ومات رائد القومية العربية

محمد فاروق الإمام

ومات رائد القومية العربية

وخلف عشرات الرواد في مشرق الوطن ومغربه

محمد فاروق الإمام

[email protected]

مرت علينا الذكرى الأربعين لوفاة رائد القومية العربية جمال عبد الناصر وشرعت الأقلام مدحاً وذماً بتاريخ هذا الرجل الذي لا أنكر أنه طبع حياة الشعوب العربية بطابع من العزة والكبرياء والتحدي، ولا أخجل إن كنت أحد من هتف له من أعماق قلبي، وخضت معارك قاسية مع أعدائه منذ بواكير فتوتي المبكرة، فأنا من مواليد جيل حمل أفكار (هي فقط ما كنت أراها في الشارع العربي) الأفكار القومية والعلمانية والماركسية، ظناً مني أنها هي البلسم المنشط الذي سيوقظ المارد العربي من ثباته ويفجر الإرادة العربية الكامنة في نفوس 300 مليون عربي مُرغت كرامتهم يوم إعلان قيام الدولة العبرية عام 1948 وهزيمة العرب فيها أمام حفنة من اللصوص والأفاكين، وكنت كغيري من الحالمين أكيل مفردات الشتم التي تلقنتها من مفكري القومية العربية، بدءاً بالحصري وانتهاء بعبد الناصر ومروراً بالأرسوذي وفايز إسماعيل، في تلك الأيام لكل من يخالف عبد الناصر أو يشكك في زعامته من اليمين العفن والإقطاع المتسلط والرأسمالية العميلة.

وصدمت للوهلة الأولى كما صدم الملايين من أبناء (بني الضاد) بهزيمة عبد الناصر أمام إسرائيل، رغم امتلاكه – كما كان يشاع – لصواريخ الظافر والقاهر والرائد والميج والسام ومئات الدبابات وآلاف قطع المدفعية، وعشرات الآلاف من الجنود والضباط المدربين الذين كان هدفهم - كما كان يردد أحمد سعيد من صوت العرب – إلقاء إسرائيل في البحر، وكما كنا نسمع من حلفائه البعثيين في سورية بأن تحرير فلسطين ستكون نزهة أمام الجيش العقائدي السوري المقدام كما كان يردد صابر فلحوط من إذاعة دمشق (ميراج طيارك هرب مهزوم من نسر العرب).

أقول صدمت كما صدم العرب والمسلمون وكل أحرار العالم وأصدقاء العرب وحلفائهم بهزيمة العار التي أسماها الإعلام العربي في حينها (النكسة) كما وصف سابقاً ضياع فلسطين (بالنكبة).. وهزت هذه الهزيمة كياني من أخمص قدمي وحتى قمة رأسي وتركتني لأيام لا أعرف كيف أسترجع توازن أفكاري، وقد غطت الجماهير المصرية والعربية والصديقة الوافدة شوارع القاهرة رافضة اعتراف عبد الناصر بمسؤوليته عن الهزيمة واستقالته وإعفائه من كل مناصبه (وهذا أقل ما يمكن أن يقدم عليه زعيم كان سبباً مباشراً بهزيمة ماحقة ألحقت العار والشنار بمصر والأمة العربية التي هتفت له على مدى خمسة عشر عاماً وحملت سيارته على أعناقها حباً وتكريماً له) مطالبة ببقائه لقناعتها بأن الزعيم الخالد جمال عبد الناصر هو قدر هذه الأمة، فإذا ما كانت الهزيمة قد تمت على يديه فلا بد من أن يأتي النصر على يديه (تصوروا هذه النظرية المشقلبة!!).. رجل أعطى كل ما عنده خلال خمسة عشر عاماً في الحكم ولم يفلح أو يحقق انتصاراً أو حتى صموداً، وقد ذهبت سيناء ومضائق ثيران وقناة السويس والجولان والضفة الغربية والقدس وغزة في ستة أيام، والشارع العربي متمسك به! ويا لسذاجة هذه الشعوب وبساطتها وغفلتها وهي تسير وفق عواطفها بعيداً عن إعمال العقل وقدح الفكر!!

