الحقيقة .. بين المطلق والنسبيّ

د.محمد سالم سعد الله

الحقيقة .. بين المطلق والنسبيّ

د.محمد سالم سعد الله

هل الحقيقة مطلقة أم نسبية ، مقدسة أم مدنسة ، هل يمكن تغيير مسار الحقيقة بما يتناسب مع التوجهات الدينية ، أو الاجتماعية ، أو النفسية ، أو حتى السياسية ، هل الحقيقة كائن يتصف بالشمولية والإنسانية والعالمية ، أم أنه كائن محليّ الصنع محدود التعامل والتداول ، هل تنتقل الحقيقة من ميدانين متباعدين بنفس المفهوم والدلالات ، هل الحقيقة هي ما تتخيله أنت حقيقة ؟! .

أسئلة كثيرة ومتنوعة وحيوية أرّقت الفلسفةَ والدراسات الدينية واللاهوتية منذ فجر انبثاق السندات الأولى للفكر والمعرفة ، ومنذ اللحظة التي وُلِد منها الوعيُ حُراً متمرداً على قيوده ، نهضت هذه الأسئلة وغيرها من جديد لتعلن على الملأ انتماءها إلى مستودع مكنون من الأسرار والمعطيات ، منجم يستوعب المقدس ، ويحتضن الملكية ، وينادي بمحاكمة الخطيئة .

إنّ البحث في ، أو الحديث عن كنه ( الحقيقة ) بوصفها ( ثيمة ) للفكر العلميّ من جهة، و ( ميكانزم ) تداولي من جهة أخرى يُوقِع في شَرَك الدعوة إلى الانتقال من الفهم الموضوعيّ الرصين المستند على معطيات علمية إلى تصور تقليديّ يُوّرَثُ جيلاَ بعد جيل ، والفيصل في ذلك هو اللجوء إلى محاورة ( الحقيقة ) بعيداً عن شبقيةٍ تتلون بالجهل ، وعُرفٍ يتسم بالإتباع ، والركون إلى مناقشة هادئة تبتعد عن الرقيب الذي يتسلط على الأفواه من دون استئذان ، ويعزف على الوتر الذي لا يَصدُر عنه إلاّ اللحن الهزيل .

لن ندعي أننا يمكننا الإجابة عن تلك الأسئلة ، لكنها دعوة إلى الحوار ومصارحة الأنا، وفهم الآخر ، ويمكننا في هذا المقام تقديم جملة من المسائل المتعلقة بالإجابة ، وفي هذا السياق لا بدّ أن نفرق بين مصطلحات عدّة منها : ( الحقيقة الأبدية ، والحقيقة المزدوجة ، والحقيقة الموضوعية ، والحقيقة الواقعة ) .

يشير مصطلح الحقيقة الأبدية : ( Eternal Truth ) إلى استحالة دحض مجموعة من المعطيات والمبادئ خلال تطور مسيرة المعرفة الإنسانية ، ويندرج هذا المفهوم في تصورات الإنسان عن الخالق الأزلي القديم ، والكون المخلوق ، والموجودات الحادثة ، والحياة الآخرة ، ونحو ذلك ، ف( الله )  جلّ وعزّ  حقيقة أبدية مطلقة لا تقبل الشك والدحض والبطلان ، والقرآن الكريم كتاب إلهيٌ مُنزّل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويوم القيامة موعد محسوم لجزاء المؤمنين الجنة ، ومعاقبة الكافرين النار ..إلخ.

وتُشكِل الحقيقة المطلقة أو ( الأبدية ) ميداناً مقدساً لا يقبل التشكيك أو تجاوز خطوطه الحمراء ، كما أنه يشكل قطيعة كلية ومطلقة مع التصورات والإمكانيات النسبية لاختلاف معطى الميدانين أي : ( الميدان المطلق ) ، و ( الميدان النسبيّ ) .

