بعيدا عن الأدب لكنه حمزة!

إبراهيم عبد المجيد

لم تكن قضية فلسطين بالنسبة لي قضية معرفة، لكنها كانت قضية حياة حولي أثناء الطفولة ثم الصبا والشباب، وحين دخلت إلى عالم القراءة لتاريخ فلسطين، تأكد لي أن ما رأيته وسمعته كان صحيحا. فلسطين لم تكن يوما دولة لليهود، كل ما يقولونه عن ذلك حكايات وضعوها في التوراة كتابهم المقدس، الذي أجمع عشرات من الفلاسفة في الغرب، ومنهم من هو يهودي الأصل أنه كتاب مؤلف.

في طفولتي وربما في سن الخامسة، كانت في منزلنا ماكينة حلاقة صغيرة كُتب عليها صنع في فلسطين، كانت من ضمن أشياء كثيرة أحضرها أبي من فلسطين، قبل عام 1948 حين كان خط السكة الحديد من القاهرة للقدس والشام. كانت الأحاديث عن البرتقال اليافاوي، وعن الكستناء الفلسطيني، الذي كانوا يضعونه على المدفأة لنتسلى به بعد الإفطار في رمضان. لم أصل إلى العاشرة ووقع العدوان الثلاثي وخرجنا من المدرسة بعد أن بدأ الهجوم على مصر، نمشي في الشوارع نهتف «يسقط إيدن» «يسقط بن غوريون» «يسقط موليه» سمعت بعد الانسحاب من مصر قصص أبناء الجيران المجندين، الذين انسحبوا من سيناء، والرحلة الصعبة التي أنقذهم فيها المصريون من بدو سيناء. كان في مصر يهود، لكن لم أسمع من الكبار عنهم شيئا سيئا، فقد كانوا يميزون بين اليهود فى مصر والصهاينة في فلسطين. عرفت في ما بعد كيف خرج يهود مصر تحت ضغط الدولة المصرية، التي لم تميز بينهم وبين من قاموا بالمشاركة مع المخابرات الاسرائيلية في محاولة تفجيرات في الإسكندرية وغيرها، وعرفت أيضا في ما بعد أن تسعين في المئة منهم على الأقل لم يذهبوا إلى إسرائيل، بل إلى أوروبا وأمريكا. التقيت بالكثير منهم في ما بعد في فرنسا حين صارت لي روايات مترجمة، كانوا حريصين على حضور الندوات، لأن الإعلان عن الندوة يقول إن الكاتب سكندري الأصل. جلسنا معا وكانت مراراتهم كبيرة من طردهم من مصر، لكنهم ظلوا على خلاف مع إسرائيل، ويرون ما تفعله استعمارا وشكلا قذرا من الاستعمار، وهو استبدال أصحاب الأرض بغيرهم من اليهود. أدركت مما قرأت وما زلت، كيف قررت أوروبا، التي أقامت المذابح لليهود أن تكفر عن ذنبها وتزرعهم في أرض فلسطين، فتحقق ما تسعى إليه أيضا، من وضع خازوق في المنطقة العربية.

عرفت كيف اتسعت فلسطين لهجرة اليهود بعد مذابح أوروبا في القرن التاسع عشر في بلاد مثل، إسبانيا وروسيا وفرنسا، ثم في القرن العشرين على يد النازية في ألمانيا، وكيف أقاموا الكيبوتزات، وعاشوا مواطنين فلسطينيين، صارت لهم جامعة عبرية وصحف، حتى انقلبوا على أصحاب الأرض مع دولة مثل إنكلترا في البداية التي كان لها الدور الأكبر ليقوموا بالمذابح للفلسطينيين، أخذت شكلا عنصريا ونجحوا في حرب عام 1948 وما بعدها. حتى السلام بعد انتصارنا في حرب 1973 استغلوه للتوسع في فلسطين. تفاصيل كثيرة يضيق بها المقال، كلها تؤكد أن الأرض التي احتوت الغرباء المهاجرين المنبوذين في أوروبا، انقلب عليها هؤلاء. أوروبا وأمريكا تعيشان على كذبة عدم معاداة السامية، فتمنحهم أرض غيرهم وتعطيهم السلاح ليقتلوا أصحاب الأرض، ولم تجد هي والحركة الصهيونية أفضل من كتابهم، الذي يقولون إنه مقدس، في تحقيق أرض الميعاد، وحين يقرأ أيّ شخص في الكتاب، سيضحك، كيف حدث ذلك؟ وفي أيّ وقت؟ وما هي مناسبة القول؟

ماذا سيحدث الآن بعد أن توقف إطلاق النار ولم تتوقف إسرائيل عن محاولة اقتحام الأقصى والهجوم على حي الشيخ جراح من جديد واعتقال الشباب والأطفال الفلسطينيين؟

