لا تدفع لصفارتك أكثر مما تستحق !

تلقيت يا عزيزتي رسالتيك ، رسالة الأربعاء ، ورسالة السبت ، وأتلقى اليوم منك رسالة أربعاء ثانية . والحق أنني لا أستحق اليوم منك رسالة ؛ لأنني لم أرد على الرسالتين السالفتين ، ولكن لأنني كسول ، وعزوف عن الكتابة بطبعي ، ومخافة من عدم تلقي المزيد من رسائلك السارة لكوني لم أرد على رسائلك السالفة ؛ كل هذه المؤثرات دفعتني لحمل قلمي للرد عليك . أضيفي إلى ما سلف أن السيد " ب" تلطف وأخبرني أنه سيذهب إليك في الغد .وبدلا من أن أقضي مساء هذا الأربعاء في صحبتك المبهجة مثلما فعلت في أيام الأربعاء السالفة جلست لأقضيه في التفكير فيك ، وفي الكتابة إليك ، وفي إعادة قراءة رسائلك السالفة مرارا وتكرارا . سحرني وصفك للجنة ، وسحرتني خطتك للعيش فيها ، وأوافق كثيرا على قولك إننا يجب في نفس الوقت أن نحرص على أخذ الكثير من خير هذه الدنيا ، ورأيي أننا جميعا يجب أن نأخذ من خيرها أكثر مما نأخذ ، وأن نقاسي من شرها أقل مما نقاسي ، ويتحقق هذا إذا عملنا على أن ندفع لصفاراتنا أثمانا أقل مما ندفع فعلا . وفي رأيي أن أكثر التعساء الذين نلقاهم في هذه الدنيا إنما أضحوا تعساء لإهمالهم هذا التحذير . تسألينني ماذا أقصد ؟! إنك تحبين القصص ، وعذرا إذا رويت إليك قصة من حياتي ! في سابعة عمري ، ملأ أصدقائي جيبي قطعا نقدية ، فيممت من فوري محلا يبيعون فيه لعب الأطفال ، ولولعي بصوت الصفارة الذي سمعته من صفارة طفل لقيني في الطريق ؛ بادرت بدفع كل ما معي من النقود ثمنا لصفارة واحدة ، ورجعت إلى البيت ، ورحت أملأ أرجاءه صفيرا فائق السرور بصفارتي ، ومزعجا كل الأسرة بصوتها .ولما علم إخوتي وأخواتي وبنو عمي بالصفقة التي  قمت بها أعلموني أنني دفعت في صفارتي أربعة أضعاف ما تستحق ، ونبهوني إلى الأشياء الطيبة التي كان في مقدرتي أن أشتريها ببقية النقود ، وسخروا كثيرا من بلهي حتى بكيت ضيقا ونغصا ، وأحزنني التفكير في ما فعلت أكثر مما سرتني الصفارة . على أن ما حدث أفادني في ما بعد واتصل تأثيره في نفسي ؛ إذ صرت كلمت تعرضت لغواية شراء شيء لا لزوم له أقول لنفسي : " لا تدفع للصفارة أكثر مما تستحق " ، فأوفر نقودي . ولما كبرت ، ودخلت معترك الحياة ، ولاحظت أفعال الناس  أحسب أنني التقيت كثيرين ، كثيرين جدا ، دفعوا لصفاراتهم بدورهم كثيرا جدا . فإذا رأيت شخصا طموحا للحظوة في بلاط ملكي ، مضحيا بوقته لحضور استقبالاته ، وبراحته وبحريته وفضيلته ، وربما بأصدقائه للفوز بها ؛ أقول لنفسي : " هذا الشخص يدفع ثمنا غاليا جدا لصفارته " . وحين أرى آخر مولعا بالجماهيرية الشعبية ، ويشغل نفسه دائما بالأنشطة السياسية الصاخبة ، ويهمل شئونه الخاصة ، ويدمرها بإهماله هذا ؛ أقول لنفسي : " إنه يدفع في الواقع ثمنا غاليا جدا لصفارته " . وإذا عرفت بخيلا مقبوض اليد ، تخلى عن كل ألوان العيش الرخي ، وكل ألوان السرور النابعة من فعل الخير للناس ، ، وتخلى عن تقدير مواطنيه له ، ومباهج الصحبة الخيرة الكريمة ؛ من أجل تكديس المال ، أقول له : " أيها البائس المسكين ! إنك تدفع لصفارتك ثمنا غاليا جدا " . وإذا لقيت شخصا مولعا باللذة ، مضحيا بكل تحسين للعقل حقيق بالثناء والحمد ، أو مضحيا بماله من أجل اللذات الجسدية المحضة ، ومدمرا هذا المال في طِرادها ؛ أقول له : " إنك تجلب الألم لنفسك عوض اللذة ، وتدفع غاليا جدا لصفارتك " . وإذا رأيت متدلها مولعا بالمظاهر ، أو بالثياب الفاخرة ، أو بالمنازل الفخمة ، أو بالرياش الباذخ ، أو بالعربات الفارهة ، وكلها فوق بسطته المالية ، ويستدين في سبيلها ، ويختم حياته سجينا ؛ أقول : " يا للأسف ! لقد دفع غاليا ، غاليا جدا لصفارته " .  وإذا رأيت غادة حلوة عذبة الروح تزوجت وحشا بشع النفس  قلت  : " يا للأسف ! ستدفع غاليا جدا لصفارتها " . وبالموجز : أرى أن الناس جلبوا جانبا كبيرا من متاعسهم على أنفسهم بتقديراتهم المخطئة التي قيموا بها الأشياء ، وبدفعهم ثمنا غاليا لصفاراتهم . على أنني ينبغي أن أعطف على هؤلاء التعساء حين أنظر إلى الأمر بكل ما لدي من حكمة أتيه بها فخرا ؛ ذلك أن في الحياة أشياء مغرية جدا ، ومنها تفاحات الملك جون التي من داعي السعادة أنها لا تعرض للبيع ، ولو عرضت في مزاد للبيع فلا ريب في أنني سأدمر نفسي بكل سهولة لشرائها لأجد نفسي مرة ثانية دفعت غاليا للصفارة . وداعا يا صديقتي الغالية ، وصدقيني أنني محبك صاحب الحب الذي لا يحول ولا يزول .

*رسالة الرئيس الأميركي بنيامين فرانكلين ( 1706 _ 1790 )  للسيدة بريلون .

وسوم: العدد 789