من كتاب اليهودية في العراء بين الوهم والحقيقة

أثر الشعوب والقبائل العربية السامية الأولى

على اليهود(الموسويون –العبريون)

في اللغة والثقافة والحضارة والتقاليد

محسن الخزندار

[email protected]

أولاً: الآموريون العموريون) :

 ذكرهم البابليون بصور مختلفة: امورو، أماري ومارتو. وكلمة "مارتو" مرادفة لمعنى "الغرب"وأُطلق عليهم اسم الاموريين لأنهم كانوا يقيمون غربي بابل. وقد يكون اسمهم مشتقاً من "أمر" بمعنى العلو والارتفاع.

كان الآموريين الذين نزلوا شمال بلاد الشام أسسوا لهم دولة في منطقة الفرات الأوسط. وبعد مدة اجتاح هؤلاء العرب السوريون، العراق، وأسسوا لهم فيه امبراطورية عظيمة عرفت باسم "الدولة البابلية الأولى 1800-1530 ق.م." نسبة إلى عاصمتهم بابل التي تبعد خرائبها 55 ميلاً جنوب بغداد.

والجماعة الآمورية التي نزلت جنوبي فلسطين وشواطئ البحر الميت، أنشئوا لهم مدناً في "تل الحسي "(تلة تقع على مسافة 11 ميلاً للجنوب الغربي من بيت جبرين وستة عشر ميلاً للشمال الشرقي من غزة. وقد وصفت " الوقائع الفلسطينية" المؤرخة في 24 تشرين الثاني 1944 هذا الموقع بقولها: ( تل أنقاض، نقب جزء منه، بقايا سد في الوادي إلى الشرق". والمعروف أن المدينة التي أقامها الآموريون على هذا التل كانت تسمى " عجلون") و" تل النَّجِيلَة" (تلة تقع في الجنوب الشرقي من قرية "برير" الواقعة على بعد 18 كم للشمال الشرقي من غزة. وصفت الوقائع الفلسطينية هذا التل بقولها: ( تل أنقاض وآثار سور مدينة، وأساسات بناء مربع وبقايا خزان في الوادي )، كما بنوا مدينة "شَعَلُبيِّم"( شعبليم، تقوم على بقعتها قرية " سلبيت" إلى الجنوب الشرقي من اللد). وجددوا أو وسعوا مدينتي "لخيش" و"جازر" وحصنوا جميع هذه المدن وأحاطوها بأسوار حجرية ضخمة قوية، فصاروا يسيطرون، في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، على المواقع العسكرية في جنوبي البلاد.

عرفنا من الآموريين "يافيع" ملك لخيش أحد الملوك الخمسة الذين قتلهم يوشع في معركة "المغار" .

وقد وجدت صور على جُدر "مقبرة بني حسن" في مصر يعود تاريخها إلى أوائل القرن التاسع عشر قبل الميلاد – في عهد الأسرة الثانية عشرة – يظهر فيها الشيخ الآموري (أبشا-Absha)، وهو غالباً من جنوبي فلسطين وبصحبته أبناء قبيلته من نساء وأطفال ورجال المؤلفة من سبعة وثلاثين شخصاً ومعهم أمتعتهم محملة على ظهور الحمير أتوا للتجارة في الروائح والدهان العطرية الكثيرة الإستعمال عند المصريين.

وليس لهؤلاء الزوار أي علاقة بسيدنا إبراهيم أو بأخوه يوسف كما ورد في بعض المؤلفات.

على أن هذه الرحلة لم تكن الوحيدة في بابها فقد كان عدد التجار الفلسطينيين الوافدين إلى مصر أكثر من أن يحصى.

والأموريين والعموريين بالعين في التوراة والتاريخ سكنوا فلسطين مع الكنعانيين، فالعموريين سكنوا الجبل والكنعانيون سكنوا الساحل والأردن والعموريون شعب سامي خرج من الجزيرة العربية قبل بداية الألف الثالثْ قبل الميلاد إلى سوريا ولبنان ومنها إلى الأردن وفلسطين وأطلق عليهم سكان وادي الرافدين العموريين

يوجد عدد من المؤرخين الجدد من يؤكد أن الكنعانيين انبثقوا من العموريين أو كانوا من القبائل التي تألف منها العموريون.

كانت عقيدة الشعب العموري عقيدة بدائية قائمة على عبادة قوى الطبيعة ولها آلهة رئيسية وآلهة ثانوية فكانت آلهة الحرب (عورو) وآلهة المسرات (عاشره) وآلهة العواصف والأمطار (حدد) الذي تحول إلى الإله (بعل) والذي اتخذه الشعب الكنعاني إلهً وكان إله الخصب (دجن) والذي كان إله الكنعانيين أيضاً، ويشير يارو أن هيكل سيدنا سليمان الذي بني في القدس والذي سمي (بيت يهوه) يستدل أن التسمية و الشكل مقتبسان من الطقوس العمورية والكنعانية.

بعد خلاف حاد بين المؤرخين إلا أنهم اتفقوا في الوقت الحاضر على أن العموريين شعب سامي من مجموعة الشعوب السامية الغربية هاجر من شبه الجزيرة العربية في تاريخ مبكر يصعب تحديده بدقة إلى بلاد الشام ومنها بدأ يتغلغل بطرق سلمية تارة وحربية تارة أخرى في مراكز الحضارات المستقرة والمتطورة في العراق وسورية وفلسطين ويتفق المؤرخون على أن أول من أطلق اسم العموريين على هذا الشعب السامي هم سكان العراق القدامى من السومريين والأكديين إذ كانوا يشيرون إلى جهة الغرب بكلمة أمورو (عمورو) وفي اللغة الأكدية السامية وبكلمة (ما-تو) في اللغة السومرية ثم اكتسبت هاتان الكلمتان مفهوما جغرافياً للدلالة على المناطق الواقعة إلى الغرب من العراق والتي تمتد من غرب نهر الفرات إلى سواحل البحر المتوسط تقريباً ثم أصبح هذان الاسمان يطلقان على سكان المناطق الغربية عامة وسكان بادية الشام خاصة فعرفوا في النصوص السومرية باسم (مار-تو) وفي النصوص الأكدية باسم (أمورو) عمورو.