بعيدا عن ذلك كله حتى الآن لم يعثر أحد على أثر واحد لليهود في فلسطين، وكل ما يتحدثون عنه من آثار هو من إنجاز المسلمين. أهم ما حدث هذه المرة هو انضمام فلسطينيي الأرض المحتلة إلى الانتفاضة، وهذا أمر يربك إسرائيل جدا، لقد تصوروا أن فلسطينيّ الأرض المحتلة في اللد وحيفا وعكا وغيرها، طاب لهم السكوت فإذا بهم ينفجرون إلى درجة مرعبة في وجه الصهاينة. الآن وقد حدث اتفاق غير مكتوب على إيقاف إطلاق النار، فإن الروح التي انتفضت في الفلسطينيين، وفي القلب منهم فلسطينيو الأرض المحتلة، لن تتوقف أبدا عن التوهج، وستكون سببا في ارتباك الحياة السياسية في إسرائيل، وسببا في بدء نزوح بعضهم عن بلد ظهرت لهم الحقيقة فيه، أن الفلسطينيين لن يفرِّطوا في الأرض مهما جرى من تطبيع بين اسرائيل والنظم العربية. صارت المعركة عبر الميديا شديدة الأهمية، فوصلت صور الغارات القذرة على غزة، وصور الاعتداء على الفلسطينيين في القدس ومدن الأرض المحتلة، إلى كل مكان في العالم. صارت الأخبار تأتي بالتضامن من شخصيات فنية وثقافية كبيرة في العالم كله، والجامعات وغيرها، وتندلع المظاهرات المؤيدة لفلسطين، فيتغير شكل العالم أمامنا.

حتى مواقع الإنترنت مثل فيسبوك وتويتر وأنستغرام وغيرها التي صارت تحذف تغريدات العرب والفلسطينيين والمناصرين لهم من العالم، عجزت عن أن تحجب الحقيقة عن العالم. الحقيقة التي غابت لأكثر من خمسين سنة، لقد رأى العالم دولة عنصرية بامتياز، وصلت عنصريتها إلى درجة أن في الأرض المحتلة قبل 1948 لا يركب فلسطيني الباص المخصص لليهود، وأحياء الفلسطينيين محاطة بأسوار. كل ما جرى لليهود في أوروبا في القرن التاسع عشر والعشرين يفعلونه في الفلسطينيين، وتم اكتشاف خدعة أن هذه الدولة هي دولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، فقد أثبتت الأحداث أنها الدولة العنصرية بامتياز.

ماذا سيحدث الآن بعد أن توقف إطلاق النار ولم تتوقف إسرائيل عن محاولة اقتحام الأقصى والهجوم على حي الشيخ جراح من جديد واعتقال الشباب والأطفال الفلسطينيين؟ لن أطلب من أي دولة عربية شيئا، لأن شيئا لن يحدث أكثر من المساعدات في الإعمار. لكن العالم قد تغير ولن يعود إلى الوراء. لن تضيع صور البيوت المدنية المهدمة في غزة، وصور الشهداء والأعداد الكبيرة للأطفال والنساء، واستهداف شخصيات بعينها مثل، الصحافيين وغير ذلك، مما رأى العالم، رغم الموقف المتخاذل لمواقع الميديا العالمية. لقد رأيت شبابا صغارا من الصهاينة في الأرض المحتلة، في فيديوهات مخجلة عما يفعلونه في فلسطين، وكانوا يحتجون بالتوراة وأرض الميعاد. لم يكن ما فعله مندوب إسرائيل في مجلس الأمن حين رفع التوراة وقال نحن نحقق وعد الله، حماقة كبرى فقط، لكنه غباء لا ينتهي فهو لا يرى ما يحدث حوله.

لن أحكي تفاصيل عن كل شيء وعلى رأسه، كيف تغير الوضع في أمريكا نفسها والكونغرس الأمريكي، لكن سأعود إلى المحاور العظمى، لهذه المعركة وهي قوة السلاح ممثلا في صواريخ حماس وانتفاضة فلسطينيّ الأرض المحتلة وتغيّر الصورة عن إسرائيل في العالم، بسبب نجاح الميديا في نقل الحقائق. هذه حقائق لن تنتهي مهما حاول الآخرون التهدئة. ومهما جرى في ما بعد، فلن يتوقف فلسطينيو الداخل عن الانتفاضة، ولن يتخاذل العالم عن نصر الفلسطينيين. هذا هو أكبر ما يربك إسرائيل ومن معها، وسيظل يربكهم.

والآن أعود إلى الأدب فاختار من بين مئات القصائد الفلسطينية والعربية التي تملأ الفضاء بفلسطين مقطعا من قصيدة «حمزة» لفدوي طوقان. القصيدة التي لخصت كل ما جرى وتنبأت بما حدث الآن من قيامة الفلسطينيين:

كان حمزة واحدًا من بلدتي كالآخرين،

طيّبًا يأكل خبزهْ.

بيدِ الكدح كقومي البسطاء الطيبين

قال لي حين التقينا ذات يومٍ،

وأنا أخبط في تيه الهزيمة،

اصمدي، لا تضعفي يا ابنة عمي،

هذه الأرض التي تحصدها

نار الجريمهْ،

والتي تنكمش اليوم بحزنٍ وسكوتْ،

قلبها المغدور حيُّ لا يموتْ.

هذه الأرض امرأة،

في الأخاديد وفي الأرحام،

سر الخصب واحد،

قوَّةُ السرِّ التي تُنبتُ نخلاً،

وسنابل،

تُنبتُ الشعب المقاتل.

وسوم: العدد 931