هل قتال العشرين للمائتين والمائة للألف منسوخ؟

سؤال من الشيخ مجد مكي إلى أ. د. أحمد فرحات:

الشيخ أحمد حسن الباقوري يقول:

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال: 65].

فالتَّحريض في اللغة أن تحث الإنسان حثًّا يعلم معه أنه حارض – أي: مقارب للهلاك – إن تخلَّف عن حثك إيَّاه. والتَّحريض كما يقول اللحياني: يعطي معنى المداومة، فهم يقولون: حارض فلان على العمل وواكب عليه وواظب وواصب أيضاً بمعنى داوم، فمعنى حرِّض المؤمنين على القتال: حثَّهم على أن يحارضوا أي: يداوموا على القتال حتى يثخنوا أعداءهم.

وفي هذا إشارة إلى أن المؤمنين لو تخلَّفوا عن القتال بعد حثِّ النبي صلى الله عليه وسلم عليه كانوا حارضين أي: هالكين.

وربما بدا لأول وهلة أن المراد الخبر وليس الأمر من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال: 65].

غير أن هذا الذي يُفهم لأول وهلة غير صحيح، فهو أمر وإن ورد في صيغة الخبر، وذلك مثل قول الله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة: 233]، ومثل قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: 228] فإن الكلام في الآيتين الكريمتين وارد في صيغة الخبر والمراد: الأمر.

فكذلك في هذه الآية الكلام وارد مورد الخبر وهو في الحقيقة أمر، وللإمام السهيلي في هذا المقام كلام فيه دقَّة وعمق، وهو خليقٌ بأن نُسجله ونرويه، فقد قال رضي الله عنه[في " الروض الأنف" 5: 237- 238]: "إنَّ للآية ظهراً وبطناً فظاهرها خبر ووعد من الله تعالى أن تغلب العشرة المائة، وباطنها وجوب ثبوت العشرة للمائة، ويدلُّ على هذا الحكم قوله سبحانه:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ [الأنفال: 65]، فالنسخ متعلق بهذا الحكم الباطن، فأما الخبر فإنه باق على أنه وعدٌ حقٌّ من الله عزَّ وجل، وقد أبصره المؤمنون عياناً في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي بقية خلافة أبي بكر رضي الله عنه في محاربة الروم وفارس بالعراق وبالشام، ففي تلك الملاحم هزم المؤمنون الألوف من المشركين، ثمَّ إن خالد بن الوليد رضي الله عنه هزم مائة ألف حين إقباله من العراق إلى الشام ولم يبلغ عسكره خمسة آلاف، بل قد رأيت في بعض فتوح الشام أنه كان يومئذ في ألف فارس، وكان قد أقبل من العراق مدداً للمسلمين الذين بالشام، وكان الروم في أربعمائة ألف، فلقي منهم خالد مائة ألف ففضَّ جمعهم وهزمَهم، وقد هزم أهل القادسية جيوش رستم وقتلوه، وكان رستم في أكثر من مائتي ألف، ولم يكن المسلمون في عشر ذلك العدد، وجاؤوا معهم بالفيلة أمثال الحصون عليها الرجال، ففرَّت الفيلة وأطاحت ما عليها ولم يردها شيء دون البلد الذي خرجت منه، والأمر على هذا فيما ظهر من فتح الله ونصره على يدي موسى بن نصير في إفريقية والأندلس، فقد كان في ذلك أعجب العجب، فكان وعد الله مفعولاً، ونصره للمسلمين ناجزاً".

