السلام !

د.عدنان علي رضا النحوي

السلام !

أين السلام ؟!

تأليف: د.عدنان علي رضا النحوي

 السّلام ! الدعوة إلى السلام دعوة قائمة اليوم تملأ الصحف والمجلات ومختلف وسائل الإعلام ، وتعقد لها المؤتمرات والندوات .

تمتدّ هذه الدعوة والأرض مليئة بالحروب والصراع والمجازر ، بالحروب التي تُباد فيها مئات الأُلوف في فترة وجيزة في مناطق مختلفة من الكرة الأرضية.

وتمتدّ هذه الدعوة إلى السلام اليوم ، والمظالم أوسع امتداداً في الأرض ، واغتصاب الديار وطرد الشعوب ونهب الثروات ، يزداد كل يوم ، والفتنة في الأرض تـمتـدّ وتـتـسـع بأشكالها المختلفة ، والفواحـش والمخدّرات والخمور تمتدّ كذلك .

إن هذه المظالم المروّعة الممتدّة في الأرض تكاد توحي بأن السلام والدعوة إلى السلام شعار لم ينزل إلى الواقع منهجاً علميّاً ليُتّبع ويُطَبّق في الواقع البشري .

ما هو السلام الذي يُدْعى إليه ؟ من الذي يدعو إليه ؟ وكم استطاعت الدعوة إليه أن تأخذ صورة عمليّة منطقية واقعية ؟

من أبسط الأمور وأسهلها تصوّراً وإدراكاً أن السلام يتعذر تحقيقه في الواقع البشري إلا أذا توافرت شروط ثلاثة على الأقل ، يمكن أن نوجزها كما يلي:

1.   أن يقوم السلام والدعوة إِليه على الحقّ الواضح الذي يُعْرَف بالميزان العادل الأمين الذي لا يتّبع الهوى والمصالح الشخصيّة الدنيوية .

2.   أن يُؤْمِن الذين يدعون إلى السلام بهذا السلام الذي يقوم على الحقّ، وأن يؤمنوا بالحق نفسه ، وأن يدعوا إليه مع دعوتهم إلى السلام .

3.   أن تتوافر للذين يدعون إلى السلام القائم على الحق والذين يؤمنون بالحق الذي يقوم عليه السلام ، أن تتوافر لهم القوة التي تحمي الحقَّ وتمنع الباطل وتصدّه .

إن الدعوة إلى السلام هي دعوة في الواقع البشريّ ، فلا بدّ أن تأخذ الواقع بعين الاعتبار . ومن أهم ما يجب الالتفات إليه في الواقع البشري أن هنالك دائماً أناساً مفسدين في الأرض ، يدعون إلى الفتنة والضلال والشَّرِّ ، يدعون إلى كل ما يحمي مصالحهم الذاتيّة الخاصة ، مصالحهم المادية الدنيوية بكل وسيلة يستطيعون بلوغها ، وأن هنالك أناساً يدعون إلى الحق والصلاح والخير ، ويمضي هؤلاء وهؤلاء في هذه الحياة الدنيا على سنن لله ماضية وحكمة بالغة وقدر غالب ، وتظل مسؤولية الإنسان الذي عرفَ الحق واتبعه ونبذ الهوى وتركه أن يجاهد حتى تعلو كلمة الحق . ويكون موقف الإنسان أمام هذه السنن الربانيّة ابتلاءً من الله وتمحيصاً له ، حتى تقوم الحجّة على الإنسان أو له يوم القيامة .

إِن الحقّ في هذا الكون والحياة واحد ، لا يمكن أن يتناقص أو يتعدَّد من حيث المبدأ والنهج .

إِن أَوّل من دعا إلى السلام في تاريخ البشريّة كلها هو الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى كلُّها . فلقد كان "السّلام" اسماً من أسماء الله الحسنى ، وسمّى الله الجنة دار "السلام" ، وشرع الله سبحانه وتعالى نهجاً محدّداً للسلام ، وجعل السلام تحيَّة عباده المؤمنين في الدنيا والآخرة :

(وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) )

[يونس: 25]

(دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) )                                          [يونس: 10]

وفي الدعاء بعد الصلاة :

(( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام )) .