أما الحقيقة المزدوجة : ( Twofold Truth ) فتشير إلى إمكانية الفصل بين الحقيقة في الدين ، والحقيقة في الفلسفة ، فما يراه الدين أو ( اللاهوت ) حقيقة قد لا يكون كذلك في الفلسفة ، والعكس صحيح أيضاً ، ويندرج جلُّ موضوعات هذه الحقيقة في مناقشة أصل العالم وتطور الخلق فيه ، ويؤكد مصطلح الحقيقة الموضوعية : ( Objective Truth ) المعرفةَ الإنسانية التي لا تتوقف على إرادة الذات ورغباتها ، إنما تتوقف على محتوى الشيء وانعكاساته على اكتساب المعرفة الإنسانية ، ومن المهم القول أن تصورات الحقيقة الموضوعية لا تتفق مع تصورات المثالية الذاتية التي تقوم على تقبل الإنسان والوقوف عند رغباته من قبيل الإيمان بالخرافات والأساطير ونحو ذلك ، وتقود الحقيقة الموضوعية إلى معرفة علمية استقرائية رصينة ، تمنح وعياً مستنداً على أدلة تصدقها المسيرة المعرفية ، ويكتسبها الوجود المبدئي للإنسان ، أما الحقيقة الواقعة : ( Actuality ) فهي التصورات التي تنشأ وليدة واقعها بكل تمظهراته وقوانينه ، وتعمد بشكل أساسيّ على الظاهرة المتداولة اليومية المتغيرة بتغير الزمان والمكان ، فالإنسان الأمريكيّ قد يكون  أو قد يُصوّرُ  بوصفه بطلاً ومخلصاً للعالم من خطر النيازك والكويكبات والانفجارات الكونية ، والفايروسات الفضائية بفعل تطوره العلميّ التقنيّ ، وهذه حقيقة واقعة يومية في المجتمع الأمريكيّ  وعند بعض ( المتأمركين ) في دول العالم  لكنها ليست كذلك في مجتمعات أخرى كالمجتمعات العربية والإسلامية مثلاً .

إذن يمكننا القول أن الحقيقة المطلقة لا يمكن تفنيدها ، وهي متعلقة بطبيعة الإله وخلق الكون والموجودات ، والحقيقة النسبية متغيرة ومتشكلة بحسب الزمان والمكان ، واختلاف الأمم والشعوب ، وبيان ذلك يقتضي ضرب بعض الأمثلة :

قبل مئات السنين  إن لم نقل قبل عشرات السنين  إذا أمكنك التحدث بوجود جزيئات دقيقة ( مايكروية ) تحتوي على ذرات متناهية في الصغر ، وكلّ ذرة تحوي على نواة ، وكلّ نواة تحوي على ثلاثة عناصر : البروتون (P ) وشحنته موجبة ، والنيوترون (N) وشحنته متعادلة ، والإلكترون (E) وشحنته سالبة ، وأن هذا الأخير مسؤول عن اتحاد الذرات مع بعضها ، وانتقال القوة الكهربائية ، وهو المسؤول عن توالدية الذرات في الانفجار النووي، وهو المسؤول عن الإنفلاقات التي تحدث في الكون وغير ذلك ، لقيل لك : ( أنك مجنون ) ، وأن كلامك السابق محض هراء وافتراء وخيال لا يرتقي إلى حقيقة علمية ولا إلى اكتشاف رصين ، أما الآن فالمثال السابق يُعد حقيقة علمية راسخة وثابتة ، إذن هذا تغير الحقيقة في الزمان ، وإذا ذهبت إلى بعض القبائل الأفريقية البدائية ولتكن قبيلة (الأُوكولالا ) على سبيل المثال ، وتحدثت معهم عن وجود مركبة فضائية ستنقل السياح قريباً إلى القمر وإلى المريخ ، لضحك القوم وقالوا : ( من أي كوكبٍ أنت ؟! ) على سبيل السخرية ، فهذه الأشياء حقيقة في مجتمع متحضر ، لكنها ليست كذلك في مجتمع بدائي ، وهذا تغير الحقيقة في المكان ، وليس هذا فحسب بل إن الحقيقة الأبدية تكون عُرضة للتغير عند اختلاف الأمم والشعوب ، ولا يمكنها اكتساب مطلقيتها بشكل شامل في جميع البقاع ، نحن نؤمن  مثلاً  أنّ الله هو الإله الخالق ، الواحد ، الموجِد ، الأول ، الباقي ، الحي ، وغير ذلك من الصفات الحسنى المقدسة ، وهذا الكلام حقيقة مطلقة عندنا ، لكنه يتحول إلى حقيقة نسبية عند غيرنا ، فمثلاً : إذا وقفت محاوراً أو مناقشاً لمتعبد بوذيّ أو هندوسيّ أو ملحدٍ لأنكر عليك حقيقتك المطلقة ، وأكدّ أنّ ما تقوله هو عبارة عن محض وهمٍ أو افتراء أو إدعاء ، لا يملك دليلاً أو سنداً !

