عَفُّ اللِّسان والقلم!..
د. محمد بسام يوسف*
عاجَلني صديقي الحانق، بصواريخه (فَمْ-أُذُن)، المشتعلة بالتقوى، المتّقدة بالإيمان، المحمّلة برؤوسٍ صاروخيةٍ من عِفّة اللسان، وفضائل الإحسان!.. وبعد أن وجدَ سلاحه الفتّاك طريقه -عبر أُذُني- إلى تلافيف دماغي ومنحنياته، وفهمت قَصده.. أدركت أنّه عاتب حانق، يستغفر الله عزّ وجلّ من سلاطة الألسنة، وشراسة الأقلام، وحِدّة الأمزجة.. كما يزعم ويدّعي!..
حاولت أن أدافع عن الألسنة والأقلام، عملاً بالحكمة الانبطاحية العربية الحديثة القائلة: (الدفاع خير وسيلةٍ للهجوم)!.. إلا أنّ صديقي المصون لم يترك لي مجالاً لالتقاط أنفاسي، واستمرّ -هذه المرّة- برشْقاته الرّشاشية، عملاً بمبادئ الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، التي تنعم بها دول ما يسمى بالعالم الثالث (عَشَر)، اقتباساً عن الديمقراطية الغربية والأميركية مُسبَقَة الصنع، المفصّلة على مقاسِنا، والمُصَدَّرَة خِصّيصاً إلى شرقنا العربيّ والإسلاميّ!...
بعد استراق بعض الثواني، من الهدنة والهدوء بين الرشقات الصاروخية والرشّاشية المنبعثة عن صاحبي اللدود.. فهمتُ فحوى المحاضرة البليغة التي قذفها في وجهي.. كان فحواها: إنّ المسلم المؤمن عليه أن يكون ملتزماً أدبياً، وعَفَّ اللّسان والقلم، أثناء معالجته لأي قضيةٍ أو مشكلةٍ يكتب عنها!.. وعندما استوضحتُ الأمر من صاحبي العزيز، أوقَفَ مِنصّات صواريخه عن الإطلاق، وكفَّ نفسه عن زناد رشّاشه الديمقراطيّ، وقال بكلماتٍ مشدودةٍ: (ليسَ المؤمنُ بالطَّعَّانِ، ولا اللَّعَّانِ، ولا الفاحِشِ، ولا البَذِيِّ)!.. (رواه الترمذي) .. ثم تابع كتيّارٍ كهربائيٍ (ثري فاز): يا أخي، لا يجوز أن تطلق مصطلحاتك جزافاً، من مثل: (المجرم، والسفّاح، والدكتاتور، والفاسد، والطائفيّ، والصفويّ، والفارسيّ، و ..)!.. فهل هذه عبارات وكلمات يمكن أن يُطلِقَها مسلم صاحب رسالة، يؤمن بالله ورسوله؟!.. وهل..
انتهزتُ هذه الفرصة (الديمقراطية) النادرة الثمينة للحوار، من أجل التوضيح ودفع هذا القصور بالفهم!.. فبعد أن استوعبتُ المقصود تماماً، وعرفتُ سبب كلّ هذا الحنق والغضب .. قاطعتُ هجوم صاحبي قائلاً: ألم تسمع بقول الصدّيق أبي بكر رضوان الله عليه: (امصُصْ بَظَرَ اللاّت ..)؟!.. فانتفخت أَوْداجه أكثر، واحمرَّ وجهه وأنفه، وتصبّب العرق من وجنتيه وجبينه، ثم شهق شهقةً لو نزلت على رؤوس (التّيوس الجبلية) لهشّمتها!.. قلت له: اسمعني حتى أكمل كلامي يا رجل، فيبدو أنّك لم تتعلّم شيئاً من (العالَم الديمقراطيّ) الحرّ، الذي باتت تنعم بِقِيَمِهِ وأخلاقه ومفاهيمه وثقافته ونعيمه ونعومته.. البلدانُ والأوطان، في ظلّ رعاية (راعي البقر النـزيه)!..