بعد الهزيمة طلقت الناصرية ثلاثاً وانزويت في بيتي أعيد قراءة نفسي والعالم من حولي الأعداء منهم والأصدقاء، باحثاً عن الحقيقة ومكمن قوة هذه الأمة، فهزتني مقولة (الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه): (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله)..

 وقر قراري بأن الحل هو الإسلام والعودة إليه فهو حصننا الحصين وفيه العزة والكرامة.. وفي أثناء رحلتي في العودة إلى الله أعدت تثقيف نفسي إسلامياً لأتخلص من لوثة القومية والأفكار الغريبة والدخيلة التي أمضيت شطراً من حياتي أعيش كابوسها المظلم حتى ولجت رحابة الإسلام واستظليت بنور هديه، وقدراً التقيت صديقاً أمضيت معه فترة طويلة في (سجن المزة) وكان ماركسياً صلباً متشدداً، ولكنه كان طيباً ووطنياً وعقلانياً ومسالماً وينبذ العنف، وقد أرخى لحيته حتى كادت تصل إلى نصف صدره، تعانقنا طويلاً ثم تنحينا جانباً نتجاذب أطراف الحديث.. سألته ما هذه اللحية يا (...؟!)، قال بفرحة وندم عن تاريخ ماض أسود – كما قال – إنه الإسلام يا فاروق الذي تركناه خلف ظهورنا ولم يتخل عنا فهاهو قد جذبني كالمغناطيس.. إنه النور الذي أدرنا له ظهرنا ونحن واهمون أن الماركسية هي من سيغير حال أمتنا، وأمضينا سنوات من الشقاء نركض وراء سراب والماء ينساب بين أضلعنا وقد عميت بصيرتنا عنه إلى أن هداني الله وأنا كما ترى عدت إلى المعين الصافي بكل جوارحي وكياني معتذراً إلى الله بتوبة نصوحة وأرجو أن يتقبل الله مني.. وأريد أن أسألك ألم يحن الوقت يا فاروق أن تعود إلى الله وتنسلخ عن أفكارك القومية وتعود إلى الله؟! تبسمت ابتسامة فرح بما أسمع وما أشاهد وقلت: نعم يا أخي لقد عدت إلى الله بعد هزيمة حزيران وصدمتني الهزيمة القاسية، ولكن ألم تقاتل أنت في حرب حزيران؟ ألم تفرط بالأمانة (الجولان) وقد سلمناها لكم منيعة حصينة عصية (أمضيت خدمتي الإلزامية في مرتفعات الجولان)؟! رد علي بألم لقد قاتلنا وكنا نحمل عقائد معادية لله فمن أين سيكون النصر والله تعالى يقول: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)؟!    

لقد مات رائد القومية العربية جمال عبد الناصر وكانت الناصرية لوثة العصر وفيروسها التي انتقلت إلى معظم البلدان العربية شرقها وغربها، كل زعيم فيها تقمص شخصية جمال عبد الناصر في بلده فكان رائداً للقومية العربية وملهمها والرجل الضرورة والأوحد حتى امتلأت الساحة العربية بجيش من المستبدين والطغاة والفاسدين واللصوص والكذبة والمضللين والمنافقين والمطبلين والمزمرين والمتملقين والهتافين، وكانت هذه بعض ما أورثتنا إياه الناصرية والقومية العربية واليسار العربي، التي مجتها الجماهير العربية، وما حصدنا من ورائها إلا التخلف والفساد والفقر والقهر والإذلال والعبودية والانكسارات والهزائم!!

ولا يزال البعض – وهم أحرار - متمسكين بالناصرية واليسار مديرين ظهرهم لعامل النصر الوحيد وهو التمسك بحبل الله المتين، وهذا من حقهم، فلا إكراه في الدين.. وأنا أحترم صادقاً كل ما يعتقده الآخرون سواء كنت اختلف معهم أو أتفق معهم، فالاختلاف عندي لا يفسد للود قضية، فساحتنا العربية تتسع لكل هذا الخليط من الأفكار الغث منها والسمين وأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح والقرار بيد الجماهير إذا ما أتيح لها الاختيار.. وأنا أؤمن بأن بوصلة الجماهير هي الحكم في النهاية!!