أزمة أخلاق

نحن معشر المسلمين – في الغالب والحمد لله – يحب بعضنا لبعضنا الخير ويتمنى له حياة طيبة وصحة ممتازة وعمُراً مديداً. ويَمد أحدنا لجاره أو صديقه أو قريبه يد العون ما استطاع إلى ذلك سبيلاً . هكذا علمتنا الحياة ، وهكذا طلب منا ديننا الحنيف .

زرت من دول أوربا وأمريكا وأفريقيا وآسيا الكثير ، واطلعت على بعض أخلاقهم فوجدت الحلو والحامض ، والمالح والمر ، وخبرت الغث والسمين . وجدت فيهم ما أريده وما لا أطيقه . هم بشر ، والبشر خلقوا من عَجَل – بفتح العين لا كسرها وفتحِ الجيم لا تسكينها - . وسررت لبعض ما رأيت ، وتأففت استنكاراً لأشياءَ أخرى ، أعجبت ببعض التصرفات ، واغتممت لغيرها . وعدت لأصلَ إلى قناعة لم تتأثر بالقول المشهور :

           وعين الرضا عن كل عيب كليلة     ولكنّ عين البغض تُبدي المساويا

وبصيغة أخرى كانت قناعتي أن المسلمين عامّة والعرب منهم خاصّة أسلم صدوراً ، وأقرب إلى الفطرة ، وأكثر تحملاً للمآسي من كثير من البشر . قد يخالفني أحدهم وقد يوافقني فيما ارتأيت ، والموافقة قد تعزز رؤيتي ، والمخالفة أقبلها – ديموقراطياً ، فالديموقراطية على كل الألسن هذه الأيام – ولا تفتُّ في عضُدي ، فأنا لا أعتقد شيئاً إلا بعد تمحيص وقناعة . وتركُ ما أراه – على هذا الأساس – قليل الإمكان . لكننى أفيء إلى الحق سريعاً لأن الحق هدفي ، ولأن العمل به والتزامَه بغيتي وقرة عيني . ولا أعتبر هذا مديحاً للنفس إنما أراه صفة ينبغي التحلي بها ، وشيمةً لا فَكاك عنها للمسلم ونصبُ عينيَ القولُ المأثور " لا خير فيمن يمدح نفسه ". ولا أنسى ما حييت قولَ عمر رضي الله عنه " رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي " .

وعلى الرغم أنني أفضّل العربَ المسلمين في صفاتهم العامة ، وأرغب العيش في البلاد العربية ، وحين أقول : البلاد العربية أنأى عن لفظ " الشرق الأوسط " فهذا تعبير فرضه اليهود والأوربيون ليبرروا وجود إسرائيل بيننا ، أما " البلاد العربية " فتُظهر اليهودَ طارئين ، وجسماً غريباً عن أهل البلاد ديناً وعاداتٍ ومفاهيم .... أقول : فينا – معشر المسلمين العرب – مفاهيم لا يقبلها الإسلام ، وتصرفات لا يـُقـِرّ بها ، وعاداتٌ غير حضارية تؤذي الجميع وتظهرنا متخلفين عن غيرنا من الأمم .

ففي الولايات المتحدة – مثلاً- تجد كل جالية تتجمع في أحياء أو كانتونات بعضها إلى بعض فتدخل أحياءَهم لتجد الناس – مع أنهم في أمريكا – يواصل بعضهم بعضاً ويعيشون حياتهم بعاداتهم التي تشرّبوها في بلادهم ، ويتكلمون مع بعضهم لغتهم الوطنية ، ولهم أسواقهم التي يتسوّقون منها ، ويساعدُ بعضهم بعضاً ماديّاً واجتماعيّاً وفكريّاً ، وبهذا تراهم محافظين على كيانهم ، فلا يذوبون في المجتمعات .. هذا واضح في كل مدينة زرتها من بوسطن في الشمال الشرقي إلى المكسيك جنوباً . حتى إن بعض المواطنين من أصل أسباني أباً عن جد ممن ولدوا في الولايات المتحدة على التحديد لايعرفون الإنجليزية ..