يا صاحبي: (امصُصْ بَظَرَ اللاّت).. عبارةٌ أطلقها الصحابيّ الجليل، أبو بكرٍ الصِّدّيق رضي الله عنه وأرضاه، خليل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبه، وقرّة عينه.. قالها لـ (عروة بن مسعودٍ الثقفيّ) في الحديبية، الذي راح يتنطّع بكلامه عندما قدِم إليها، مفاوِضاً مبعوثاً من قريش!.. فعندما جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال (عروة) ممّا قاله: [.. وايْم الله، لَكَأَنّي بهؤلاء (يعني أصحابه رضوان الله عليهم)، قد انكشفوا عنكَ غداً (أي تركوك وخذلوك)!.. فردّ عليه أبو بكرٍ رضي الله عنه -وكان يقف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم- : امصُصْ بَظَرَ اللاّت، أنحن ننكشف عنه؟!..]!.. (السيرة النبوية لابن هشام) .. فماذا ستقول يا صاحبي لأبي بكرٍ رضوان الله عليه لو سمعتَها منه، بحضرة سيّد الخلق محمدٍ صلى الله عليه وسلّم، وبحضور كبار الصحابة وأشراف المسلمين؟!..
لو كان أبو بكرٍ الصّدّيق رضوان الله عليه بيننا اليوم، ورأى بأمّ عينه، هذا الذي لا عين رأت ولا أُذُن سمعت ولا خطر على قلب بَشر.. من المهازل الأميركية، والجرائم الصهيونية، والافتراءات اليهودية الخبيثة، والتواطؤ العالميّ مع أعدائنا، والعدوان العقديّ والسياسيّ والاستيطانيّ الصفويّ الفارسيّ الاستئصاليّ، والظلم الذي لا مثيل له، والسَّحق والقتل والتشريد والنهب والاغتصاب والاحتيال والفساد والبطش والسَّجن والاعتقال والقهر والقمع والاستبداد و.. ثم رأى حالنا هذه واختلافنا، حتى على مقياس عِفّة اللّسان والقلم!.. فهل سيتردّد في أن يقول لنا، نعم لنا نحن لا لعدوّنا ولا لغيرنا، ما قاله لعروة بن مسعودٍ الثقفيّ؟!..
* * *
يا صاحبي: هل لك أن تزوّدني بمعجمٍ للمصطلحات السياسية والأدبية، التي ينبغي ألا يستخدمها الكاتب المسلم بحقّ مَن يستحقونها، وهل حقاً تعني ما تقول، وهل معايير الألفاظ السليمة، هي الموجودة في رأسك حصراً، تخضع لمعيارك ومزاجك الشخصيّ؟!..
يا صاحبي: لو قرأتَ كلماتٍ في كتاب الله عزّ وجلّ، وهو كلامه الحقّ سبحانه وتعالى، الذي لا يخالطه شكّ أو ريب أو خطأ، من مثل: (الغائط، والقردة، والخنازير، والبغال، والحمير، والمجرمين، وإخوان الشياطين، و..)، فماذا ستقول؟!..
يا صاحبي: إليك بعض آيات كتاب الله عز وجل، التي وردت فيها كلمات بحق من يستحقونها، فماذا ستقول عن كتاب الله؟!..
(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان:19) (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة:60) (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) (المدثر:50) ( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد:25) (.. أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (هود: من الآية 18)
(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) (القلم:35)
وإليك بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الصحيحين، فماذا ستقول عن رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام:
(لَعَنَ اللهُ اليهود..)، و (لَعَنَ اللهُ آكلَ الربا)، و(لَعَنَ اللهُ مَن ذَبَحَ لغيرِ الله)، و.. !..
يا صاحبي: إذا لم يكن المجرم السفاح (نتنياهو) مجرماً سفاحاً، فماذا يكون؟!.. أحبيباً وشقيقاً يكون؟!..
وإذا لم يكن القاتل الحاقد (بوش أو شارون أو تشيني أو رامسفيلد) مجرماً وبلطجياً، فماذا يكون؟!.. أخليلاً وصديقاً يكون؟!..
وإذا لم يكن طواغيت الأرض وبُغاتها أهل بطشٍ وجريمةٍ واستبدادٍ، فماذا يكونون؟!.. أأحباباً وأعزّاء وأهل عدلٍ وحقٍ ومروءة؟!..