وفي التشهد في الصلاة (( ... السلام عليك يا أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين )) . وفي الخروج من الصلاة بعد التشهد يقول المسلم (( السلام عليكم ورحمة الله )) عن اليمين وعن الشمال .

وتمضي تحيّة الإسلام : أبد الدهر : (( الـسـلام عـلـيـكـم ورحـمة الله وبركاته )) ! فالله سبحانه وتعالى هو السلام ، والسلام من الله ، ودعوة السلام الحق من عند الله ، إنها الإسلام بتكامله وتناسقه وترابطه .

 في واقعنا اليوم مذاهب شتى متصارعة . وهذا الصراع كان ممتدّاً مع التاريخ . وكان غير المسلمين مع اختلاف مذاهبهم لا يعاملون المسلمين إذا تمكنوا منهم إلا بالقتل والذبح والتشريد ، والظلم والعدوان ، ونهب الثروات . وهذا تاريخ المسلمين في الأندلس وتاريخ المذابح التي دارت فيهم . وهذا تاريخ الحروب الصليبية ، وهذه البوسنة والهرسك ، وكشمير ، والفلبين ، تاريخ طويل ، لم يعتمد فيه غير المسلمين إلا الحرب والقتل في المسلمين . وأما تاريخ الإسلام في الأرض فهو الصورة الوحيدة لدى البشريّة كلها ، الصورة التي لم تعتمد الفتك والظلم والقتل ، وإنما اعتمدت الدعوة إلى الله ورسوله ، وجعلت الجهاد في سبيل الله باباً من أبواب الدعوة إلى الله ورسوله ، وإلى الإيمان والتوحيد ، إلى الحقّ من عند الله ، إلى السلام الذي يقوم على هذا الحق . وكان الجهاد في سبيل الله يستخدم القوة حيث يجب أن تُسْتَخدم ، على أطيب وأطهر قواعد عرفتها البشرية للحروب والقتال ، وعلى أعدل نهج ، على قواعد ونهج لم تستطع البشرية أن تبلغها اليوم مع حضارة القرن العشرين ومؤسسات حقوق الإنسان ، ومنظمات عديدة في الأرض ملأت الدنيا شعارات ، وأفقرتها عدالة وسلاماً ، وحرمتها الأمن والأمان، وتركت مئات الملايين مهددين بالموت جوعاً ، وقلّة مجرمة في الأرض متخمة.

 واقعنا اليوم يشهد صراع المصالح المادية ، بين الدول الكبرى التي تملك القوة والسلاح المدمّر ، والأجهزة والمؤسسات التي تخطط ليل نهار لإشعال الصراع بين المصالح المتضاربة ، والصراع الذي يذهب ضحيّته الضعفاء الذين يستغلّهم الكبراء ، استغلالاً مباشراً أو غير مباشر .

 في واقعنا اليوم ، نشهد الميزان الذي توزن به قضايا الشعوب وحقوقهم ومصالحهم ، ميزاناً متعدّد المكاييل ، هنا مكيال وهناك مكيال آخر ، ومكيال ثالث ورابع ، حتى تعدّدت المكاييل تعدداً ظاهر التناقض والظلم ، لا يعقل أن يكون قائماً على الحق ، ولا يُعقَل أن يدعو إلى السلام دعوة حقيقية إنسانية .

       يوجد في واقعنا اليوم ديانات ومذاهب شتى : وثنية واضحة بوثنيّتها وإلحاد وكفر واضح الإلحاد والكفر ، وعَلمانيّة وعِلمانيّة تدعوان إلى الحجر على الدين في الكنائس والبيوت ، ليكون قضية فردية لا علاقة له بالمجتمع وميادينه ، إلا حين تدعو المصالح الدنيوية لاستغلاله ، وكذلك يوجد مذاهب أهل الكتاب ، وكذلك يوجد الدين الإسلام ، دين جميع الرسل والأنبياء الذين ختموا بمحمد r .

 نستطيع أن نقول إِن الدين جاء من عند الله ليُبلَّغ إِلى الناس كافّة ، لأن الدين يُقَرِّر أخطر قضيَّة في حياة كلِّ إنسان ، وأَكبر حقيقة في الكون . إنه يقرر أن هنالك بعد الموت بعثاً وحساباً ، وجنّةً وناراً . فمن آمن بذلك ، فلا بدّ له أن يتحرَّى الحق ويدع الهوى والشهوات ، حتى يعرف الحق ويؤمن به ويتبعه ، وإن الخطأ في هذا الأمر ليس كأيّ خطأ . إنه هلاك يُخلَّّد فيه الإنسان في النار إذا مات على غير دين الله الحق . فالأمر جَلَلٌ ! .

الله واحد أحد . هو الله الذي لا إله إلا هو ، ليس كمثله شيء ، هو الخالق المدبّر للكون كله . وما عداه مخلوقات !

 الله واحد حقٌّ يقضي بالحق ، رحيم . فإن قضاءه بالحق و رحمته وأسماءه الحسنى كلها ، تدعو إلى أن يكون الدين من عند الله واحداً لا أكثر . فإذا كان بين أيدي الناس اليوم ديانات يدّعي أصحابها أنها من عند الله ، وإذا كان بين هذه الديانات أيّ اختلاف في التصوّر والمنهج ، فلا بدّ أن يكون بينها دين واحد فقط حقٌّ . فلا يعقل أن يكون ما يأتي من عند الله متضارباً مختلفاً . فهذا يناقض رحمة الله بعباده وعدله ، ويناقض أسماءه الحـسـنى . فلابدّ أن يكون الدين من عند الله واحداً .

 ولكن يمكن بسهولة ويسر أن نقول إِن الله بعث رسلاً مبشرين ومنذرين ، منهم من قص الله نبأهم علينا ومنهم من لم يقصص ، جاؤوا كلهم بدين واحد من حيث أسسه ومن حيث قواعد الإيمان والتوحيد وما يبنى عليها من أحكام ، وكان كُلُّ نبيّ يرسل إلى قومه خاصة . ومن البداهة أن يُختَم الأنبياء والمرسلون بنبيّ خاتم تكون رسالته مصدّقة لما بين يديها وجامعة لها ومهيمنة عليها ، لتكون رسالة للعالمين ، للناس كافة ، وأن يكون تشريعها تشريعاً خاتماً للبشرية كلِّها ، يصلح للعصور التالية حتى قيام الساعة ، وأن يكون معجزاً لا تختلط نصوصه بنصوص البشر ، وأن يكون ميسراً لمن آمن وصدق إيمانه وعرف لغته .

إن هذا الدين الواحد هو الإسلام . إنه دين الحق الكامل الذي لا يحمل أي تناقص أو تضارب . إِن كتابه هو القرآن الكريم المعجزة الكبرى ، لا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله .

وسائر الديانات السابقة ، إذا كان بينها اختلاف ، أو بينها وبين الإسلام ، فإن الاختلاف من صنع البشر أنفسهم وليس من عند الله.

       (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) )

   [آل عمران: 19]

        (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) )                                              [آل عمران: 85]

ولا يحل للمسلمين أبداً أن يبحثوا عما يظنونه حقاً خارج دين الله . ولا يحل لهم أن يتبعوا هؤلاء وهؤلاء من أهل الكتاب ومن غيرهم ، فالله سبحانه وتعالى يخاطب أهل الكتاب في سورة آل عمران خطاباً جليَّاً ، ثم يخاطب المؤمنين ليبين لهم الصراط المستقيم :

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) )                                           [آل عمران: 98 - 105]

هذا هو الحق من عند الله ! لا مجال فيه للمجاملات والحذف والتغيير والتنازلات . آيات بيّناتٌ ، حق ، وضوح وجلاء وبيان فاصل حسم !