هذا ما كتبه الإمام السهيلي أنقله بنصِّه للحُرصاء على فهم كتاب الله تعالى وما يتعلق به من آراء العلماء وأقوالهم، وكأني بالشيخ رحمه الله تعالى ورضي عنه أحب أن يظل متَّبعاً لا مبتدعاً وكيف يبتعد فيقول بعدم النسخ مع أنه هو نفسه يروي عن الحبر ابن عباس رضي الله عنهما أن في الآية نسخاً بدليل قوله تعالى:﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 66] وإلا فإن ما ساقه من الأمثلة دليل على أن المؤمنين الذين تمكَّن الإيمان من قلوبهم كانوا وهم يجاهدون في سبيل الله يحرصون على الموت حرصهم على الحياة، فلم يفروا مع قلة عددهم، من عدو أكثر منهم عدداً وأقوى عدة، وكان النصر حليفهم في كل المعارك التي خاضوها، وليس من شك في أنَّ نصر الله للمؤمنين في هذه الأمثلة التي ساقها الإمام وفي غيرها ممَّا يطالعه العلماء ويرويه الأسلاف للأخلاف إنما كان قائماً على سببين:

أحدهما: الصبر في مواقف الجهاد صبراً جعل المؤمنين يواجهون الكثرة الكاثرة من الأعداء ثم ينتصرون عليهم.

والأمر الثاني: مضى وعد الله لهؤلاء بالظفر والانتصار، لا فرق في ذلك بين الذين كانوا في عصر النبوة والذين جاءوا من بعده ماضين على سنَّتهم مرتسمين في مرضاة الله تعالى خطاهم.

ولقد أنكر الإمام أبو مسلم الأصفهاني هذا النسخ في صراحة ووضوح، مخالفاً بذلك رأي من سبقه من العلماء الذين يقولون بالنسخ في هذه الآية، ومنهم حبر الأمَّة ابن عباس رضي الله عنهما.

وخلاصة ما قاله أبو مسلم في هذا المقام: أن الله تعالى قال في الآية الأولى:﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: 65] فمهما كانت هذه الآية محمولة على الأمر لا على الخبر، فقد كان ذلك مشروطاً بكون العشرين قادرين على الصبر في مقابلة المائتين، ولكن قوله:﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [الأنفال: 66] يدل على أن الشرط غير حاصل في حقِّ هؤلاء، فصار حاصل الكلام: أن الآية الأولى دلَّت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص، وهذه الآية دلَّت على أن ذلك الشرط مفقود في حقِّ هذه الجماعة، فلا جرم ثبت ذلك الحكم، وعلى هذا التقدير لم يحصل نسخ البقية.

وربما اعترض معترض على أبي مسلم فقال: إن لفظ التخفيف في الآية: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾ [الأنفال: 66] يشعر بأن هذا التَّكليف كان متوجِّهاً عليهم قبل هذا التَّخفيف، ومن الممكن أن يقول الآخذون بنظر أبي مسلم إن لفظ التخفيف لا يدل على حصول التثقيل قبله، لأنَّ من عادة العرب أن يترخَّصوا بمثل هذا الكلام، وفي القرآن الكريم ما يدل على ذلك من قوله تعالى عند الرخصة للحر في نكاح الأمَة: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ [النساء: 28]، وليس هناك نسخ، وإنما هو إطلاق نكاح الأمَة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر، فما يقال هناك يقال ها هنا، فلا نسخ في الموضعين: المقيس والمقيس عليه.

ويمرًّ بخاطري في هذه اللحظة-حول معنى الضعف الذي اقتضى التخفيف- كلام سمعته منذ أكثر من ثلاثين عاماً، من عالم جليل مجاهد هو الأستاذ حسن البنا رحمه الله تعالى، وخلاصة ذلك الكلام: أن الأمر بثبوت الواحد للعشرة والعشرة للمائة والمائة للألف، أمر لا تنكره الفطرة السليمة حين يعرض لها، وسنَّة الله في خلقه تقتضيه وتدلُّ عليه، وذلك أنَّ المؤمنين حين يكونون قلة قليلة فإنهم يكونون أبعد شيء من التواكل، ويجد كل واحد في نفسه الشعور الواثق بأنه مسؤول عن قضية الإيمان، بل ربما شعر بأنه المسؤول الفارد بالمسؤولية عن هذه القضية، وكلما كثر العدد جاء التواكل نتيجة للاطمئنان إلى الكثرة، وهذا هو معنى الضعف الذي اقتضى التخفيف في الآية الشريفة وهو معنى خليق بالنظر والتأمل والاعتبار.

ومما هو عسى أن يكون موضع تساؤل في هذا المقام، وما رويناه عن الإمام السهيلي في الآية الشريفة من أن لها ظاهراً وباطناً.