إذن انتقلت الحقيقة المطلقة في ميدان عقديّ إلى حقيقة نسبية في ميدان عقديّ آخر، والحديث في اختلاف الميدان العقديّ يمكن سحبه إلى الميدان العلميّ أيضاً ، فقد اكتشفت البحوث الحديثة في ميدان علم التشريح المقارن بين الإنسان وغيره من الكائنات ، أنّ اللون الذي يدركه الإنسان ليس هو بالضرورة اللون نفسه الذي تدركه بقية الحيوانات أو الحشرات ، فمثلاً يرى الإنسان قميصاً أحمراً ، ويُدرك أنّ ذلك حقيقة ، فهذا القميص المتعين هو إدراكٌ يتصف بجزيئات يصطبغ بهذا اللون ، لكن حشرة مثل : ( الذبابة ) لا ترى اللون الأحمر في هذا القميص نفسِه ، لأنّ صورة القميص تنعكس على مجسات العين عندها باللون البنفسجيّ ، وهذا يحيلنا إلى استنتاج أنّ الحقيقة اللونية في هذا المجال لا تعدو كونها انعكاسات عيانية يستقبلها ( الدماغ ) ليحولها بالتالي إلى تصورات تكتسب صفة التعريف لدى وعي الإنسان الذي يُترجمها بدوره إلى معانٍ ودلالات محددة ، فإذا ما نقل الوعي الآنية إلى محتوى تصوراتي مفاده : أنّ هذا القميص لونه برتقالي  وهو في الأصل أحمر  فإني سأعمد إلى بيان ذلك التصور من خلال تحميل دلالته وتسويقها ، ويفسر هذا الكلام قوله تعالى:

 " سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحرٍ عظيمٍ " ( سورة الأعراف ، من الآية 116  

وقوله عزّ وجلّ  

.. "يُخيل إليهم من سحرهم أنها تسعى سورة طه ، من الآية  66  

فالسحر واقع على النظر ، والتغير الحاصل في إمكانية تحويل العصا إلى أفعى هو خداع في التصور والإدراك من قبل بني إسرائيل وليس صورة واقعية ، فما كان يعتقده الناس حقيقة بوجود الأفعى لم يكن كذلك ، وبهذا جاءت حقيقة وصف عمل السحرة في هذا الموضع بقوله تعالى  

" تلقف ما يأفكون " سورة الأعراف ، من الآية 117

 وقوله سبحانه

 " تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر " سورة طه ، من الآية 69  .

إنّ وصول الصورة المرئية إلى الدماغ وتحليلها وتحويلها إلى معانٍ ودلالات ، وتقديمها بوساطة الكلمة المسموعة ، عملية معقدة صاغتها الهندسة الإلهية في أحسن تقويم ، ومسألة اقتناص الحقيقة منها مسألة ليست بالسهولة التي يمكن التشدق بها .

ما نريد قوله هو الآتي :

تدخل  (الحقيقة (بوصفها مصطلحاً مطاطاً في إمكانيات هائلة وطرقٍ متعددة من الصيرورة المستمرة التي لا تعرف الثبات ، لأنها تكون في حالة إعادة مستمرة لمفاهيمها ، فما كان خيالاً في الأمس البعيد أو القريب أصبح حقيقة اليوم ، وما يكون اليوم خيالاً سيكون غداّ حقيقة ، وما تراه أنتَ حقيقة راسخة في معتقدك ودينك وشريعتك قد لا يكون حقيقة خارج إطار دينك وتوجهك العقديّ ، وما يعتقد به مجتمع معين من حقائق قد تبدو لهم ثابتة، لا يعتقده مجتمع آخر ، وما ترسخ من تصورات عتيقة قد ينفيه العلم الحديث بدراساته التحليلية في صنوف المعرفة المتنوعة ، لكن يبقى السؤال : هل يحق لنا احتكار الحقيقة ؟ ، هل يحق لنا مصادرة حقائق غيرنا الثابتة  عندهم  لنحولها إلى حقائق نسبية  عندنا؟ ، هل يمكن اغتصاب جميع الحقائق النسبية كي تبقى حقائقنا هي الأساس ، أم هل يمكننا الإدعاء بموسوعية حقائقنا ومطلقيتها بمعزل عن حقائق غيرنا ، هل يمكننا أن نكون أصحاب ممارسات ديوجينية أكثر من ( ديوجين نفسه ) ، أم يمكننا تقديم الحقائق على طاولة النقاش والمحاورة بعيداً عن التجريح والتنكيل ، واغتصاب حقوق الغير في الحديث والمناقشة وإبداء الرأي والرأي الآخر ، ولنا في ذلك منهج علميّ معرفيّ وهو منهج سيدنا إبراهيم ( عليه الصلاة والسلام ) ، ويتجلى ذلك في قوله تعالى:

" قالَ ربِّ أرني كيفَ تُحيي الموتى قالَ أولَم تؤمن قالَ بلى ولكن ليطمئنَ قلبي"سورة البقرة ، من الآية260.

إنها دعوة إلى المستقبل ، إنها دعوة إلى البحث عن المعرفة والتفتيش عنها ، إنها دعوة للتنقيب في كنه الأشياء والتصورات ، وعدم التسليم بالعُرف والتقليد الأعمى الذي لا يستند إلى المعرفة الموضوعية القائمة على معطيات : ( الوحي ، والنص ، والعقل ) ، ولنتذكر بتأمل قوله تعالى

: "يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون سورة النور ، الآية  24