هكذا يريد الله من عباده المؤمنين أن يبلّغوا رسالة الله إلى الناس كافّة على مدى العصور والأجيال ، لا يكتمون شيئاً ، ولا يمارون ، يقولون الحق بصدق ووضوح وجلاء ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، ومن الحكمة أحياناً صدق الجهاد في سبيل الله بالكلمة الواعية الصادقة ، وبالقوة التي تصدّ المنافقين والمتآمرين والكافرين ، الذين ظلوا أبد الدهر هم المعتدين :

(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) ) [التوبة: 10]

 لقد أمر الله رسوله أن يبلّغ رسالته بهذا الوضوح والجلاء والحسم ، فإن لم يفعل فما بلّغ الرسالة :

 (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) )    [ المائدة: 67]

وبعد محمد r أصبحت المسؤولية مسؤولية المؤمنين ، مسؤولية الأمة المسلمة ، أن تبلّغ رسالة الله إلى الناس كافة على مدى العصور والأجيال كما أُنزِلت على محمد  r، بلاغاً واضحاً جليّاً ، صريحاً فاصلاً حاسماً ، لا مـراء فيه ، ولا تبديل بدين الله ، ولا تنازل ولا مساومات . والأمر حاسم والدعوة واضحة جلية :

 (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَـلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) )                                          [ آل عمران: 144]

(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) )                                    [ يوسف: 108 ]

        وكذلك :

(اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَـا تَذَكَّرُونَ (3) )                                                      [ الأعراف: 3 ]

 

(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) )                                   [ الأنعام: 153 ]

 الدين الإسلامي الذي يقوم على منهاج الله – قرآناً وسنّة ولغة عربية ، هو الدين الوحيد لدى البشريّة كلها الذي تتوافر أصوله في القرآن والسنة كما أنزلت على محمد r لغةً ونصاً . ولا يعتبر القرآن بغير اللغة العربية قرآناً يُتْلى في الشعائر والطاعات كلها . ولقد تعهد الله بحفظه :

  (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) )                  [ الحجر: 9 ]

 هذه حقائق ثابتة . فكلُّ الكتب الأُخرى ذهبت أصولها كلها ، ثمَّ كُتِبتْ بعد نزولها بقرون عدة ، وبلغة غير اللغة التي نَزَلتْ بها . ثمَّ جاءت فيها نصوص متضاربة من ناحية ، وأفكار وطقوس من مذاهب مختلفة من ناحية أُخرى . ولقد قامت دراسات للمقارنة بين هذه الأديان على أسس علمية ، كشفت كثيراً من الحقائق ولعل من أهم هذه الكتب والدراسات : (( الإنجيل والتوراة والقرآن والعلم: الكتب المقدّسة في ضوء العلم الحديث )) للدكتور موريس بوكاي .

لو أن الأمر يتعلق بأي قضية دنيوية دار عليها الخلاف ، لكان من السهل محاولة الوصول إلى حلول وسطية ، ومحاولة التوفيق بين وجهات النظر ، ولكن الأمر يتعلق بأخطر قضية في حياة كل إنسان وفي مصيره بعد الموت ، ويتعلق بأكبر قضية في الكون كله . إنها قضية لا تحتمل أي توفيق بين وجهات النظر ، إنها قضية إيمان وتوحيد ، فمن مات على الإيمان والتوحيد دون شرك وعده الله الجنة خالداً فيها ، ومن مات كافراً أو مشركاً دخل جهنم خالداً فيها أبداً . فأين مجال التوفيق ، ومن يجازف بمستقبله في الآخرة ، ويتهاون في البحث عن الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؟!

لأجل هذه القضية الكبرى والأخطر بعث الله الرسل والأنبياء على مدار التاريخ البشري ، ليوضحوا هذه الحقيقة الكبرى للناس ويدعوهم إلى الإيمان والتوحيد دعوة واضحة جليّة حاسمة فاصلة . والوضوح والجلاء ، والصدق والحسم هو أعلى درجات الحكمة والموعظة الحسنة :

(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) )[النحل: 125 ]

إنها مسؤولية كل إنسان أن يفكر ويبحث عن الحق ، فيدرسه ويؤمن به ، ويتبعه ويتحمل مسؤولية ما فكر به وما قرره واتبعه :

 (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) )                       [ الكهف: 29 – 30 ]

       إن كثيراً من الناس يشغلون فكرهم ووقتهم وحياتهم في قضية أو أكثر من قضايا الدنيا ، ويهملون أمر الدار الآخرة ومصيرهم فيها ، أو ينسونها ، أو يعزلونها عزلاً عن شؤون حياتهم ، ويدعون الناس كذلك إلى عزلها ، فما هو السلام الذي يدعون إليه إذاً ؟! وعلى أي أسس يقوم ؟ ومن أولئك الذين يدعون إلى السلام ؟!

 من المظاهر المقلقة المتناقضة في الدعوة إلى السلام ، أن من بين من يدعون إليه هم المجرمون الذين يملؤون الأرض حرباً وعدواناً . إنهم هم الذين يحاربون الدين بوسائل مباشرة وغير مباشرة ، وفي الوقت نفسه يدعون إلى تقارب الأديان . إنهم هم الذين يملكون السلاح المدمّر الفتاك ويحرّمونه على غيرهم ، ويقولونها صريحة مدويّة إن مصالحهم هي أول شيء يهمهم وآخر شيء وكل شيء .

 إِن كثيرين ممن يدعون إلى الفتنة والفساد والجريمة في الأرض ، يعرفون الباطل وأنه باطل ينصرونه ، ويعرفون الحقّ فيحاربونه . إنهم يعبدون مصالحهم الدنيوية المادية الاقتصادية ، ويتخذون ما عداها شعاراً يخدرون الناس به ليلهوهم عن جرائمهم ، أو أداة يستغلونها من أجل تأمين مصالحهم ، أو دعوة يضللون بها الناس عن الحق لينصرفوا عنه .

إن هؤلاء عرفوا من خلال تجاربهم الطويلة مع الإسلام ، أن الإسلام الذي أُنْزِلَ على محمد r هو الدين الوحيد الذي يدعو إلى الحق ويأبى المساومة والمراءاة والتنازل ، وأنه لا سبيل للتعامل معه إلا بالإيمان به ، والإيمان به يعني التخلّي عن ظلمهم للناس ليُنصَفَ المسحوقون في الأرض فلا يُظلموا ، والمهدّدون بالموت جوعاً ومرضاً فيُنقَذوا .

 لا سبيل لهم للتعامل مع الإسلام – دين الله الحق – إلا أن يخضعوا له ، حتى يُنْصفهم كما ينصف سائر الناس .

 في الإسلام لا انفصال أبداً بين قضايا الدنيا وبين الدار الآخرة . إن الإسلام منهج متكامل يبني قضايا الدنْيا من خلال ارتباط الدنيا بالآخرة . وتبرز أهمية هذه النظرة حين ندرك مثلاً أن الاقتصاد في الدنيا إذا انعزل عن الإيمان والتوحيد ورسالة الإسلام فهو ربا وأزمات اقتصادية ، وإذا ارتبط برسالة الإسلام كان طهارة وزكاة وعدلاً ورحمة . والسياسة تكون هناك خداعاً ومكراً ومؤتمرات وصراعاً قاتلاً على الدنيا ، ولكنها في الإسلام أمانة يحملها المؤمنون ليسوسوا الناس على الحق والعدل والحرّية الصحيحة . والسلاح خارج الإسلام حرب ظالمة ومجازر دامية ، ونهب وهرج ومرج ، وفي الإسلام قوة للحق لتثبيته وصدّ للباطل وإنكار له . وهكذا تختلف النتائج كليّة في الحياة الدنيا بين منهجين مختلفين. وكذلك تختلف في الآخرة .

إن الدعوة إلى تقارب الأديان جاءت بعد أن استكمل أعداء الله تمزيقهم للعالم الإسلامي وجرّدوه من قواه واحدة بعد الأخرى :

 جرّدوا الكثيرين من اللغة العربية .

 حتى هجر المسلمون منهاج الله .

 فضعف الإيمان والتوحيد واختلطت معانيه .