كما يسجل أنه ورد ذكر للعموريين في المدونات العراقية القديمة في الألف الثالث قبل الميلاد مما يدلل وبوضوح على أن هجرتهم بدأت مبكرة جداً وأن عدداً منهم كان مستقراً في العراق في الألف الثالث قبل الميلاد ويبدو واضحاً كذلك أن ملوك الدول العراقية في هذه الفترة كانوا علاقة ومعرفة بالعموريين ومما يعزز ذلك أن الملك الأكدي شارماليشاري (2254-2230 ق.م.) ادعى تحقيق انتصار على بلاد (مار-تو) أي (بلاد العموريين) وذكر غوديا ملك لخيش أنه جلب الحجر من جبل يقع في بلاد مار-تو وهناك دلائل كثيرة تشير إلى ازدياد عددهم واشتداد خطرهم على بلاد بابل في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد وأن الملك شوسين ملك أور أقام في سنته الرابعة حصناً ليحمي البلاد من هجماتهم وكان ينظر للعموريين من قبل سكان العراق على أنهم أقواماً بدوية غير مستقرة لم تأخذ بأسباب الحضارة ووصفوا بخشونة الطبع كما ويتجلى ذلك بوضوح من وصف العموري في أسطورة سومرية التي جاء فيها:

إن السلاح رفيقه ولا يثني الركبة (أي لا يخضع لأحد)

يأكل الحم نيئاً ولا يمتلك بيتاً طوال حياته

ولا يدفن في قبر بعد وفاته

انتشر العموريون في منطقة واسعة امتدت لتشمل العراق وسورية وفلسطين كما حققوا أعظم إنجازاتهم السياسية والحضارية في العراق بعد أن دخلوها بأعداد كبيرة واقتبسوا أساليب الحضارة السومرية الأكدية المتطورة لذا فإن تاريخهم في هذه البلاد أكثر أهمية ووضوحاً من تاريخهم في سورية وفلسطين بدأ تاريخ العموريين الواضح في العراق في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد بعد سقوط دولة أور الثالثة في سنة 2006 ق.م. الأمر الذي مهّد الطريق لقيام عدة دول عمورية في جنوب العراق وشماله وظهور عهد جديد عرف باسم العهد البابلي القديم وأصبحت لارسا وبابل وسيبار وأشنونة وأشور عواصم لدول عمورية وأصبحت مدينة ماري (تل الحرير على ضفاف نهر الفرات) مركزاً حضارياً رئيسياً على الطريق بين سورية والعراق وبلغ العموريون ذروة مجدهم الحضاري والسياسي في عهد الملك البابلي حمورابي (1728-1686 ق.م.) الذي بسط نفوذه على جميع الدول العمورية في جنوب العراق وشماله كما سيطر على مدينة ماري ووصل سلطانه إلى بعض المناطق الغربية في سورية وأقام الإمبراطورية البابلية التي بهرت العالم([1]).

كما كشفت الوثائق الكثيرة التي عثر عليها في مدينة ماري عن وجود عدد من المراكز السياسية والحضارية للعموريين خلال القرن الثامن عشر قبل الميلاد في مناطق واسعة من سورية أهمها حلب وقطنة كما ورد في هذه الوثائق اسم مملكة عمورو وتكشف رسائل العمارنة التي اكتشفت في مصر عن وجود عدد من الدول العمورية في سورية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد وكانت على ما يبدو تتبع سياسة ذكية للاستفادة من الصراع بين دولة مصر والدولة الحثية للحفاظ على مصالحها واستقلالها وكيانها.

ورد اسم العموريين (أيموري) في عدد من أسفار العهد القديم ويتفق أغلب المؤرخين على أن الشعب الذي أشير إليه في التوراة بهذا الاسم هو الشعب الذي ورد ذكره في الوثائق العراقية القديمة باسم (أمورو=عمورو) ومما جاء عنهم في التوراة أنهم كانوا يقيمون في فلسطين قبل الاحتلال الإسرائيلي لهذه البلاد وكانت مساكنهم في المناطق المرتفعة في شرق الأردن وإذا كان من الصعب تحديد تاريخ دقيق لدخول العموريين إبى فلسطين فمن الممكن القول أنهم كانوا يقيمون فيها منذ الألف الثالث قبل الميلاد وذلك استناداً إلى الأدلة المستنبطة من نتائج الحفائر الأثرية التي تشير إلى وجودهم في فلسطين في العهد الأوسط من العصر البرونزي الأول ويرى علماء الآثار الذين أشرفوا على عمليات التنقيب أن الدمار الواضح الذي حل بعدد من مدن الألف الثالث قبل الميلاد كانت نتيجة هجمات العموريين وتدفقهم إلى تلك البلاد، يضاف إلى ذلك أن عدداً من الأسماء العمورية كانت معروفة منذ الألف الثاني قبل الميلاد.

كان العموريون كما استنتج من آثارهم المادية يختلفون عمن سبقهم من المستوطنين فقد كان لهم فخارهم المتميز ولهم أساليب دفن خاصة بهم تظهر طبيعة تنظيماتهم الإجتماعية ويبدو أنه كان لكل قبيلة عادات دفن خاصة بها ووصفت المصادر التوراتية العموريين بأنهم من بقايا الجبابرة وأن لهم قامات طويلة كالأرز وأجساد قوية كالبلوط كما يسجل التوراة أيضاً أن العموريين كانوا من بين الشعوب التي حاولت الوقوف أمام الغزو الإسرائيلي ووقع بينهم وبين الإسرائيليين صراع شديد كانت نهايته لصالح الإسرائيليين بعد أن أوقعوا بملك العموريين (سيحون) هزيمة نكراء أدخلت الثقة في إلى نفوسهم وجرأتهم على محاربة المآبيين الذين كان (سيحون العموري) قد انتصر عليهم في حرب سابقة واشتهر من ملوك العموريين في التوراة عوج ملك باشان وكان مصير العموريين الوقوع تحت سيطرة المملكة التي وسعها داود.

