مسيرات الخلافة تستفز السلطة الفلسطينية قبل انطلاقها

مسيرات الخلافة تستفز

السلطة الفلسطينية قبل انطلاقها !

د. ماهر الجعبري-الخليل-فلسطين

[email protected]

يتأهب حزب التحرير في فلسطين لإحياء ذكرى هدم الخلافة خلال الأسبوع الحالي في نشاطات حاشدة تتضمن مسيرات ضخمة في بعض المدن الرئيسية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومنها مدينة الخليل. وهذه الأجواء تذكّر بالحدث المأساوي الذي تورطت فيه أجهزة السلطة في سابقة تاريخية عندما لاحقت نعشا يحمل شهيدا سقط لأجل الموقف السياسي المتمثّل في رفض اتفاقيات التنازل عن الأرض، وفي استنكار مسيرة التطبيع العربي في أنابوليس ... بعدما كانت قد قتلته بدم بارد في مسيرة جماهيرية شبيهة لمسيرة السبت القادم التي ينظمها الحزب في الخليل، مع اختلاف المناسبة السياسية.

لقد كان القمع الوحشي الذي تعرضت له جنازة الشهيد البرادعي رحمه الله في مدينة الخليل محل استنكار لأهل الحل والعقد والوجهاء وكافة الفعاليات ومن ضمنهم رجالات في حركة فتح ... وندم من ندم من الكبار والأتباع ... وحاولوا مد الجسور من جديد مع الناس ... وحاولوا التكفير عن ذنبهم بتوصيف هشام البرادعي رسميا في سجلات السلطة بأنه شهيد.

وها هي التوجسات الأمنية تدور في أروقة السلطة منذرة بتكرر المشهد ... وكاشفة عن بطلان توبة الكبار عن التمرد على ثقافة الأمة وعن إراقة دماء المسلمين.

بكل بساطة لا بد أن نتسائل ما المبرر لهذه التوجسات الأمنية ؟ ... هل إحياء ذكرى هدم الخلافة فيه تهديد لهذه السلطة ؟ ... وهل استنصار جيوس المسلمين مخالفة توجب إسالة الدماء ؟ ... ثم إذا كانت بعض الذرائع في الحدث السابق قد تعلّقت بعدم إعلام الجهات المعنية بهذه المسيرات قبل انطلاقها، فقد قام حزب التحرير هذه المرة بإعلام تلك الجهات بشكل خطي حسب ما نص القانون الذي تحتكم إليه هذه السلطة ... وبالتالي فما هي الذريعة التي تبرر هذه التوجسات الأمنية ؟

من الطبيعي أن تنطلق المسيرات في الخليل وفي كافة المدن دون إعاقة من الأجهزة الأمنية ... ومن الطبيعي أن يكون كل مسلم مع فكرة الخلافة التي تحرر البلاد وتنقذ العباد ... بل الأصل أن يلتحم أفراد الأجهزة مع مسيرات الخلافة ... ولكنه التحام القيام بالفرض الشرعي لا الالتحام الدموي ضد إرادة الأمة.

ثم تعلو أصوات السياسيين والإعلاميين بين شطري السلطة في رام الله وغزة في نقد أعمال هؤلاء وهؤلاء ... فهل ترسّخ سلطة رام الله انفرادا في القمع وهي تشاهد مسيرة غزة في نفس الوقت دون قمع ؟... وإلا فكيف يمكن حينها للسيد عزام الأحمد –حسب الجزيرة اليوم - أن يطالب بتحقيق نزيه في أحداث غزة الأخيرة ذات الصبغة الفصائلية ويصمت أمام هذه التوجسات الأمنية فيما يتعلّق بمسيرات حزب التحرير ؟

هنالك مجموعة من التناقضات تستعصي على العقلاء !

لا يمكن بأي حال أن نفسّر تلك الصورة القاتمة أمام أطفال فلسطين الذين تربوا على رفض الاحتلال وعلى علو وسمو مكانة الجهاد في سبيل الله ضد المغتضبين ... وعلى تبجيل السلاح الموجه للاحتلال ... لا يمكن أن نفسر لهم كيف يتحول الرصاص عن صدور الغاصبين إلى صدور الرافضين للمشاريع الغربية ... وعن صدور الذين يعيثون في الأرض فسادا إلى صدور المستنصرين لجيوش المسلمين لتخليص البلاد والعباد من إفسادهم.

ولا يمكن أن نفسر لأطفالنا سؤالهم البسيط: لماذا يتخوف الناس من هذه الأجواء ؟ ... لماذا يحتدم الموقف في فلسطين في أسبوع التحضير لإحياء ذكرى هدم الخلافة ؟... فهم تعلموا أن عمر خلفية المسلمين هو الذي فتح بيت المقدس ... وأن صلاح الدين حرر القدس بعد أن وحّد الأمة ... وأن السلطان عبد الحميد أسقط وأسقطت من بعده الخلافة لأنه رفض التنازل عن أرض فلسطين.