 ودخل الغزو العسكري والفكري بزخارفه وجيوشه وسلاحه وإعلامه ، فتسلل الفكر العَلماني إلى واقع المسلمين .

 فإذا كثير من المنتسبين إلى الإسلام لهم عقول عَلمانية وقلوب غربيّة وأسماء إسلامية .

 وإذا كثير من الذين يحملون عاطفة صادقة للإسلام يحملون معها فكراً غير صادق وتصوراً مختلطاً بالعَلمانيّة .

 وإذا كثير من المنتسبين إلى الإسلام يخدمون أعداء الإسلام عن وعي وعن غير وعي .

 وإذا كثير من المسلمين اختلطت تصوراتهم فتحوّلوا شيعاً وأحزاباً يحارب بعضهم بعضا سرّاً وجهراً ، كيداً ومكراً .

فذهبت ريح المسلمين ووهنت قواتهم وتداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها .

ولم يكتف أعداء الله بذلك ، بل مضوا يغذّون المؤامرات والفتنة بين المسلمين فيمدحون هذا ويؤيّدونه ، ويذمون هذا ويخذلونه ، في ظاهر ما يفعلون. وفي الخفية والسرّ قد يعكسون الموقف ، ليثيروا الفتنة والشقاق ويقع المسلمون ضحية هذه المؤامرات وهذا الكيد والمكر .

وكان اليهود أخطر من يتبنّى هذا المكر والفساد في الأرض ، حتى امتلأ تاريخهم منذ القديم بهذا الإفساد في الأرض ، وما زالوا يتبعونه اليوم مع الأفراد والشعوب .

 وكانوا كلما أقاموا في بلد أظهروا الولاء لهذا البلد ، ثمَّ يمكرون به مع أعدائه سرّاً ، ثمَّ جهراً ، حتى عُرِف هذا الغدر صفة شرّيرة من أسوأ طباعهم. حالفوا الرومان وغدروا بهم ، حالفوا الفرس وانقلبوا عليهم ، وكذلك مع سائر الأمم والشعوب في تاريخ طويل .

 ولقد كشف القرآن الكريم مكرهم هذا ، وكشف سوء طويتهم وشدة نقضهم لعهودهم :

(  أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) )                                                                          [ البقرة: 100 ]

 الشعوب الضعيفة لا يمكن أن يريد السلام إلا شعاراً.

 وأين هو السلام ؟! هل يعقل أن نجد السلام بين أنياب الذئاب والوحوش؟!

لا يحمل السلام ولا يدعو إليه إلا الإسلام وحده ، فإن كان العالم يريد السلام فليركض إلى الإسلام وليتدبره ويعلمه ، وليؤمن به ، ثم يلتزمه ، فحينئذ يقوم السلام !

يرى بعضهم أن السلام هو أفضل الظروف لانتشار دعوة الإسلام (1) ، ويحاولون الاستشهاد ببعض فترات التاريخ الإسلامي ، مثل فترة الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة . ولكن هذه الفترة لا نستطيع تسميتها فترة سلم . كان الإيذاء والعدوان والظلم من الكفار على أشدّه . وصلح الحديبية لم يكن إشاعة للسلم والسلام . إنما كان هدنة ، وكان كل فريق يدرك إن القتال ممتد والاستعداد له ماض . كان صلح الحديبية فتحاً عظيماً للدعوة الإسلامية لأنه كشف قوة المسلمين وعزّتهم وهوان المشركين من قريش . ولقد جرى صلح الحديبية والجزيرة العربية كلها أصبحت تدرك قوة محمد r وعزّة المسلمين . وجاء صلح الحديبية بعد أن سجل المسلمون نصراً بعد نصر ، وعزة بعد عزة ، ولم يأت بعد هزائم تتولى . إن هذه الظروف كلها كانت برحمة من الله في صالح المسلمين وليست في صالح المشركين ، حتى اضطرت قريش أن تقبل بما لم تكن تقبل به قبل ذاك ، وهو عودة المسلمين في العام المقبل للعمرة . إن صلح الحديبية أكد نصر المسلمين في المعركة المقبلة كما انتصروا قبله . فصلح الحديبية لا يقاس عليه واقع المسلمين اليوم ، وهم يعانون من هزيمة بعد هزيمة . لم يكن صلح الحديبية إقراراً للسلام ، وإنما كان إقراراً للعداوة الثابتة بين الإسلام والشرك ، وإقراراً لهدنة يستعد فيها كل طرف للجولة القادمة ، الجولة التي كان كل فريق متيقناً أنها قادمة . كيف لا ، وهدف رئيس للمسلمين هو فتح مكة كما وعدهم الله .

