن على حد سواء، ولعل من عايش الحملة التي شنّت على المحسوبين على حركة "حماس"  أدرك حجم وقع هذه العملية على أرض الواقع.

تمكّنت دولة الاحتلال من العثور على منفّذي العملية واشتبكت معهم بمعركة عنيفة حتى استشهدوا، ولعل  تداعيات العملية واستشهاد المنفّذين - وما بينهما وما بعدهما - لن تقف عند الأحداث بعينها بنظر المتابعين للحدث الفلسطيني، وأنّ هذه الأحداث وضعت العلاقات الدّاخلية الفلسطينية وكذلك العلاقات مع الاحتلال والمحيط الاقليمي والدولي أمام احتمالات  كثيرة، كما وضعت  تساؤلات عن  سبب الانفتاح الجزئي المفاجىء ل " عملية المصالحة" بعد عملية الخليل،  بالتّزامن مع  أجواء عدم الثّقة والتّراشق الإعلامي  وتعزيز الجدار والحاجز النّفسي  بسبب ما تلا العمليّة من استهداف للقاعدة المؤيّدة للمقاومة في الضّفّة الغربية، والّذي أظهر عمق الخلاف وجوهريّته بين الجانبين.

تعتبر مدينة الخليل المخزن الاستراتيجي لحركة "حماس"، وهي تقليدياً كانت تتأخر قليلاً في اللحاق بباقي مناطق الضّفة الغربية في المشاركة في بعض الانتفاضات الكبرى، ولكن بعد أن كان يتم القضاء على غالبية خلايا المقاومة في الضّفة وغزة، كانت الخليل تحمل عبء المبادرة وقيادة وإشعال جذوة الثورة والمقاومة من جديد، ولعلّ عملية الخليل بقيادة " الكرمي" أعطت ميّزة جديدة لما يمكن أن تكون عليه طبيعة استعادة حركة "حماس" لزمام المبادرة بعد صبرها على تلقّي الضّربات الأمنية  المكثّفة لأربع سنوات مضت، وبيّنت أنّ حركة  ك"حماس" بإمكانها تطوير آليات عمل تحت وقع الاستهداف الأمني المكثّف.

قررت المخابرات المصرية - بعد عملية الخليل - أن تتغاضى عن تمسّكها السابق  بإجبار حركة "حماس" على التوقيع على ورقتها، وأعطت الضوء الأخضر لاستئناف " عمليّة المصالحة" وحدث انفراج في بعض الملفات، وبقي الملف الأمني الذي اعتبر من أعقد الملفات على أرض الواقع، كما أنّ عملية الخليل  وما تلاها من حملة أمنيّة ضدّ العناصر و المحسوبين على حركة "حماس" وما جرى بعد اغتيال منفذّيها وضع المشاركين في " عمليّة المصالحة" أمام أسئلة جوهرية، يعرفها كل طرف من الأطراف المشاركة فيها. و الأجوبة على هذه الأسئلة هي التي ستحدد إذا كانت "عملية المصالحة" ستصل لنهايتها وتحلّ على الشعب الفلسطيني ثمار خيراتها أم أنّها ستصل إلى طريق مسدود لطبيعة وجوهرية الخلاف بين طرفيها، ونعود لحالة من الشلل والتراشق الاعلامي كما قبل.

 يميل أغلب الإحتمالات إلى أنّ حالة الانقسام ستستمر ولن تصل " عمليّة المصالحة" إلى نتيجة مرضية. فهل هناك إمكانية للوصول لاتفاقية تسمح بالمشاركة السياسية لمن يرفضون  الاعتراف بشروط الرّباعية الدّولية؟ وهل هناك إمكانية لوصول الطّرفين لاتفاق يحدد النّظرة لاتفاقيات أوسلو والسّلطة نفسها؟ هل هما عبء على النّضال الوطني الفلسطيني أم هما إنجاز وطني؟ وهل سيصل الطرفان لآلية للتصدي لما هو قادم من حرب الاستيطان والمستوطنين  على الكل الفلسطيني؟.

مع أنّه من المبكّر الاجابة على هذه التساؤلات، إلا أنّ المقدّمات تنبىء بالنّهايات، ولا تحتاج الاجابة لكثير عناء حتى يعلمها المتابع، خاصّة منذ عملية الخليل وحتى الآن، فلا يوجد أي أرضية من الممكن أن يلتقي عليها الطرفان، ولا يوجد قرار فتحاوي بالتّنصّل من الاتفاقيات الدّولية والخط السياسي التّفاوضي، كما أنّه لا يوجد قرار عند حركة "حماس" بالانتقال الى الخط السياسي الفتحاوي، بل المؤشرات الاعلامية والميدانية  تشير إلى  زيادة كبيرة في حدّة الخلاف بينهما، وهذا كله لا تمسحه لقاآت دمشق التي تحاول إظهار نوع من الحميمية التي لا امتداد لها على أرض الواقع..