وإذا لم يكن من يشتمون الصحابة -رضوان الله عليهم- ويشكِّكون بعِرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ويعتقدون بعصمة بعض البشر، ويقدّسون أبا لؤلؤة المجوسيّ، ويحلّلون التمتّع بالزنا، ويعتقدون بتحريف القرآن الكريم، ويقتلون كل من اسمه عمر وكل من اسمها عائشة، ويحتلّون بعض بلاد العرب والمسلمين، ويضعون كل إمكاناتهم في خدمة نشر دينهم المتناقض تماماً مع الإسلام في مجتمعاتنا، و.. إن لم يكن هؤلاء أعداء ألدّاء للإسلام والمسلمين، فماذا يكونون؟!.. وما واجب المسلم بل الداعية المسلم تجاههم؟!..
وإذا لم يكن المتواطئون المتخاذلون المنافقون خونةً وعملاء للأعداء، فماذا يكونون؟!.. أشرفاء وقدّيسين؟!..
وإذا.. وإذا، فماذا.. وماذا؟!..
وَصْفُ المجرم بما يستحق ليس مباذاة!.. ووَصْفُ الشواذ السفّاحين، والطغاة الذين يسفكون الدماء وينتهكون الأعراض ويَسْبون النساء والفتيات، ويهدمون البيوت ويدفنون أصحابها تحت أنقاضها، ويقتلون الحياة بكل أشكالها، ويهتكون الأرض والعِرض والزرع والضرع، ويعذّبون الأحرار ويدفنون الشرفاء في مقابر جماعية ويعتدون على عقيدة الإسلام وعلى المسلمين.. و.. ليس فُحشاً!.. الفُحشُ أن يدافَع عن هؤلاء المجرمين تحت ستارٍ أعوج، بزعم التحلّي بالأخلاق الإسلامية والرصانة.. وكأنّ الأخلاق الإسلامية تتناقض مع القول الحق ووصف المجرم بما هو عليه من الإجرام!..
وفضح الكفار واليهود وطواغيت الأرض، الذين يَسحقون الناس ويقهرونهم ويقمعونهم ويُفسدون في الأرض.. ليس من المحرّمات والممنوعات!.. بل هو واجب شرعيّ يأثم من لا يقوم به. ووَصْفُ الشيء أو الشخص كما هو وكما يستحقّ.. من الواجبات التي لا تقبل الجدال أو الفلسفات، ولا التشدّق بالقداسة، أو التدثّر بكلمة حقٍ أُريدَ بها باطل!.. فممارسة السياسة ليس معناها ممارسة النفاق الذي يفرّط بعقيدة الإسلام ويضلِّل المسلمين.
* * *
ليست القضية قضية ترشيدٍ أو توجيه.. فهي قضية تضييقٍ وعقلياتٍ تسلّطية، لا تستطيع أن تتعايش مع غير شاكلتها، ولا تطيق غير أسلوبها!.. وهي في كل ذلك تريد أن يكون الناس نسخةً واحدةً طبق الأصل مستَنسَخةً عنها، وعن طريقة تفكيرها، وسياساتها شديدة البراغماتية، وأسلوبها العقيم!..
هي عقليات لا ترى إلا نَفْسها، ولا تستطيب إلا ذاتها، ولا ترغب أن يرى الناس إلا بمنظارها، ولا أن يفكّروا إلا عبر تلافيف دماغها!.. ثم تغلّف ذلك كله، بالحرص على المصالح العامة والخير المنشود، وتجنّب الأذيّة والأذى، والالتزام بأخلاق الإسلام والمسلمين!..
يا صاحبي: إنني لا أعمل إلا بعقلي، ولا أكتب إلا بيدي وقلمي ومِدادي، ولا أفكّر إلا بضميري، ولا أسجّل إلا رأيي.. فالمسلم المؤمن الحق الحرّ، نعم: الحرّ لا الإمّعة، لا يعمل بعقول الآخرين، ولا يكتب بيد غيره وقلمه، ولا يفكِّر بضمير سواه، ولا يسجّل إلا رأيه الحرّ المستقلّ.. فكفاكم استبداداً وعَنجهيةً ووصايةً على الناس وافتراءً.. وإرهاباً فكرياً.. وإخراجاً لمسرحياتٍ بتنا نعرفها جيداً، ونعرف مَن وراءها، وكيف، ولماذا؟!.. واتقوا الله، وكفّوا سِهامكم العدوانية المستمرّة عنا، فقد بلغ السيل الزبا!..
*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام