سياحة ثقافية مع إبراهيم العجلوني

اعْلَمْ أيها القارئ أنه كان مما غَلَبَ على معظم الحوارات الثقافية في وطننا العربي أنها تُبْدِئَ وتُعِيدَ في أثناء سياقة الكلام على الضيف الشاعر أو الأديب في التعريف بمولده وتعليمه وتفاصيل حياته المتشعبة، ثم لعلها تُدير الحوار على ذات "الضيف الإنسان" بإسهاب، ثم "الضيف المثقف" بإيجاز، وهذا على أهميته في تعرف مَظَانِّ تفتق إبداع الـمُحَاوَر ليس لائقًا في جَنْبِ أستاذنا إبراهيم العجلوني، ولا في جَنْبِ قرائنا بما لهم علينا من الحق.

فلَئِن كان قَمِينًا بنا ونحن نَقصدُ بالقارئ إلى تذوق أدب الفطرة الإنسانية –أعني "الأدب الإسلامي" بِضُروبه كلها- أن نُوقِفه على أدبٍ أَنِفٍ سامٍ يُعظِّم كبرياء الإسلام في خاصة نفسه، ونتعاهد وإياه ما اتسع له مَجَاز العربية من علوم وفنون وحضارة تُكسبنا بعض القدرة على تذوق الكلام العربي تَذَوُّقًا يُسْلِمنا إلى إنزال هذا الكلام منزله فَهْمًا وتَنَزُّلًا، لا لأنه قوميةٌ وهُويةٌ له كعربي وحسب، بل لأنه أيضًا وقبل كل شيء أداة الفهم لمراد الله كما جاء عن الله قِدَمًا وجِنْسًا.

فإذا كان قَمِينًا بنا ذلك؛ فإننا إذ نَضْرب صَفْحًا في حوارنا هذا مع الأستاذ إبراهيم العجلوني عن سُؤالات تتوسل مُعَايشة ما كابده فصَيَّره إلى ما هو عليه، فَلِأننا نَجري على منهج سَرْدية "القَصَص القرآني" في تَرْكِه الاستغراق في التفاصيل الجانبية، واستطراده العجيب بالإتيان على التفاصيل استطرادًا تأنس مُسوِّغاته في خاتمة القصة أو السورة.

فأنتَ لا جَرَمَ واجدٌ أن بعض القصص القرآني مُجْمَلةٌ في بضع آيات معدودات ليس غير. كما أنك واجدٌ قصصًا مُفَصَّلَةً بتفصيل مُطوَّل من مَبْدَأ السورة إلى مُنتهاها، ولقد تكون تحمل السورة اسم القصة، والآيات كلها تدور عليها! ذلك لأن المقصد الإلهي ليس الإمتاع الروائي بل "التشريع بالرواية"؛ ولذلك وصفها الرب تعالى في كتابه بـ"أحسن القصص" لا أمتعها، إذ الغرضُ بها تشريعيٌّ لا ترفيهيٌّ.

ومن أجل ذلك، كان من الحَيْف أن نُقدِّم لقرائنا العرب الأستاذ إبراهيم العجلوني على أنه شاعر أو قاص أو ناقد أو أديب، على مُكْنَته في هذه الفنون الأدبية كلها، وبَزِّه فيها؛ ذلك لأن ضيفنا –المولود في منطقة الصريح في محافظة إربد الأردنية في 9 أيلول لعام 1948م- فوق هذا مفكر إسلامي قَلَّ أن يوجد مِثْله في بلدنا الأردن.

فمؤلَّفاته الـ41 تَشْترك جميعها في كونها مَعْقودة الأواصر بالإسلام مَرْجعيةً وأدبًا وفكرًا وثقافةً وحضارةً وتراثًا، صَبَّها في أواني بيانٍ عالٍّ على مَعْهودِ سَبْكِ فحول قرون الإسلام الأولى، مع موسوعية بالتراث الإسلامي كاملًا، والفكر الإنساني وآدابه وفلسفاته تُشَاكل تلك التي طُوِيَتْ لعباس محمود العقاد من سَعَة اطلاع في عمق فهم، و"ليس الخبر كالمــُعَاينة"!

تعرض الأستاذ إبراهيم العجلوني في مؤلَّفاته لِعُنْوانات أدبية ونقدية وفكرية وفلسفية وحضارية بَسَط فيها المثقفون الغربيون نظريات وكتبًا، كان من أخطر مَغَبَّاتها أنها أدخلت الجيل المسلم في شَرَكِ الانبهار بالغرب مع زرع النقيصة الذاتية في نفسه، طَامِسةً بذلك -على نار هادئة- فِطرتَه الإلهية التي وُلِد وتربى عليها؛ ما سَهَّل لهم التلاعب فيه وعن بُعدٍ دونما حاجة منهم إلى حَقْنه بشيفرات وراثية مُعَدَّلةٍ تُعِيد برمجَتَه الجينية، أو حتى غسيل دماغه بالكهرباء لإعادة ضبط إعداداته العصبية، أو تشفير IP الخاص به عنه (العنوان الجيني المعروف بـDNA) ليَسْهُل قِيَاده إلى حيث يُراد له وللأجيال المسلمة برمتها، إذ ما الداعي إلى كل هذه الخطط المُكْلفة مع غياب دقة النتائج في ظل وجود ما هو أرخص منها، وأسرع أثرًا، وأضمن ضررًا!                                وآتيًا نص الحوار..

1- أَيُّما الدورين أحرى بالمثقف المسلم أمام ضياع البوصلة الإسلامية للشعوب العربية سياسيًّا وحضاريًّا وقيميًّا؛ قيامًا بواجبه تجاه دينه وأمته وأدبه: أن يكون مثقفًا تَبريريًّا أم تثويريًّا؟

يتضمن سؤالك هذا أكثر من افتراض، كلها مواضعُ للنظر؛ أول ذلك "ضياع البوصلة"، حيث يمكن القول إن الشعوب الإسلامية ما تزال تهتدي بهذه البوصلة، وتستبين أهدافها بها، ولكن الذين أضاعوها هم السياسيون، وأدياء الثقافة، وكثير من الأكاديميين.

ثم إن "المثقف" لا يكون تبريريًّا، ولا تثويريًّا؛ فكلا الخيارين يُفضي به إلى الضلالة، والخروج عن الجادة، إذ هو بما يمتلكه من أدوات المعرفة وطرائق الفهم والتحليل أعمق رؤيةً من أن يسقط في التبرير، أو أن يَعْجل إلى التثوير؛ فثمة موازين لديه ليست قابلة للتخسير، وهي موازين قرآنية ونبوية هيهات تميل عن الصراط، ودور "المثقف المسلم" في كل حال أن يتمثلها حث التمثل في مواجهة الواقع في شتى جوانبه، وأن يرى في ضوئها إلى الوقائع أدبية كانت أو سياسية أو اجتماعية، فيحدد موقفه منها، يغمغم برأي، ولا يكتم شهادة.

ذلك هو واجبه نحو دينه وأمته، ونحو "الحق" الذي يتواصى به المؤمنون، ويصبرون على ما يكون للجهر به من تبعاتٍ!

.................................

2- هل توافق على نِسبة "الأدب" مفهوميًّا وهُوياتيًّا إلى دين (الأدب المؤدلج)؛ باعتبار أن ثَمَّ "الأدب الإسلامي"، و"الأدب المسيحي"، و"الأدب اليهودي"، و"الأدب الكَنَسي"، أم إن ثَمَّ ضوابطَ حاصرةً للأدب الإسلامي لا تنفك عن دين الأمة، ومزايا ليست في سِوَاه تجعله متفردًا على مَن سِواه تُخوِّله رسالةً من نوع ما؟

كل أدب يوائم الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا يَتَجانف بها لإثم، ويُصور أشواق الناس الروحية ومَنازعها الأخلاقية هو أدب مرشح لأن يوصف بـ"الإسلامي".

وثمة في أعمال الروائي الروسي "دستويفسكي"، والشاعر الألماني "جوته"، والروائي الفرنسي "فيكتور هوجو"، والروائي الروسي "تولستوي"، والروائي الألماني "هرمان هسه"، ثمة في أعمال هؤلاء ما يثبتُ صدورهم عن فطر لم تتلوث بموبقات الحضارة الغربية المادية!

وثمة في أدباء المسلمين من تنكب فطرته، وأنتج أدبًا عجبًا يضرب في تيه بعيد، شعرًا ورواية ومسرحًا، مُضاهِئًا في كل ذلك أسوأ ما في حضارة الغرب من ألوان الانتكاس الأخلاقي! وهؤلاء مُمَكَّنون في واقعنا الثقافي؛ بسببٍ من غياب النقد الجاد النزيه، ومن غياب الصحافة الثقافية المسؤولة، ومن فَهَاهة كثير من سدنة الإعلام.

على أنَّ في الأمة مثقفين أُصَلاء يقبضون على جمر الوعي، ويتصدون لهذه الموجات المتتابعة من الغثاء التي لا بد أن تنحسر عند امتلاك الوعي والإرادة وتقرير المصير.