ولا يمكن الحديث عن حضارة عمورية واحدة متجانسة لأن العموريين انتشروا في مناطق متباعدة وتعرضوا لمؤثرات حضارية مختلفة وكانت حياتهم قبل الاستقرار تغلب عليها سمات الحياة البدوية وكانوا يعتمدون في حياتهم الاقتصادية على تربية الماشية والأغنام واشتهر العموريون باعتمادهم على الحمير كوسيلة رئيسة في الانتقال وحمل الأمتعة خلافاً لما هو معروف عند الشعوب البدوية من الاعتماد على الجمال وممارسة الصيد وشن الغارات المتتالية على المناطق المستقرة وممارسة أعمال النهب والسلب.

ولعل الصورة التي وردت عنهم في الأسطورة السومرية هي أقرب ما تكون إلى الواقع وإن كانت لا تخلو من المبالغة حيث برهن العموريون بعد استقرارهم على قدرة فائقة في تعلم أساليب الحياة الحضارية والاندماج فيها والعمل على تطويرها كما يبدو واضحاً في تاريخهم في العراق إذ أخذوا بأساليب الحضارة السومرية من الاستعانة بمؤسسات سياسية ودينية وفكرية وكان لهم في التشريع باع طويل وتكفي الإشارة في هذا المجال إلى شريعة حمورابي الشهيرة التي تدل على فهمهم العميق لمشاكل الحياة الاجتماعية والاقتصادية كما اتخذوا اللغة الأكدية لغة لهم بعد أن تخلوا عن لهجتهم الأولى التي لم يتبق منها سوى أسمائهم الشخصية واتخذوا الخط المسماري أداة في تسجيل وثائقهم وعلى الرغم من تمسكهم بالإله عمورو الذي كانوا يعبدونه قبل الاستقرار فإنهم تحولوا إلى عبادة الآلهة العراقية القديمة ومارسوا الطقوس الدينية وفقاً للطرق السومرية-الأكدية.

أما في سورية وفلسطين فقد تعرضوا لمؤثرات حضارية تختلف عن تلك التي تعرضوا لها في العراق نظراً لما حصل من اتصالات وتقاربت بينهم وبين الحيثيين من ناحية الشمال وبينهم وبين المصريين من ناحية الجنوب وتشير الأدلة المستنبطة إلى قيامهم بإعادة تعمير المدن التي أصابها الدمار بسبب غاراتهم عليها.

وكانوا يستخدمون أسلحة متطورة وابتكروا صناعة أدوات زينة تختلف عما كان معروفاً عند بقية الشعوب.

ومما تجدر الإشارة إليه أن العموريين استطاعوا الاحتفاظ بلغتهم في فلسطين خلافاً لما حصل في العراق وكانت للهجتهم تأثيرات واضحة في اللغات الأخرى التي ظهرت فيما بعد كاللغة العبرية والآرامية ويبدو من الرسوم الجدارية التي اكتشفت في بني حسن في مصر أن رجال العموريين ونساءهم كانوا يرتدون الملابس المزركشة بألوان متعددة وينتعل الرجال الصنادل والنساء يحتذين الأحذية وكانت أسلحتهم في الغالب من السهام والعصي الغليظة([2]).

ومن من القبائل العمورية"الزَّمْزَمِيُّون" أو " الزُّوزِيُّون" وكانوا يقطنون شرقي البحر الميت ونهر الأردن.

وكذلك الإيميون من القبائل العمورية وكانت منازلهم في جهات "الكرك" وقد غزاهما "كدرلعومر" وانتصر عليهم.

ومن الآثار الدينية التي خلفها الآموريون بشكل كنعاني معبودهم "رشف"، بمعنى "النار" و"الصاعقة". ويحتمل أن اسم بلدة "أرسوف" القديمة ( تعرف اليوم باسم قرية " الحرم" أو "سيدنا علي" للشمال من يافا) مشتق من هذا الإله الذي عبده الكنعانيون. و" داجون" وهو إله الحبوب عند الكنعانيين. وقد خلد اسم هذا المعبود الآموري ثم الكنعاني في القرى التي تحمل اسم "بيت دجن" في فلسطين. وقد شاعت عبارة "داجون" في أماكن أخرى من الشرق العربي فضلاً عن أنه أصبح معبود "الفلسطينيين" الأول  ولم يقتصر الآموريون على ما أسسوه من دول في سورية والعراق، بل كانت لهم أيضاً مملكتان في جنوبي الشام وهما:

(1)   مملكة الرفائيين:

الرفائيون

من الأقوام الكنعانية التي كانت تستوطن وفقاً لرواية التوراة منطقة باشان (شرق الأردن) قبل الغزو .ورد

ذكرهم في التوراة مع الفينيقيين والقدمونيين والحثيّين والفرزيّين والكنعانيين والعموريين والجرجاشيين واليبوسيين.

وما روي عنهم أنهم كانوا يقيمون في البلاد في زمن هجرة سيدنا إبراهيم الخليل التي حدثت على ما يرى أغلب المؤرخين في القرن الثامن عشر ق.م. وورد في التوراة أن ملكاً عيلامياً يحمل اسم "كدرلاعومر" غزا البلاد وضرب الرفائيين في عشتاروت قرنيم في شرق الأردن.

ومن الصعب التأكد من شخصية كدر لاعومر لأن هذا الاسم لم يرد بين أسماء الملوك العيلاميين في المصادر العيلامية أو البابلية ،ويعتقد بعض المؤرخين أن كدرلا عومر ربما كان الملك العيلامي المعروف بِ "ريم-سن" الذي كان يحكم في لارسا وايسن في جنوب بلاد بابل ويطمح إلى بسط سيادته على مناطق واسعة أخرى قبل انتصار الملك البابلي الشهير حمورابي عليه في القرن الثامن عشر ق.م .

فإذا صح هذا الرأي الذي لا يستند إلى دليل قاطع فإنه يتفق مع الرأي الذي يضع الرفائيين في شرق الأردن خلال القرن الثامن عشر ق.م. في زمن هجرة سيدنا إبراهيم الخليل، أي قبل غزو قوم سيدنا موسى بعدة قرون.

ذُكر الرفائيون في عدد من كتب التوراة، الأمر الذي يشير إلى مكانتهم الخاصة بين الشعوب الأخرى.