أما العرب المسلمون - ناهيك عن النصارى - فهم ينصهرون في المجتمع الأمريكي في سنوات قليلة ، وينسى الفتى لغته العربية التي تعلمها في بلده أو يكاد ، أما الأطفال الذين ولدوا هناك فيسمعون العربية من آبائهم دون ممارستها غالباً . وليس لهم مجتمعات خاصة بهم كغيرهم . ومما آلمني أن عدداً لا بأس به من الأبناء ينسلخ عن دينه فيكون علمانياً – لانقطاعه وأسرته عن المسجد – أو يدرسُ النصرانية فلا يعرف غيرها ديناً . وعلى هذا فقل : على الحجاب والمظاهر الإسلامية السلامُ ... وقد سئل بعض المسؤولين في الغرب عن سبب قبول المسلمين الملتزمين مقيمين أو لاجئين فكان الجواب : إننا نتقبلهم لأن أولادهم أو أحفادهم على أبعد تقدير سيكونون مثلنا بل منّا بمفاهيمهم وأخلاقهم ، ومبادئهم ، ونحن بحاجة إلى دماء جديدة ، فنتحمل الكبار لكسب الجيل الجديد الذي سيذوب في مجتمعنا . ومن هنا خطورة البقاء في المجتمعات الغربية على الجيل الجديد من أبناء المسلمين . وقد يعترضُ أحدهم على نظرة تشاؤمية يظُنّها فيما أقول حين يعرض صوراً لبعض الأسر المحافظة على تدينها وإسلامها في الغرب وتأثيرِها في مفاهيمه ، فأكرر : إن هذا أمر إيجابي ملموس ، لا ننكره ، إنما هو شمعة في ظلام ، وبضّة من ماء زلال في بِركة مالحة . ومن هنا نفهم نهيَ النبي صلى الله عليه وسلم عن البقاء في بلاد الكفر دون ضرورة ،فالمآسي أكبر من الفائدة بما لا يُقاس . والأمثلة أكثر من أن تُحصى . وإنك لتجد من العادات والمفاهيم المتولدة عند المسلمين في الغرب ما تبتعد عن الإسلام أشواطاً من حيث يدرون أو لا يدرون . وتربية الأولاد هناك تحتاج أضعاف ما تحتاجه من جهد في بلد مسلم .

وهذا لا يعني أن المسلمين في بلادهم يحيَون حياة إسلامية !! ويعيشون في بُحبوحة من الرغد المادي أو الأخلاق الفاضلة . لكن الرمد أقل سوءاً من العمى ، ولربما يشفى المرء من رمد ، لكنّ بصره لا يعود إليه من عمىً .

ولن أكون متشائماً إن قلت الحقيقة التي قد تنبه الإنسان إلى السلبيات الشنيعة التي تطرأ على مجتمعاتنا لتكون بعد فترة جزءاً منها – مع الأسف – فالفساد الأخلاقي في بلاد المسلمين ينشر أجنحته بدفع وعون من أولي الأمر الذين خرجوا عن دينهم أو ابتعدوا عنه ، وهؤلاء ظهروا بشكل واضح لا لبس فيه . وقد أخبرنا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم حين قال :

" دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها " . .. قالوا صفهم لنا يا رسول الله . قال : " هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا " ... هؤلاء الذين ما فتئوا يؤصلون الفساد في عادات المجتمع ومفاهيمه عن طريق القنوات الفضائية التي لا همّ لها سوى تغيير المفاهيم والعادات الإسلامية بمفاهيم الخنا والفجور والدعوة إلى نبذ كل ما هو أصيل وشريف ، ، فالزنا -عندهم - حاجة طبيعية ، والخمر مشروبات روحية منعشة ، والعُريُ حرية في التصرف، وأكثر من ذلك أن كل الدعايات تعتمد على الجنس ، حتى غدت الأمورُ مألوفة بين الناس ، وما عادوا يخجلون منها أو يستنكرونها ، ولن تجد في أي بلد عربي أو مسلم من الإسلام سوى صورٍ ميتة لا تنبئ عن دين ولا أخلاق ، وقد قنـّنـَت القوانين لإباحة ما يقتل الحياء والخفر والشرف ، أو يئدُ القوانين الشرعية من بنوك ربوية ومعاملات مخالفة لصريح الدين وإحلالٍ للقوانين الأوربية مكان الشريعة الإسلامية في أطهر بلاد الله وأكرمها عليه سبحانه .

ناهيك عن تأصيل الحرية الشخصية على حساب الحريات العامة . وبهذا تُزرع الأنانية محل الأثرة ، والشخصانيةُ محل الغيْريّة ، والفردية مكان الجماعية . .. أيَّ مجتمع يكون هذا المجتمع ، وأيَّ راحة يمكن أن يتمتع بها الإنسان في مثل هذه الغابات ؟! .

في بلاد الغرب سوق أوربية مشتركة ، فما عادت الحدود موجودة ، وصار الأوربي يتنقل من بلد إلى آخر ، ومن مدينة إلى غيرها كأنه يتحرك في بلده وموطنه ، وفي البلاد العربية والإسلامية تضييق على الإنسان ، فلا يستطيع زيارة بلد " مسلم " آخر إلا بشق الأنفس . وليست له في ذلك البلد من حقوق سوى الأقل الأقل ولو ولد أبناؤه فيها أو عاش شطر شبابه في خدمتها ، بل إنه يعتبر " أجنبياً " نعم ..أجنبياً .. يرى هذه الكلمة تجابهه أول ما يصل إلى حدودها البرية أو الجوية ، وقد يراها أخفَّ اسميا في بلد آخر حيث يسمى " وافداً " لكن النتيجة واحدة تشعرك بالغربة ولو كانت لغتك هي لغتَهم، ودينك دينَهم ، وسحنتك سحنتَهم !!. ومما ينتج عن ذلك أن راتبك يمكن أن يكون ثلث راتب أحدهم وهو أقل منك إنتاجاً، وأضعف منك فهماً وأقل منك دراية !. ولكنها الإقليمية والبعدُ عن الحضارة - وهذا لا تجده على الأغلب في بلاد " الكفر والزندقة " - ومن ثم الشعورُ كذباً وزوراً بالفوقية المصطنعة التي تقصم ظهر الأخوّة ، وتعصف بالحقوق ، وتؤصل التباعد والتنافر بين المسلمين ... فالجهلُ رائدهم ، والأنانية حاكمتهم .

فضلاً عن أنظمة الحكم المستبدة التي سيطرت ملكيـّة كانت أم جمهورية أم جمهوكيـة . لا فرق ، فالثروة بيد المتنفذين يستأثرون بها كاملة في بنوك أوربة ، وقد يوزع بعضهم الفتاتَ – إن كان كريماً – على شعبه المقهور ، أو يفرض بعضهم الآخر ضرائب باهظة ، فلا يكفيه ما سرقه واستأثر به . ولا بأس أن تزهق أرواح عشرات الآلاف ومئاتُ آلافها ليبقى هؤلاء جاثمين على صدور الأمة المسكينة ! .

قد يقول بعضهم : هذه ليست أزمة أخلاق – كما ذكرت في عنوان المقال – إنما هي انعدام الأخلاق وغيابُها . .. أقول : لعلي أظل بعد هذا كله متفائلاً أن يؤوب المسلمون إلى أصالتهم ، وأن يتجاوزوا محنتهم ، وأن ينشطوا من سباتهم ، ليأخذوا مكانهم الذي ينتظرهم في قيادة العالم كما فعل أسلافهم حين ترجم الخليفة الفاروق الحقيقة الصادقة : " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله " .

وسوم: العدد 926