أما عن التمذهب السياسي أو الفكري -ضَيِّق العطن- القائم غالبًا على الاستنساخ الحزبي، أو ما شابهه، فهو يَنزل بالأدب إلى مستوى "المنشورات" التي تَنُمُّ على الاستلاب، وساء ذلك سبيلًا!

.................................

3- عَلامَ تَقَزم الدور الحضاري والثقافي للأمة على كثرة شعرائها، وزخم آدابها، وثراء تراثها، مع أن الأمم إنما تحيا وتَقوى وتَبْقى بآدابها وتراثها، فَلِمَ لم يُغنِ هذا الإرث الفخم عن أمتنا في وجه الاستعمار الثقافي، والاستلاب الحضاري، والتقهقر الأممي، والاستيراد الشعري (قصيدة  النثر ذي الأصل الفرنسي غير الموزون)؟!!

  نحن لم نَرْقَ إلى مستوى المنجز الثقافي الذي حققته أمتنا في مدى حضورها التاريخي المتطاول، على الرغم من تكالب الأعداء  عليها، وما تعرضت له من نكبات.

إنه لا أحد فينا اليوم يزعم أنه ظاهرٌ على هذا المنجز الثقافي، وأن وعيَه يَحتقبُ علوم الإسلام من فقه وكلام ومناهج نظر، أو يستوعب الأدب العربي في مختلف تجلياته.

وبسببٍ من هذه الحال التي فاقمها انبهارنا بالغرب المستعمر، فإن بنا أن نقول إننا لم نحقق بَعْدُ نهضتنا المنشودة، وإن ما نحن فيه هو "وهم النهضة" لا غير! وهو وهم يتيح لمغامري السياسة والثقافة التلبيس علينا، وخداعنا عن حقائق وجودنا.

لكن هذا كله إلى زوال وانكشافِ هُزال بإذن الله، وإن في الأفق لَتَباشيرَ مُنْبِئةً عن عودة الأمة إلى ذاتها وسماتها، وذلك ما نراهن عليه، ونَرقبُ نصرة الله سبحانه فيه.

.................................

4- أَترى الأمة أحوج إلى مثقف الأدب: النخبوي أم المباشر النهضوي، ولماذا؟

"أدب النخبة" عندي هو نفسه "أدب الجماهير"؛ لأنه لا بد أن ينعكس على وعيهم وذائقتهم، ولا بد أن يحمل همومهم، ويُترجم عن أحوالهم.

وإذا عُنِي الأديب بترقية ذاته، وإرهاف أدواته، وراعى حق اللغة عليه، وحرص على رفعة أسلوبه، وسخَّر ذلك كله لخدمة مجتمعه؛ فهو حينئذٍ "أديب نهضوي" على حد ما ورد في سؤالكم.

أما ما يسمونه بـ"أدب الأبراج العاجية" فهو رهن بتنفّج المترفين من مدعي التميز، ومقترفي الكِبْر، وهو دليل تضخم الذات قبل أي شيء آخر!

.................................

5- فِــيمَ اختفاء الشعر المقاوم وأدب المقاومة من المناهج الدراسية للنشء، ولِمَ خَلَت دواوين الشعراء الشباب إلا قليلًا منهم عن العناية بهما نظمًا ونثرًا؟

هذا السؤال يُذكرني بما كان من دار العودة في بيروت حين أصدرتْ الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر المصري "علي محمود طه" في عدة طبعات في مدى عقدين أو أكثر، وقد حُذِفت منها قصيدة "فلسطين" التي مَطْلعها:

أخي جاوز الظالمون المدى

فحق الجهاد وحق الفِدا

وهو السؤال نفسه الذي نملك أن نُوجهه إلى مسؤولي الإذاعات والفضائيات العربية المتكثِّرة الذين يتواصون –فيما يبدو- بالصمت المـُريب عن أي عمل أدبي أو فني يُذكِّر ببطولات الأمة ومجاهديها قديمًا وحديثًا.

أما عن اشتمال المناهج الدراسية على أشعار الشباب فذلك مما قد نجد له سببًا يتعلق بصلاحية هذه الأشعار لأنْ تكون أنموذجات للتعبير القوي الجميل، ولا بأس من أن يستأنيَ الجيل الجديد من الشعراء حتى تنضج تجربة وترسخ قدمه؛ إذ الملاحظُ تهلهلُ وضعفُ كثير من الشعر الذي تلفظه المطابع هذه الأيام، وتمتلئ به أنهار الصحف والمجلات!

على أنَّ هذا لا ينطبق على العباقرة من الشعراء، فهم الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.       

................................