وأشارت المصادر الأوغاريتية والفينيقية إليهم، واشتهر الرفائيون في التوراة بضخامة أجسامهم حتى إنهم عدّوا من الجبابرة العمالقة. واشتهر من ملوكهم "عوج" الذي كان يلقب بملك باشان، وكان شديد البأس، ضخم القامة.وكان الرفائيون في أيامه من أشد أعداء قوم سيدنا موسى، حتى إنهم أعلنوا عليهم الحرب لمنعهم من المرور بالمناطق التي كانوا يستوطنون فيها. ولكن الإسرائيليين استطاعوا الانتصار عليهم وطردهم من موطنهم.

ومما تجدر الإشارة إليه عند الحديث عن الرفائيين وجود إشارات غريبة إليهم توحي بأنهم كانوا يتمتعون بمنزلة روحية خاصة بين الشعوب المجاورة لهم. فمن ذلك مثلاً استخدام لفظ "رفائي" في بعض الأحيان للدلالة على معني ظل أو روح ([3])وورد في إحدى المدونات الفينيقية أن أحد ملوك مدينة صيدا دعا على كل من سيلحق التلف بقبره بعد وفاته بألاّ يكون له مقام مع الرفائيين.وفي هذا الدعاء إشارة واضحة إلى ما كان يعتقده الناس من أن الرفائيين كانوا يتمتعون بمنزلة خاصة في عالم ما بعد الموت. وكانت كلمة "رفوم rpum " تشير في المصادر الأوغاريتية إلى أشخاص كانت لهم طبيعة إلهيّة ويشار إليهم بعبارة "ايلنيم" أي الأشخاص الإلهيين، ولكن طبيعة علاقة الر فائيين ببعض المعتقدات الدينية ما زالت غير واضحة ويحتاج المؤرخون لتوضيحها إلى مزيد من الأدلة والدراسة.( [4])

 تمكن الرفائيون، بعد عام 1375 ق.م. من أن يؤسسوا لهم مملكة عرفنا من ملوكها   "عوج".  وكان جباراً قامة وبأساً. وملكه يقع شمالي الأراضي الواقعة بين نهر الزرقاء وجبل الشيخ. وله، كما يقولون، سرير من حديد طوله 14 قدماً وعرضه 6 أقدام. احتفظ   به أهل عمان عندهم بين تحف زمانهم.

وكان لعوج عاصمتان: "درعا"  (إسمها القديم " ادرعي". كانت مشهورة بخمورها الجيدة. وهي على بعد نحو أربعة أميال من الحدود الأردنية، داخل الحدود السورية. عاصمة محافظة حوران. بها حسب إحصاءات عام 1960"409،19" نسمات)  و"عشتروت " (يرجح أن تل عشترة" الواقع في "الجولان"، من الأراضي السورية، وعلى مسافة 21 كيلومتراً شرقي بحيرة طبرية هو البقعة التي كانت تقوم عليها مدينة "عشتروت" الآمورية). وقد حاول عوج أن يمنع اليهود من المرور بأرضه في طريقهم إلى فلسطين، غير أنهم هزموه في موقعة دموية في درعا وقتلوه هو بنيه. وبذلك انقرضت مملكته وقسمت مدنه المحصنة بين اليهود.

(2) المملكة الآمورية:

تأسست  هذه المملكة بعد زميلتها الشمالية بنحو قرن. وحملت اسم قومها. وكانت تشمل الأراضي الواقعة بين نهري "الزرقاء" و" الموجب". وعاصمتها "حَثبون" (بمعنى تدبير. تقع جنوب غربي عمان، على بعد 26كم منها. تقوم قرية " حسبان" المار ذكرها على بقعتها). عرفنا من ملوكها "سيحون -Sihon) الذي دافع عن بلاده دفاع الأبطال حينما غزاه اليهود، في طريقهم إلى فلسطين إلا أنهم انتصروا عليه وقسموا ملكه فيما بينهم.

المَدْيَنِيّون

جاء في القرآن الكريم أن سيدنا موسى "لما توجه بعد هربه من مصر تلقاء مَدْين وورد الماء وجد عليه امرأتين فسقى لهما ثم تعرّف على والدهما الذي زوجه إحداهما وعهد إليه رعي أغنامه "

وقد ورد في القرآن الكريم ذكر النبي شعيب "الذي أُرسل إلى مدين وتكرر اسمه عشرين مرة كما في قوله تعالى "وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم ابعدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط" ([5])

ثم في قوله تعالي :" كذّب أصحاب الأيكة المرسلين،إذ قال لهم شعيب ألا تتقون ،إني لكم رسول أمين "([6])

لما أراد المفسرون والأخباريون المسلمون التوسع في الحديث عن مَدْين وعلاقتها بالنبي موسى وبحميه ثم بالإسرائيليين عامة،انساقوا بحكم العادة إلى الاستعانة بالإسرائيليات والاستناد إلى الأخبار الواردة في أسفار التوراة.

حتى في الوقت الحاضر لا يجد بعض الباحثين على الرغم من نقدهم طريقة تدوين أسفار التوراة مفراً من الاستئناس بروايات "العهد القديم" عند دراسة تاريخ الشعوب القديمة التي كانت تعيش في فلسطين وعلى حدودها،والتي عاصرت الإسرائيليين فترة من الزمن واختلطت بهم واشتبكت معهم في حروبٍ طاحنة.

وقد لاحظ الباحثون أن التوراة تتحدث في مواضع كثيرة من سفر الخروج عن حمى سيدنا موسى وتصفه بأنه "كاهن مدين" .ومن الواضح أن الشيخ الكبير الذي صاهره موسى حسبما ورد في سورة القصص ،والذي تطلق عليه التوراة اسم "يثرون" أحياناً واسم "رعوئيل" و"حوباب" أحياناً أخرى هو نفسه النبي شعيب الذي ورد في عدة سور أخرى من القرآن الكريم ،وإن كان من الصعب تعليل الاختلاف بين الاسمين.

اكتفى بعض الأخباريين المسلمين الذين لم يجدوا في القصص الشعبية شيئاً عن شعيب باتباع ما جاء في التوراة وقبلوا اسم "يثرون" وقالوا إنه هو شعيب ،في حين أثبت آخرون له نسباً فجعلوه "ابن نويت بن رعوئيل بن مر بن عنقاء بن مدين بن إبراهيم"

وتذكر التوراة أن مَدْين هو أحد أبناء إبراهيم الخليل من زوجته قطورة (ويعني اسمها البخور) ويرمز إلى طريق تجارة العطور من الجنوب التي ولدت لإبراهيم خمسة ذكور آخرين تكاثرت ذريتهم حتى بلغ عدد القبائل المتحدّرة منهم ست عشرة قبيلة .