إذن إلى أين تسير الأمور؟ وهل المنطقة على وشك الوصول إلى تفاهمات واتفاقات ومصالحات أم هي على وشك الوقوع في صدامات عنيفة؟.

على المسارات العربية البينية لا يبدو أن الأمور تسير لتوافقات أو مصالحات، بل هي تسير نحو المزيد من الحدّية بين مشروعين متناقضين تماماً، ومن الواضح أنّ التّحضير لحرب في المنطقة يسير بشكل متسارع، وصفقات التسلح والمناورات لا تنقطع بالمرة، ولا بد أنّ هناك من يعتقد أنّ المنطقة بحاجة لحرب جديدة حتى يتم الانتهاء من تصفية الملف الفلسطيني بشكل نهائي وفرض  حلول على الشّعب الفلسطيني، وأغلب المؤشرات تؤكّد أنّ قطاع غزة هو الهدف القادم لا غيره، فقد طالعتنا صحيفة القدس المقدسية - ونقلته الجزيرة الفضائيّة فيما بعد - في عددها الصّادر بتاريخ 10/10/2010 بخبر عن تحضيرات ومناورات إسرائيلية تهدف للسيطرة على تداعيات  توقيع اتفاقية تنهي الصراع وتتضمن تبادل أراضي، ومنها محاولات للسيطرة على فلسطينيي الدّاخل الفلسطيني ووضعهم في معسكراعتقال تمّ إقامته فعلاً؟!، إضافةً لتدريبات مكثفة للسيطرة على عمليات مسلحة فلسطينية تنفذ احتجاجاً على هذا الاتفاق، ويضيف التقرير أنّ  تدريبات تجري بصورة مكثفة في معسكر في  النّقب  للسيطرة على قطاع غزة.

بعض المتفائلين بحدوث اختراق جوهري - وهم قلّة - يرون أنّ حالة الجمود في المسار التفاوضي دفعت إلى تحريك ملف المصالحة، وأنّه من الحكمة محاولة إحداث اختراق في هذا الملف لإتمام المصالحة ورفع تبعات الانقسام السّيئة التي يعيشها الشّعب الفلسطيني على أرض الواقع، ويقف هؤلاء أمام جبل  من المتشائمين والمتضررين والمنتفعين من حالة الانقسام، ولكل طرف من تلك الأطراف ما يقوله في هذا الشّأن، فالمتضررون يطالبون بإنصافهم وأخذ حقوقهم التي ضاعت نتيجة الانقسام، والمتشائمون يعتبرون أنّ الحراك الذي يجري في ملف المصالحة تكتيكي، وأنّ التحريك المفاجىّ للملف والفعل المعاكس له على أرض الواقع يعززان نظرية المؤامرة ولا يتركان مجال لحسن النّية في عالم السياسة المليء بالدّماء والآلام والمناورات والخداع، ويدلل أصحاب هذا الرّأي على وجهة نظرهم بما جرى من انفتاح رسمي مصري على حركة "حماس" قبل  ما أطلق عليه "حرب الفرقان" ، أمّا المنتفعون من حالة الانقسام والذين يقتاتون من استمرارها فسيستميتون لمنع أي تقارب بين الطّرفين حتى ولو كان تكتيكياً.

سيناريو آخر يتحدّث عن  مصلحة لبعض القوى الاقليمية والدّولية بإحداث توافقات محلّية مؤقّتة في كل من لبنان وفلسطين والعراق أملاً بالتّفرّغ للملف الأكبر وهو ملف الحرب على إيران، ولعل تعطيل صفقة التسلح بصواريخ  إس 300 والحرب الالكترونية والصفقات الهائلة للتسلح لدول حليفة للولايات المتحدة في الاقليم، والتسريبات الاعلامية التي تسعى لتشجيع دولة عربية صغيرة على التحرش بإيران تحت لافتة أنّها بدباباتها وطائراتها تستطيع هزيمة إيران؟! مما يعيد سيناريو  حرب الخليج الأولى واحتلال الجيش العراقي للكويت إلى الواجهة. ويرى أصحاب هذا السيناريو أنّ المصالحات المطروحة تشبه إلى حد ما سيناريو الوحدة الكنفدرالية المؤقّتة بين القوى المحلية حتى تنتهي المعركة الكبرى وتتحدد ملامحها، ويدللون على كلامهم بأنّ كل حرب إقليمية تم جرّ النّظام الرسمي العربي لها بأيدي  غربية كان يدفع ثمنها الفلسطينيون بانتكاسة حقوقية وتفاوضية جديدة.