6- أَهناك "أدب سياسي" في العصر الحاضر؟ وأين الأديب والشاعر والمفكر الإسلامي منه؟

الأدب مشتبك بالحياة في شتى مظاهرها، والسياسة بما هي تدبير ومسؤولية أخلاقية، وقيامٌ على ما ينفع الناس، مجال واسع للأدب، ولكنه –حفاظًا على ماهيته وخصائصه- لا يتأتى إليها كفاحًا ومباشرةً.

ودُونك أعمالٌ روائية مثل: "الحرب والسلام" لتولستوي، و"ثلاثية نجيب محفوظ"، والروايات التي كتبها نجيب الكيلاني، و"مدن الملح" لعبدالرحمن منيف، وما يكتبه الروائي الأردني أيمن العتوم وغير ذلك كثير، فإن السياسة قاسم مشترك بينها جميعًا.

بَيد أن المـُعوَّلَ على "الأدب" فيها لا على السياسة، فإذا كان الأدب -و"كان" هنا كاملةٌ لا ناقصة- وتوافرت خصائصه، ساغ للأديب أن يكتب في أي موضوع كان.

..........................................

7- في زمن الرغبة عن العربية إلى لغات الأمم الغالبة (استشراق، فَرْنسة، تغريب الهُوية، استغلال "عقدة النقص" ..إلخ)، كيف يمكن للشعر المقاوم والأدب الإسلامي أن يُحْدثَا الأثر ذاته الذي كانا يُحدثانه في النفوس المؤمنة، ما دام أن هذه النفوس مُنْبتَّة وجدانيًّا عن قَدْرِ العربية نفسها دِينًا وإرثًا؟! 

النفوس المؤمنة على بصيرة لا يمكن أن تكون منبتة الوجدان عن لغتها وتراثها وآدابها.

وما تَراه من هيمنة التغريب، والعولمة الثقافية لا يتجاوز سطوح الأشياء، ولولا الهمالة السياسية، والائتمارات الاستعمارية والصهيونية لَمَا مثلُ هذا الاستشراء الـمَرَضي الذي تراه في واقعنا الثقافي للمفاهيم الغربية، ولأدبيات الهزيمة الروحية، والانتحار الأخلاقي!

....................................

8- كيف السبيل إلى الرد على مَن يرى العربية صالحةً دِينًا خاتمًا لرسالات الله (القرآن الكريم) لزمانٍ غير هذا الزمان؛ بمسوغ أن فهم لغة الخطاب القرآني محصورةٌ بلسان أصحابها (أي: العرب)، على حين أن الأمم الناطقة بالعربية لا تُذكر أمام تكاثر اللغات العالمية أكثر من عدد الأمم نفسها، وليس في طَوْق كل أحد تعلُّم العربية لتُقام عليه حجة الله، كأنْ تطلب –على سبيل المثال لا الحصر- إلى إفريقي تعلُّم اللغة اللاتينية ليحكم بنفسه على زَيف الإنجيل الـمُحَرَّف؟

نحن هنا أمام أسئلة عدة متداخلة، وثمة أحكام تتعلق بالإجابة عنها، لكنْ ما يمكن الجزمُ به اليوم أن غالبية العرب الذي تنزَّل القرآن بلغتهم وبين ظهرانيْهم، غير مؤهلين لفهم كتاب الله فهمًا صائبًا أو مقاربًا! وأنَّ اللهجات العامية غالبةٌ حتى على كثير من أدبائهم وسياسييهم وأساتذة الجامعات لديهم!

ولعل لِتلامذة الاستشراق الغربي، ولِصنائع الاستعمار المتجدد ، ولِوُسطاء العولمة دورهم المشهود في ذلك، وكَيْدهم الكُبَّار!

على أنَّ في طَوْقنا أن نجزم أيضًا بأن العربية هي أكثر اللغات -شأنها في ذلك شأن الإسلام نفسه- في العالم، وأنها تستعيد عافيتها وحضورها الغالب، كيف لا وهي محفوظة بحفظ القرآن الكريم والذكر الحكيم: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لَحافظون).

ثم إنَّ علينا أن لا ننسى أن ثمة دولًا إسلامية كبرى، مثل: تركيا، وإندونيسيا، وماليزيا، والباكستان، تُدرِّس أبناءها منذ اليفاعة لغة القرآن، وتجعل القرآن لغةً ثانيةً في مناهجها الدراسية، وهي مسألة بالغة الأهمية، وعلى العرب أن يُعززوا هذا التوجه، وأن يأخذوا بنصر القائمين عليه، وإلا فهم معرَّضون لأن يستبدل الله قومًا غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم!

وسوم: العدد 921