أن شجرات الأنساب المذكورة في التوراة أو التي أضافها إليها الأخباريون ،لا يمكن الاعتماد عليها لأنها إنما وضعت في عهود متأخرة ،وهي متضاربة يتلف بعضها عن بعض ،ولكن يمكن الاستفادة منها لمعرفة علاقات القربى أو التحالف أو الجوار بين مختلف القبائل ،وهكذا تصف التوراة المدينيين بأنهم إسماعيليون ،وقد ورد فيهم أيضاً أن تجاراً مدينيين سحبوا يوسف من الجب وباعوه بعشرين من الفضة إلى قافلة من الإسماعيليين مرّوا بجمالهم وكانوا ذاهبين إلى مصر فأخذوا يوسف معهم ،وتذكر التوراة أن المآبيين القاطنين في شرقي البحر الميت اتصلوا بشيوخ مَدْين للاتفاق معهم على مقاومة الغزو الإسرائيلي قائلين لهم :"الآن يجلس الجمهور (أي حشو الإسرائيليين) كل ما حولنا كما يلحس الثور خضراء الحقل"

وقد اشتدت نقمة الإسرائيليين على المَدْينيين لأنهم تحالفوا مع ملك مآب وأفسدت بناتهم رجال إسرائيل فأصدر النبي موسى أوامره إلى الشعب قائلاً :"جردوا منكم رجالاً للجند فيكونوا على مدين ويجعلوا نقمة الرب على مدين"

ولما انتصر الإسرائيليون بقيادة سيدنا موسى على المَدينيين "قتلوا ملوك مَدْين الخمسة :أوي وراقم وصور وحور ورابع،وسبوا النساء والأطفال ونهبوا البهائم والمواشي وكل الأملاك وأحرقوا مساكن المدن والحصون بالنار" .

إلاّ ان المَدينيين عادوا وتحالفوا مع العمالقة وبني المشرق و"أخذوا ينزلون على الإسرائيليين ويتلفون مزارعهم ولا يتركون لهم قوت الحياة ،لا غنماً ولا بقراً لا حميراً،فذل إسرائيل جداً من قبل المدينيين".

بعد مدة قام جدعون بن يوآش أحد قضاة إسرائيل فباغت المدينيين وحلفائهم في وادي زرعين وطاردهم حتى حدود الصحراء وقتل بيديه ملكي مدين اللذين وقعا في الأسر،وهما زبح وصَلْمُنّاع ومثّل بهما .

ويبدو من متابعة أخبار التوراة أنه لم يعد للمدينيين شأن يذكر بعد عهد القضاة.

يستدل من القصص الواردة في القرآن الكريم والتوراة ولدى الأخباريين أن المدينيين كانوا كالإسماعيليين من القبائل العربية التي تركت أثراً في تاريخ فلسطين وكانت في طور قريب من البداوة،وأنهم كانوا يشتغلون بالتجارة وتنتقل قوافلهم بين الجزيرة العربية وبلاد الشام ومصر،وأنهم أول من أدخل الإبل إلى فلسطين.

وقد ربطتهم أواصر القربى بالعمالقة والإسماعيليين والمآبيين والإيدوميين الذين كانوا يسكنون فلسطين وتحالفوا معهم للدفاع عن أراضيهم ومقاومة الغزو الإسرائيلي .

وتشير الآية القرآنية من  سورة هود إلة أن أهل مَدْين كانوا بخير وأن أحوالهم الإقتصادية كانت جيدة،وأن النبي شعيباً جاء ينذرهم وينهاهم عن أساليب الغش والخداع والتلاعب بالمكاييل والأوزان ويدعوهم إلى إتّباع أوامر الله ،ومما يدل على تقدم مدين في العمران النصائح التي كان يسديها يثرون إلى موسى وتتعلق بالشرائع والقوانين والأنظمة وقواعد السلوك وأعمال الرؤساء والقضاة والمحاكم .

كانت كلمة مدين تعني في باديء الأمر القوم الذين ينتسبون إلى جدّهم الأعلى مدين ابن إبراهيم الخليل ،وقد لاحظ ياقوت في معجم البلدان أن مدين هو اسم القبيلة ولهذا قال الله تعالي:"وإلى مدين أخاهم شعيبا ".

ثم صارت مدين تطلق على مدينة تقع إلى الشرق من البحر الأحمر والجنوب من العقبة ،وقد ذكر المؤرخ يوسيفوس في القرن الأول الميلادي مدينة "ماديانا" مقابل البحر الأحمر في حين سماها بطليموس في القرن الثاني "ماديا ما" وعيّن موقعها عند الحدود الشمالية-الغربية للعربية "السعيدة".

كانت مدينة مدين معروفة لدى الجغرافيين والمؤرخين العرب المسلمين فقد جاء في سيرة ابن هشام أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث زيد بن حارثة نحو مدين فأصاب سبياً من أهل ميناء وهي السواحل وفيها جماع الناس ويتبين من هذا الخبر أن زيداً لم يصل إلى مدينة مدين نفسها بل غزا المرفأ التابع لها على شاطيء البحر الأحمر.

ويذكر اليعقوبي في كتاب "البلدان" أن مدينة مدين القديمة كان يسكنها في عهده (أي في أواخر القرن التاسع الميلادي) أناس من مختلف القبائل يملكون البساتين ويسقون النخيل من أنهارٍ وآبارٍ غزيرة المياه.

ويقول الشريف الإدريسي في كتابه "نزهة المشتاق في إختراق الآفاق" أن مدينة مدين كانت تتقاطع فيها الطرق الرئيسة الممتدة من مصر وفلسطين والمتفرعة جنوباً إلى المدينة ومكة وشرقاً نحو تبوك ومنها إلى تيماء والحجر،ثم يضيف قائلاً أنها كانت في عهده (أي في القرن الثاني عشر الميلادي) أكبر من مدينة تبوك وأن فيها بئراً يقول السكان إن النبي موسى كان يستقي منها لبنات شعيب.

أما المقريزي فيذكر في كتابه "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" أنه في طريقه إلى الحج مرّ بمدينة مدين التي تقع على خليج القلزم وتبعد مسيرة خمسة أيام عن أيلة (المسافة تبلغ 125 كم).

ويلاحظ المقريزي أن مَدْين المشهورة في القديم لم يبق منها في عهده (أي القرن الخامس عشر الميلادي) سوى بعض الخرائب وأطلال أبنية ضخمة وألواح ونقوش غريبة،وأن السكان لا يجدون فيها إلاَ القليل من وسائل المعيشة.

وفي أوائل هذا العصر زار الرحالة والمستشرق التشيكوسلوفاكي موسيل المنطقة الواقعة على الشاطيء الشرقي من خليج العقبة فرسم خارطتها وحدّد عليها موقع مدينة مَدين التاريخية بالاستناد إلى الأخبار في المصادر القديمة،وبالإعتماد على مشاهداته الشخصية في واحة البدع وتنقيباته في مغاور شعيب وخرائب الحوراء والبرج والملقطة ،كما نشر صوراً شمسية ورسوماً توضيحية للمدافن الموجودة في تلك الأماكن المحفورة في الصخر وترجع حسب رأيه إلى عهد الأنباط .

وقد وصف موسيل في كتابه "شمالي الحجاز" أشجار الدوم التي تشبه النخيل و تكثر في منطقة مَدْين وتتشابك أغصانها ،وهي المقصودة بالأيكة المذكورة في القرآن الكريم ،ويضيف موسيل ؟أن الخرائب الموجودة إلى جانب الأيك ما تزال تسمى الحوراء أي البيضاء ،وهو يعتقد أن الحوراء نفسها هي مع الواحات التي حولها مدينة المَدْينيين .([7])

وإذا كان المديانيون ينتسبون ا إلى مِدْيَن أو مديان ، أحد أبناء إبراهيم من زوجته قطورة ، فإن بعض المؤرخين يقولون أنهم من بقايا الهكسوس وأنهم في الأصل قبيلة من المعينيين ، وتمتد أرضهم من خليج العقبة إلى مؤاب وطور سيناء ، وسكن قسم منهم منطقة طبريا في الشمال ، ولما خرج سيدنا موسى من مصر سكن بينهم وتزوج ابنة كاهن مديان وقد آمن المديانيون بالإله الواحد باسم "يهوه" وهو الاسم نفسه الذي عبد به بنو إسرائيل الله ( [8])

اختلط المديانيون بالكنعانيين واقتبسوا منهم واشتهروا بالزراعة والري والتجارة ، وكانوا أقوياء إلى حدٍ مكنهم من فرض الخراج على المدن الخاضعة لهم ، أما سيرتهم مع بني إسرائيل فتنتقل من مصاهرة النبي موسى إلى سيرة من القتال والصدام المتواصل وخصوصاً لما عصى بنو إسرائيل أوامر ربهم ونبيهم ، فذاقوا الذل سبع سنوات على يد المديانيين فكانوا يلجئون إلى الجبال والكهوف والحصون وكان المديانيون مع العمالقة وبني المشرق يغيرون بأعداد هائلة على أرضهم ويسومونهم الهوان .

وفي عهد القضاة تمكن أحدهم جدعون من كسر جيش المديانيين والعمالقة قرب بيت شان (بيسان) واستمر في مطاردتهم وقتل أمرائهم ، وإمعاناً في الانتقام جمع سبعة وسبعين من الشيوخ وألقاهم فوق حزم الشوك وجعل النوارج تمر فوقهم ، وبعد عهد القضاة لم يعد للمديانيين ذكر في فلسطين ( [9]).

يرى بعض الباحثين أنهم جماعة من بقايا "الهكسوس". وأنهم في الأصل قبيلة من المعينيين([10])وكانت منازلهم تقع بين مصر وفلسطين والحجاز وامتدت يوماً إلى مدينة بئر السبع نفسها، وإلى الشرق والشمال الشرقي من البحر الميت. ويرجح أن شتيتاً منهم نزلوا جهات طبرية واستقروا فيها. ولعل القبر الموجود في "حطين" – شرقي طبرية – والذي ينسب إلى شعيب النبي المديني يلقي ضوءاً على هذا الرأي.

اختلط المدينيون بالكنعانيين واقتبسوا بعض عاداتهم. وكانت لهم تجارة مع لبنان وفلسطين ومصر. وهم الذين سحبوا يوسف عليه السلام من البئر الذي ألقاه فيه إخوته وباعوه لقافلة تجارية من الاسماعيليين مقبلة من بلاد عجلون في طريقها إلى مصر وهي حاملة "الكثيراء " (نوع من الصموغ يسيل من بعض الأشجار. وإذا وضع في الماء انتفخ وكون لعاباً لزجاً. وهذه الصموغ كانت من مواد فلسطين التجارية أيام الكنعانيين. وتستعمل في الصنائع للتغرية، وفي الطب للتلطيف والتصميغ) وبلساناً ولادناً. وكان الثمن الذي دفعته القافلة للمدينيين عشرين شاقلاً من الفضة  (وزن الشاقل يعادل 11.46 غراماً. قال جورج بوست (قاموس الكتاب المقدس: 2/165)"قيمة كل شاقل من الفضة نحو اثني عشر قرشاً" وفي صفحة 242 من الجزء الاول المطبوع عام 1894 ذكر بأن من كل خمس شواقل من الفضة تعادل نحو نصف ليرة إنجليزي) . ويرجح أن هذه الحادثة حدثت في أواسط القرن السابع عشر قبل الميلاد.

والمدينيون، كما هو معروف ، أصهار موسى عليه السلام. وينسب إليهم النبي شعيب عليه السلام الذي ظهر في نحو أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد. ذكره القرآن الكريم عشر مرات. وقيل أنه دفن في قرية "حطين"، وأما ياقوت فقال إن قبره في قرية "خيارة" قرب حطين. وفي جنوبي السلط، بركة ماء، إلى جانبها شبه دائرة صغيرة تسمى "مقام النبي شعيب" يستحيل على البدو من سكان تلك الجهات أن يحلف أحدهم كاذباً بحق شعيب أو برب شعيب أمامها.