وموضع التساؤل يقوم على أن اعتبار الباطن في القرآن كان باباً نفذ منه أعداء الإسلام إلى تأويل آياته تأويلاً يخرجه عن أن يكون دستوراً صالحاً لإقامة مجتمع إسلامي ثابت الأسس واضح المعالم، لا تصرفه الشهوات، ولا تلعب به الأهواء.

ومن أمثله ذلك تفسير الباطنية الصيام بأنه الإمساك عن كشف السر، وتفسير التيمُّم بالأخذ عن المأذون إلى أن يشاهد الداعي أو الإمام، وتفسير الكعبة بأنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتفسير نار إبراهيم بأنها غضب النمروذ عليه.

فهذه التفسيرات يجب ردها لسببين:

أولهما: عدم جريانها على مقتضى الظاهر في المقرَّر في لسان العرب.

وثانيهما: عدم وجود شاهد في موضع آخر يشهد لصحتها.

وهذان السببان قائمان فيما ذهب إليه الإمام السهيلي، ولهذا وجب قبول ما ذهب إليه، ولا نشك أنه رحمه الله تعالى لم يكن في هذا الباب مبتدعاً، ولكنه كان متَّبعاً ومثله لا يخفى عليه ما روي عن ابن عباس في تأويله سورة النصر، وما روى عن عمر رضي الله عنه في تأويله قول الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3] فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر يدخلني مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أندخله ولنا بنون مثله؟ فقال له عمر: إنه مَن حيث تعلم. ثم سألني عمر عن هذه الآية: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النصر: 1]، فقلت: إنما هو أجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلمه الله إيَّاه، ثم قرأ ابن عباس السورة إلى آخرها. فقال عمر رضي الله عنه: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم، فظاهر هذه السورة أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يُسبِّح بحمد ربه ويستغفره إذ نصره الله وفتح عليه؛ وأما باطنها فهو أنَّ الله سبحانه نعى إلى نبيه نفسه.

ولما نزل قول الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: 3] فرح أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبكى عمر رضي الله عنه قائلاً: ما بعد الكمال إلا النقصان، فاستشعر نعيه عليه الصلاة والسلام، فما عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدها إلا أحداً وثمانين يوماً.

من كتاب" مع القرآن" للأستاذ أحمد حسن الباقوري، ص 183-186.

[١١:٢٦ م، ٢٠٢١/٤/١٢]

  • د. أحمد حسن فرحات يقول:

الحكم الأول: يفيد وجوب ثبات المؤمن لعشرة من المشركين، وهذا كان في مرحلة التأسيس، حيث كان عد المؤمنين قليلا، ومرحلة التأسيس تتطلب جهدا غير اعتيادي.

أما الآية الثانية: فقد كانت في مرحلة كثر فيها المسلمون، ومن ثم لم تعد الحاجة إلى التكليف الشاق، فخفف الله عن المؤمنين بوجوب الوقوف أمام اثنين، وبذلك أصبح الحكم الثاني ناسخا لفرضية الوقوف أمام عشرة.

وهذا يعني: أنه لو أراد مؤمن ان يقف أمام عشرة جاز له ذلك، بل هو أفضل، لأن النسخ انصب على الفرضية، وانتقل حكم الفرضية إلى النافلة. وهذا مثل ما جاء في فرضية قيام الليل، حيث نسخت الفرضية إلى النافلة. فمثل هذا المنسوخ يجوز فعله، وفعله أفضل. وبذلك يكون عندنا سنة الوقوف أمام العشرة مازال مشروعا.

وفرضية الوقوف أمام اثنين نسخت فرضية الوقوف أمام عشرة. ومثل هذا المنسوخ يجوز فعله. كما يسن لنا قيام الليل، بعد أن نسخت فرضيته، وفعله مرغوب فيه لكونه سنة.

ومن أراد زيادة في البيان فبإمكانه الرجوع إلى كتاب "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي بن أبي طالب القيسي بتحقيق الدكتور فرحات.

أ. د. أحمد حسن فرحات

وسوم: العدد 926