من جهتي أعجز عن تفسير ذلك لأطفالي ... وخصوصا عندما أؤكد لهم أن حملة سلاح القمع هم مسلمون مثلنا وهم أهل هذه البلاد وبعضهم ممن قضى أشواطا من عمره في سجون الاحتلال ... وبالطبع لا يمكن أن تأخذني الحمّية لأقول لأبنائي أن هؤلاء أعداء ... حتى وهم يسيلون دماءنا في شوارع الخليل لأن العقيدة قد قررت الأخوة قبل أن يتقرر الموقف السياسي.

فلا يمكن للعقل أن يتصور كيف يتحول أتباع حركة تحرر وطني إلى أجهزة قمع لشعب لا زال تحت الاحتلال ! ويحار الذهن وهو يحاول أن يستحضر تجارب شعوب الأرض وأن يتفحص تحولات حركات المقاومة والتحرير في العالم باحثا عن تجربة نضالية شبيهة لهذه التجربة الفلسطينية ... فلا يجد ! يذهب بعيدا إلى مشارق الأرض وإلى مغاربها ليبحث عن حالات مقاومة يتحوّل فيها المناضل عن أمته إلى شرطي لدى مغتصب أرضه، فلا يجد.

إذن هل هذه الحالة الفلسطينية تجسّد سابقة تاريخية ؟ وإلا فما الدافع لتلك الأجهزة أن تنبري لذلك الدور القمعي ؟ 

ومن هنا يستغرب المحللون كيف أصبح المقاومون الذين قضوا أعمارا وعقودا في حركات النضال من حملة سلاح ضد الاحتلال إلى رعاة مشروع أمني لهذا الاحتلال ؟... بالطبع هنالك فرق بين الصف السياسي الذي يتلقى تعليماته في البيت الأبيض وفي لندن وبين أفراد الأجهزة، رغم أنهم يسترزقون من وظيفة الحرس عند هذا الصف السياسي الأجير للغرب ... وهذا التفريق لا يعفي هؤلاء المسترزقين من مسؤولياتهم أمام الله في الآخرة، ولكنه تفريق سياسي وتوجيه للعمل السياسي للجهة الصحيحة ... وابعاد لنار الفتنة بين أبناء المسلمين بغض النظر عن الجهة التي يصطفون فيها وبغض النظر عن مشروعية موقفهم أمام الله ... ولأنهم يحملون نفس العقيدة الإسلامية.

ولكن السؤال المطروح على أفراد الأجهزة الأمنية هو: هل يتفهّمون حرارة اللقاءات مع ألمرت من قبل الساسة الرسميين في مقابل الخصام الدموي مع أهل البلد ؟... وهل يقبلون خلع الألبسة أمام جنود الاحتلال ورفع الأيدي على الجدران في مقابل الاستشراس أمام جنازة شهيد ؟... وهل يتفهمون خنوع الوزارء على الحواجز العسكرية في مقابل الأوامر التي يتلقّونها منهم لترويع العباد واقتحام بيوت أهل البلاد؟

من الأكيد أن أغلبية أفراد الأجهزة غير مقتنعين بهذا الدور القمعي ... بل قد بدت عن بعض المحافظين إشارات تتسم بالتعقل، وبالتالي فما المبرر لهذا التمرد على ثقافة المسلمين  والتحدي لمشاعرهم وهم يحيون ذكرى أليمة على نفوسهم ؟ ومن هي الجهة العليا التي تصرّ على تجسيد هذه التوجسات الأمنية ؟

إنه تناقض نضالي: أن يتحوّل اتجاه عقرب النضال ليلسع أهل البلد الرافضين الاعتراف بالاحتلال ... وإنه انقلاب على المفاهيم وثورة عكسية على المواقف السياسية وتحويل لفهوات البنادق إلى غير اتجاهها.

لا معنى لتوجيه لوم لمن باع البلاد والعباد في مقابل رضى الاسياد في واشنطن ... ولا معنى لتوجيه لوم لمن يغازل ساسة أوروبا ... ولا لمن تراقصت أعينهم صعودا ونزولا أمام بريق السجاد الأحمر ... ولا لمن تخلّى عن عقيدة الكفاح والجهاد ... لا مجال لتوجيه اللوم لأي من الإنهزاميين: المكشوفين أو المتسترين في عباءات المقاومة ... إنما اللوم على الرجال: الرجال الذين هم أهل هذه البلاد بغض النظر عن تبعيتهم الحزبية أو الفصائلية أو الوظيفيّة ... الرجال الذين شعروا بالخزي واستعرّوا من موقف السلطة وهي تتصدى لقمع أهلهم وذويهم ... هم رجال تجمعهم عقيدة واحدة قبل أن تفرقهم الفصائل والأجهزة ... هم رجال تربطهم رابطة الأخوة الإسلامية قبل أن يفرٌّقهم التنافس على سلطة وريدها تحت اصبع الاحتلال يضغط عليه متى شاء ... ودماؤها تنبع من التمويل الأروربي يوقفها أعداء الأمة متى شاؤوا.

فماذا سيكون موقف هؤلاء الرجال ؟ هل يرضون الضيم أم يردون الأذى ؟