كان المدينيون يشتغلون بالزراعة والرعي. والمدن التي في حوزتهم كانت تدفع لهم الخراج، وكان السكان المقيمون بها يزرعون الأرض مقابل النصف والثلث من المحصول([11]).

ولما دخل اليهود شرقي الأردن عقد المدينيون حلفاً مع ملك (موآب) لمحاربتهم. ووفقاً لما ورد في العهد القديم([12])، إن بني إسرائيل أغاروا على أهل مدين وقتلوا أربعة من ملوكهم وغنموا رواحلهم وماشيتهم وأضرموا النار في جميع قراهم ومضاربهم.

وفي سفر القضاة إن المدينيين أذلوا الإسرائيليين وأن الرب دفع الإسرائيليين إلى أيدي المدينيين سبع سنين إلى غير ذلك من الأقوال التي تشير إلى تغلب أهل مدين على الإسرائيليين([13]) .

إلا أن جدعون، أحد قضاة اليهود، تمكن من أن ينتصر على اثنين من رؤساء مدين – أو ملوكها – "صَلْمُنّاع" و "زَبَح" في "الجُبَيْهة" في ظاهر عمان ومثل بهما.

والمدينيون هم الذين أدخلوا، في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، الجمل المدّجن إلى فلسطين وسورية فكان له مفعول عظيم في الانتقال والحمل، وفي الغزو على مسافات بعيدة.

ويظهر أنه لم يعد لهم في فلسطين، بعد عهد القضاة، شأن يذكر ولعلهم ذابوا في القبائل العربية الأخرى.

 

القينيون

اشتق هذا الاصطلاح لغة من فعل قان يقين قينا الحديد عمله وسوّاه، والقينيون هم أصحاب الحديد، ويطلق من الناحية التاريخية على قبيلة شبه بدوية احترفت أعمال الحدادة منذ القرن الثالث عشر ق.م. وكسبت معاشها من هذه الحرفة.

وقد استقرت في المنطقة الصخرية الغنية بالثروة المعدنية في السفوح الغربية من وادي عربة، وكانت هذه القبيلة تتنقل بآلاتها وأدواتها المعدنية في بلاد مدين بين فلسطين وسيناء وشرقي خليج العقبة. وهم من ذوي قرابة "شعيب" ولعلهم من المدينيين.

ويظهر القينيون في أقدم نصوص التوراة على رأس قائمة من الأقوام التي استوطنت أرض كنعان، كما تشير نصوص أخرى من القرن الثالث عشر ق.م إلى أنهم استوطنوا وادي عربة.

ويرتبط القينيون بالعبرانيين وقد احتلوا مكانة معترف بها في المجتمع الإسرائيلي ويبدو أنهم هم الذين عرّفوا الإسرائيليين الفنون المعدنية.

وليست هناك معلومات موثقة عن مدى العلاقة بين القينيين والإسرائيليين، ولكن يعرف أن القينيين بعد وصولهم إلى النقب ارتبطوا برباط قوي بالعمالقة في جنوبي فلسطين، ولم يكن الإسرائيليون راضين عن هذه العلاقة، وفي عصر القضاة هاجر فرع من القينيين إلى هضبة الجليل، ولا تعرف الظروف التاريخية التي أحاطت بها الهجرة.

وفي عهد سيدنا داوود واجهوا غزواً إسرائيلياً إذ عدّهم  سيدنا داود أعداء لبني إسرائيل.

ولا يعرف شيء عن القينيين في التاريخ المتأخر لبني إسرائيل في فلسطين، ويبدو أنهم بدءوا بالاختفاء مع بداية الألف الأول ق.م. ، ومن الصعب توثيق الادعاء القائل بوجود رابطة بين القينيين وقبيلة بني القين التي كانت تسكن المنطقة الممتدة بين تيماء وحوران في القرن السادس الميلادي ( [14]) .

 

الاسماعيليون

ينتسب الإسماعيليون إلى إسماعيل بن إبراهيم ن وقد اشتهروا بالتجارة عبر الصحراء ما بين كنعان ومصر وكانت مساكنهم برية شور أمام مصر ، وهم الذين اشتروا يوسف من المديانيين وأخذوه إلى مصر كما علمنا ، وكانوا هم والمديانيون والعمالقة يسكنون دياراً واحدة ، وفي القرآن الكريم ارتبط بنو إسماعيل بالجزيرة العربية كما اقترن اسم إسماعيل ببيت الله العتيق .

وقد ورد اسم إسماعيل في الكتابات البابلية في وثيقة من عهد حمورابي (1792 ق.م-1750ق.م) وفيها اسم أهوبا بن إسماعيل بصفته شاهداً على وثيقة تجارية وهذه الوثيقة دليلاً على أن التسمية سامية عربية ن وترجع إلى ما قبل عصر موسى على أرض فلسطين ( [15]) .

 

قيدار وجشم العربي

قيدار اسم سامي معناه "قدير أو أسود" وهو الابن الثاني لإسماعيل، كما أنه اسم لقبيلة مشهورة عربية استوطنت حوران وضواحيها في جنوبي بلاد الشام وشمالي الحجاز.

وتصف التوراة القيدارية بأنهم سكان بادية يعيشون في خيام سوداء وقد استوطن بعضهم قرى غير مسورة، وهم رعاة أصحاب مواش يجوبون بها المناطق الرعوية ويصلون إلى مدينة صور ليتاجروا هناك.وقد عبدت قيدار الأوثان ذاتها التي عبدها العرب قبل الإسلام، وهناك إشارات كثيرة إلى هذه الأصنام في النصوص الأثرية وفي التلمود البابلي.

كان يحكم قيدار أمراء لهم معاملات تجارية معروفة، كما أن القيداريين محاربون أشداء اشتهر منهم رماة السهام، وقد أصبح لهم مركز مهم ومجد تليد في الشرق القديم ولا سيما في فلسطين وجنوبي سوريا. ويبدو أن قبائل القيداريين البدوية الرعوية لم تستقر لفترة طويلة في مكان معين، بل جابت المنطقة الواسعة الممتدة بين شرقي مصر وفلسطين وشرقي الأردن بحثاً عن الماء والكلأ.وفي رواية تاريخية أن قيدار كانت لا تزال في المنطقة الواقعة شرقي مصر في القرن الخامس ق.م.