أحد السيناريوهات يرسم صورة مختلفة، ويعتبر أنّ جهود ما يعرف ب" عملية المصالحة" ستلاقي مصير مثيلاتها  في " عمليّة التسوية"، لأنّه بكل بساطة لا توجد أرضية متينة لتحقيقها على أرض الواقع، وأنّ ما بني على أنقاض  الانقسام أكبر بكثير من أنّ تنهيه توقيعات على أوراق مصرية  أو فلسطينية، ويضرب مثلاً على ذلك بوثائق التفاهم السابق قبل أن تسيل الدّماء. ويقف أصحاب هذا الموقف أمام الإجابة على  تساؤل عن ماهيّة  البديل الممكن التّنفيذ للخروج من "عنق الزّجاجة".

يرى هؤلاء أنّ المطلوب من قادة العمل السّياسي الفلسطيني أن يعلنوا صراحةً أنّ " عملية المصالحة" كما "عملية  التسوية" لا أمل بأن تصلا إلى نتيجة في ظل المعطيات على الأرض.

وهذا يقتضي من الشّعب الفلسطيني أن يحمل على عاتقه مسؤولية الدّفاع عن نفسه بالطّرق التي يراها مناسبة، وألا ينتظر القيام بهذا الدور من الفصائل والقوى المقاومة الفلسطينية، فانتظار المصالحة للقيام بهذا الدّور لم يعد ممكناً، كما أنّ مقاومة الحرب الشرسة من المستوطنين وحكومتهم على الأرض والشّجر والانسان والمقدّسات وصلت لمرحلة ما قبل النّضوج، وأنّ ربط كافّة أنواع التّحرك والتّصدي لهذه الموجة  العدوانية بتوافق داخلي - لن يتم - ليس إلا  تسليم بالأمر الواقع، بوضع يشابه ما جرى للمسلمين في بغداد تحت الغزو المغولي.

ويرى هؤلاء أنّ قوى المقاومة الفلسطينية استطاعت أن تستعيد زمام المبادرة في الضّفة الغربية بشكل جزئي، وأنّ ما جرى منذ عملية الخليل-  وما تلاها من استشهاد لمنفّذيها - كشف عن عمق الارتباط الشّعبي مع فكرة مقاومة الاحتلال، مع أنّ ظاهر الأمور يخدع النّاظر بعكس ذلك، وبالرّغم من أنّ هذا العمل لا يزال في بداياته ويسير بوتيرة بطيئة ومتفرّقة إلا أنّه مرشّح للتصاعد في ظل استفحال أزمة مشروع التّسوية و  الاعداد المتواصل للحرب، وفي ظل تسارع وتيرة الاعتداءات على المواطن الفلسطيني البسيط حتى لقمة عيشة ووجوده  وأقدس مقدّساته، فالمواطن البسيط الذي يعاني ليس بحاجة لمن يعطيه الإشارة بالدفاع عن نفسه، ولكنّه بحاجة لتصريح واضح من الساسة بأنّ حركاتهم وأجنحتهم المقاومة لا تستطيع في هذه المرحلة القيام بالدّور المطلوب منها بالدّفاع عن الشعب الفلسطيني بشكل كامل.

فالمعادلة أصبحت واضحة المعالم وليست بحاجة لكثير تفسير ولا تحليل للعامّة، ولكن ما يحتاجه عامّة النّاس ليس إعادة تسويق أوهام بنجاح عمليات لا يمكن لها أن تصل لنتائج، بل إلى صراحة مع الشّعب ووضعه مباشرةً أمام مسؤولياته، أماّ القادة والحركات والأجنحة المقاومة فهي إن عملت فهي تقوم بدورها، وإن تباطأ عملها - بفعل عوامل كثيرة- فهي غير ملامة بما لا تستطيع،  والأفضل في هذه المرحلة أن يسارع السّاسة لمصارحة الشّعب، كل في الملف الذي يحمله، ومن يؤثر الانتظار فله ذلك، وهم جميعاً يقفون أمام مسؤولية تاريخية.