مصر: سلام اجتماعي يتهدده الغرق

د. ياسر سعد

[email protected]

حكم المحكمة المصرية والذي صدر بالأمس في مأساة غرق العبارة المصرية "السلام 98" أضاف لأهل الضحايا بعدا مأساويا وشعورا بالغبن والمرارة, هذا الشعور أصبح وكأنه قدر المواطن في كثير من الدول العربية والذي يعد من الأسباب التي تمنح التطرف تربة خصبة لتجنيد الأتباع وحشد اليائسين والمحبطين. المحكمة برأت مالك العبارة ممدوح إسماعيل وابنه, الهاربين من العدالة المفترضة إلى لندن, واكتفت بالحكم على قبطان إحدى العبارات التابعة للشركة، بالسجن لمدة ستة أشهر لرفضه التوقف لنجدة الغرقى.

 حكم المحكمة خالف تقريرا لمجلس الشعب المصري حمل عنوان "فساد أسود وبحر أحمر بدماء الضحايا" أدان مالك العبارة وحمل هيئة السلامة البحرية مسؤولية الحادثة، بسبب الإهمال في مراقبة اشتراطات الأمن، بالإضافة إلى نقص وسائل الاستعداد لمواجهة الكوارث، وتردي حالة عبارة السلام 98, والإهمال في إنقاذ العبارة قبل غرقها. ونبه التقرير إلى أن هناك تدنيا في مستوى تنفيذ الإجراءات والمعايير الخاصة بسلامة سفن الركاب.

المنظمة المصرية لحقوق الإنسان أصدرت بدورها تقريرا عن المأساة كشف عن مجموعة من المخالفات الجسيمة والجرائم التي ارتكبت بحق الأبرياء الذين ذهبوا ضحية الفساد والإهمال. وخلص التقرير إلى افتقاد أجهزة الدولة لآلية التعامل مع الأزمات, وأشار إلى عدة عوامل أدت إلى تفاقم نتائج الأزمة منها احتكار الشركة العمل على الخطوط المصرية السعودية، ورفع العلم البنمي على عباراتها. كما تناول التقرير المنظمة المصرية أيضاً أوجه القصور في التشريع المصري فيما يخص قانون سلامة السفن.

ممدوح إسماعيل والذي لشركته أكثر من سابقة في غرق عباراتها والتي عادة ما تُحمّل للقضاء والقدر، هو نموذج للمصاهرة في النظام العربي بين السلطة والمصالح التجارية. فهو عضو معين في مجلس الشورى وأمين للحزب الوطني بمصر الجديدة. وحسب مصطفى بكري – الصحفي المصري وعضو مجلس الشعب - فإن إسماعيل يتحكم في الخط الملاحي والذي غرقت فيه العبارة ، حيث يرفع الأسعار ويوظف القوانين كما يشاء, وقد اشتكى كثير من التجار والمصدرين والمخلصين من تزايد نفوذه إلا أنهم كانوا يواجهون دائما بأن أحدا لن يستطيع أن يتصدى له لأنه "مسنود" من مسؤولين كبار يشاركونه بغير أسمائه.

مقارنة بين أسلوب تعامل الدولة مع مشتبهي الفساد والمعارضين السياسيين أو حتى مع الصحفيين يشير إلى خلل كبير. فالدكتور أيمن نور زعيم حزب الغد تم رفع الحصانة عنه خلال دقائق وحكم عليه بالسجن 5 سنوات بتهمة تزوير توكيلات تأسيس الحزب. وفي مارس الماضي حكمت محكمة مصرية بحبس الصحفي إبراهيم عيسى لستة أشهر لإدانته بنشر أخبار عن صحة الرئيس حسني مبارك. واليوم تبرأ محكمة أخرى رجل قريب من الحكم أدانته لجان متعددة بالتسبب في مقتل أكثر من ألف مواطن. وإذا كان ضحايا الفساد في قضية العبارة المصرية قد تم إحصاؤهم فإن ضحايا الفساد غير المرئيين من الفقراء والمرضى والعاطلين عن العمل يصعب حصرهم.

مأساة العبارة المصرية وتداعياتها يشيران إلى تدهور قيمة المواطن وغياب الدولة عن واجبات الخدمة والحماية والرعاية وحضورها الأمني البارز. فلا يكاد يمر وقت حتى نسمع عن كارثة مرورية مروع أو انهيار لمبنى سكني أو حوداث قطارات مفجعة. مؤشرات تشير إلى ترهل في مفاصل الدولة وتوغل للفساد الإداري والبعد عن مصالح وحاجات المواطن والذي أصبح يشعر بالغربة في وطنه, مما يهدد بانفجارات غاضبة تطيح بالبقية الباقية من السلم الاجتماعي.

أوضاع مصر الداخلية الصعبة انعكست على دور مصر الإقليمي والعالمي, فالقاهرة اختفى صوتها حتى عن القضايا التي تمس أمنها القومي وبشكل مباشر مثل الأوضاع السودانية. وارتضت القاهرة في القضية الفلسطينية أن تكتفي بدور الوسيط الهزيل في الهدنة في قطاع غزة والحارس النشط على حدودها.