وفي النصوص الآشورية من القرن السابع ق.م. أن كلمة قيدار ترادف العرب، فكان حزائيل ملك قيدار يسمى ملك العرب كذلك، وقد استطاع سنحاريب الآشوري الانتصار على حزائيل القيداري وسلب كثيراً من الأوثان العربية التي عبدها القيداريون.

وقد حاول الملك القيداري أمولاري مهاجمة مناطق النفوذ الأشورية في فلسطين وسوريا، ولكن أشور بانيبال ((668-633 ق.م) دحره ورده على أعقابه، وكان الأسرى العرب في حملة أشور بانيبال يُسمّون القيداريين.

كما حمل الأشوريون الكثير من الغنائم التي تعد من منتجات جزيرة العرب، وتجاه ضغط الأشوريين تحالفت قيدار مع الأنباط.

ولما جاء نبوخذ نصر (605-562 ق.م) إلى الحكم في العراق أخضع قيدار واحتل أغلب المراكز التجارية التي كانت خاضعة لها.

ومن ملوك قيدار العظام جشم العربي، وتشير النصوص الآرامية من القرن الخامس ق.م. إلى أنه استطاع أن يمد نفوذ هذه القبيلة العربية من شرق مصر حتى شرق الأردن بما في ذلك فلسطين( [16]).

و "قيدار" في التوراة هي في التاريخ العربي (في كتب الطبري والمسعودي وابن خلدون) ، "قيذار" و" قيذر" و" قيدر" وهي قبيلة عربية ورد اسمها أيضاً في النصوص الآشورية والمؤلفات الكلاسيكية (في كتب المؤرخين اليونان والرومان) ، فذكر بلينوس أنها كانت تقيم على مقربة من النبط ، وقد حاربها الملك آشور بنبال (768 ق.م-625 ق.م) ، ويظهر من المصادر المذكورة كلها أعلاه أن القيداريين كانوا شعباً قوياً أعرابياً ، ويعتنون بتربية المواشي، وقد وصفت التوراة خيامهم بأنها خيام سود ، وبينهم الحضر سكان المدن وسكان المناطق الصخرية .

ويعرف من تاريخهم أنهم كانوا مع قبائل عربية أخرى يهاجمون حدود المملكة الآشورية والقوافل الآشورية ولم يكن من المتوقع أن يقبل ملوك الآشوريين بهذا الوضع فجردوا الحملات على القبائل العربية وانتقموا منها ( [17])

وقد عرفنا عبر المكتشفات الأثرية من وثيقة آشورية (قرميدة من القرميد المكتشف في العراق) أخبار الملك سرجون الثاني الآشوري وفتوحاته ، كالتالي :

أن قبائل ثمود وعباديد مرسمان وخيابا من قبائل العرب سكان البادية الذين لم يصل خبرهم إلى حكيم ولم يدفعوا الجزية لأحد قبلي ، كل هذه الأمم غلبتها باسم آشور إلهي ، ونقلت بقاياها إلى سامريا ( [18]).

وبعد انتقال القبائل العربية من أعالي الحجاز أو من قرب العقبة إلى السامرة بثلاث قرون ظهر فيها أميرها جَشَم ، وقد قيل عنه في سفر نحميا أنه جشم العربي ، وأنه من أمراء السامرة وفي هذه التسمية دليل على أن كلمة "عرب" من دون سواها كانت قد رسخت في معناها ومدلولها وشمولها ، وغطت على التعابير السابقة في مرحلة كتابة التوراة (أي بعد السبي) .

وأضيف إلى تعريف جشم في " قاموس الكتاب المقدس" أنه كان ملكاً على قبيلة قيدار.

وقد اكتشف مؤخراً نقوش في الجهة الشمالية الشرقية من مصر على وعاء فضي ويذكر أن جشم كان ملكاً على قبيلة قيدار.( [19])

ونستنتج مما تقدم من التوراة ومن المكتشفات الأثرية في العراق وفي مصر أن جشم الأمير أو الملك هو وارث السلالة العربية منذ نقل سرجون الثاني القبائل العربية إلى السامرة . وقد عاصر جشم عودة نحميا إلى أورشليم وعمله على إعادة بناء سور المدينة المهدم ، وكذلك عمله على إعادة اليهود للسكن داخل المدينة ، وقد ورد في الأسفار: " ولما سمع سَنْبَلَّطُ الحورونيُّ وطوبيَّا العبد العموني العربي هزؤوا بنا واحتقرونا وقالوا ما هذا الأمر الذي أنتم عاملون أعلى الملك تتمردون ، فأجبتهم وقلت لهم إن إله السماء يعطينا النجاح ونحن عبيده نقوم ونبني ، وأما أنتم فليس لكم نصيب ولا حق ولا ذكر في أورشليم"([20]) ، وأيضاً:"ولما سمع سنبلط وطوبيا العرب والعمونيون والآشدوديون أن أسوار أورشليم قد رممت والثُغَر ابتدأت تُسد غضبوا جداً وتآمروا جميعهم معاً أن يأتوا ويحاربوا أورشليم ويعملوا بها ضرراً .فصلينا إلى إلهنا وأقمنا حراساً ضدهم نهاراً وليلاً بسببهم ن وقال يهوذا قد ضعفت قوة الحمَّالين والتراب كثير ونحن لا نقدر أن نبني السور "([21]) .

وتمكن اليهود على الرغم من معادة السكان لهم وبينهم العرب من إعادة بناء السور بإشراف نحميا في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد ، والعبرة من وراء هذه الحادثة أن اليهود على الرغم من تمكنهم من إعادة بناء السور والهيكل فإنهم عادوا فضعفوا فيما بعد ن وعلى الرغم من ثوراتهم أيام اليونان والرومان فإن ذكرهم قد انتهى منذ مطلع القرن الثاني للميلاد ، أما العرب وقد كانوا بعضاً من سكان فلسطين أيام العمالقة ، كما كانوا بعضاً من سكان فلسطين في منتصف القرن الخامس ق.م ن فإن قوتهم أطردت وازدادت وتعززت بموجات الهجرة العربية قبيل الإسلام ثم توطدت بالفتح العربي الإسلامي ، ولم تصبح اللغة العربية في السائدة فحسب ، وإنما بقى العرب أيضاً هم السادة وهم الأكثرية الساحقة حتى القرن العشرين .