من طرائف الأعراب

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

مسرحية من مشهد واحد

المكان : بلدتي حيث أقيم

الزمان : زمن الصبا والشباب

الأشخاص : أنا ابو عارف  ، وصاحبي أبو اليقظان ، وكتاب فيه من الأصحاب والأحباب من لم تجد مثلهم في أي مكان .

المشهد الأول ( الوحيد) :

أبو عارف : ذهبت يوما لزيارة صاحبي ( أبو اليقظان ) ، طرقت الباب ، فتح لي ابنه ، قلت : السلام عليكم يا بني ، هل والدك موجود ؟

الولد : نعم موجود ، تفضل

أبو عارف : دخلت بعد أن فسح لي ، فإذا الدار خالية من أهلها إلا من صاحبها أبي اليقظان حيث كان يجلس تحت شجرة الليمون في باحة الدار ، وابنه هذا يقوم بين يديه ، قلت : السلام عليكم

أبو اليقظان : لم يرد ولم ينتبه لوجودي ، كان يضحك من كل قلبه ، يحمل بين يديه كتابا، وكلما قرأ جملة ضحك حتى يستلقي على قفاه.

أبو عارف :السلام عليكم يا أبا اليقظان !

أبو اليقظان :  عليكم السلام ، هذا أنت؟ أهلا وسهلا، تفضل اجلس .

أبو عارف : افضلت .... أضحك الله سنّك ، وأدام سرورك ، مم تضحك ؟

أبو اليقظان : اجلس ... واسمع .. يقرأ :

حضر أعرابي سفرة سليمان بن عبد الملك (وهذه كانت من عادة الخلفاء ) فلما أوتي بالفالوزج (وهو نوع من الحلوى )  جعل يسرع فيه

أبو عارف : كيف يعني يسرع فيه ؟

أبو اليقظان : يعني يأكل منه بشراهة وعجلة .

أبو عارف : كأنه أعجبه وأحبه

ابو اليقظان : نعم... نعم.. ولم لا .. إنه طعام الملوك ! اسمع :فقال له سليمان : أتدري ما تأكل يا أعرابي ؟ قال : بلى يا امير المؤمنين : إني أجد ريقا هنيئا ، ومزدردا لينا ( لا يحتاج إلي مضغ ) وأظنه الصراط المستقيم الذي ذكره الله في كتابه. ضحك سليمان وقال : أزيدك منه يا أعرابي ، فإنهم يذكرون أنه يزيد في الدماغ . قال الأعرابي : كذبوك أيها الأمير، لا تصدقهم ، لو كان كذلك لكان رأسك مثل رأس البغل !!

أبو عارف : يضحك حتى استلقى على قفاه ، ويقول : الأعرابي يرد على أمير المؤمنين هذا الردّ ، سبحان الله كم كانوا حلماء لطفاء

أبو اليقظان : إنهم ملوك بحق، وعظمتهم تظهر في حلمهم .

أبو عارف : تصور لو أن هذا الأعرابي قال هذا الكلام لرئيس مخفر ، ماذا كان يفعل به ؟ أقلها كان يتهمه بأنه يحقر الحكومة ، ويحوله الى محكمة أمن الدولة، بالله عليك أخي ابو اليقظان اقرأ علي المزيد زادك الله من فضله . هؤلاء الأعراب أصحاب فطرة سليمة ، وسريرة نقية .

أبو اليقظان : اسمع هذه يا أبو عارف ، كان هناك رجل ظريف يسمى (ابو مهدية ) وهو شخص معروف في زمانه ، توفي له ولد ..

أبو عارف : أبو مهدية توفي له ولد ، نعم سيدي أكمل .

ابو اليقظان :فجاءه معارفه وجيرانه يقدمون له واجب التعزية ، قالوا له :

أبشر أبا مهدية ،فإنا نرجو أن يكون لك  شفيع  صدق يوم القيامة .انفجر أبو اليقظان ضاحكا !

أبو عارف : لماذا تضحك ؟ أكمل وأضحكنا معك !

أبو اليقظان :هم يقولون له : نرجو أن يكون لك شفيع صدق يوم القيامة ، وهو يردّ عليهم ويقول : لا وكلنا الله إلى شفاعته

يعني لا يريد شفاعته !!

أبو عارف : يا لطيف ! لماذا ؟

أبو اليقظان : قال لهم : إذن والله يكون أعيانا لسانا ،وأضعفنا حجة ، ليته المسكين كفانا نفسه .

أبو عارف : كلامه صحيح والله ، طفل صغير ، لا يعرف الكلام ولا يستطيع الدفاع عن أحد ،يا ليته يدافع عن نفسه ولا أريد منه شيئا .

أبو اليقظان : اسمع يا أبا عارف ماذا فعل أبو مهدية هذا أيضا .

أبو عارف : كلي آذان صاغية ،سأبقى معك حتى الصباح إذا كنت تقرأ علي مثل هذه الطرائف .

