كُنُوزٌ ونفحاتٌ (إيمانيةٌ وشرعيةٌ وأخلاقيةٌ) من سورة الحُجُرات 4-5-6-7

*الكَنْـزُ الرابع: التثبّت في تلقّي الأخبار وروايتها*

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (الحجرات:6و7و8).

1- يوجّه الله عزّ وجلّ خطابه إلى المؤمنين الصادقين، بأن يتبيّنوا الحقيقة ويتحرّوا الحق، ويتثبّتوا من كل خبرٍ هامٍ يصل إلى مسامعهم، لاسيما إذا كانت تترتّب على تصديقه أضرار للناس، أو نَقَلَهُ فاجر خارج عن حدود الله لا يبالي بالكذب على الله وعلى الناس!.. والله عزّ وجلّ يقول للمؤمنين الصادقين الطاهرين: لا تتعجّلوا بالحكم واتخاذ المواقف، حتى تنضجَ لديكم الحقيقة، خشية أن تُلحِقوا الأذى والضرر بغيركم من الناس، من غير أن يستحقّوه، وأنتم تجهلون ذلك الحق نتيجة تسرّعكم، فتندمون على خطئكم، ويصيبكم لذلك الهمّ والغمّ، متمنّين عدم وقوعكم بذلك الخطأ الظالم الفادح.

لنلاحظ أن كلمة (فاسق) و(نبأ).. قد وردتا في الآية الكريمة بهذا الشكل غير معرّفتَيْن، بل على شكل تنكير.. وذلك يدل على أن الله عزّ وجلّ لم يحدّد فاسقاً مُعيَّناً.. ولا نبأً مُعيَّناً.. بل ورد اللفظ ليشمل أي فاسقٍ وأي نبأٍ، وفي أي زمانٍ ومكان.. فالحكم شامل كامل متكامل، ولكل الناس والأنباء والأزمنة والأمكنة.. إلى يوم القيامة!..

2- يستمرّ الله عزّ وجلّ في توجيه خطابه إلى المؤمنين الصادقين بقوله: اعلموا أنّ بينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تقولوا باطلاً، لأنّ الله سبحانه وتعالى سيُخبره بالحقيقة.. وهو أعلم بمصالحكم منكم، فلا (تُقدِّموا بين يديه) بالقول والتصرّف والتسرّع في اتخاذ الأحكام وقبول الأخبار، من غير تبيّنٍ وتثبّت!.. ولو أطاعكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في كثيرٍ من الأخبار التي تُنقَل إليكم وتُشيرون عليه بشأنها.. لوقعتم في المشقّة والإثم والمصائب والمتاعب.. لكنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل ذلك قبل التثبّت التام واستيضاح الأمور بشكلٍ كاملٍ بلا تأويلٍ أو لبس.

لنلاحظ هنا أيضاً كلمة (يُطيعُكُم)، فهي لفظ يفيد المستقبل والحاضر، وذلك للدلالة على الاستمرار في التحقّق والتثبّت من الأخبار والأنباء، فلم يقل: (أطاعكم)، أي في الماضي وانتهى الأمر!..

ولنلاحظ قوله عزّ وجلّ: (في كثيرٍ من الأمرِ)، لنكتشف مدى المراعاة التي يراعي الله عزّ وجلّ فيها عبادَه المخلصين المؤمنين، إذ لم ينسب الخطأ إلى جميع أعمالهم وآرائهم، بل إلى بعضها.. وفي الوقت نفسه، هي إشارة إلى صواب الرأي لدى بعضهم، في التريّث والتبيّن والتحقّق من الأنباء!..

3- ثم يأتي الاستدراك في قول الله عزّ وجلّ للمؤمنين الصادقين الذين لم يقعوا في خطأ التسرّع بقبول الأنباء: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ..)، فالله عزّ وجلّ جعل الإيمان أحب شيءٍ إلى المؤمنين الصادقين، وحَسّنه في نفوسهم بتوفيقه وتثبيته في أعماق قلوبهم.. وكرّه إليهم الجحود والكفر والفسوق (انتهاك حُرُمات الله والدين والشرع) والعصيان (المخالفة والتقصير في الطاعة).. فهؤلاء هم المؤمنون المستقيمون على الحق الثابتون عليه.. وهنا نلمس تماماً من سلوك هؤلاء المؤمنين الأطهار.. نلمس كيف أنهم ملتزمون بأوامر الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم.. وملتزمون بدينه وبمنهج الإسلام العظيم.. وهم بذلك لا (يتقدّمون بين يدي الله ورسوله)، وهنا يتجلى الربط الوثيق لهذه الآيات.. بمطلع السورة الكريمة في الآية الأولى!..

لنلاحظ قوله عزّ وجلّ: (حبّبَ)، (زيّنهُ)، (كرَّهَ).. وهي كلمات جاءت بلفظٍ يدل على أنّ ذلك كله كان تفضّلاً منه عزّ وجلّ على المؤمنين، وإنعاماً منه سبحانه وتعالى عليهم، وليس بجهودهم فحسب.. فحُب الإيمان وكُره الفسوق والكفر والعصيان.. هي نعمة من نِعَمِ الله عزّ وجلّ على الإنسان المؤمن، لا يمكن تحصيلها من غير تَفَضُّل الله عليه بها!..

4- إنّ الإيمان في أعماق القلوب، والثبات على طريق الحق، وتحبيب هذا الإيمان إلى القلوب المؤمنة، وتحسينه في الأرواح الطاهرة، وجعل الكفر والفسوق والعصيان من الأمور التي تكرهها هذه القلوب والنفوس المؤمنة الصادقة.. ذلك كله، فضل من الله عزّ وجلّ، ونعمة عظيمة لا تعدلها نعمة أخرى على وجه الأرض، فالله جلّ وعلا يعلم ولا تعلمون، ويضع الأمور في مواضعها الصحيحة الطبيعية التي يجب أن تكون فيها.. فهو عليم بها، حكيم يضعها في المكان الذي يجب أن تكونَ فيه!.. لذلك لنردّد في أدعيتنا وابتهالاتنا وتضرّعنا إلى الله عزّ وجلّ دائماً وباستمرارٍ: (اللهم يا مقلِّبَ القلوبِ، ثبّت قلبي على دينك، ويا مصرِّفَ القلوب صرِّف قلبي على طاعتك).. لأن القلوب تتقلّب بين يدي الرحمن ويُصرّفها كيف يشاء!..

لنتدبّر في الدروس والعظات المستوحاة من الآيات الكريمة

1- وجوب التثبّت من أي خبرٍ، وعدم التسرّع في تصديق الأنباء، أو البناء عليها من مواقف.. وبخاصةٍ تلك التي تترتب عليها آثار خطيرة لا يمكن تداركها بعد وقوعها!..

قارنوا بين منهج الإسلام وتعاليمه وعدله، والمناهج الظالمة الباغية الأخرى.. بين أخلاق المسلمين المؤمنين، وأخلاق غيرهم من الغربيين وأبناء الصهيونية والطغاة وأصحاب الأهواء الفاسدة.. الذين دمّروا العالم ودمّروا العلاقات بين الأمم والبشر، نزولاً عند أهوائهم وما تمليه عليه مناهجهم وأخلاقهم الفاسدة الوضيعة.. فأميركة دمّرت العراق وأفغانستان.. بناءً على معلوماتٍ يعترفون بأنفسهم الآن، أنها كانت مُزيّفةً خاطئة.. فوقع نتيجة ذلك السلوك الشاذّ الساديّ غير الأخلاقيّ.. وقع مئات الآلاف من القتلى والجرحى.. والملايين من المشرّدين.. ودمّروا بَلَدَيْن مُسلِمَيْن بشكلٍ كامل، وفي العراق دمّروا كل مقوّمات الدولة فيه، ونهبوا ثرواته.. وشرّدوا شعبه.. وقهروا أبناءه.. وكل ذلك تحت عنوان: تحقيق الديمقراطية، وتدمير أسلحة التدمير الشامل، غير الموجودة إلا في عقولهم المريضة، وتخليص الشعب من الظلم، الذي مارسوا عوضاً عنه ظلماً أشد وأنكى!.. هذه أخلاقهم.. وهذه مناهجهم الوضعية.. وهذه شريعتهم الظالمة الباغية.. بينما تلك مناهجنا.. وشريعتنا.. وأخلاقنا.. وديننا، فأين الثرى من الثريا؟!.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)!.. نعم، هذا هو إسلامنا، وهذه هي أخلاقنا المستمَدَّة من إسلامنا العظيم.. وتلك هي شريعتهم الحمقاء الباغية الحاقدة الإجرامية السادية.. وقد ارتكبوا كل ما ارتكبوه دون أن يرفّ لهم جفن أو تؤنّبهم بقايا ضميرٍ إنسانيّ.. فيا ويحهم كم سيكون سقوطهم وسقوط منهجهم وحضارتهم وإمبراطوريتهم.. مُدَوِّياً مـُجَلجِلاً بإذن الله جبار السماوات والأرض!..

2- على المسلم المؤمن أن يرتقيَ في سلوكه إلى درجةٍ يكون فيها موضع ثقةٍ تامةٍ في نقل الأخبار وتمحيصها.. أما الفاسق فيجب أن يكون موضع شكٍ دائماً حتى يثبت خبره الذي ينقله.. لأنه لا يتحرّى الصدق، بل يتعمّد الكذب ولا يتجنّبه!.. ولننظر إلى الأنباء التي تنقلها وكالات الأنباء والفضائيات الغربية والأميركية واليهودية والأذناب من الناطقين بالعربية.. لنرى كم هؤلاء أفّاكون مجرمون كذّابون.. يكذبون على رؤوس الأشهاد دون كللٍ أو مللٍ أو حياء، ليشنّوا أبشع حملةٍ وأقذر حربٍ نفسيةٍ على المسلمين!..

3- على المسلم أن يقتديَ برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان حكيماً عاقلاً واعياً تجاه الأنباء، يتثبّت منها قبل تصديقها أو اتخاذه الموقف منها.. ولا يتأثر بها قبل التحقّق والدراسة الواعية المستفيضة.. ولا يأخذ أحداً بالظنّة، ولا يعاقِب أحداً على التهمة حتى تثبت بالأدلّة القاطعة!..

4- الإيمان من أعظم النِعَمِ التي أنعمها الله عزّ وجلّ على المؤمن، وعلى مَن يريد من عباده.. ومن آثار الإيمان الحق: كره الكفر والفسوق والعصيان.. ومراقبة النفس باستمرار، لتبقى على الصراط المستقيم، بعيدةً عن كل ما يتناقض مع أصول الإيمان وأركانه.. فهل نفعل يا قومنا؟!.. هل نفعل؟!..

*كُنُوزٌ ونفحاتٌ (إيمانيةٌ وشرعيةٌ وأخلاقيةٌ) من سورة الحُجُرات*

 

*الكَنْـزُ الخامس: العِلاجُ الربّانيّ للخِلاف والفتن بين المسلمين*

*(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)* (الحجرات:9 و10).

*    *    *

*لنتدبّر في تفسير الآيتَيْن الكريمتَيْن*

1- من الطبيعي أن يقع الخلاف بين البشر، والمسلمون جزء من هؤلاء البشر، لكنّ خلافهم ينبغي ألا يخرج عن الأصول، وإذا خرج عنها، فربما تُفضي الخلافات إلى الاقتتال بينهم، وإلى وقوع الفتنة والحرب والصراع بين فئاتهم.. هذا ما تبحثه هاتان الآيتان الكريمتان.

2- لنلاحظ أنّ هاتين الآيتين قد وردتا مباشرةً بعد الآيات التي تتحدّث عن (التثبّت في تلقّي الأنباء وروايتها)، فالنبأ الكاذب قد يقود إلى البغضاء والشحناء، ثم إلى الاقتتال.. وقد جاء ترتيب الآيتين المذكورتين أعلاه، على ما يأتي به الفاسقون المفسدون من أنباءٍ كاذبة، فيوغرون الصدور، ليقعَ الخلافُ والاقتتال والبغي.. ولهذا، فإنّ إهمال أمر الفاسق الكاذب، أو إهمال التعامل بما أمرنا الله عزّ وجلّ تجاه النبأ أو الأنباء كما شرحناه في الكنز الرابع.. قد لا يقتصر على كلمةٍ كاذبةٍ تُقال أو نبأٍ كاذبٍ يُنقَل وينتهي الأمر.. بل ربما سيتجاوز ذلك إلى درجاتٍ أكبر من الخلاف والعداوة والشحناء.. ثم إلى الاقتتال ووقوع الفتنة والحروب.. فتكون الأنباء الكاذبة كبذور الشرّ والسوء، التي قد تجد فرصةً وأرضاً خصبةً عند الذين لا ينفِّذون شرع الله وأوامره.. فينتج عن ذلك شرّ وبلاء عظيم.

3- وقد شرحنا كيف تكون الوقاية من ذيول ما يُحدِثه النبأ الكاذب في النفوس.. وقلنا إنّ الوقاية تتم باتباع أمر الله عزّ وجلّ: (فتبيّنوا)!.. لكن إذا تمكّن الفاسقون من إتمام فتنتهم وجريمتهم في إيقاع الخلاف بين المسلمين.. فهناك درجة أخرى من العلاج، وهذا ما بحثته الآيتان الكريمتان السابقتان.

4- فإذا دبّ الخلاف بين جماعتين (أو حتى شخصين) منكم أيها المسلمون.. ثم إذا وقع القتال.. فإنه على المؤمنين الصادقين أن يحاصروا نيران الشقاق، بالسعي إلى الإصلاح بين الطرفين، وهذا لا يتم إلا: بالاستماع إلى الفريقين بتجرّد، ثم بالعمل على إطفاء النيران بتقريب وجهات النظر وتليين القلوب، والحكم بالعدل، ومن المهم جداً أن يتم رفع الظلم عن المظلومين، وإزالة عوامل الضرر والأذى، سواء بالتعويض أو بغيره، والنظر إلى أمور الخلاف بعينَيْن اثنتَيْن وليس بعينٍ واحدة.. وهكذا، فالمؤمنون مُطالَبون بالإصلاح وإزالة أسباب الخلاف نهائياً، وذلك عندما يكون الخلاف في الرأي وتكون الخصومة فكرية (قبل استفحالها).. بأسلوب الحوار الهادئ، وبالاحتكام إلى شرع الله عزّ وجلّ: (فأصلحوا بينهما): بالنصح والتوعية والتبصير والتذكير بشرع الله عزّ وجلّ، وبالاحتكام إلى أحكام الإسلام.

ولا بد من التنويه، أنّ أحكام قول الله عزّ وجلّ في الآيتين السابقتين، تشمل كل الفتن التي يمكن أن تقع بين المسلمين، وفي أي بقعةٍ من بقاع الأرض، وفي أي زمانٍ كان.

وهكذا.. فالآيتان تبحثان في قاعدةٍ تشريعيةٍ عملية، لصيانة الأمة المسلمة والمجتمع المسلم والجماعة المسلمة من التفكّك والخصام.. وقد صنّف علماء الإسلام بناءً على ذلك ما سُمِّي بأحكام (البُغاة)، ومن هذه الأحكام والقواعد ما يأتي:

أ- مصلحة الأمة العامة فوق أية مصلحة.. فلا بد من صيانة الأمة المسلمة من التفكّك والخصام.. بالحق والعدل والحزم والاحتكام إلى شرع الله عزّ وجلّ ومنهج الإسلام العظيم.

ب- وصف الإيمان يبقى للفئتين أو الطرفين المقتتلين مع اقتتالهما.. إلا إذا أعلن أحدهما خروجه عن شرع الله ومنهج الإسلام وكَفَرَ به، فعندئذٍ يسمى هذا الطرف بالطرف الكافر الخارج عن الإسلام.

ج- البغي يمكن أن يكون من أحد الطرفين المقتتلين.. أو من كليهما معاً.. وهذا يتطلّب وجود قوّةٍ من المسلمين قادرةٍ على حصر الخلاف بالحكمة والموعظة الحسنة.. أو بالقتال إن لم يكن بدٌ منه.

د- القتال هو الحل الأخير لحل الخلاف (آخر الدواء).. فإذا كان السلام والحب والوئام بين المسلمين هو القاعدة.. فإنّ الخلاف والشقاق والخصومة والفتن.. هي الاستثناء، وإن وقع هذا الاستثناء، فيباح في سبيل القضاء عليه.. كل الوسائل، بما فيها قتال الفئة الباغية، لإجبارها على العودة إلى الصف المسلم.. وهو إجراء صارم حازم يأمرنا به الله عزّ وجلّ للحفاظ على وحدة الأمة المسلمة.

هـ- قتال البُغاة المسلمين ليس بهدف القضاء عليهم، ولكن بهدف ردّهم إلى الصواب، وإلى شرع الله عزّ وجلّ، وإلى صفّهم الإسلاميّ، وإلى الانضواء تحت لواء: الأخوّة في الله سبحانه وتعالى وحده.

و- الإصلاح لا ينجح إلا بعودة الباغي أو إعادته إلى شرع الله ومنهج الإسلام ودستوره وأحكامه.

ز- واجب القيام بالإصلاح يقع على جميع المسلمين المؤمنين، لصيانة وحدة الأمة، ولمنع تفتّتها وتفكّكها، الذي يجعلها فريسةً سهلةً لعدوّها وللطامعين بها.

5- وماذا بعد محاولات الإصلاح بالتي هي أحسن، وبالحوار الهادئ الهادف؟!..

إنْ رَفَضَ أحدُ الطرفين أو كلاهما الرجوعَ إلى الحق والعدل والعقل والصواب.. واستمر في الخصام، ولم يقبل بجهود الإصلاح العادل والرجوع إلى شرع الله عزّ وجلّ لحلّ الخصومة، وأصرّ على الاقتتال وخوض الحروب.. فعندئذٍ لا يبقى أمام المؤمنين إلا قتال البُغاة لإجبارهم على العودة إلى حكم الله عزّ وجلّ وشرعه، قبل أن تعمّ الفتن في كل ركنٍ من أركان الأمة، فلا يسلم منها أحدٌ حتى الذين لم يشتركوا فيها.. لأنّ النيران التي ستشتعل يمكن أن تمتدّ لتحرق كل شيءٍ، فيذوق وبالها وشرّها وآثارها كلُ الناس في الأمة.

6- لا بد إذن، من قتال البُغاة حتى يعودوا إلى شرع الله عزّ وجلّ والامتثال لأحكامه، ويقتنعوا بأنه لا حل إلا بهذا الرجوع إلى منهج الله سبحانه ودستوره.. فإن عادت الفئة الباغية إلى الحق وإلى رشدها.. فعندئذٍ يتم الإصلاح أيضاً بعد الاقتتال، بالحق والعدل والدقة في طاعة الله عزّ وجلّ.. لإحقاق الحق وإبطال الباطل!..

لنلاحظ هنا كيف وردت كلمة: (وَأَقْسِطُوا) مجردةً بلا مفعول به.. ليكون المعنى مُشرعاً.. أي: اعدلوا في كل أموركم (وليس في الخلاف الذي وقع وكان سبباً لنزول الآية الكريمة).. فالله عزّ وجلّ يحبّ: (الْمُقْسِطِينَ): أي العادلين، فالعدل يستجلب محبة الله تبارك وتعالى، ما يبارك كل خطوةٍ يقوم بها العادلون.

7- فالمؤمنون إخوة.. وأخوّة الإيمان والإسلام.. أقوى من أخوّة النسب.. فلا معنى لأخوّة النسب إذا خلت من أخوّة الإيمان.. (فأصلحوا بين أخويكم)، وهو فعل أمر.. أي أمرٌ منه سبحانه وتعالى يُفهَم منه وجوب الالتزام بأمر الله للإصلاح.. والأخَوَان هما أقل عددٍ من المسلمين يمكن أن يقع بينهما خلاف وشقاق.. والقاعدة في الإصلاح تسري على أي عددٍ من المؤمنين يقع بينهم خلاف وشقاق، أقلّه اثنان!.. و(اتقوا الله) عزّ وجلّ في خصوماتكم إنْ وقعت، واحذروا عقابه، وافعلوا ما يستجلب رضاه.. وكذلك (اتقوا الله) سبحانه في إصلاحكم حين تَسعون إليه، واحذروا إهمال أمره عزّ وجلّ، وذلك بالعودة إلى حكمه وشرعه في المتخاصمين، وبالسعي إلى الإصلاح بين المؤمنين الإخوة في الله.. (لعلّكم تُرحَمون)، فاطلبوا رحمة الله عزّ وجلّ بعد الإقرار بالحق، والحكم بالعدل، والتوكّل عليه سبحانه وتعالى وحده، والتخلّي عن الهوى وعن الركون إلى الدنيا.. فلعل الله بعد كل ذلك..  يرحمكم، ويغفر لكم، ويعفو عنكم بعد خصومتكم.. ولعله يقبل توبتكم ورجوعكم إليه في الآخرة.. ولعله يرحمكم فلا يستفحل الشقاق بينكم في الدنيا، فتأكل نيرانه الأخضر واليابس مما يخصّكم ويخصّ الأمة، فيقع البلاء عليكم جميعاً ويعمّ.

لنلاحظ كلمة (إنّما) التي وردت في قوله عزّ وجلّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)!.. وهي استخدمت للحصر، أي: لا أخوّة إلا أخوّة الإسلام والإيمان بين المسلمين!..

*    *    *

*لنتدبّر في الدروس والعِظات المستوحاة من الآيتين الكريمتين*

1- الإصلاح بين المؤمنين واجب، ولا توصف فئة بالبغي إلا حين رفضها الاستجابة لجهود المصلحين العادلين، ومسؤولية الإصلاح واجبة على جميع المسلمين.

2- المؤمنون تقع عليهم مسؤولية عظيمة تجاه الأنباء التي ينقلها الفاسقون الكاذبون.. وعليهم يقع اللوم إذا استمعوا للفاسق الكاذب ومكّنوه من بَذر بذور الخلاف والشقاق بينهم.. وقبل ذلك يقع عليهم اللوم إذا لم يمتثلوا لأمر الله عزّ وجلّ: (فتبيّنوا).. وعندما يسمحون للمندسّين الفاسقين أن يكون لهم شأنٌ في أي جانبٍ من جوانب الأمة أو أي عملٍ كان، ولا يردّون الأخبار الكاذبة فيصفعون بها الفاسقين الكذّابين أصحاب الفتنة.

3- ردع الباغي وقتاله لإحقاق الحق.. واجبٌ على الإمام المسلم وعلى المسلمين عامةً.. حتى يؤوبَ إلى رشده وإلى حكم الله عزّ وجلّ، ويعودَ إلى الصف المسلم.

4- المؤمنون إخوة، وعلاقة الأخوّة بينهم أقوى من علاقة النسب.. ومن حقوق الأخوّة: الحبّ والتناصح والتعاون والبذل ودفع الظلم أو الأذى.. والأخذ على يدي الظالم، والحرص على اجتماع الكلمة، وتفقّد بعضهم أحوالَ بعض، والتماس الأعذار لهم، وعدم فضحهم بذنوبهم، والدعاء لهم بالتوفيق والتوبة.

5- تقوى الله عزّ وجلّ مطلوبة.. قبل وقوع الخلاف، وفي أثنائه، وبعده.. وهي مطلوبة من المصلحين المحكّمين أيضاً.. وفي هذا كله مجلبة لرحمة الله سبحانه وتعالى، التي لا تتنزّل إلا على المتّقين من عباده، الراجين رضاه وحده لا شريك له.

6- لا يمكن أن ينتهي أي خلافٍ بين اثنين أو فئتين أو طائفتين أو طرفين.. إلا بانتهاء الظلم الذي يقع من أحدهما على الآخر، وإحقاق الحق بشكلٍ كامل، أكان هذا الحق صغيراً أم كبيراً.. ومن غير ذلك، ستبقى بذور الخلاف، وستبقى النار تحت الرماد.. التي يمكن لها أن تتأجّج وتستعر من جديدٍ كلما سنحت الظروف أو توافرت الفرصة المواتية.. فإنهاء الظلم بشكلٍ كاملٍ هو وحده الذي يُنهي الخلاف أو الصراع بين أي طرفَيْن مختلفَيْن.

*كُنُوزٌ ونفحاتٌ (إيمانيةٌ وشرعيةٌ وأخلاقيةٌ) من سورة الحُجُرات*

 

*الكَنْـزُ السادس: أخلاقُ المؤمنين "أ"*

*(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)* (الحجرات: 11).

*لنتدبّر في تفسير الآية الكريمة*

1- لقد ذكرنا في الكنـز الرابع، أنّ الله عزّ وجلّ أمرنا بالتثبّت من صحة الأنباء والأخبار، وأنّ مخالفة هذا الأمر قد يجرّ إلينا الفتن والشرور والتخاصم.. وربما الاقتتال.. وهذا يستوجب الإصلاح بين المسلمين المتخاصمين، وهو حق من حقوق الأخوّة في الله عزّ وجلّ.

بعد ذلك تأتي الآيتان 11 و12 لتخاطبا المؤمنين، آمرةً إياهم بعدم ارتكاب أفعالٍ ذميمةٍ خطيرةٍ في علاقاتهم الاجتماعية، لما لذلك من عواقب وخيمةٍ على الفرد والمجتمع.. والهدف دائماً هو: المحافظة على الأخلاق الحميدة الراقية، التي تُعتَبَر دليلاً على قوّة إيمان المؤمن، كما تؤكّد حقوقَ الأخوّة الإيمانية، التي هي في الحقيقة مبدأ أصيل من مبادئ الإسلام، وتكليف ربانيّ، يضع المسلم أمام مسئوليةٍ عظيمةٍ تجاه الله عزّ وجلّ.

2- (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ..)..

النداء موجَّه إلى المسلمين المؤمنين، بالنهي عن السخرية التي يُقصَد منها احتقار الإخوة المؤمنين أو النيل منهم، أو الاستهزاء القبيح بهم للتقليل من مكانتهم.. سواء أكان ذلك بين الرجال أم بين النساء.. لأن التحقير أو السخرية السيئة عاقبتهما وخيمة على صعيد العلاقات الاجتماعية بين المؤمنين، إذ يصبح هذا السلوك سبباً لشرخٍ في هذه العلاقة الراقية بين المسلمين.. العلاقة التي يجب أن تكون على أفضل صورة، لأنهم إخوة، ولابد أن يحفظوا حقوق الأخوّة فيما بينهم على أرقى حال.. وربما (عسى) يكون الساخر عند الله عزّ وجلّ.. أقل شأناً من الذي يسخر منه، لأن ميزان الله سبحانه يختلف عن موازين البشر في التقويم: فليس من الضرورة مثلاً، أن يكون  القوي أفضل عند الله من الضعيف.. وكذلك ليست المرأة الجميلة أعلى مرتبةً عند الله بالضرورة من غير الجميلة.. وهكذا.. عدا عن أنّ الأمور وسيرها في هذه الدنيا، هي بيد الله عزّ وجلّ وحده، وقد تنقلب هذه الأمور مع الأيام، فيصبح العزيزُ حقيراً.. والحقيرُ عزيزاً (وتلكَ الأيامُ نُداولها بينَ الناس).

لنلاحظ هنا، أنّ كلمة (عسى) تكرّرت، لتقوية النهي وللتأكيد عليه.

كما لنلاحظ عبارة: (ولا نساءٌ من نساءٍ)، فهي دلالة على أن الله عزّ وجلّ خصّ النساء بالذكر إلى جانب الرجال (قومٌ من قومٍ) لأهمية الأمر، ولإمكانية شيوعه بينهنّ أيضاً.. فالخطاب الشرعيّ يشمل تكليف النساء والرجال معاً.

3- (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ..)..

لأنّ اللمز يتناقض مع حقوق الأخوّة الإيمانية أيضاً، التي ينبغي أن تسودَ بين المسلمين، وأن يهيمنَ عليها الودّ ووشائج الحُبّ.. فالتعيير أو الإعابة يؤديان أيضاً إلى شروخٍ في العلاقات الاجتماعية بين أبناء المجتمع المسلم.. وهو نوع من أنواع السخرية والتحقير، لكن لا يُراد به (أي باللمز) الإضحاك كما في السخرية، وإنما يُراد به ذكر العيوب ولفت الأنظار إليها فحسب.

لنلاحظ قوله عزّ وجلّ: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ)!.. كيف نلمز أنفسنا؟!.. وهل يمكن للمرء أن يلمزَ نفسه؟!.. فالمقصود هنا في هذا التعبير القرآنيّ البليغ، الإشارة المؤثرة إلى أنّ لمزَ الشخص المؤمن الموجه لأخيه  المؤمن.. هو لمز وتحقير لنفسه أيضاً.. لأنّ المجتمع المسلم الأخويّ كُلٌ واحد مترابط.. وكرامته واحدة مشتركة!..

4- (وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ..)..

وهو أيضاً خُلُقٌ يتناقض مع حقوق الأخوّة الإيمانية، وهو كذلك نوع من أنواع السخرية والاستهزاء الظالم.. فالتنادي بالمكروه من الألقاب، يؤدي أيضاً إلى شروخٍ اجتماعيةٍ ونفسيةٍ بين المؤمنين.. ومن حق المؤمن على أخيه ألا يناديه بما يكره من أسماء أو ألقاب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغَيّر الأسماء الجاهلية لأصحابها، تلك الأسماء التي كانت لا تليق بالمسلم المؤمن وكرامته وعزة نفسه ورفعة قَدْره، وذلك بعد إيمانه وإسلامه.. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، يحثّ على أن يُنادى الإنسان المسلم بأحَبِّ الأسماء إلى قلبه، حرصاً على مشاعره، وزيادةً في الألفة والمودّة والمحبة بين المسلمين.

5- (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ ..)..

ثم يأتي تحذير الله عزّ وجلّ للمؤمنين، من ارتكابهم تلك الأعمال القبيحة، أو التحلّي بتلك الأخلاق الذميمة، ليُظهِرَ لنا سبحانه وتعالى، أنّ السخرية واللمز والتنابز بالألقاب.. من الخصال التي تُخرِجُ مرتكِبَها عن الإيمان.. تخرجه عن حدود الله عزّ وجلّ إلى الفسوق والمعصية!.. فبئست هذه الحالة، وبئس هذا الصيت، وهذا السلوك الذي يمكن أن يحلَّ محلَّ الإيمان ومقتضياته!..

ثم يدعو الله عزّ وجلّ كل مَن اقترف أو يقترف تلك الأفعال القبيحة.. إلى أن يتوب توبةً نصوحاً إليه سبحانه وتعالى، لأن الاستمرار في التحلّي بتلك الخصال الذميمة التي تفتك بالعلاقات الاجتماعية بين المسلمين، وعدم التوبة عن ارتكابها.. سيوقع المؤمن في الظلم، لأنه بذلك يظلم نفسه، ويظلم إخوانه المؤمنين الذين يرتكب بحقهم تلك التصرّفات والأفعال الشنيعة غير المحمودة.

*لنتدبّر في الدروس والعِظات المستوحاة من الآية الكريمة*

1- تحريم .. نعم تحريم السخرية والاستهزاء بالمؤمنين، وتحريم احتقارهم ومناداتهم بالألقاب القبيحة، لما يسبّبه ذلك من العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة بينهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: (لا تُعَيِّر أخاكَ بما فيه، فيعافيهِ الله ويبتليك) (رواه الترمذي والطبراني).

2- على كلٍ منا -نحن المسلمين- أن يحرصَ حرصاً شديداً على سمعته العطرة بين الناس، وعلى حُسْنِ ذكره وصِيته بين أبناء المجتمع.

3- على مَن يقترف تلك الأفعال القبيحة بحق إخوانه المؤمنين، من سخريةٍ وتحقيرٍ ولمزٍ وتنابزٍ بالألقاب.. أن يتوبَ توبةً نصوحاً إلى الله عزّ وجلّ، وأن يبادرَ إلى الاعتذار لمن أساء إليهم.. وإلا فإنه سيُحسَبُ عند الله عزّ وجلّ من الظالمين، الذين ظلموا أنفسهم وإخوانهم المؤمنين، والله سبحانه وتعالى لا يحب الظالمين.. وشروط التوبة الحق كما نعلم ثلاثة: تَرْكُ الذنب والندم على اقترافه، والعزيمة والعهد على عدم العودة إليه، ورد الحقوق إلى أصحابها.

*كُنُوزٌ ونفحاتٌ (إيمانيةٌ وشرعيةٌ وأخلاقيةٌ) من سورة الحُجُرات*

*الكَنْـزُ السابع: أخلاقُ المؤمنين (ب)*

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا ..) (الحجرات: من الآية 12)

*لنتدبّر في تفسير القسم الأول من الآية الكريمة*

1- تتحدّث الآية الكريمة في قسمها الأول، عن أخطر ما يواجه المؤمنين في علاقاتهم، وقد نهت بمجملها عن ثلاث صفاتٍ ذميمةٍ تتناقض مع حقائق الأخوّة الإيمانية: أدناها: الظن السيّئ، الذي يقود إلى التجسّس وهتك الحُرُمات، ومن ثم إلى الغيبة (في القسم الثاني من الآية تالياً)، المؤدية إلى النميمة التي بها تتم إشاعة الفواحش في الذين آمنوا.. وهذا كله سيؤدي إلى: التدابر والتحاسد والتباغض، وإلى استحكام الشرّ بين المؤمنين الذين يجب أن يكونوا إخوةً في الله عزّ وجلّ!..

2- إذن، الآية الكريمة تُشيّد سياجاً آخر في المجتمع المسلم حول حُرُماتِ الأفراد وكرامتهم، وتبدأ بالنداء الحبيب إلى القلوب.. قلوب المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..)، فيأمرهم سبحانه وتعالى باجتناب كثيرٍ من الظن: (.. اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ..)، أي: لاتظنّوا، لأن بعض الظن إثم يستحق العقوبة عليه من الله عزّ وجلّ، والظن هو: أن تتوهّم أو تشك بالسوء بحق أهل الخير والفضل من المؤمنين، لِتُلحِقَ الأذى بهم وبسمعتهم وبأنفسهم.. وإساءة الظن يمكن أن تكون خلال حديثٍ مع الآخرين من الناس، أو خلال حديثٍ مع نفسك، فليس من حقك أن تحدّث نفسك مُسيئاً الظن بأخيكَ المسلم المؤمن.. وذلك قَطعاً لدابر الشيطان الذي يوسوس للإنسان، آمراً إياه بارتكاب المحرّمات.

يقول الإمام الغزالي رحمه الله: (ما لم تشاهده بعينك، وما لم تسمعه بأُذُنِك، ثم وقع في قلبكَ، فإنما الشيطانُ يُلقيه إليكَ، فينبغي أن تُكَذِّبَهُ، فإنه أفسقُ الفُسّاق)!..

3- من علامات إساءة الظن بالمؤمن ما يأتي:

أ- تغيّر قلبكَ تجاهه عما كان عليه وعما عَهِدَه أخوكَ المسلم منك.