 ولا يصحّ تقويم صلح الحديبية بتعداد عدد البنود التي كانت لصالح هذا الفريق أو ذاك . كل البنود كانت في حقيقتها لصالح الإسلام والمسلمين . وإذا كان بعض أصحاب رسول الله r رأوا فيها إجحافا بحق المسلمين ، فإن ما رآه الرسول r وما هداه الله إِليه أولى بالاعتبار .

وإذا كانت شروط الصلح تـنص على وضع الحرب عشر سنين ، فإن الحرب شبت بعد ذلك بزمن قليل ، وكان فتحُ مكة سنة ثمان . والشرط الذي ينصّ على أن من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه ردّه عليه ، ومن جاء قريشاً من ممن مع محمد لا يردّوه ، هذا الشرط كله في صالح المسلمين ، يكشف قوتهم وثقتهم بربهم ، ويكشف خوف قريش وفساد أمرهم .

هذه فترات قليلة من مساحة التاريخ الإسلامي وانتشار الإسلام . ولقد انتشر الإسلام عن طريق التجار في جنوب شرق آسيا وفي بعض بلدان أفريقيا . ولكن الإسلام انتشر انتشاراً واسعاً إلى آفاق واسعة بالفتوح التي باركها الله .

وخلاصة ذلك أن الإسلام يمكن أن ينتشر في السلم كما ينتشر في الحرب . إلا أن الإسلام فرض الجهاد في سبيل الله لنشر رسالته وإعلائها وإعزاز دين الله .

والسلام ، ومن حيث الواقع ، لا يتم بين قوي معتد ظالم وضعيف . إن هذا لا يكون سلاماً . ذلك لان الله أنبأنا أن الحرب بين المسلمين والكافرين ماضية يشعلها الكافرون , فهم المعتدون دائماً .

       (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) )                           [ البقرة: 217 ]

 (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) )

      [ التوبة: 10]

 وأخيراً هنالك فرق كبير بين السلام الذي يريده الإسلام ولا يريده الكافرون وبين الاستسلام .

 وانظر ماذا يقول " نيكسون " – رئيس أمريكا السابق في كتابه " نصر بلا حرب " :

(( ليس السلم الحقيقي إنهاء المنازعات بل هو وسيله للعيش معها )) (2) .

فالمجرمون في الأرض لهم نمط واحد من التفكير : مصلحتهم الدنيوية أولاً وأخيراً الاعتداء والظلم على الشعوب ، والاختلاف على تقسيم الغنائم أو الاتفاق ، وَهلاك المستضعفين بينهم .

إن المجرمين في الأرض لا يمكن أن يكون السلام لديهم أكثر من " شعار" يخدرون الناس به . وإذا أراد المسلمون اليوم حماية أعراضهم وأطفالهم وبلادهم فما عليهم إلا أن يعدّوا العدّة بكل قواهم ، فمن لا عدة له يسحق تحت أقدام المجرمين الظالمين المعتدين . وانظروا ماذا يجري هنا وهناك في الكرة الأرضية.

يقول أحد رجال العرب في حديث نشرته الشرق الأوسط : ( كان اليهود يعلنون رغبتهم بالسلام ويعملون للحرب ، وكنا نعلن الحرب ونعمل للسلام ) !

فأعجب كل العجب من الكاتب الذي أصبح داعية للسلام والدماء تتدفق في جميع أنحاء بلده وأمته .

               

(1) فيصل المولوي : الأسس الشرعية للعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين : (ص: 19-52) .

(2) نيكسون نصر بلا حرب ) : (ص: 39) .