أبو اليقظان : يقرأ : لما تقدّم أبو مهدية في السّن صار واليا على جانب من اليمامة ، وكان يقطن في هذا الجانب قوم من اليهود أهل يسار وغنى ، فارسل إليهم ابو مهدية ، فلما حضروا قال لهم : ما عندكم من المسيح ؟ يعني تعرفون ماذا فعلتم مع المسيح ؟ قالوا : نعم .. قتلناه وصلبناه !

قال لهم : إذن تعترفون بفعلتكم ؟ قالوا: نعم

أبو عارف : وهل صدقهم ؟

أبو اليقظان : ما هذه هي المشكلة ، إنه يريد شيئا آخر .

أبو عارف : وماذا يريد منهم ؟

أبو اليقظان : لا تكن عجولا يا أبا عارف ، عندما قالوا : قتلناه وصلبناه ، قال : هل غرمتم ديته ؟ يعني هل دفعتم حق دمه

قالوا :لا

أبو عارف : حلو ... وقعوا في الفخ . ماذا فعل معهم ؟

ابو اليقظان : يريد ديّة المسيح ،هل يترك دم المسيح يذهب هدرا ؟ لا يمكن أبدا !  فأقسم أبو مهدية انه لا يتركهم حتى يدفعوا دية المسيح الذي قتلوه

أبو عارف : رائع ..بطل والله... وهل دفعوا ؟

أبو اليقظان : في البداية رجوه .. وتوددوا له .. وبكوا بين يديه  وهو مصرّ لا يطلقهم حتى يدفعوا  الديّة ، فلم يجدوا بدا من الدفع فدفعوا حتى رضي وهم صاغرون.

أبو عارف : كثّر الله من أمثالك يا أبا مهدية يا شهم

 تابع أبو اليقظان  تابع

أبو اليقظان : اسمع .. اسمع يا أبا عارف ، قال أحدهم : سمعت أعرابيا وهو يقول في الطواف في موسم الحج ( اللهم اغفر لأمي ، اللهم ارحم أمي ) فقلت له : مالك لا تذكر أباك ؟ قال : إن أبي رجل يدبر نفسه ويعرف كيف يخلصها أما أمي فمسكينة لا تعرف كيف تتصرف !

والله معه الحق ، هذا إذا كانت فعلا مسكينة ، أما اذا كانت مثل حماتي فإنها تدوّخ حتى الملكين الكاتبين

أبو اليقظان : اسمع الى هذا الأعرابي ايضا :

أبو عارف : هات اسمعنا واتحفنا الله يفتح عليك

أبو اليقظان يقرأ : جيء بأعرابي إلى السلطان ومعه كتاب قد كتب فيه قصته ، حتى وقف بين يدي السلطان ، وقال : هاؤم اقرأوا كتابيه ! فقيل له : هذا يقال يوم القيامة ! قال: هذا والله شرّ من يوم القيامة ، انّ يوم القيامة يؤتى بحسناتي وسيئاتي ،وأنتم جئتم بسيئاتي وتركتم حسناتي .

أبو عارف : صدق والله الأعرابي ، حتى لو كان له حسنات يبدلونها سيئات ثم ينالوا منه ، جزاك الله خيرا يا أبا اليقظان ، لقد طابت سهرتي الليلة معك ، وامتعتني كثيرا ، ولكني أحسّ فتورا في جسمي ، وقد دبّ النعاس في رأسي ، استميحك عذرا ، اسمح لي ...

أبو اليقظان : اسمع هذه النادرة قبل أن تذهب

أبو عارف : هات يا سيدي  أرى أني سأبيت الليلة عندك .

أبو اليقظان : أهلا وسهلا ومرحبا  البيت وصاحبه في خدمتك . استمع إلى النادرة

( ولّى أحد الأمراء عاملا على عمل له ، فأصاب منه خيانة ، فأمر بعزله وإحضاره ، فلما مثل بين يديه قال له : أكلت مال الله يا عدوّ الله !!؟ قال العامل : أيها الأمير مال من آكل إذا لم أكل مال الله فإني لم أجد غيره ، ثم إني راودت إبليس أن يعطيني فأبى أن يعطيني فلسا واحدا !

عندها ضحك الأمير وخلّى سبيله

أبو عارف : يضحك ... يضحك وهو يقول : فعلا مال من يأكل ؟ سامحك الله يا أبا اليقظان على هذه الطرائف ، من أين لك هذا الكتاب ؟

أبو اليقظان : إنه كتاب قديم كان أبي عليه رحمة الله يقرأ فيه ، وكان يوصيني أن أحافظ عليه لأنه نادر وكثير الفائدة

أبو عارف : عليه رحمة الله تعالى وعلى والديّ وعلى أموات المسلمين أجمعين

والآن اسمح لي وغدا سنكمل إن شاء الله  تصبح على خير .

أبو اليقظان : وأنت من أهل الخير ، رافقتك السلامة .    

وسوم: العدد 745