ب- النفور منه واستثقاله واستثقال الاحتكاك به والحديث معه.

ج- الفتور في إكرامه ومراعاته.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظنّ، فإنّ الظنَّ أكذبُ الحديث) (رواه البخاري ومسلم).

4- الكفّ عن ظن السوء يُطهِّر النفس الإنسانية، ويُلقي بالمودّة والمحبّة والطمأنينة في قلوب المؤمنين، ليبقى المجتمع المسلم نقياً بريئاً، لا تُعَكِّره الهواجس والظنون.

5- تدعو الآية الكريمة إلى الحذر من سوء الظنّ، باجتناب أكثره، خشيةَ الوقوع في الجزء المحظور المحرَّم منه.. وهناك أنواع من الظن ليست حراماً، لأنّ فيها الاحتياط والسلامة للنفس والعِرض، أو للمال والمتاع.. وهناك أيضاً الظن في استنباط الأحكام الشرعية عندما لا يكون الدليل قاطعاً.. وهكذا..

وسوء الظن بالمسلمين، لاسيما بمن اشتهروا بالتقوى والاستقامة.. حرامٌ شرعاً، وقد قال الإمام الشافعيّ رحمه الله: (سوء الظنّ لا ينبعث إلا من قلبٍ خبيث).

وإن كان سوء الظن بالمسلمين حراماً.. فإنه على المسلم، من جهةٍ ثانيةٍ، ألا يقف مواقف التهمة والشبهة، ولا يُعرّض نفسه للظنون والريب: (رحم الله امرءاً جبَّ الغيبةَ عن نفسه).

6- (.. وَلا تَجَسَّسُوا..)..

قد يكون التجسّس هو الخطوة التالية لسوء الظنّ، وهو العمل أو السلوك الذي يؤدي إلى هتك الأستار، وكشف عورات الناس، والاطلاع على السَّوْءات.. وهذا كله من العمل الدنيء الذي يقاومه القرآن الكريم وشرع الإسلام، حفاظاً على علاقات الأخوّة الإيمانية، التي يجب أن تسودَ المجتمع المسلم.. وحفاظاً على كرامة الإنسان وحرّيته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع:

(إنّ دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم.. حرامٌ عليكم، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا). (رواه البخاري ومسلم).

فالمجتمع المسلم يجب أن يعيشَ الناسُ فيه آمنين مطمئنّين، على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وعوراتهم وأسرارهم.

وهكذا، يُشَيِّد القرآنُ الكريمُ وشرعُ الإسلام العظيم.. سياجاً آخر حول حُرُمات الناس وحقوقهم وحرّياتهم.. فلا تُمَسّ هذه الحقوق، بموجب شرع الإسلام وحكمه.. بأي شكلٍ من الأشكال، وفي أي حالٍ من الأحوال.. وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(مَن يتّبع عورة أخيه يتّبع اللهُ عورَتَه، ومَن يتّبع اللهُ عورَتَهُ يفضحهُ في جَوْفِ الليل) (رواه أحمد والدارمي).

ويقول الأوزاعي رحمه الله: (ويدخل في التجسّس، الاستماعُ إلى حديث قومٍ وهم له كارهون)!..

7- وهكذا، فالتجسّس على المسلمين، أو على دولة الإسلام، أو على الفئة المسلمة.. لهتك أستارهم وكشف أسرارهم، لصالح العدوّ الظالم المجرم المتربّص.. هو حرامٌ، بل يُعتَبَر من أعظم الجرائم، وهو خيانة عظمى يستحق مرتكبوها أشدّ العقوبات في الدنيا والآخرة.

8- غني عن القول: إن رصد العدو وتتبّع أخباره وحركاته ومؤامراته وعيونه وأعوانه.. وكذلك بث العيون في صفوفه واختراقه.. لا يُعتبَر تجسّساً حراماً.. لأنه بقصد دفع الأذى والشرّ والعدوان عن المسلمين وبلادهم وحُرُماتهم ومقدّساتهم.. وقد فعل ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في كل مراحل دعوته، ضد العدو المتربّص بالمسلمين.

*لنتدبّر في الدروس والعِظات المستوحاة من القسم الأول للآية الكريمة*

1- سوء الظن بالمسلمين حرام شرعاً.. لأنه يقود إلى تدمير العلاقات الاجتماعية الوثيقة بينهم، وعلى كلٍ منا أن يراقبَ نفسه ويحاسبَهَا كي لا يقع في هذا المحظور.

2- على المسلم المؤمن ألا يضع نفسه في مواطن الشبهات، وألا يجعل من أعماله وتصرّفاته وسلوكه.. مَدعاةً لسوء الظن به.

3- التجسّس على المسلمين الأبرياء حرامٌ شرعاً بكل أشكاله.. بينما هو واجب وضرورة على العدوّ المتربّص بالمسلمين وأمة الإسلام، وعلى أعوانه وحلفائه والمتواطئين معه.

4- سوء الظن يقود إلى مساوئ وشرورٍ كثيرةٍ بحق المسلمين، كالغيبة والتجسّس والفضول السيّئ والنميمة.. وغير ذلك من الأذى والشرّ.

وسوم: العدد 926